تفسير من وحي القرآن - ج ٧

السيد محمد حسين فضل الله

حكم قتل الخطأ في الإسلام

لقد أعطى الإسلام للإنسان أهمية كبيرة في مفاهيمه وتشريعاته ، فاعتبر الحياة الإنسانية قيمة عظيمة في وعي الإنسان المسلم ووجدانه ، مما ولّد في داخله شعورا باحترامها على مستوى وجوب الاحتياط في حفظها وسلامتها ، لكونها ملكا لله الذي لا يبيح لأحد التصرف فيها بالقتل إلا بإذن الله ، في ما وضعه الله من حدود في حالات السلم والحرب ؛ فلا حرية للإنسان في التصرّف في حياة الناس حسب رغباته ومزاحه بل لا بد له من أن يجعل مزاجه تابعا لإرادة الله. وقد بلغ الأمر بالإسلام أن جعل حفظ الحياة واجبا على كل مسلم ، في الموارد التي يحترم فيها التشريع الحياة ، بحيث إن الأمر إذا دار بين أن ينتهك الإنسان حدود بعض المحرمات وترك بعض الواجبات ، وبين أن يترك إنقاذ المؤمن ؛ فإن التشريع الإسلامي يبيح ارتكاب الحرام لمصلحة حفظ حياة المؤمن ، لأنها أكثر أهمية لدى الشرع. وإذا دار الأمر بين ترك المهم والأهم تقدم الأهم.

وقد انطلق التشريع في هذا الاتجاه من أجل حفظ التوازن في حركة الحياة في العالم ، على أساس أن يشعر الناس بروح السّلام في حياتهم الاجتماعية ، مما يبعث في مشاعرهم الثقة والاطمئنان في نطاق حدود الله ، فلا يخاف الإنسان على نفسه إزاء أي تصرف انفعالي يحدث له ، ولا يخشى من ردود الفعل الشديدة التي تهدد حياته ، في ما لا يجيز الإسلام معه ذلك. وعلى هذا الأساس تكون المعادلة الإسلامية التشريعية أن الإنسان كلما ازداد إيمانا ، كلما ازداد بعدا عن الاعتداء على أرواح الناس واحتراما لحياتهم ؛ مما يجعل من الإيمان عنصر ضمان للحياة العامة ، كما هو عنصر ضمان للحياة الخاصة.

٤٠١

وعلى هدى هذا الاتجاه ، جاءت هاتان الآيتان لتحدّدا جزاء قتل المؤمن لدى الله ، في ما يكون خطأ ، (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) كما إذا أطلق إنسان النار على حيوان مثلا فأصاب إنسانا على سبيل الخطأ لعدم توفر عنصر القصد لذلك ؛ وجزاء قتل العمد.

ففي حالة قتل الخطأ تحدثت الآية الأولى عن حالات ثلاث ؛ (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) فإن كان القتيل مؤمنا من أهل مؤمنين ، فلا بد من أن يدفع إلى أهله الدية المقدّرة في الفقه بعدة تقديرات ، ويقوم بتحرير رقبة مؤمنة ، فكأن الدية تمثل التعويض المادي عما فات أهله من الانتفاع بوجوده ، ولو بشكل جزئي ، بينما تكون عملية عتق العبد المؤمن بمثابة إحياء لنفس أماتتها العبودية في مقابل نفس أماتها القتل.

وإن كان القتيل مؤمنا من قوم كافرين (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فيكتفى بتحرير الرقبة المؤمنة ، لأن الكفر يمنع من إرث المؤمن ، كما تمنع حالة الحرب مع الكفار من إعانتهم ماديا حتى في مثل هذه الحالة. وإن كان القتيل مؤمنا من قوم معاهدين (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) ، فلا بد من دفع الدية إليهم ، (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) انطلاقا من احترام عهدهم بالإضافة إلى تحرير الرقبة المؤمنة ، لأن حال المعاهدين حال المسلمين من هذه الجهة. فإذا لم يجد القاتل ما لا يستطيع أن يدفع منه الدية ، فإن كفارة فعله صيام شهرين متتابعين ، وتلك هي التوبة العملية التي يريدها الله من عباده ، لأن الإنسان الذي لم يتعمد القتل ، بل أخطأ فيه ، يحمل بعض المسؤولية في ذلك ، لأن عليه التحفظ في ما حوله ومن حوله عند إقدامه على إطلاق الرصاص ؛ ولأن مثل هذا التشريع الذي يفرض الخسارة المالية

٤٠٢

في نطاق الدية والعتق ، يؤدّي إلى التدقيق الشديد لدى الإنسان في كل الحالات التي يمكن أن تؤدي إلى الخطأ.

ولا بد أن نشير إلى ما أشارت إليه الآية في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) وهو أن لأهل القتيل أن يعفوا عن الدية ، باعتبار أنها حق لهم ، فيكون حالها حال أيّ حق من حقوق الناس التي يملكون أمر إسقاطها ، كما يملكون أمر استيفائها.

أما قتل العمد ، فلم تتعرض الآية إلى نتائجه على مستوى الجزاء الدنيوي ، لأن ذلك مما تحدث عنه القرآن في سورة البقرة ؛ بل تعرضت إلى الجزاء الأخروي ، (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) إذ ذاك من الكبائر التي يستحق عليها الخلود في النار ، لأن تعمّد قتل المؤمن يدل على نفسية خبيثة حاقدة ، لا تحترم الحياة ولا تحترم الإيمان. وقد وردت في السنّة أحاديث تدل على أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة سبعين مرة (١) ، مما يوحي بالفكرة التي قدمناها في بداية الحديث بأنّ قيمة حياة المؤمن عند الله في المستوى الكبير من الأهمية والاحترام.

ولكن ذلك لا يمنع من قبول توبة القاتل إذا تاب لله وندم على فعله ، مع الاحتفاظ بحق أولياء الدم في القصاص أو الدية ، فإن الله يغفر الذنوب جميعا ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء ويقبل التوبة عن عباده ، حتى أن الشرك يمكن أن يغفره الله لمن تاب عنه ودخل في الإسلام.

أما قضية الحديث عن الخلود في النار للقاتل ، فإنها تتصل بالاستحقاق كأية معصية كبيرة ، ولا تتصل بالفعلية ، كأيّ ذنب من الذنوب التي يستحق

__________________

(١) جاء في بحار الأنوار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة» ، ج : ٦٤ ، ص : ٥٠ ، باب ١ ، رواية : ٣٥

.

٤٠٣

الإنسان عليها العقاب ، ولكن يمكن للعفو الإلهي أن ينال المذنبين إذا تابوا وإذا انفتحت عليهم رحمة الله. وعلى ضوء هذا ، فلا بد من تأويل الروايات الدالة على أنه «لا توبة لقاتل المؤمن إلا إذا قتله في حال الشرك ثم أسلم وتاب» كما عن ابن عباس (١) ـ بحملها على عدم سقوط القصاص بتوبته ، باعتبار أن ذلك يدخل في حقوق الناس لا في حق الله المجرد ، مما يجعل القضية خاضعة لموقف أولياء الدم ، وربما تحمل هذه الروايات على سلوك سبيل التغليظ في القتل ، كما روي عن سفيان الثوري أنّه سئل عن توبة القاتل ، فقال : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له ، وإذا ابتلي الرّجل قالوا له : تب. وروى الواحدي بإسناده مرفوعا إلى عطاء عن ابن عباس أن رجلا سأله : القاتل المؤمن توبة؟ فقال : لا. وسأله آخر : ألقاتل المؤمن توبة؟ فقال : نعم. فقيل له في ذلك ، فقال : جاءني ذلك ولم يكن قتل ، فقلت : لا توبة لك لكي لا يقتل ، وجاءني هذا وقد قتل ، فقد قلت : لك توبة لكي لا يلقي نفسه بيده إلى التهلكة (٢). وقد نقل صاحب مجمع البيان عن بعض الإمامية أن قاتل المؤمن لا يوفق للتوبة (٣) ، بمعنى أنه لا يختار التوبة. ونلاحظ عليه أنّ هذا خلاف الواقع ، لأننا نعرف الكثيرين من القتلة تابوا توبة نصوحا ، وندموا على ذلك.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ١٤٢.

(٢) (م. ن) ، ج : ٣ ، ص : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٣) (م. ن) ، ج : ٣ ، ص : ١٤٣.

٤٠٤

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٩٤)

* * *

معاني المفردات

(ضَرَبْتُمْ) : ذهبتم وسافرتم ، من ضرب الأقدام على الأرض. وأصل الضرب : إيقاع الشيء على الشيء ، ولاختلاف ما يوقع يختلف تفسير الأرض.

(فَتَبَيَّنُوا) : دققوا وتأنّوا وميّزوا لتعرفوا ـ جيداً ـ طبيعة الأشخاص الذين يجوز قتالهم من غيرهم ، ولا تأخذكم نوازع العجلة في التشخيص والتمييز.

عرض الدنيا : متاع الدنيا : فإن جميع متاع الدنيا عرض ، يقال : إن الدنيا عرض حاضر ، ويقال لكل شيء يقلّ لبثه عرض ، ومنه

٤٠٥

العرض الذي هو خلاف الجوهر عند المتكلمين لأنه ما لا يجب له من اللبث ما يجب للأجسام ، والعرض ما يعرض للإنسان من مرض أو غيره.

* * *

مناسبة النزول

وذكر صاحب الميزان أنه جاء في تفسير القمي : إنها نزلت لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة خيبر ، وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام ، كان رجل يقال له مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى ، فلما أحسّ بخيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جمع أهله في ناحية الجبل ، فأقبل يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فمر به أسامة بن زيد فطعنه فقتله ، فلما رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أخبره بذلك ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فقال : يا رسول الله ، إنما قالها تعوّذا من القتل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلا كشفت الغطاء عن قلبه ، ولا ما قال بلسانه قبلت ، ولا ما كان في نفسه علمت ... وروى هذا المعنى الطبري في تفسيره عن السدّي. كما أورد روايات مختلفة في سبب نزول هذه الآية (١).

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٥ ، ص : ٤٦.

٤٠٦

تنبيه المسلمين من ابتغاء عرض الحياة الدنيا

وقد تبيّن أجواء الآية بعض الملامح التي توضح طبيعة الممارسة التي قام بها هذا البعض من المؤمنين ، بأكثر مما توحيه الروايات المفسّرة ؛ فإن الآية توحي بأن الحادثة كانت بسبب الطمع في الغنيمة وما يملكه هذا الرجل من مال ، لأن قبول الإسلام منه والعفو عنه في هذه الحال يمنع من التعرّض لماله فيخسرون بذلك حصتهم من الغنيمة ؛ وتلك هي إحدى نقاط الضعف الكامنة في شخصية المؤمنين آنذاك ، التي كانت تستيقظ في بعض الظروف التي يغفلون فيها عن إيمانهم الذي يحميهم من تأثير نقاط الضعف في حياتهم ؛ فكانت هذه الآية من أجل أن تدفعهم إلى التغلب عليها ، بالالتفات إلى الخطة التي وضعها الإسلام في قبول الذين يدخلونه بإعلان الشهادتين ، من دون محاولة التدقيق في صدق ذلك ، فكان يقبل إسلام الذين يدخلون فيه رغبة ورهبة ، كما يقبل إسلام الذين يدخلون فيه صدقا وإخلاصا ، لأن الهدف من ذلك هو تحييد الكثيرين من الكافرين عن جبهة الكفر ، بإدخالهم في الجبهة الإسلامية ، في نطاق خطة من الحذر والحيطة ، وتطبيق سيطرة الإسلام عليهم ، والعمل على العيش في أجواء نظيفة روحية طاهرة ، من أجل الوصول إلى النتيجة الحاسمة ، وهي تعميق العقيدة في نفوسهم ، وتأكيد خط الالتزام في حياتهم ، وإبعادهم عن الأجواء النفسية المعقّدة.

* * *

ضرورة التبيّن قبل القتل على الإسلام

وقد نجح الإسلام في ذلك ، كما دلت عليه هذه الآية في بعض ما نستوحيه منها من أفكار من خلال ما نستعرضه من تفسير هذه الآية بشكل

٤٠٧

توضيحي : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ..) أي إذا سرتم في الأرض من أجل الجهاد (فَتَبَيَّنُوا) ودققوا في شخصية الأشخاص الذين تقاتلونهم ، لتعرفوا هل يجوز لكم قتالهم أم لا ، ولا تستسلموا لنوازع العجلة والسرعة في ذلك ، (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) بإعلان الشهادتين باعتبارها رمزا للاستعداد للسلام مع المؤمنين ، لأن البقاء على الكفر يعني البقاء على حالة الحرب (لَسْتَ مُؤْمِناً) ، لأنكم لا تملكون الدليل على ذلك ، ولا يجوز لكم الاعتماد على الظن فيه ، فقد يعيش الإنسان حالة يقظة إيمانية في بعض هذه الحالات ، (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ومتاعها الزائل ؛ وربما كانت هذه الكلمة إيحاء لهم بأن عليهم أن يفتشوا في داخلهم ، ليكتشفوا دوافعهم الخفية اللاشعورية ، فيعرفوا أن تصرّفهم في إطلاق الحكم بنفي الإيمان عن هذا الإنسان أو ذاك ، لم يكن منبعثا عن إخلاص للإسلام ، بل هو منبعث عن طمع في الغنيمة كامن في أعماقهم ، الأمر الذي يجعلهم في موقع المحاسب لنفسه قبل أن يقدم على أيّ عمل من أعمال المسؤولية.

وقد يكون هذا الاتجاه في دلالة الآية هو الذي يبعد القضية عن أن تكون قتل عند يستوجب القصاص ، كما أن الحديث في سبب النزول يشير إلى ذلك ؛ (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) فلا ينبغي للمؤمن أن يفكر بمغانم الدنيا فتضيع عليه الخطوط ، بل إن عليه أن يفكر بمغانم الله الكثيرة التي. أعدها للمؤمنين العاملين في سبيل الله بوعي وصدق وإخلاص ... (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) مشركين كما كان هؤلاء ونطقتم كلمة الإسلام ، وقبلها الرسول منكم من دون تدقيق بما تكنه قلوبكم وما تنطوي عليه ضمائركم ، (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) وأصبحتم بنعمته مسلمين في عمق أفكاركم ومشاعركم ؛ فلم لا تقبلون من هؤلاء ما قبله الرسول منكم؟!. (فَتَبَيَّنُوا) في ما تقبلون عليه من مواقف جديدة وحاولوا أن لا تقعوا في مثل هذه التجربة الخاطئة التي وقعتم فيها ، وراقبوا الله جيدا في أعمالكم من

٤٠٨

خلال مراقبتكم لدوافعكم الخفية (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة مما ظهر ومما بطن ، في واقع الأشياء ودخائل النفوس.

* * *

لا يحل للمؤمن أن يؤاخذ الإنسان بغير علم

وقد نستفيد من هذه الآية كيفية تعامل المؤمنين مع الناس الذين قد توحي بعض ظواهرهم بأنهم ينطلقون إلى السير في ركاب الإسلام من موقع الرغبة في بعض المكاسب ، أو في التوقي من بعض المشاكل ، وذلك عند ما تكون الموجة الإسلامية مندفعة بقوة في حياة الأمة ، مما يحقق بعض الامتيازات المادية أو المعنوية لبعض السائرين بركبها ... فقد يكون من المصلحة أن نحذر من هؤلاء ، من خلال ما توحيه هذه الظواهر من أسباب للشك الباعث على الحذر ، ولكن لا يجوز لنا ـ في الوقت ذاته ـ أن نتصرف معهم تصرفا سلبيا على هذا الأساس ، لأنه لا يحلّ للمؤمن أن يؤاخذ الإنسان بغير علم. وهذا هو الخط الذي يحفظ للإسلام مواقعه ويبعده عن حالة الخطر ، ويحمي الإنسان المعلن للإسلام من الاعتداء عليه بدون حق ؛ فإن من الملاحظ أن الآية لم تنه عن الحذر ، بل نهت عن التصرف السلبي بدون تدقيق وتمييز.

إن على العاملين للإسلام إفساح المجال لكل الأصوات أن تعلن الإسلام ، ليرتفع صوته عاليا في الساحة كجزء من الحملة النفسية ضد كل الأصوات الأخرى المضادة ؛ ولكن ذلك لن يتحقق من موقع السذاجة التي تتقبل الأشياء ببساطة من دون تحقيق ، بل من موقع الوعي والحذر الذي يعطي لكل شيء دوره وحجمه ، ولا يتجاوزه إلى أبعد من المصلحة الحقيقية للإسلام.

* * *

٤٠٩

الآيتان

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٩٦)

* * *

معاني المفردات

(الضَّرَرِ) : النقصان ، وهو هنا كلّ ما يضرك وينقصك ؛ من عمى ومرض وعلة ، مما يمنع من القيام بأمر الجهاد والقتال.

(دَرَجَةً) : الدرجة : المنزلة. ودرّجته إلى كذا أي رقّيته إليه منزلة بعد منزلة ، وأدرجت الكتاب طويته منزلة بعد منزلة ، ودرج الرجل : مضى لسبيله ، لأنه صار إلى منزلة الآخرة ، ومنه فلان أكذب من دبّ ودرج ، أي أكذب الأحياء والأموات.

* * *

٤١٠

مناسبة النزول

جاء في مجتمع البيان ، نزلت الآية في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن ربيع من بني عمرو بن عوف وهلال بن أمية من بني واقف ، تخلّفوا عن رسول الله يوم تبوك ، وعذر الله أولي الضرر وهو عبد الله بن أم مكتوم ، رواه أبو حمزة الثمالي في تفسيره ، وقال زيد بن ثابت : كنت عند النبي حين نزلت عليه : «(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) والمجاهدون» ، ولم يذكر أولي الضرر ، فقال ابن أم مكتوم : فكيف ، وأنا أعمى لا أبصر ، فتغشى النبي الوحي ، ثم سري عنه فقال : اكتب (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (١).

ونلاحظ على الفقرة الأخيرة ـ في سؤال ابن أم مكتوم وجواب النبي له ـ أن من البعيد جدا أن تنزل الآية مجردة عن قوله (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) لتجتذب سؤال ابن أمّ مكتوم ، ليكون رد فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إضافة الكلمة ، كما لو كانت الكلمة منه بما توحي به الرواية ، لا سيما إذا لا حظنا أن الآية واحدة في مضمونها ؛ والله العالم.

* * *

التفاضل في الإسلام يكون بالعمل

لا فضل في الإسلام لأحد على أحد إلا بالعمل في نطاق المسؤولية ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص ١٤٧.

٤١١

وأيّ عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله. وقد جاءت هاتان الآيتان لتؤكدا على هذه الحقيقة الإسلامية بشيء من التفصيل ؛ ففي حالات التحدي التي يواجهها المسلمون في معركتهم ضد الكفر والشرك والطغيان ، قد يقعد بعض الناس بسبب بعض الحالات المرضية التي قد تمنعهم عن القتال ؛ وهؤلاء معذورون لا ينقض من أجرهم شيء ، لأن الله لم يجعل على المؤمنين من حرج في ما يكلفهم به ، وقد يقعد البعض بسبب خوف أو حالة كسل أو استرخاء أو حبّ للدعة والراحة ، في الوقت الذي لم تصل فيه الدعوة إلى الجهاد إلى مستوى النفير العام ، بل كانت واجبا كفائيا يقوم بمن تسدّ بهم الحاجة ، وهؤلاء مأجورون في ما يقومون به من أعمال صالحة على المستوى الفردي والجماعي ، ولكنهم يخسرون الكثير الكثير من فرص الثواب الكبير الذي يحصل عليه المجاهدون في الجهاد ، الذين رفع الله منزلتهم عن المسلمين القاعدين ، وأعطاهم من مغفرته ورحمته الدرجات الرفيعة والأجر العظيم.

وقد تحدثت الآية عن المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وعن تفضيلهم على القاعدين بطريقة مؤكدة ، وذلك ما يوحي به أسلوب التكرار ، فبدأت بقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ...) لتقرر التفضيل من جانبه السلبي من حيث عدم المساواة بين هذا الفريق وذاك ، ثم أوضحت الموضوع بخصوصيته الإيجابية (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ...) والظاهر أن المراد من الدرجة ليس الوحدة في الأرقام الحسابية ، بل المبدأ من حيث النوع ، وذلك ما يوحيه وقوع الكلمة بعد فقرة عدم الاستواء ، لبيان أن هذا الفريق أعلى درجة من الفرق الأخرى ، فلا يتنافى مع الفقرة المذكورة في الآية التالية (دَرَجاتٍ مِنْهُ) ؛ ثم قررت الآية أن القعود لا يمثل خطيئة في ذاته ، عند ما لا يكون هناك إلزام بالجهاد (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ؛ فلكل من

٤١٢

القاعدين والمجاهدين أجره بحسب عمله ، (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) فليست الحسنى التي وعد الله بها المجاهدين ، هي نفسها التي وعد الله بها القاعدين ، لأن للجهاد مرتبة كبيرة عند الله ، مما يجعل أجره في مستوى عظيم لا يرقى إليه أجر أيّ إنسان آخر (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، فإن الصعوبات التي تواجه المجاهدين ، والمتاعب التي يتحملونها ، ترفعهم عند الله (دَرَجاتٍ مِنْهُ) ، لأن علوّ الدرجة يتبع صعوبة المعاناة وروعة التضحية (وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) .. فإن الله يغفر لمن آمن وعمل صالحا ، وأيّ عمل صالح أعظم من بذل النفس والمال في سبيل الله ، (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ....) ، [الأعراف : ٥٦] ، وأيّ إحسان أعظم من الذين يضحّون في سبيل الإسلام والمسلمين.

* * *

٤١٣

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠)

* * *

معاني المفردات

(تَوَفَّاهُمُ) : تتوفاهم ، حذفت إحدى التاءين تخفيفا ، والتوفي هو أخذ الشيء وافيا تاما ، إما من عالم الحياة ، وإما من عالم اليقظة ، وإما من عالم الأرض ؛ كتوفي المسيح وأخذه ، والتوفي في الآية هو المعنى الأول.

(ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : بخسوا أنفسهم حقها ولم ينصفوها ، وعرّضوها

٤١٤

للهلاك في ما ساروا في طريق الانحراف في العقيدة والعمل ، فأوردوها الخسارة والعقاب.

(فِيمَ كُنْتُمْ) : في أيّ شيء كنتم من دينكم ، وهو سؤال تقريري توبيخي عن الحال التي كانوا يعيشون فيها من الالتزام الديني. وكلمة «م» هي «ما» الاستفهامية حذفت منها الألف لدخول حرف الجر عليها.

(مَأْواهُمْ) : المأوى المرجع من أوى إلى منزله يأوي أويا إذا رجع إلى منزله.

(مُسْتَضْعَفِينَ) : الاستضعاف : وجدان الشيء ضعيفا ، كالاستطراف ونحوه.

(حِيلَةً) : الحذق في تدبير الأمور ، فهي ما يتوسل به إلى الحيلولة بين شيء وشيء ، أو للحصول على شيء آخر أو حال آخر. وغلب استعمالها في ما يكون خفية ، وفي الأمور المذمومة.

(سَبِيلاً) : طريقا حسيا يهاجرون من خلاله أو معنويا ، وهو كل ما يخلصهم وينقذهم من الفتنة والاستضعاف.

(يُهاجِرْ) : المهاجرة : المفارقة ، وأصله من الهجر ضد الوصل.

(مُراغَماً) : مواضعا للهرب ترغم فيها الصعوبات والعقبات وتذلل ويرغم فيها أنف القوى الطاغية ، «والمراغم المضطرب في البلاد والمذهب ، وأصله من الرغام وهو التراب ، ومعنى راغمت فلانا هاجرته ولم أبال رغم أنفه ، أي وإن لصق بالتراب أنفه ، وأرغم الله أنفه ألصقه بالتراب ، وقيل : أصله الذل والشدة ، والمراغم المعادي الذي يروم إذلال صاحبه ، ومنه الحديث : «إذا صلّى أحدكم فليلزم جبينه وأنفه الأرض حتى يخرج منه

٤١٥

الرّغم» ، أي حتى يذل ويخضع لله تعالى ، وفعلته على رغمه ، أي على ذلة بما يكره ، وأرغم الله أنفه : أذلّه ، والمراغم : الموضع ، والمصدر من المراغمة» (١).

* * *

مناسبة النزول

جاء في مجمع البيان : قيل : لما نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من المسلمين وهو جندع أو جندب بن ضمرة وكان بمكة فقال : والله ما أنا مما استثنى الله ، إني لأجد قوّة وإني لعالم بالطريق ، وكان مريضا شديد المرض ، فقال لبنيه : والله لا أبيت بمكة حتى أخرج منها ، فإني أخاف أن أموت فيها ، فخرجوا يحملونه على سرير حتى إذا بلغ التنعيم مات ، فنزلت الآية (٢).

* * *

الضعف الذاتي ليس مبررا للاستسلام

هل الضعف الذاتي لدى الإنسان يعتبر مبررا للاستسلام لمخطّطات المستكبرين في العقيدة وفي السلوك ، فينحرفون معهم إذا انحرفوا ، وينفذون خطط الظلم للآخرين إذا أرادوا ذلك ؛ ويمتد بهم الانحراف والضلال ، ثم يقفون بعد ذلك أمام الله ليبرروا أعمالهم ، بأنهم كانوا مستضعفين في

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ١٥٢.

(٢) (م. ن) ، ج : ٣ ، ص : ١٥٢.

٤١٦

الأرض ، لا يملكون القدرة التي يستطيعون من خلالها الوقوف في وجه المستكبرين؟!.

إن هذه الآيات تحدد الاستضعاف الذي يمكن للإنسان أن يجد فيه السبيل للعذر أمام الله ، والاستضعاف الذي لا عذر للإنسان معه ؛ لأن القضية لا تخضع ـ في ذاتها ـ للحالة الآنية التي يعيشها الإنسان ، بل للظروف الموضوعية المحيطة به في حركة الحاضر والمستقبل ، والفرص المتنوعة المتاحة له ، للخروج من هذا الجو الخانق أو ذاك ، والإمكانات المختلفة باختلاف المكان والزمان ؛ فإذا كان يملك فرصة مستقبلية لعملية صنع القوة في المستقبل ، فعليه أن ينتظر تلك الفرصة ، فلا يستسلم تحت ضغط الضعف الحالي إلا بمقدار ما يتمكن من ترتيب عملية القفز نحو المستقبل من مواقعه الحاضرة. وإذا كان هناك مكان جديد يستطيع أن ينمّي قوته فيه ، بعيدا عن التحديات الضاغطة ؛ فعليه أن يهاجر إليه من أجل التزوّد بالقوة اللازمة للتصدي لمواقع الظلم والطغيان ، والعمل على تهديم كيانها ، وإضعاف قوتها ، بل إزالتها نهائيا ، بل إزالة قوتها. وهذا ما عبّرت عنه هذه الآيات في أسلوب يتحدث عن الموضوع من خلال علاقته بالمصير الذي ينتظر الإنسان في الآخرة على أساس سلوكه في الدنيا ، وذلك بتقديم أحد النماذج المستسلمة لحالة الاستضعاف مع قدرتها على تجاوزها إلى حالة قوة ...

* * *

ظلم النفس من الكفر والضلال

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) فقد جاءتهم الملائكة لتتوفاهم يأمر الله الذي أوكل إليهم أمر الموت ، وكانوا في حالة الظلم لأنفسهم لأنهم انحرفوا في العقيدة والعمل. وهذا ـ أعني ظلم النفس وهو تعبير قرآني مميز عن الكفر والضلال الذي يؤدي بالإنسان إلى الهلاك ، مما يجعل السير

٤١٧

في طريقه ظلما للنفس وتعريضا لها للعذاب الأليم ... ولم يترك الملائكة هذه الحالة بدون حساب ، فقد أوكل الله إليهم أمر التحقيق في أعمال الناس الذين يتوفونهم ؛ وبدأت عملية التحقيق (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ...) ما هي الأجواء التي كنتم تتحركون في داخلها؟ وما هي الأسباب التي أدّت بكم إلى هذا السلوك؟ وما هي مبرراتكم التي تقدمونها بين أيديكم لتدافعوا بها عن أنفسكم؟ (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) ، فلم تكن لنا قدرة على مواجهة هؤلاء الناس الذين يفرضون علينا العقيدة الباطلة والسلوك المنحرف ، ولا يسمحون لنا بالتعرف على العقيدة الحقة ، لأنهم يغلقون عنا سبل المعرفة من جميع الجهات ، فلا نجد أمامنا إلا الباطل الذي يحيط بنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن يميننا وعن شمالنا ، ولا نملك ـ في الوقت ذاته ـ حرية الحركة ، في ما نريد أن نقوم به من عمل في نطاق الحق والهدى ، لأنهم يحددون لنا الساحة التي نتحرك فيها ويحيطونها بأسلاك شائكة ، تمنع النفاذ منها إلى ساحات أخرى.

(قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ...)؟ ولم يقتنع الملائكة بالجواب ، بل حاولوا التوسع في التحقيق ، لتحديد الحالة التي تخضع لحساب المسؤولية في واقعهم الفكري والعملي ؛ فسألوهم عن إمكانيات الفرص البديلة للواقع الذي عاشوه ، وعما إذا كانت هناك أرض أخرى حرة ، لا يستطير عليها المستكبرون ؛ بل تنطلق فيها الحرية الفكرية والعملية بأوسع مداها ، مما يتيح لها مجال المعرفة الحرة والسلوك الحر ، وكان السكوت هو الرد الذي قابلوا به هذا السؤال ، لأنهم لا يملكون الإنكار أمام الحقيقة الحاسمة التي كانت تتمثل في حياتهم ؛ فقد كانت لهم مجالات للهجرة إلى المواقع الجديدة التي يخرجون بها من حالة الاستضعاف هذه ، ولكنهم استسلموا لحالات الاسترخاء والكسل والخشية من المتاعب الجسدية والمالية ونحوها ، وعاشوا في خدمة المستكبرين ؛ وبذلك حقّت عليهم كلمة الله ،

٤١٨

وقامت عليهم الحجة (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ...).

أما إذا كان هذا الإنسان لا يملك الفرصة للهجرة ليتحرّر من ضغط القوى المستكبرة عليه ، كما في الكثير من النماذج البشرية المسحوقة التي لا تملك الوسائل المتحركة لاستعمال الحيلة في الخروج من المأزق ، ولا تهتدي السبيل للهجرة ، لعجز في الطاقة الجسدية ، أو لضعف في الإمكانات المادية والمعنوية ؛ فهؤلاء قد يجدون بعض العذر عند الله ، وهذا ما عبرت عنه هذه الآية بأسلوب الاستثناء من القاعدة السابقة.

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) مراعاة لظروفهم الصعبة ، وربما كان التعبير بكلمة (عَسَى) التي لا توحي بالجزم ، ليظل الإنسان في حالة استنفار دائم لقدراته وإمكاناته ، فلا يسترخي أمام حالة العجز بشكل سريع. (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) فقد سبقت رحمته غضبه ، في ما ينحرف به الناس عن الخط نتيجة هفوة أو ضعف أو عجز ... فإنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وهو خير الغافرين.

* * *

ولا بد لنا من إيضاح ما أشرنا إليه ضمن حديثنا هذا ، وهو أن الاستضعاف قد يكون في العقيدة ؛ وذلك في الحالات التي لا يملك فيها الإنسان وسائل المعرفة للانفتاح على ما هناك من أفكار وأديان وشرائع ، وقد يكون الاستضعاف في العمل والسلوك ، وذلك في المجالات التي تكون فيها إرادته مسحوقة تحت ضغط إرادة أخرى قاهرة ؛ وفي كلا الحالين يتحدد العذر بإمكانات التخلّص من الطوق المضروب حول الإنسان بالهجرة إلى أماكن أخرى ، أو بالانتظار إلى وقت آخر ، أو بغير ذلك من الوسائل العملية

٤١٩

للخروج من المأزق ، فمع توفرها لا عذر للإنسان بالبقاء في حالة الضعف ، أما مع عدم توفرها ، فإن الله هو العفوّ الغفور.

* * *

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) هذه هي الحقيقة التي يؤكدها القرآن في هذه الفقرة من الآية ، وخلاصة فكرتها أنّ قضية القوة والضعف لا يمكن أن تخضع للحدود الجغرافية التي تحيط بالإنسان وتضغط على حركته ، بل يمكن للإنسان أن يمتد إلى أماكن أخرى من الأرض ، ليجد فيها السعة التي لا تضيق بنشاطه ، والفرص التي يستطيع ـ من خلالها ـ أن يرغم أنف القوى الطاغية الكافرة. وتلك هي قصة كل الدعوات الخيّرة والرسالات الكبيرة ، التي لم تستطع أن تتقدم إلى أهدافها في المحيط الذي انطلقت منه ، ولكنها استطاعت أن تمتد إلى أبعد مدى في الأرض ، فتفسح لخطواتها المجال الذي تسير فيه بسرعة فائقة ، بعيدا عن كل الضغوط والتحديات ؛ وبذلك انطلق الإسلام إلى خارج مكة ، بالهجرة التي كانت الحد الفاصل بين عهدين للإسلام ، عاش في أحدهما الاضطهاد والضغط والتنكيل إلى ما يشبه الاختناق وتحرك في ثانيهما من يثرب حتى انتشر في الآفاق الواسعة من العالم ...

إن الإسلام يريد أن يثير في نفوس العاملين أن اضطهاد الدعوة ، في أحد مواقع العمل ، لا يعني استحالة الحركة ، لأن هناك مواقع أخرى للحرية يمكن الانتقال إليها من أجل التحرك بالإسلام إلى آفاق جديدة وانتصارات كبيرة ... إن العاملين لا يعيشون ضيق الأفق في النطاق الإقليمي الذي يتحرك فيه عملهم الرسالي ، بل يعتبرون ساحتهم بحجم ساحة الرسالة ، وذلك هو حجم العالم كله بكل مجالاته ووسائله وآفاقه. فليس للإنسان أن

٤٢٠