تفسير من وحي القرآن - ج ٧

السيد محمد حسين فضل الله

النبي أو الإمام أو الوليّ ؛ فذلك أمر لا علاقة له بالدور الذي يتمثله الناس في الحضور العاطفي لهذه الشخصيات في حياتهم.

وهذا ليس هو الدور الذي جعله الله للأنبياء في علاقة الناس بهم ، بل هو دور الاتباع والطاعة لهم (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ) فإن الله لم يرسل أي رسول (إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) لتكون طاعته ـ في ما يأمر به أو ينهى عنه ـ طاعة لله ، فنحن نطيعه لأن الله أذن لنا في ذلك ، لا من خلال صلة شخصية أو عاطفية. وهذا خط إسلامي يرسمه الله لنا في حركة الطاعة للأشخاص في حياتنا ؛ فإن الله لم يجعل لنا حرية الطاعة لأيّ كان ، لئلا تختلط علينا الأمور في مسيرتنا العملية ، تبعا لاختلاط أشكال الطاعة وأوضاعها في علاقاتنا العامة والخاصة ، بل لا بد لنا من أن ندرس حالة أيّ شخص يطلب منا أن نطيعه ، فإن كان يؤدي عن الله بحجة شرعية ثابتة ، فلنا أن نطيعه من خلال أن الله أراد لنا ذلك ؛ وإن لم يكن ممن يؤدي عن الله في ما يؤدّيه من شؤون الفكر والحياة ، أو لم نستوثق من ذلك من خلال ما يثبت لنا من وسائل الثقة ، فإن علينا أن نتوقف أو نتحفّظ لئلا نقع في أحابيل الشيطان ، من حيث نريد أو لا نريد.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ثم يثير القرآن أمام موقف هؤلاء المنافقين المنحرفين الذين يحاولون أن يبرّروا أعمالهم بالباطل ، إمكانية أن يتراجعوا ويصحّحوا مسارهم الطبيعي ، من دون حاجة إلى اللف والدوران ؛ (جاؤُكَ) وذلك بأن يقفوا أمام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن ظلموا أنفسهم بمعصيتهم لله ، وتمرّدهم على الرسول ، (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) ليستغفروا الله ويتوبوا إليه مما عملوه حتى يستغفر لهم الرسول ، ليؤكّد قبوله لهم ومسامحتهم في حقه ، فيدعو الله لهم بالمغفرة ، كما يدعونه ليغفر لهم ، (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وسيجدون الله عند حسن ظنهم فيتوب عليهم إذا عرف منهم صدق التوبة ، ويرحمهم بمغفرته وعفوه ورضوانه ،

٣٤١

وبذلك يمكنهم أن يتخففوا من ثقل الذنوب التي أرهقت نفوسهم وظهورهم ، وينطلقوا إلى الحياة خفافا من كل وزر ، أطهارا من كل رجس.

* * *

ميزان الإيمان الحق : الانصياع المطلق لحكم الله ورسوله

ويعود القرآن ـ من جديد ـ ليحدّد للمؤمنين الحدّ الفاصل بين الإيمان وعدمه ، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ...) بكلمة الإيمان التي يقولونها ، أو بمظاهره وشعائره التي يحملونها ، بل لا بد من الموقف الصعب الحاسم الذي يضع الأمور في نصابها الصحيح (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ؛ فإذا اختلفوا في أية قضية من قضايا الحياة ، وتعدّدت الآراء التي يدلي بها هذا الفريق أو ذاك ، فإن علامة إيمانهم أن يجعلوك الحاكم في ما يأخذون أو يدعون ، وذلك من خلال صفتك الرساليّة ، ليكون رجوعهم إليك وتحكيمهم لك رجوعا إلى الرسالة وتحكيما لها في جميع أمورهم التي يختلفون فيها. فإن معنى ذلك أنهم لا يجدون لأنفسهم الحق في الاستقلال في رأي ما ، بعيدا عن الرسول والرسالة ، ولا يتطلعون في جميع قضاياهم الحياتية إلى أي شخص آخر ، أو أي فكر آخر ، وذلك هو معنى الإيمان الذي يلتزم بالقاعدة ولا يلتزم بأية قاعدة غيرها. فإذا حكمت بينهم بأمر ، مما يلتقي برغباتهم الذاتية أو مما لا يلتقي بها ، فإنهم سيرتفعون ـ عند ذلك ـ عن الخضوع لمشاعرهم الخاصة ، فلا يقومون بأيّ عمل سلبي ضد هذا الحكم ، ولا يتعقّدون في داخلهم من أجله ، بل يتقبلونه برحابة صدر ورضا نفس ، ويستسلمون لحكم الله في دعة واطمئنان ، لأنه يملك منهم ما لا يملكونه من أنفسهم. وهذا هو معنى قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

* * *

٣٤٢

من علامات إيمان المؤمن

وقد نستوحي من هذه الآية ، أن من علامات إيمان المؤمن أن يقف أمام المراحل الصعبة التي يقطعها في مجالات الجهاد والدعوة إلى الإسلام ، ليحدّد موقفه من خلال حاجة المرحلة ؛ فقد تفرض عليه أن يكبت انفعالاته ويجمّد حماسه عند ما تقتضي مصلحة الإسلام ذلك ؛ وقد تفرض عليه أن يتقدّم في بعض المواقف ويقف في بعضها الآخر ، فلا يخضع لهوى نفسه ولرغبة مزاجه ، بل يجعل الإسلام نصب عينيه من خلال ما يفرضه عليه حكم الله ليسير على هدى ذلك ، باعتبار أنه الحكم العدل الذي لا ينحرف ولا يزيغ.

* * *

الآية وعصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وقد نستوحي من ذلك التأكيد على عصمة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال التسليم الكلي لحكمه ، سواء أكان الحكم متصلا بالخط التشريعي الذي يشرعه الله في أحكام الناس في قضاياهم العامة ، أم كان متصلا بالجانب القضائي في منازعات الناس في أمورهم الخاصة أمامه ، أم كان متحركا في تفاصيل الواقع كله ، لأنه يمثل الحقيقة التي لا مجال فيها لأيّ ريب أو لأية شبهة مما قد يدور في خاطر الأوهام من احتمالات الخطأ ، لا سيّما أن الله ربط ذلك بالإيمان بحيث يفقد المرء إيمانه إذا ابتعد عن هذا الخط المستقيم ، فلو كان النبي معرّضا للخطأ في أيّ شيء من ذلك أو واقعا تحت تأثير احتمالات الخطيئة ، لكان للناس الحق أن يراجعوا أحكامه في حسابات النقد التحليلي الذي يمكن أن يثير السؤال أو يبحث عن الوضوح

٣٤٣

في أجواء الغموض.

إذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمثل الحقيقة البيضاء الناصعة ، فلا مجال لأيّ اجتهاد خاص أو عام في مقابل أي حديث صادر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس هناك أية فرصة للآراء الشخصية المتنوعة من أية جهة أو من أيّ شخص.

ومن الطبيعي أن ذلك مختص بما صدر عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق اليقين أو الاطمئنان المستقر ، أمّا إذا لم يكن موثّقا بطريقة حاسمة ، فبإمكان الباحثين من العلماء الذين يملكون سعة الاطلاع واجتهاد البحث أن يناقشوا ويدققوا في مضمون هذا الحديث أو ذاك في مقارنة دقيقة مع القرآن ، أو يلاحقوا علامات الاستفهام في سنده ، لأن القضية هي قضية الإسلام الذي لا بد أن تكون العقيدة والمفهوم والشريعة فيه منطلقة من المصادر الموثوقة الخاضعة لموازين النقد العلمي الواسع العميق.

* * *

القرآن يخاطب المواقف الحقيقية للمنافقين

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وماذا بعد ذلك؟ إن القرآن يخاطب مواقفهم الحقيقية ، ليحرّك أعماقهم بما تختزنه من رواسب التمرّد ومشاعر الانحراف ، فلو كانوا مؤمنين كما يزعمون ، لانطلقوا مع خط الإيمان في مواقعه المطلقة التي تعبر عن الاستسلام لله في كل شيء ، ولكنهم ليسوا كذلك ، فلو أن الله دعاهم إلى أن يقتلوا أنفسهم في ساحات الجهاد أو بطريقة ذاتية ، أو طلب منهم أن يخرجوا من ديارهم لأي هدف كان ، لما أطاعوه في ذلك ، إلا قليل منهم ممن انفتحت آفاقهم على الله فرجعوا إليه. وهذا دليل عدم الإيمان ، لأن الإسلام يعني التسليم الذي تمثل في موقف إبراهيم وولده إسماعيل ، كما حدثنا الله

٣٤٤

عنه (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) [الصافات : ١٠٢ ـ ١٠٦].

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) من الخير والعمل الصالح ، (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) لنفوسهم وقلوبهم بالإيمان ، لأن الإيمان يثبت بالموقف الصلب والعمل الصالح ، ولحصلوا من الله على الأجر العظيم ، ولهداهم إلى الصراط المستقيم ، لأن الله يهدي الإنسان الذي يطلب الهدى ويتحرك في سبيله (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً).

* * *

جزاء المطيعين

وفي ختام هذا الفصل ، تحدثنا الآية الأخيرة عن الجو الذي أعدّه الله في الآخرة للطائعين الذين يطيعون الله ورسوله ، وعن الدرجة الرفيعة التي يضعهم الله فيها (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) الذين أخلصوا لله الإيمان والعمل ، (وَالشُّهَداءِ) الذين أرادهم الله أن يكونوا شهداء الأعمال يوم القيامة ، (وَالصَّالِحِينَ) الذين ساروا في خط الصلاح والفلاح ... (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ، وأي رفقة أعظم من هذه الرفقة الروحية في الجنة ، حيث الكرامة الإلهية في رضوان الله ومغفرته (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بعباده العاملين المخلصين.

* * *

٣٤٥

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧٣)

* * *

معاني المفردات

(حِذْرَكُمْ) : حذركم وتحرّزكم على خيفة من أعدائكم المتربّصين بكم. وقيل : ما يحذر به ، وهو آلة الحذر كالسلاح ، فعلى المعنى الأول مصدر ، وعلى الثاني اسم ، وسمى الأسلحة حذرا لأنها التي بها يتقى الحذر.

(فَانْفِرُوا) : اخرجوا للجهاد والقتال بسرعة وأهبة. والنفر : جماعة تفزع إلى مثلها. والمنافرة : المحاكمة للفزع إليها في ما تختلف فيه ، وقيل : إنما سميت بذلك لأنهم يسألون الحاكم عند التنافر : أيّنا أعزّ نفرا.

(ثُباتٍ) : مجموعات متفرقات ، فرقة بعد فرقة ، والثبة : المجموعة. وهذا مقابل النفر بصورة مجتمعة (الجيش كله). ويكون ذلك بحسب طبيعة

٣٤٦

المعركة وأساليب الحرب والقتال.

(لَيُبَطِّئَنَ) : ليتثاقلنّ ويتأخرن عن الخروج إلى الجهاد والمعركة من دون عذر. والتوكيدات المتعددة تدل على مدى اجتهاد هؤلاء في التخلف والتبطئة. والتبطئة : التأخر عن الأمر. يقال : ما بطّأ بك عنّا ، أي ما أخّرك عنا ، ومثله الإبطاء ؛ وهو إطالة مدة العمل لقلة الانبعاث ، وضدّه الإسراع ، وهو قصر مدة العمل للتدبير فيه.

(شَهِيداً) : شاهدا وحاضرا في القتال وميدان المعركة.

* * *

مناسبة النزول

قال الطبرسي في مجمع البيان : قيل : إنها نزلت في المؤمنين لأنه خاطبهم بقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ) ، وقد فرّق بين المؤمنين والمنافقين بقوله : (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ). [المجادلة : ١٤] وقال أكثر المفسرين : نزلت في المنافقين وإنما جمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب لا من جهة الإيمان ، وهو اختيار الجبائي (١).

* * *

القرآن يدعو للثبات أمام أساليب الانهزام

وهذه الآيات انطلاقة جديدة للدعوة إلى إطاعة الله والرسول ، في خط الجهاد الذي فرضه على الأمة ، لتكون قادرة على مواجهة التحديات من

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص ١١٤.

٣٤٧

مواقع القوة ، لأن أية أمة تريد الوقوف على قدميها ، لا بد لها من قاعدة فكرية تواجه بها الفكر المنحرف الضالّ ، ومن قاعدة للقوّة تواجه بها الفئات المنحرفة الضالّة ، لتستمر في رسالتها على مدى الزمن. ولهذا جاء النداء للمؤمنين ليأخذوا حذرهم من كل التحديات المحتملة المحيطة بهم ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) فهناك أكثر من عدو يتربّص بهم ، سواء كان من أهل الكتاب أو المشركين ، وهناك أكثر من جهة تعبث بأمنهم ، سواء في ذلك المنافقون وغيرهم. فلا بد لهم من مواجهة ذلك كله بالاستعداد ، (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) فإذا جاء وقت النفر إلى الجهاد ، فعليهم أن ينفروا متفرّقين أو مجتمعين ، حسب الخطة الموضوعة للنفر في نطاق المصلحة العليا للإسلام والمسلمين ؛ فقد تكون المصلحة أن يخرجوا فرقة فرقة ، وهو ما يسمى بنظام السرايا ، وقد تكون المصلحة أن يخرجوا جميعا وهو ما يسمى بنظام العسكر.

* * *

لا بد من الحذر على كل المستويات

وإذا دققنا في كلمة (خُذُوا حِذْرَكُمْ) فإننا ننفتح من خلالها على كل ساحات الصراع التي يمكن أن يتواجد فيها أعداء الإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان ، ليستغلوا كل الثغرات الموجودة في المجتمع المسلم لينفذوا من خلالها إليه ، للإضرار به ليعبثوا بأمنه أو ليحشدوا القوة العاتية ، ليهجموا بها على الواقع الإسلامي كله ، لأن المعركة في حركة التحديات المضادة مستمرة في صراع الحق والباطل والخير والشرّ. وإذا أردنا استنطاق كلمة (حِذْرَكُمْ) فإنها تعني مواجهة كل الأوضاع والمشاكل والتيارات المختلفة والظروف المتنوعة ، بالكثير من الدراسة والتخطيط للتعرف على مخططات العدو في مواقع قوته وقدرته وأساليبه واستراتيجيته ، ومداه البشري

٣٤٨

والعسكري ، ولتجميع كل نقاط القوة المتناثرة في الساحة الإسلامية ، ولتوزيع الطاقات على مواقع المعركة بكل دقة وإتقان ، لأن قضية المواجهة لا تسير على نهج واحد وعلى أسلوب واحد ، بل تتنوع تبعا لتنوع قدرات العدو وأوضاعه.

ولا بد من التنبيه على أن كلمة «الحذر» ، تختلف عن كلمة «الخوف» فإن الخوف يشلّ القدرة ويدفع إلى الهزيمة ، أما الحذر ، فإنه يوحي بالدراسة الدقيقة الموضوعية للواقع للتعرف على أفضل الوسائل للمواجهة بطريقة حكيمة واعية مدروسة.

* * *

المقابلة بين المؤمنين والمنافقين

ويتحدث القرآن عن بعض الفئات التي تعيش الضعف في الموقف ، بين فئة تعاني من ضعف الإيمان والإرادة ، وبين فئة تعيش النفاق في داخلها ، في الوقت الذي تعيش في مجتمع المؤمنين كأية فئة منهم. (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) وخلاصة موقفهم أنهم لا ينفرون مع النافرين ، بل يتباطئون متعلّلين ببعض الأعذار التي تبرر لهم ذلك ، حتى يخرج الجميع وتفوتهم الفرصة التي أرادوا أن تفوتهم ، (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) فإذا رجع المؤمنون من الجهاد وكانوا في موقع الهزيمة أو الفشل أو القتل ـ في ما عبّر عنه القرآن بالمصيبة ـ قال هؤلاء الناس ، كما لو كانوا يتحدثون عن نعمة من نعم الله عليهم : (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ) لأننا لم نشهد المعركة ، (إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) فلم نصب بما أصيبوا به من قتل أو جرح أو نحو ذلك ، من دون أن يلتفتوا إلى الآفاق الروحية التي يعيش فيها المؤمنون الصادقون المجاهدون ، الذين يعتبرون القتل والجهد والجرح في سبيل الله ربحا وسعادة ، ينالون من خلالها رضا الله في الدنيا

٣٤٩

وذلك جزاء المحسنين. فليست قصة الحياة لدى المؤمنين ، قصة استمتاع ولذة وامتياز ، ولكنها قصة مسئولية ومعاناة وجهاد ؛ فقد اشترى الله منهم أنفسهم أن يبذلوها في سبيله ، في أي موقع من مواقع العمل والجهاد المرّ.

(وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) أما إذا رجع المسلمون بالنصر وبالغنائم التي غنموها من العدو ، فلم يصابوا بأيّ بلاء مما يصيب المقاتلين ، فإن الموقف يتبدل لدى هؤلاء ، ويتمثل بإطلاق التمنيات الذاتية التي لا تنطلق من رغبة روحية في المعاناة مع إخوانهم المؤمنين في ما عانوه من جهد في سبيل الله ، ليكون لهم فضل المشاركة في الجهاد والمؤاساة لإخوانهم ، فهم لا يعيشون المودّة للمؤمنين المجاهدين ولا يشعرون بالعلاقة الإيمانية التي تربطهم بهم ، لتكون قضاياهم المصيرية مشتركة في الموقف والشعور ؛ بل تنطلق كل تمنياتهم من النظر إلى الأرباح التي حصل عليها المجاهدون ، تماما كأيّ إنسان بعيد عن المؤمنين عند ما يتمنى لنفسه الفضل المادي الذي حصلوا عليه ؛ فيقولون وهم يعبّرون عن الحسرة الداخلية لفوات الفرصة عليهم : يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما.

* * *

٣٥٠

الآيات

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٧٦)

* * *

معاني المفردات

(يَشْرُونَ) : يبيعون. يقال : شريت ، بمعنى بعت ، واشتريت ، بمعنى ابتعت.

(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) : وهم الذين استضعفهم الحاكم المستكبر لأنهم لا يملكون مقومات القوة الذاتية ، فيعيشون معذبين مقهورين ، مما يفرض على الذين يملكون القوة والفرصة لإنقاذهم أن يتحركوا في هذا الاتجاه ليخلصوهم من ضغط المستكبرين.

* * *

٣٥١

إطلاق الدعوة إلى الجهاد

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) وتنطلق الدعوة إلى الجهاد ، في نداء حاسم يدفع المؤمنين إلى القتال في سبيل الله ، من خلال الأجر العظيم الذي ينتظرهم عند الله ، لأن الإيمان الحق يمثل ـ في عمق معناه ـ أن المؤمن يبيع نفسه لله ولا يرى الدنيا لنفسه ثمنا ، بل يشتريها بالآخرة ، فتكون هي الهدف الذي يستهدفه من كل أعماله ومواقفه ، وهي المقياس للسعادة والشقاء في الجانب الإيجابي والسلبي منها. ولهذا جاءت الآية لتثير هذه الحقيقة الإيمانية في ذواتهم ، ليشعروا بأن القتال في سبيل الله يمثل الوجه الحقيقي لحركة الآخرة في وعي الإنسان وموقفه ؛ (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) فإنّ الله قد أعدّ للمجاهدين الذين يقتلون في المعركة أو الذين ينتصرون على عدوّهم الأجر العظيم. ولم يتعرض القرآن لحالة الهزيمة ، للإيحاء بأن ذلك ليس واردا في أجواء المؤمنين الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ويقاتلون في سبيل الله ، لأن طبيعة الهدف تمنعهم من ذلك في أية حالة من الحالات.

* * *

الأهداف الواقعية للجهاد

وتتابع الآيات حديثها عن الأهداف الواقعية للجهاد بطريقة الإثارة ، فتتوجه إلى المؤمنين بأسلوب يوحي بأن الأوضاع القلقة التي يعيشها المستضعفون تجعلهم لا يجدون لديهم وليا ولا نصيرا إلا الله ، وذلك من خلال حالة الاستضعاف التي يعيشونها أمام حالة الاستكبار في كل ما يملكه الأعداء من قوىّ مادية ومعنوية لا بدّ أن تفرض حلّا حاسما لتغيير هذا الواقع من خلال الموقف ، فكيف يواجه المؤمنون الذين يحملون لواء الدعوة إلى

٣٥٢

الله ، لتتساقط كل الأصنام الحجرية والبشرية على الأرض ولتتحطم كل القوى الظالمة الباغية أمام قوة الحق والعدل؟ كيف يواجهون الموقف ، وهم يشاهدون كل هذه المآسي التي تتمثل في المظالم التي يقوم بها المستكبرون ضد المستضعفين ، من جلدهم بالسياط وقتلهم وسجنهم وإخراجهم من ديارهم ، لا لذنب جنوه ، بل لأنهم رفضوا عبادة الأصنام وقالوا ربنا الله بكل صدق وصراحة وإيمان ، ووقفوا في حالة اشتداد القهر والألم والظلم أمام الله ، ليستغيثوا به ويبتهلوا إليه أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها ، وأن يجعل لهم من لدنه وليا ونصيرا. إن الله يأمرهم بالقتال من أجل تحقيق الأهداف التي انطلق الإسلام ـ وكل رسالات الله ـ من أجلها ، وهي إقامة العدل في كل أرض ، ورفع الظلم عن كل إنسان ، وتوفير الأمن والطمأنينة للحياة على أساس حكم الله وكلمة. وتلك هي أهداف القتال في الإسلام ، فإنه لم يدع إلى القتال للسيطرة الاستعلائية التي تريد أن تحكم لتحقق للحاكم شهواته في العلو والاستكبار ، أو لتفسح المجال للإفساد من خلال القوة الغاشمة التي يهيئها القتال للحكّام ، بل دعا إليه من أجل أن يحقق للحياة رسالتها ، وللإنسان إنسانيته ، ولهذا جاءت الآية لتثير في داخل المؤمنين إيمانهم وعاطفتهم ومسئوليتهم عن الناس والحياة.

* * *

معنى القتال في سبيل الله

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) الذي حدّد لكم أهدافكم في رسالته التي تدعوكم إلى إقامة حكم الله في الأرض وتشييد الحق والعدل وهدم الباطل والظلم ، فينبغي لكم أن تنطلقوا بكل الوسائل التي تحقق للإسلام حريته في الدعوة إلى الله في كل مناحي الأرض ، (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) الذين يتعرضون لأبشع أنواع الظلم والقهر والاستبداد (الَّذِينَ

٣٥٣

يَقُولُونَ) تحت وطأة الوضع الذي لا يطاق ، في ابتهال خاشع مستغيث : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) مكة (الظَّالِمِ أَهْلُها) ، لكل الناس الذين لا يخضعون لهم من الضعفاء الذين لا يملكون مقومات القوة الذاتية ، فيلجئون إلى الله ليجعل لهم السبيل إلى القوة حيث لا قوة ، وإلى النصرة حيث لا نصرة. (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) وأيّ دور أعظم من هذا الدور الذي جعله الله للمؤمنين ، وأيّ تكريم أفضل من هذا التكريم الذي منحهم إياه ، في ما أراده منهم من القيام بشؤون الولاية والنصرة للمستضعفين ، باعتبارهم القوة المؤمنة العادلة التي تعمل لتنفيذ إرادة الله في الأرض ، وفقا لسننه في مسيرة الحياة التي جرت على أن النصر الذي يمنحه الله لعباده لا بد أن يتم بالأسباب الطبيعية التي وضعها بين أيديهم.

وهكذا نفهم ، من خلال هذه الآية ، رفض الفكرة التي يوجهها أعداء الإسلام للإسلام بأنه دين العنف والقتال ، فإن العنف لم يكن إلا لتدمير العنف الظالم الذي يتمثل في القوى الغاشمة التي تضغط على إرادة المستضعفين ، أمّا ما عدا ذلك ، فإن الإسلام دين الرحمة والمحبة الذي يحتوي الحياة كلها بكل وداعة وتسامح واطمئنان.

* * *

الخط الفاصل بين قتال المؤمنين وقتال الكافرين

ويختم الله هذا النداء بتقرير الحقيقة الإيمانية ، في الخط الفاصل بين قتال المؤمنين وقتال الكافرين ؛ فإن المؤمنين يقاتلون في سبيل الله ، فليس لهم أيّ هدف يتصل بالحالة الشخصية للمقاتل ، أو بالنوازع الذاتية التي تربطه بعلاقاته وشهواته وأطماعه ، أو بالأشخاص الذين يمثلون خط الطاغوت في الفكر والعمل والموقف ، بل كل ما هناك ، أنه يقاتل في سبيل الله الذي هو

٣٥٤

الوجه المشرق لسلامة الحياة والإنسان. أما الكفار ، فإنهم يقاتلون في سبيل الطاغوت ، بما يمثّله من الفكر الباطل والحكم الطاغي والشريعة المنحرفة والأهواء الضالة والفريق الظالم والفئة الشريرة الكافرة ، وهذا ما يوحي للمؤمنين دائما بتحديد الساحة التي يقاتلون فيها ، من خلال تحديد القيادة التي تقود الساحة ، والحكم الذي يحكمها ، والأفكار التي تسيطر عليها ، والأهداف التي تستهدفها ، والجبهة التي تعمل معها ، أو تحاربها ...

فذلك هو الذي يحقق له مصداقية شخصيته الإيمانية من جهة ، ويمنح موقفه الشرعية الإسلامية ؛ فلا يمكن للمؤمنين أن يقاتلوا أولياء الله ، مهما كانت الظروف والنتائج ، لأن ذلك يعني الحرب على الله بشكل غير مباشر. وقد نحتاج إلى التدقيق في تطبيق هذا الخط على مسيرتنا الإسلامية ، في مثل هذه العصور التي فقد فيها المسلمون الحكم الذي ينطلق من مواقع الشرعية الإسلامية ، واختلفت ـ في الوقت ذاته ـ الأوضاع التي تتحرك في أكثر من صيغة سياسية في حياتنا ، مما يمكن ـ معه ـ أن يلتبس على الإنسان الحق والباطل ، ويشتبه عليه المخلصون من المنافقين.

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) لأنهم الذين يمثلون الطاغوت في كل جوانب حياتهم الفكرية والعملية ؛ ولا تخافوا من كيدهم وشرّهم وطغيانهم ، لأنهم يستمدّون قوتهم من الشيطان الذي يملك قوة محدودة تتحرك من خلال الوسائل المادية التي يقدمها لأتباعه ، ولكنها سرعان ما تتهاوى أمام الموقف الصلب الذي يقفه المؤمنون ، انطلاقا من قوة الله المطلقة التي لا تقف عند حد (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً).

* * *

٣٥٥

الآيات

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٧٩)

* * *

معاني المفردات

(كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) : كناية عن الإمساك عن القتال ، أي أمسكوا عن القتال والحرب ، لأن المرحلة لم تستوجب ذلك بعد.

(فَتِيلاً) : كناية عن القلة والحقارة ، والفتيل هو ما تفتله بيدك من الوسخ ثم تلقيه. وقيل : ما في شق النواة لأنه كالخيط المفتول.

٣٥٦

(بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) : الحصون المحكمة المرتفعة ، فالبرج هو البناء المعمول على الحصون ، المحكم لدفع العدو. وأصل معناه الظهور ، والتشييد الرفيع وأصله من الشّيد وهو الجصّ ، وإنما قيل للجص شيد لأنه مما يرتفع به البناء.

(يَفْقَهُونَ) : يدركون ويعون ويفهمون حقيقة الأشياء وأبعادها وحكمتها ، والفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد. فهو أخص من العلم.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال الكلبي : نزلت هذه الآية في نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص ، كانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا ويقولون : يا رسول الله ، ائذن لنا في قتال هؤلاء ، فيقول لهم : كفوا أيديكم عنهم ، فإني لم أؤمر بقتالهم ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة وأمرهم الله تعالى بقتال المشركين ، كرهه بعضهم وشقّ عليهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

* * *

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٩٢ ـ ٩٣.

٣٥٧

من صور المتخاذلين

ولعل جو الآية يوحي بمثل هذا الجو الذي تتحدث عنه القصة ، لأن القرآن يتحدث عن بعض الأوضاع القلقة التي كان يعيش فيها المجتمع المؤمن في مواجهته لتحديات الكفر ، وذلك كأسلوب قرآني تربوي يعلّمنا أن لا نؤكّد دائما على الجوانب الإيجابية في مجتمعنا ، فنتحدث عن نقاط القوة فيه والجوانب المشرقة في داخله ، بل لا بد لنا من التأكيد أيضا على الجوانب السلبية ، فنتحدث عن نقاط الضعف والجوانب المظلمة في داخله ، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لوضوح الرؤية وسلامة المسيرة ، عند ما يتطلع العاملون إلى المجتمع ، كما هو في طبيعته الواقعية ، فيعرفون كيف يتصرفون بطريقة عمليّة ، من خلال نقاط الضعف والقوة معا ، ليخططوا للعمل على هذا الأساس. أما إذا انطلقنا في إثارة الموضوع أمام أنفسنا وإخواننا من جانب واحد ـ إيجابيا كان أو سلبيا ـ وألغينا الجانب الآخر ، فسيترك ذلك تأثيرا على سلامة الخط ويعرّض المسيرة للارتباك أو الانهيار.

وهذا ما أكّد عليه القرآن في أكثر من آية ؛ ومن ذلك ما حدّثنا الله به عن هؤلاء المؤمنين الطيبين الذين التقوا بالدعوة الإسلامية في بدايتها ، فآمنوا بها من خلال الإيمان بالله ، وشعروا بالقوة الروحية التي تمنحهم شجاعة الموقف وقوّة التحدّي والمواجهة ، ففكروا باندفاع وانفعال ، تماما كما يفكر الإنسان في خوض المعركة الشخصية دون أن يحسب حسابا للساحة ، لأن هناك حالة نفسية معقّدة متوترة تدفعه إلى المواجهة الحادّة ، وتوحي له بأن التراجع يمثل الذلّ والانهزامية وغير ذلك من المشاعر الخاصة ، ولا تترك له مجالا ليدرس الموقف من خلال النتائج المحتملة ، بما يتطلبه ذلك من استعداد عمليّ ، ومن دراسة للعناصر المقابلة المعادية وطريقة عملها ، ليحدّد

٣٥٨

ما هو المصلحة لما يؤمن به من قيم ذاتية أو عامة ، فقد يقع الإنسان في قبضة الذل من خلال حركة انفعالية اندفاعية ، أكثر مما يعانيه من ذلك فيما لو سيطر على مشاعره ، وتحمّل بعض انفعالات الموقف ، وخطط لربح المعركة في نهاية المطاف ...

بمثل هذه الحالة الانفعالية وقف هؤلاء المؤمنون الطيبون الذين كانوا يعانون من اضطهاد المشركين ، حتى أنهم قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما ذكرت بعض الروايات ـ : يا نبي الله ، كنا في عزّ ونحن مشركون ، فلما آمنّا صرنا أذلة (١). فواجهوا الموقف بانفعال ، تماما كأية حالة ذاتية سريعة ، ولم يفكروا أن الموقف هو موقف الدعوة والحاجة إلى تخطيط العمل على أساس المراحل ، فقد تكون بحاجة إلى أن يعيش أفرادها روح الاستشهاد والتضحية والثبات ، ليعمّقوا تأثير الدعوة في نفوس المجتمع الذي يضطهدهم بشكل غير مباشر ، وليأخذوا لأنفسهم الوقت الملائم لإيصال الدعوة إلى كل قلب في الجزيرة العربية من خلال الموقع المميز لمكّة ، وذلك بالابتعاد عن الصدمات اليومية التي قد تضيّق عليهم الخناق وتمنعهم من حرية الحركة ، فربما كان من مصلحة الدعوة أن لا ينتبه المشركون إلى القوة الذاتية التي تملكها ، من خلال ما يملكه أفرادها المؤمنون من القوة ، وربما كانت القوة التي يملكونها لا تستطيع مواجهة القوة التي يملكها المشركون ، مما قد يدفع بالموقف إلى هزيمة لا تتحملها الدعوة الجديدة.

ولهذا لم يؤمر النبي بالقتال طيلة عهد ما قبل الهجرة ، وذلك من أجل تحضير الأجواء لانتشار الدعوة من جهة على أيدي مؤيديها ومعارضيها ، ومن أجل إعداد المجتمع الجديد الذي ينطلق من قاعدة ثابتة صلبة خارج نطاق مكة ، كما حدث في المدينة ، فكانت هجرة المسلمين إلى الحبشة ؛

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٥ ، ص : ١٦.

٣٥٩

وكانت مواقف الصمود والاستشهاد من قبل الذين لم يهاجروا ، حتى أذن الله بالقتال. ووقف هؤلاء المؤمنون الذين قال لهم الله من خلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ، فذلك ما ينبغي لكم القيام به ، على أساس ما تقتضيه المصلحة الإسلامية في هذه المرحلة لأن إقامة الصلاة تمثل انفتاح الإنسان على الله للحصول على القرب منه ، من حيث هي معراج روح المؤمن إلى الله ، فذلك هو الذي ينمّي في داخله القيم الروحية والمعاني الإنسانية ، كما أن الزكاة بمعناها الواسع ، وهو العطاء ، تمثل انفتاح الإنسان على الإنسان الآخر المحروم في حاجاته الخاصة والعامة لمساعدته على تجاوز حالة الحرمان التي يعانيها ؛ الأمر الذي ينمي إنسانيته في علاقته بالآخر من خلال علاقته بالله ، فذلك هو الذي يقدّم الإنسان المسلّم إلى العالم من موقعه الروحي والإنساني ، مما يترك تأثيره الإيجابي على استجابة الناس للإسلام باعتباره الدين الذي يبلور للإنسان إنسانيته ويحوّله من إنسان مستغرق في ذاته إلى إنسان منفتح على الآخرين والعالم كله من موقع المسؤولية العامة عن الإنسان والحياة ، على أساس أن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله.

وقد نستوحي من هذا الخط الفاصل بين تكليف المسلمين في مكة وتكليفهم في المدينة أن مكة كانت ساحة الإعداد والتعبئة الروحية والثقافية والاستقامة في العمل من أجل صنع الطليعة الواعية القائدة لحركة الصراع تحت قيادة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أما المدينة ، فهي ساحة الصراع التي تتحدى وتواجه التحدي من خلال قوة المسلمين الجديدة التي تريد أن تكون رقما صعبا في موازين القوة ، وهذا ما يفسر الخطوط العملية الفارقة بين الموقعين.

ولم يرتح المسلمون إلى ذلك. ومرّت الأيام ، وجاءت التجربة الإسلامية الجديدة في المرحلة الثانية الصعبة ، وهي مرحلة المواجهة للكفر

٣٦٠