تفسير من وحي القرآن - ج ٧

السيد محمد حسين فضل الله

لا يجوز لعن البهائم ولا من ليس بعاقل من المجانين والأطفال لأنه سؤال العقوبة لمن لا يستحقها ، فمن لعن بهيمة أو حشرة أو نحو ذلك فقد أخطأ لأنه سأل الله تعالى ما لا يجوز في حكمته فإن قصد بذلك الإبعاد على وجه العقوبة جاز ، كما جاء في مجمع البيان (١).

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ بإسناده عن عكرمة قال : جاء حيّي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة ، فقالا لهم : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم ، فأخبرونا عنا وعن محمد ، فقالا : ما أنتم وما محمد؟ قالوا : نحن ننحر الكوماء ، ونسقي اللبن على الماء ، ونفك العاني ، ونصل الأرحام ، ونسقي الحجيج ، وديننا القديم ودين محمد الحديث ، قالا : بل أنتم خير منه وأهدى سبيلا ، فأنزل الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) إلى قوله تعالى : (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً).

وقال المفسرون : خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على غدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزل كعب على أبي سفيان ونزلت اليهود في دور قريش ، فقال أهل مكة : إنكم أهل كتاب ، ومحمد صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم ، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ، فذلك قوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) ، ثم قال كعب لأهل مكة : ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون ، فنلزق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد ، ففعلوا ذلك ، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ،

__________________

(١) م. س ، ج : ٣ ، ص ٩٢.

٣٠١

ونحن أميون لا نعلم ، فأيّنا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق ؛ أنحن أم محمد؟ فقال كعب : اعرضوا عليّ دينكم ، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء ، ونسقيهم الماء ، ونقري الضيف ، ونفكُّ العاني ، ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربنا ، ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه ، وقطع الرحم ، وفارق الحرم ، وديننا القديم ودين محمد الحديث. فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه ، فأنزل الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) يعني كعبا وأصحابه ـ الآية (١).

ونلاحظ على هذه الرواية أن كعبا ـ وهو اليهودي المتعصب ـ يطرح على قريش أن ينطلق ثلاثون يهوديا وثلاثون قرشيّا فيلصقون أكبادهم بالكعبة ويعاهدون رب الكعبة على قتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الوقت الذي نعرف فيه أن اليهود لا يعترفون بالكعبة ولا يقدسونها ؛ الأمر الذي لا ينسجم مع الخط اليهودي الذي لا يساومون عليه في العادة ، ولو في الشكل ، لأنه يخلق لهم مشكلة كبيرة في مجتمعهم. هذا مع اختلاف الروايتين في بداية الحادثة.

* * *

اليهود يفضلون المشركين على المسلمين

وهذا لون جديد من ألوان انحراف هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ؛ فإذا كانوا يؤمنون بالكتاب حقا ، فينبغي لهم أن يتوازنوا في علاقاتهم على أساس قرب الناس من خط الإيمان وبعدهم عنه ، لتكون المفاهيم الكتابية هي القاعدة التي ينطلقون منها في تأييد من يؤيّدون ، ورفض من يرفضون ، لأن صاحب العقيدة والإيمان يعمل على أساس تأكيد إيمانه في الحياة ، من خلال الالتقاء ـ ولو في خط الوسط ـ بالذين ينسجمون مع مفاهيمه بعض الانسجام ، في مقابل الذين يبتعدون عنها كل البعد. وعلى

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٨٦ ـ ٨٧.

٣٠٢

ضوء هذا ، كان من المفروض أن تكون علاقتهم بالمسلمين هي علاقة القريب الذي تلتقي مفاهيمهم بمفاهيمه ، ليقفوا معهم في معركتهم ضد المشركين ، باعتبار أنها معركة واحدة يقف فيها الكفر في جانب ، والإيمان في جانب آخر ؛ ولكن القضية كانت على خلاف ذلك ، فقد وقفوا ضد المسلمين مع خصومهم ، فتحالفوا معهم وانطلقوا يدبّرون المؤامرات المشتركة ضد الإسلام والمسلمين.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) عالج القرآن المسألة على أساس أن هؤلاء لا يؤمنون بالكتاب ، فقد تحول الكتاب عندهم إلى مجرد شعار يستغلونه لتضليل الناس ، وسلعة يتاجرون بها في أسواق الربح والخسارة ، فهم يؤمنون بالجبت الذي هو تعبير عن معبود غير الله ، والطاغوت الذي هو تعبير عن الطغيان في الحكم والنظام ، فهم يؤمنون بذلك ، في واقع الناس ، عند ما يتعاونون مع الطغيان والضلال ، وفي ممارساتهم الخاصة عند ما يمارسون الطغيان والإضلال في واقعهم الشخصي. ولهذا كان تاريخهم تاريخ الطغيان ، في الفكر والعلاقات والعمل ، عند ما كانوا يواجهون الرسالات بالجحود ، والرسل بالعدوان ، والحياة الباحثة عن السّلام بالحرب.

وهكذا امتد إيمانهم بالجبت والطاغوت في موقفهم الضال الجائر ، في الموازنة بين المسلمين وبين المشركين ، (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) فقد كانوا يقولون عن المشركين الذين يعبدون الأصنام ولا يدينون بدين الحق ولا يؤمنون بالقيم الرسالية التي أنزلها الله على رسله : (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) إنهم أهدى سبيلا من المؤمنين ؛ في الوقت الذي يقف فيه المؤمنون ، ليعلنوا الإيمان بالله وبرسله وكتبه ، ويصدقوا بالتوراة والإنجيل في كل شرائعهما ومفاهيمهما الأخلاقية والعملية. فكيف يمكن أن يصدر مثل هذا عن أناس يعيشون الكتاب فكرا وعقيدة وشريعة؟ إنه منطق الكفر الذي

٣٠٣

يتخذ الإيمان بالكتاب ستارا يستتر وراءه ليخفي الحقد والشر والظلام ، إنه إطار سقطت صورته يحتضن كل صورة جديدة باسم الصورة الحقيقية ، من خلال أساليب الزيف والبهتان والضلال.

وقد نجد الكثير الكثير من هذه النماذج في الناس الذين يأخذون من المبادئ والأفكار والديانات الإطار الذي يمثل الانتماء إلى الشكل ويعزلون حياتهم عن المضمون ، كما هو واقع اليهود الذين يحملون في تحركهم السياسي شعار التوراة ، ولكنهم لا يؤمنون به جملة وتفصيلا ؛ وواقع بعض الاتجاهات المسيحية السياسية التي تحاول أن تنطلق من العاطفة المسيحية كشعار ، ولكنها لا تلتزم بالقيم المسيحية التي جاء بها الإنجيل في علاقاتها ومعاملاتها السياسية. وقد نجده في بعض الأوضاع السياسية الإسلامية التي تتستر بالإسلام ، ولكنها تخفي وراء ذلك مطامعها الشخصية والإقليمية والقومية. وعلى هذا الأساس نجد أنهم ينطلقون في مواقفهم وعلاقاتهم من مصالحهم ، لا من مبادئهم ؛ ولهذا فهم قد يفضلون مصالح الكافرين على مصالح المؤمنين ، تبعا لمصالحهم الذاتية الخاصة ، أو للعقد النفسية المريضة التي تواجه أيّ معنى من معاني الإيمان أو موقف من مواقف المؤمنين.

وقد وجه القرآن في هذه الآية المؤمنين إلى أن يرصدوا هذه النماذج بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ ...) للإيحاء بأن القضية لا تحتاج إلّا إلى التطلّع إلى واقع هؤلاء ، ليعرفوا الحقيقة القرآنية من خلال ذلك ؛ كأسلوب من أساليب التربية الإسلامية التي تدفع الإنسان إلى أن يفهم الواقع ، من خلال النظرة الواعية المنفتحة على الناس والأشياء ، من منطلق النظرة الإسلامية إلى الحياة ؛ وبذلك تتحول الحياة لدى الإنسان المؤمن إلى ساحة للمعرفة الشاملة لكل ما هو حوله ومن حوله ، ليبتعد بذلك عن جو السذاجة ، فيتطلع إلى بواطن الأشياء كما يتطلع إلى ظواهرها.

ثم يتحدث القرآن ـ في الآية الثانية ـ عن الذين يعيشون الازدواجية

٣٠٤

بين ما يمثلون من انتماء وبين ما يمارسون في حياتهم من خطوات ؛ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) هؤلاء هم الذين لعنهم الله ، وأبعدهم عن ساحة رحمته وغفرانه ؛ وكيف لا يبعدهم عن رحمته وساحة رضوانه ، وهم يسيئون إلى المبادئ التي يقولون إنها وحي الله وكتاب الله. فإن الله لا يقرّب إلا الناس الطيبين الذين يعيشون الخير في أفكارهم وأفعالهم ومنطلقاتهم في الحياة.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) فما قيمة أن يلتفّ الناس من حوله ، أو يهتفوا باسمه ، أو يتجمعوا لنصرته؟ ما قيمة ذلك كله إذا كان الله يريد أن يخذله؟ إنه سوف يحسّ بالوحشة تفترس أمنه الداخلي ، عند ما يخلد إلى نفسه فيشعر بالوحدة ، لأن الله هو المهيمن والمسيطر على الناس والأشياء ، بيده كل شيء ، أما الناس فإنهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرا ولا نفعا إلا بالله ، ولا تنطلق علاقاتهم إلا من خلال الضعف الإنساني المتحرك في نطاق الطمع والرغبة والخوف ، وما إلى ذلك من نقاط الضعف الصغيرة والكبيرة ، فلا تمتلئ نفس الإنسان الذي يحترم نفسه إلا من خلال قوة الله التي تفيض على حياته بالقوة النابضة بالحياة ، فإن الإنسان الذي يشعر أنه مع الله ، أو أنه قريب إليه ، يشعر بأنه قويّ كبير بالله ، حتى لو لم يكن هناك من أحد حوله ، أو كان الناس كلهم ضدّه. وهذا ما عبّر عنه الإمام علي عليه‌السلام ، الذي كان يعيش الوحدة في طريق الحق وهو يسير فيه بمفرده : «لا يزيدني كثرة النّاس حولي عزة ، ولا تفرّقهم عنّي وحشة ...»(١)، وكان يقول لولده في وصيته له : «لا يؤنسنَّك إلا الحقّ ، ولا يوحشنّك إلا الباطل» (٢) ويقول للناس : «أيها النّاس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله فإنّ النّاس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير ، وجوعها طويل» (٣).

__________________

(١) نهج البلاغة ، رسائل أمير المؤمنين ، رسالة : ٣٦ ، ص : ٤٠٩.

(٢) (م. ن) ، خطبة : ١٣٠ ، ص : ١٨٨.

(٣) (م. ن) ، خطبة : ٢٠١ ، ص : ٣١٩.

٣٠٥

الآيات

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) (٥٥)

* * *

معاني المفردات

(نَقِيراً) : كناية عن الشيء الطفيف وهي نقرة في ظهر النواة ، وهو في الأصل من النقر وهو النكت ، ومنه المنقار لأنه ينقر به ، والناقور : الصور لأنه ينقر فيه بالنفخ المصوت .. والنقير : خشبة ينقر وينبذ فيها.

(يَحْسُدُونَ) : يتمنون زوال نعمة الآخرين من المؤمنين عنهم ويسعون في إزالتها. والحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها لما يلحق من المشقة في نيله لها ، وهو خلاف الغبطة ، لأن الغبطة تمني مثل تلك النعمة لأجل السرور بها لصاحبها ، ولهذا جاء الحسد مذموما والغبطة غير مذمومة. وقيل : إن الحسد من إفراط البخل لأن البخل منع النعمة لمشقة بذلها والحسد تمني زوالها لمشقة نيل صاحبها ، فالعمل فيهما على المشقة بنيل النعمة. وقد يتحول الحسد من عقدة نفسية إلى عداوة وكيد ومكر وتآمر ، قال تعالى :

٣٠٦

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ١٠٩] ، وقد حدثنا القرآن عن قصة قابيل الذي قتل أخاه هابيل ، لأن الله تقبل قربان أخيه ولم يتقبل ، منه حسدا منه له.

(سَعِيراً) أصلا السعير من السعر ، وهو إيقاد النار. واستعرت النار أو الحرب أو الشرّ وسعّرتها أو أسعرتها ، والسعر : سعر المتاع وسعّره تسعيرا ، وذلك لاستعار السوق بحماها في البيع ، والساعور كالتنور.

* * *

جزاء المستعلين والحاسدين

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) ماذا يملك هؤلاء؟ لماذا يستعلون على الناس؟ ولم هذا الشعور بالفوقية؟ لماذا هذا كله؟ هل هذا لأن لهم نصيبا من الملك ، فلا يعطون الناس نقيرا منه ـ وهي النقطة على ظهر النواة ـ انطلاقا من شعورهم بأنهم يملكون الدنيا وما فيها ، وما قيمة ما يملكون ، والملك لله يؤتيه من يشاء ويسلبه عمن يشاء؟ (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أو أن موقفهم ينبع من عقدة ذاتية مرضية في نفوسهم ، من كل الطيبين الخيّرين الذين آتاهم الله من فضله الرسالة والرفعة والدرجة العالية في الحياة؟ فهم لا يطيقون التطلع إلى الناجحين وأصحاب الدرجة الرفيعة ، ولا يملكون الوصول إلى ذلك من خلال جهدهم ، لأنهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم أو يضحّوا أو يجاهدوا للوصول إلى ما وصل إليه الآخرون ، بل كل ما عندهم أن يحصلوا على المجد من دون جهد أو معاناة ، تماما ككل الناس الذين يعيشون عقدة الحسد ، فيختنقون بها في شعور مرضيّ بالقهر والمرارة ؛ وهكذا كان موقفهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين

٣٠٧

معه ، أو النبيّ وآله ، كما جاءت الرواية بذلك عن أبي جعفر ـ محمد الباقر ـ عليه‌السلام (١) ، في ما آتاه الله من فضل الرسالة والنبوّة ، ولكن الله سبحانه يذكرهم بما أنزله على آل إبراهيم من الكتاب والحكمة وما آتاهم من الملك ، (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) والله يؤتي فضله من يشاء ، فما ذا يريدون؟ وماذا يفعلون؟ فليموتوا بغيظهم. واختلف الناس على الوحي الذي أنزله الله على إبراهيم وآله ، (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) ممن انفتحت قلوبهم على الله وعلى رسالاته ، (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) ممن انفتحوا على وساوس الشيطان وأحابيله ؛ (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) لمن انطلق بعيدا في خط الشرك والكفر والضلال.

* * *

__________________

(١) جاء في تفسير الميزان عن الباقر عليه‌السلام في حديث (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) قال : نحن الناس المحسودون. ج : ٤ ، ص : ٣٩٣.

٣٠٨

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً) (٥٧)

* * *

معاني المفردات

(نُصْلِيهِمْ) : أي نشويهم. يقال : أصليته النار إذا ألقيته فيها ، وصليته صليا إذا شويته ، وشاة مصليّة : مشوية ، والصلاء : الشواء.

(نَضِجَتْ) : احترقت وماتت بحيث لا يحسّ بها ، ذلك لأن نهاية الأعصاب مستقبلات الألم تكون في الجلد «الطبقة الثانية» ، ونضج الثمر أو اللحم : أدرك وطاب.

(بَدَّلْناهُمْ) : التبديل : التغيير ، يقال : أبدلت شيئا بشيء ، إذا أبدلت عينا بعين ، وبدّلت ـ بالتشديد ـ إذا غيّرت هيئته ، وقد يكون التبديل بأن يوضع غيره موضعه ، قال الله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم : ٤٨].

٣٠٩

(ظِلًّا) : الظل : أصله الستر لأنه يستر من الشمس ، فرؤية كل موضع تكون فيه الشمس وتزول هو ظل وفيء ، وما سوى ذلك فظل ، ولا يقال فيه فيء ، والظل : الليل لأنه كالستر من الشمس ، والظلة : السترة.

(ظَلِيلاً) : الظليل : الكنين ، ليس فيه حر ولا برد ، وقيل : ظل دائم لا تنسخه الشمس كما في الدنيا ، وقيل : ظل متمكّن قويّ ، كما يقال يوم أيوم وليل أليل وداهية دهياء ، يصفون الشيء بمثل لفظه إذا أرادوا المبالغة.

* * *

النار جزاء الكافرين وجنة الخلد جزاء المؤمنين

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) هذا هو الجزاء العادل لمن كفر بآيات الله ، ولمن آمن به وعمل صالحا ؛ فمن كفر بآياته في كل الشرائع والمفاهيم التي أنزلها الله على عباده ، وهو يعرف أنها الحق من ربه ، فإن النار تنتظره (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) ، حتى إذا نضجت جلودهم ، فإن الله يبدّلهم بجلود غيرها (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) مرة بعد مرة (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً).

وقد جاء في مجالس الشيخ ، بإسناده عن حفص بن غياث القاضي قال : كنت عند سيد الجعافرة جعفر بن محمد عليهما‌السلام لمّا قدّمه المنصور ، فأتاه ابن أبي العوجاء ، وكان ملحدا ، فقال : ما تقول في هذه الآية : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) هب هذه الجلود عصت فعذبت ، فما بال الغير؟ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ويحك هي هي ، وهي غيرها. قال : أعقلني هذا القول. فقال له : أرأيت لو أن رجلا عمد إلى لبنة فكسرها ، ثم صب عليها الماء وجبلها ، ثم ردّها إلى هيئتها الأولى ، ألم تكن

٣١٠

هي هي ، وهي غيرها؟ فقال : بلى أمتع الله بك. ويعلق صاحب تفسير الميزان على ذلك فيقول : ويعود حقيقة الجواب إلى أن وحدة المادة محفوظة بوحدة الصورة ، فبدن الإنسان كأجزاء بدنه باق على وحدته ما دام الإنسان هو الإنسان ؛ وإن تغيّر البدن بأيّ تغيّر حدث فيه (١). وذلك هو جزاؤه ، لأنه لم يتمرد نتيجة عدم وجود مجال للسير على هذا الخط أو لأنه لا مجال للإيمان ؛ فإن الساحة مفتوحة للإيمان من موقع الحوار ، وللطاعة من موقع القناعة ؛ فليست قضية الإيمان بالله من القضايا التجريدية التي يحملها الإنسان في فكره ثم لا تؤثر في حياته شيئا ، وليست من قضايا الفلسفة الفارغة التي لا يختلف حال الحياة عن نتائج السلب والإيجاب فيها ، بل هي من القضايا المتصلة بحياة الإنسان وبحظه في الحياة ، وبذلك يكون الإنسان الذي يخون قضية الإيمان خائنا لقضية الحياة والناس والحقيقة ؛ وبذلك كان حجم العذاب بحجم خطورة القضية.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أما من آمن وعمل صالحا من موقع المعاناة والقناعة والإيمان والسير على الخط المستقيم (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) ، فإن هناك الجنّات التي (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وهناك الخلود الأبدي الذي لا يذوق الإنسان معه طعم الموت ، (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) وهناك العلاقات الزوجية المتحركة في أجواء الطهر ، وهناك الظل الظليل الذي يستروح فيه الإنسان الشعور بالأمن والطمأنينة والسعادة في رحمة الله ورضوانه.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٤ ، ص : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

٣١١

الآية

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (٥٨)

* * *

معاني المفردات

(تُؤَدُّوا الْأَماناتِ) : أي توصلوها.

(نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) : تقديره. نعم شيئا شيء يعظكم به.

(سَمِيعاً) : هو من كان على صفة يجب لأجلها أن يسمع المسموعات إذا وجدت.

(بَصِيراً) : هو من كان على صفة يجب لأجلها أن يبصر المبصرات إذا وجدت. والسامع هو المدرك للمسموعات ، والمبصر هو المدرك للمبصرات ، ولهذا يوصف القديم فيما لم يزل بأنه سميع بصير ، ولا يوصف في القدم بأنه سامع مبصر.

* * *

٣١٢

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ : نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار ، كان سادن الكعبة ، فلما دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة يوم الفتح ، أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح ، فطلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المفتاح فقيل : إنه مع عثمان ، فطلب منه فأبى وقال : لو علمت أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم أمنعه المفتاح ، فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيت وصلّى فيه ركعتين ، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ليجمع له بين السقاية والسدانة ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ، ففعل ذلك علي فقال له عثمان : يا عليّ ، أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال : لقد أنزل الله تعالى في شأنك وقرأ عليه هذه الآية ، فقال عثمان : أشهد أن محمدا رسول الله ، وأسلّم ، فجاء جبريل عليه‌السلام فقال : ما دام هذا البيت ، فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان ، وهو اليوم في أيديهم (١).

ونلاحظ على هذه الرواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمثل قمّة المحافظة على الأمانة ، حتى أنه كان يلقب ـ قبل النبوة ـ بالأمين ، فكيف يمكن أن يأخذ المفتاح من عثمان الذي يملك الحق في بقائه تحت يده ـ كما تقول الرواية في سبب نزول الآية ـ بمعنى أن أخذه منه لم يكن شرعيا. أما إذا قيل بأن النبي قد أخذه بحق لأنه صاحب السلطة الشرعية بصفته ولي الأمر الشرعي الذي يملك الولاية على الكعبة بمقتضى صلاحياته في حاكميته بالإضافة إلى

__________________

(١) أسباب النزول : ص : ٨٧ ـ ٨٨.

٣١٣

نبوته ، فكيف اعتبر المفتاح أمانة عنده لا يجوز له الاحتفاظ بها؟ هذا مع ملاحظة أخرى ، وهي أن مصطلح الأمانة ، في أمثال هذا الموضوع ، أنها الوديعة التي أودعها صاحبها أو صاحب الحق فيها عند الشخص ، لا التي أخذت منه بالقوة.

إن هذه الرواية تسيء إلى مقام النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى مقام الإمام علي عليه‌السلام الذي تصرف ـ حسب الرواية ـ بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحاظ ما رآه من طلب النبي المفتاح من عثمان ورفض الأخير لذلك لعدم اعترافه بأنه رسول الله ، فكيف اعتذر منه الإمام عليه‌السلام ، والاعتذار ـ كما نعرف ـ لا يكون إلا عن ذنب ، مما يؤدي إلى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مارس عملا غير أخلاقي بتصرفه المباشر وغير المباشر.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، كان سياق الآية واردا في بيان الخط التشريعي الذي أراد الله لنبيه والمؤمنين معه أن يتحركوا فيه في مسألة رد الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل ، مما يوحي بأن القضية تمثل القاعدة الحيوية الإسلامية في سلوك المؤمنين في علاقاتهم بالآخرين أو ببعضهم البعض في مسألة الأمانة والحكم ، مما يبعد معه أن يتأخر التشريع فيه إلى فتح مكة. كما أن الظاهر أن الآية نزلت في سياق واحد ؛ الأمر الذي لا يتناسب مع وجود خصوصية في الفقرة الأولى دون الثانية ؛ والله العالم.

* * *

عناصر السلامة العامة للتوازن الاجتماعي

أولا : أداء الأمانة

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) وينطلق القرآن في جولة جديدة مع المؤمنين ، من أجل تنظيم حياتهم الاجتماعية في علاقاتهم

٣١٤

ومسئولياتهم ؛ وقد أكدت هذه الآية على عنصرين أساسيين من عناصر السلامة العامة للتوازن الاجتماعي ، وهما أداء الأمانة ، والحكم بين الناس بالعدل. فإذا انطلق الأفراد في خط الأمانة وعاشوا المسؤولية العملية ، في ما يأتمن به بعضهم بعضا من الأموال التي يودعونها ليحفظوها ، أو من غير ذلك من الأمانات ، التي قد تكون سرا من الأسرار ، أو عملا من الأعمال ، أو عرضا ، أو نفسا ، أو غير ذلك مما يحمّل الناس بعضهم بعضا مسئولية الحفاظ عليه ، فإن المجتمع سيشعر بالأمن والطمأنينة على كل الأشياء التي يعتبرها أساسية ، لأنه يجد الثقة التي تسود الأفراد في علاقاتهم وتحميهم من الإقدام على الخيانة ، وبذلك يمكن لكل إنسان في المجتمع تجاوز الاستغراق في حاجاته الخاصة إلى الشعور بالمسؤولية في ما يتعلق بحاجات الآخرين ، ليرعاها كما يرعى حاجاته وأموره ؛ في مظهر من مظاهر التكامل الاجتماعي. وقد اعتبرت النصوص الدينية الأمانة قمة الأخلاق الإسلامية ، وأشارت إليها بعض الأحاديث على أساس أنها الصفة التي يمكن أن يختبر من خلالها صدق إيمان الشخص ، وجاءت بعض الآيات لتعبر عن المسؤولية ، التي تعني القيام بالتكليف عن إرادة واختيار ، بكلمة الأمانة ؛ وذلك قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢].

* * *

ثانيا : الحكم بالعدل

(وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وهذا هو العنصر الثاني ، الحكم بالعدل ؛ فإن الله قد أنزل الرسالات كلها ليقوم الناس بالقسط ، لما في ذلك من التأكيد على خط التوازن في الحياة ، الذي تستقيم به الأمور وتتطور ، وترتكز على قاعدة ثابتة في واقع الأشياء ، فلا تنحرف بها عاطفة ، ولا تجمح

٣١٥

بها رغبة ، ولا تفسدها علاقة قريبة ، ولا تغيّرها علاقة بعيدة ، بل كل ما هناك ، أن في الساحة حقا يراد بلوغه وإعطاؤه إلى صاحبه ، من خلال المعطيات الواقعية للقضية والظروف الموضوعية المحيطة بها ، فليست هناك عيون لامعة متنقلّة بين مزاج الإنسان ورغبته وبين مفردات الواقع ، ليحاول التوفيق بين هذا وهذا ، أو تغليب هذا على ذاك ، بل هناك عين واحدة جامدة وعقل واحد هادئ ، يحدّقان بالواقع من خلال معطياته ، بعيدا عن كل شيء آخر يمنع القضية من أن تأخذ مجالها الطبيعي في الوصول إلى النتيجة الحاسمة. وهذا ما أكّده القرآن في أكثر من آية ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ١٥٢] ، وفي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [المائدة : ٨] ، وفي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء : ١٣٥].

ومن الواضح أن العدل لا يختص بالمنازعات الحاصلة في مجالس القضاء ، بل يتسع ليشمل كل القضايا التي يختلف الناس فيها ، في شؤون الحكم من حيث علاقة الحاكم بالمحكومين ، وعلاقات الناس ببعضهم ، وفي شؤون التقييم للأشخاص والأوضاع ، وفي تقديرهم للمواقف من خلال ما تختزنه من مؤثرات وما يحيط بها من ظروف ... وبذلك يكون العدل هو السمة البارزة التي تطبع الواقع الإسلامي في حياة الفرد ؛ العائلية أو العامة من جيران وأقارب وأصدقاء ومعارف ... إلخ لا سيما الذين يتحمل مسئوليتهم ويتحملون مسئوليته ، في نظرته للأمور ، وفي كلماته وأعماله

٣١٦

وفي حياة المجتمع ، في تصرفاته وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى ، ليكون العدل هو الأساس الذي يحكم التصرفات والعلاقات ، بعيدا عن موازين القوة والضعف والقرب والبعد ، لتتكامل الحياة وتتوازن في أوضاعها العامة والخاصة ، وتحتضن قيمها الروحية والمادية في عدالة وسلام.

(إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) وتلك هي الموعظة ، التي هي نعم الموعظة ، فإن الله لا يعظ الناس بالمواعظ الفارغة التي لا تقدم لهم شيئا كبيرا في بناء حياتهم وشخصيتهم ، بل في كل مواعظه الخير والبركة والإصلاح ، فلا بد للمؤمنين من الارتباط بها والسير على هداها ، فإنه يسمع كل ما يقولون مما يتصل بالعدل والأمانة ، ويبصر كل ما يعملونه في كل شؤون الحياة العامة والخاصة (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً).

* * *

٣١٧

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩)

* * *

معاني المفردات

(وَأُولِي الْأَمْرِ) : أصحاب الأمر والشأن فالأمر من شأنهم وهم حقيقون به فلا يخالفون أمر الله وأمر رسوله ، وهم الأئمة المعصومون ، وقيل غير ذلك.

(تَأْوِيلاً) : مآلا ومرجعا وعاقبة ، والمآل : المرجع والعاقبة. من آل يؤول إذا رجع. وقيل المراد به التفسير.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ بإسناده إلى سعيد بن جبير عن

٣١٨

ابن عباس في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سرية ... وقال ابن عباس ـ في رواية باذان ـ بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالد بن الوليد في سريّة إلى حيّ من أحياء العرب ، وكان معه عمار بن ياسر ، فسار خالد ، حتى إذا دنا من القوم ، عرّس لكي يصبحهم ، فأتاهم النذير فهربوا عدا رجل كان قد أسلّم ، فأمر أهله أن يتأهّبوا للمسير ، ثم انطلق حتى أتى عسكر خالد ودخل على عمار فقال : يا أبا اليقظان إني منكم ، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا وأقمت لإسلامي ، أفنافعي ذلك أو أهرب كما هرب قومي؟ فقال : أقم ، فإن ذلك نافعك ، وانصرف الرجل إلى أهله وأمرهم بالمقام ، وأصبح خالد ، فغار على القوم ، فلم يجد غير ذلك الرجل ، فأخذه وأخذ ماله ، فأتاه عمار ، فقال : خلّ سبيل الرجل فإنه مسلّم ، وقد كنت أمنته وأمرته بالمقام ، فقال خالد : أنت تجير عليّ وأنا الأمير؟ فقال : نعم ، أنا أجير عليك وأنت الأمير ، فكان في ذلك بينهما كلام ، فانصرفوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه خبر الرجل ، فأمّنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير بعد ذلك على أمير بغير إذنه ، قال : واستبّ عمار وخالد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأغلظ عمار لخالد ، فغضب خالد وقال : يا رسول الله ، أتدع هذا العبد يشتمني ، فو الله لولا أنت ما شتمني ـ وكان عمار مولى لهاشم بن المغيرة ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا خالد كفّ عن عمّار فإنه من يسب عمارا يسبه الله ومن يبغض عمارا يبغضه الله ، فقام عمار ، فتبعه خالة ، فأخذ بثوبه وسأله أن يرضى عنه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بطاعة أولي الأمر (١).

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٨٨ ـ ٨٩.

٣١٩

ولنا ملاحظة ، وهي أن القضية خارجة عن موضوع الأمان والإجارة التي ليس للإنسان أن يمارسها بعيدا عن الأمير المسؤول عن القيام بالمهمة الموكولة إليه من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن الرجل المذكور في الرواية إنسان مسلّم لا يحتاج إلى أمان أو إجارة ، فهو ليس من الأشخاص الذين أرسل النبي خالدا إليهم للإغارة عليهم وإخضاعهم لسيادة الإسلام بقيادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو من المسلمين السابقين الذين أسلموا قبل هذه الحادثة ، فلا ينطبق عليه ما ينطبق على الكفار من الأمر بمحاربتهم إلا أن يأخذوا الأمان. وعلى ضوء ذلك ، فإن عمارا لم يخطئ عند ما أمر الرجل بالعودة إلى مقرّه الطبيعي في موقع أهله لأنه ليس خاضعا لمسؤولية خالد العسكرية ، إلا أن يقال : إن خالدا المكلف من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإغارة على هؤلاء الحي من العرب ، كان لا بد أن يأخذ العلم بإسلام هذا الرجل من عمار قبل أن يأذن له عمار بالبقاء في محلته ، ولكن هذا التحفظ ليس واردا ، لأن خالدا كان ينكر على عمار إجارته بصفة أنه كافر لا بصفة أنه مسلّم.

ومع ذلك كله ، فإن المسألة المطروحة في الخط العام صحيحة لأن المفروض أن خالدا ، على تقدير صحة الرواية ـ وهي ضعيفة ـ كان مكلفا بالأمر القيادي من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما جعله وليا شرعيا في هذه الدائرة الخاصة ، فليس لأتباعه إلا الطاعة والخضوع له في أوامره ونواهيه المتصلة بحركة المسؤولية ، فلا يجوز لهم الاستقلال عنه بأي عمل أو موقف ، لأن معصيته معصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لكن ذلك مختص بالقيادة الشرعية التي تملك شرعية الصفة من خلال العناصر التي تؤكد ذلك ولا تمتد إلى شرعية الأمر الواقع التي تفرض

٣٢٠