تفسير من وحي القرآن - ج ٧

السيد محمد حسين فضل الله

عن ذلك في نطاق بعيد عن البيت ؛ وفي كلا الأمرين لا يكون الحل في مصلحة المرأة في المستقبل القريب أو البعيد؟

إننا لا ننكر أن هناك بعض السلبيات في الحل الإسلامي ، ولكن مستوى الإيجابيات أعلى وأكثر ؛ وقد ذكرنا ـ أكثر من مرة ـ أن الإسلام يوازن بين السلبيات والإيجابيات ، في ما يركزه من قضايا التشريع في نطاق التحريم والتحليل ، لأن أيّ تشريع مرخّص لا بد أن يختزن بعض السلبيات في الفعل ، كما أن أيّ تشريع مانع لا بد أن يختزن بعض الإيجابيات في الترك ؛ فليس هناك تشريع في العالم ، دينيا أو غير ديني ، يصل إلى نسبة المائة بالمئة في إيجابياته وسلبياته ، لأن طبيعته تفرض تخطيط الحدود للإنسان ، وتحديد حريته على هذا الأساس ، مما يولّد الكثير من المشاكل والسلبيات.

ونحب أن نثير ، في هذا المجال ، نقطة بارزة ، وهي أن الإسلام أراد للرجل ـ الزوج ـ أن لا يعيش العلاقة الجنسية بطريقة جافة جامدة ، بل أراد له ـ من ناحية أخلاقية تربوية ـ أن يهيئ للمرأة الأجواء التي تثير فيها الرغبة ، فيتزيّن لها كما يحب أن تتزيّن له ، ويحترم حاجتها إلى الارتواء الجنسي في طريقة ممارسته للعلاقة ، فلا يحاول الانتهاء من العملية إلا بعد أن يشعر بأنها بلغت منها ما تريد. وفي ضوء ذلك يمكن للرجل ـ في هذا الجو ـ أن يتغلب على الحالة النفسية السلبية بأساليب عاطفية مدروسة ، كما يمكن للمرأة أن تتوصل إلى ذلك ببعض الأساليب الإيحائية الذاتية ، أو ببعض الأجواء الروحية التي تدفعها إلى الإقبال على تلبية رغبة زوجها ، من ناحية روحية ، أو تعمل على إقناعه بالطريقة التي لا تحقق له شعورا بالضيق أو بالانفعال عند عدم قدرتها على ذلك في وقت ما.

وقد نستوحي ، من إصدار الأمر للزّوج بالمعاشرة بالمعروف ، بعض الإيحاءات التي توجّهه إلى أن يكبت بعض رغباته في الحالات التي تكون

٢٤١

عملية الإلزام بتنفيذ الرغبة بشكل ضاغط ، مختلفا مع أسلوب «المعروف» الذي يريده الإسلام له ؛ ولكن هذا كله يدخل في نطاق عملية البناء الأخلاقي ، الذي يبني الشخصية الإسلامية على الأسس الروحية في ما تحمله من قيم وأفكار ، ليكون ذلك هو الأسلوب الأفضل للإنسان الأفضل ، ولا يدخل في عملية الإلزام الذي يرتكز على مراعاة المصالح والمفاسد الواقعية على الطبيعة ، من زاوية دراسة الحالة الإنسانية في واقعها المادي ، لمعالجتها بطريقة واقعية ، من أجل الوصول إلى المعالجة الروحية.

* * *

القرآن يحدد أساليب معالجة نشوز المرأة

أولا : الموعظة

(فَعِظُوهُنَّ ...) هذا هو الأسلوب الأول الذي أراد الإسلام من خلاله للأزواج أن يعالجوا حالة التمرّد الحاصلة من الزوجة على الحقوق الزوجية ، وهو أسلوب الوعظ ، وذلك باتباع الأساليب الفكرية والروحية التي تحذرها من نتائج عملها على الصعيد الدنيويّ والأخرويّ ، فيخوفها الزوج من عقاب الله سبحانه على معصيته في ما أوجبه عليها من حقوق للزوج ، ومن أداء ذلك إلى تهديم الحياة الزوجية ، وانعكاسه على مستقبلها ومستقبل الأولاد ـ إن كان هناك أولاد ـ ولا بد في سبيل تحقيق هذا الهدف من اتباع الأساليب التي تؤدي إلى الهدف المنشود من رجوعها إلى الخط المستقيم وعودتها عن الانحراف ... وتختلف الأساليب باختلاف ذهنية الزوجة من ناحية فكرية وروحية وعاطفية ، فلا بد من دراسة ذلك كله ، مع ملاحظة نقاط الضعف والقوة في شخصيتها الذاتية والدينية ؛ ثم مواجهة الموقف بما يتطلبه

٢٤٢

من حكمة ومرونة وتخطيط زمني للمراحل اللازمة للوصول إلى قناعتها والتزامها ، لأن بعض الحالات قد تحتاج إلى وقت طويل ؛ فلا يكتفي الإنسان بالكلمة العابرة المرتجلة ، كما يفعله بعض الناس الذين يعالجون مثل هذه الحالات بالكلمات التقليدية التي يطلقونها بطريقة جافة ، لا روح فيها ولا حياة ، ولا معنى لها لدى قائلها وسامعها.

* * *

ثانيا : الهجر في المضاجع

(وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ...) ؛ هذا هو الأسلوب الثاني الذي يريد الإسلام للزوج اتباعه عند إخفاق الأسلوب الأول ـ الوعظ ـ وهو أسلوب التأديب النفسي ، وهو الهجران في المضاجع وذلك بمقاطعتها ـ كما عن بعض المفسرين ـ أو بإدارة ظهره إليها عند ما ينامان في مكان واحد ، أو بالإيحاء لها ـ بطريقة أو بأخرى ـ بعدم الرغبة فيها أو بعدم المبالاة بها. ولعل هذا الأسلوب السلبي ، من أقوى الأساليب المؤثّرة في شخصية المرأة ، لأن اهتمام الزوج بها يعتبر عاملا مهما من عوامل إحساسها بأهميتها وبقوة شخصيتها ، وذلك ما يقرّره المحللون النفسيون في هذا المجال.

* * *

ثالثا : الضرب

(وَاضْرِبُوهُنَّ ...) هذا هو الأسلوب الثالث ، وهو أسلوب الضرب ، ولكنه لا يمثل الضرب اللامعقول الذي يمارسه الإنسان بطريقة انفعالية ، على أساس المزاج الحاد والعقدة النفسية ، والحاجة إلى التنفيس عن الغيظ ، بل هو الضرب التأديبي الهادىء الذي يوحي لها بالمهانة. وقد وردت الأحاديث التي تظهر أنه الضرب غير المبرّح الذي لا يدمي لحما ولا يهشم عظما ؛ مما

٢٤٣

يوحي بأنه يمثّل أسلوبا نفسيا أكثر مما يمثّل أسلوبا مادّيا. وقد يأخذ البعض على الإسلام هذا الأسلوب الذي يتنافى مع احترام المرأة وكرامتها والنظرة إليها كإنسان ، ولكن القضية ـ في نظرنا ـ لا بد أن تواجه من ناحية ثانية ، وهي هل أن أسلوب العقوبات التأديبية ، من السجن والضرب ونحوهما ، يتنافى مع كرامة الإنسان كإنسان ، لتكون الدعوة إلى إلغاء العقوبات من أساس التشريع ، دون فرق بين الرجل والمرأة؟ وهذا ما لا تتقبله كل الأمم والشعوب التي تريد أن تحفظ حياتها ، من خلال حفظ نظامها الذي يعتبر العقوبات جزءا من الخطة العامة للقانون ، باعتبارها العنصر الرادع للمجرمين والمنحرفين عن السير بعيدا في ميدان الاجرام والانحراف.

وفي ضوء ذلك ، لا بد لنا أن ندرس الفكرة : إن العلاقة الزوجية هي إحدى العلاقات الإنسانية التي تخضع في امتدادها لنظام محدّد يحفظ لها توازنها ؛ فإذا حصل التمرّد على التزاماتها ، فما هو الحلّ؟ هل يترك للمصادفات ، أم يبحث عن طريق للمعالجة؟

لا مجال للأوّل ، لأن معناه جعل العلاقة في مهب الرياح ؛ فلا بد من الثاني. فإذا استنفدت الطرق السلمية من الوعظ والهجران ، كان ذلك دليلا على أن المرأة لا تخضع للأساليب الإنسانية العادية القائمة على الاحترام ، لأن المرأة التي لا تعي الكلمة ، ولا تستجيب للضغوط النفسية ، ولا تستعد لمناقشة المسألة بالحوار الهادىء من حيث سلبياتها وإيجابياتها ، هي امرأة لا تريد أن تدخل في علاقات طبيعية مع الآخرين ؛ فكيف يتعامل معها الرجل ، هل يطلقها ، أم يعرض أمرها للمحاكم المختصة ، أم يحل المشكلة بطريقته الخاصة؟.

إن الطلاق ليس حلّا ، ولكنه يمثّل الهروب من المشكلة ، بتهديم الهيكل الذي يثيرها ، بينما يحاول الإسلام أن يجعل الطلاق آخر الحلول

٢٤٤

باعتباره أبغض الحلال إلى الله. أما الرجوع إلى المحاكم ، فليس عملياً في مثل هذه الحوادث اليومية التي قد تفشي معها أسرارا نفسية وعملية كثيرة ، في الوقت الذي لا مجال لإثبات الكثير من حوادثها بالأدلة الشرعية ، لأن الممارسات الشخصية ـ لا سيما ما يتعلق بالجانب الجنسي من العلاقة ـ لا تتم أمام الناس ، فكيف يمكن التعامل مع عملية الإثبات فيها بطريقة معقولة؟ هذا ، مع ما يقتضيه ذلك من المراجعة المتكررة للمحاكم ، تبعا لتكرر مثل هذه الحوادث ؛ فلا مجال إلا لاعتبار الموضوع من شؤون الصلاحيات الممنوحة للزوج ، من ناحية القوامة على المرأة في نطاق الحياة الزوجية ؛ تماما كما هي بعض الأساليب التأديبية التي يتركها القانون للمدير في الحالات اليومية الطارئة ، التي ينحرف فيها بعض الموظفين بطريقة مستمرة ؛ ولكن ذلك لا بد من أن ينطلق من خلال الالتزام الإيماني ، الذي يمنعه من ممارسة الضرب في غير الحدود التي أباحها الله ؛ فإذا تعدّى حدود الله ، كان للزوجة أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي ليرجعه إلى الخط الصحيح ، لأن القضية تتخذ مجرى آخر ، يفرض على السلطة التدخل لردّ الاعتداء وإنقاذ المعتدى عليه.

ونحن لا ننكر أن مثل هذا الأمر قد يجعل التطبيق خاضعا لبعض ألوان الاستغلال الذاتي من قبل الزوج ؛ ولكن الذنب في ذلك ليس ذنب التشريع ، بل هي مشكلة المجتمع ، والذي لا يتحرك لتطبيق الخطة الشاملة بشكل متوازن ضاغط ؛ ولعل من أبرز الشواهد على ذلك ، ما نلاحظه من ألوان الظلم الشخصي والاجتماعي على الفرد والمجتمع الذي لا ينطلق من حالة شرعية تسمح بالاستغلال ، من خلال بعض الثغرات الموجودة فيها ، بل ينطلق من حالات خاصة وعامة ، تشجع على ذلك كله ، من خلال ما تفرضه لعبة القوة والضعف في الحياة.

٢٤٥

(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) ، لأن هذه الإجراءات لم تفرض تنفيسا لعقدة أو تشجيعا لظلم أو فرضا لسلطة ذاتية ، بل فرضت لمواجهة مشكلة تبحث عن حل ، لتساعد البيت الزوجي على التماسك والاستمرار ، ولتدفع الزوجة إلى القيام بمسؤولياتها تجاه زوجها تنفيذا لحكم الله. فإذا تحقق الهدف مع أي مرحلة من مراحل الحل ، فيجب على الزوج أن يمسك عن أيّ تصرف سلبي آخر ، لأن الله لم يجعل له أيّة سلطة عليها من قريب أو بعيد ، خارج نطاق حقوقه الشرعية المفروضة.

* * *

نشوز الزوجين

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ...) وهذه حالة جديدة تحتاج إلى نوع آخر من العلاج ؛ وهي حالة الشقاق المشترك ، وذلك إذا لم تكن المشكلة من طرف واحد ، بل كان كل منهما ضالعا في ذلك ؛ فكيف يمكن حلّ المشكلة؟

(فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ...) إن القرآن يطرح أسلوب ما سمّاه البعض «مجلس التحكيم العائلي» ، وذلك باختيار شخص أو أكثر من أهل الزوج ، مطّلع على ظروفه النفسية والعائلية والاجتماعية ؛ واختيار شخص أو أكثر من أهل الزوجة ، بنفس المواصفات ؛ ثم يجتمعان في جلسة تحكيم عائلية ، ليدرسا المشكلة من جميع جوانبها السلبية والإيجابية ، ويتداولا في إمكانيات الحل بتحديد بعض التنازلات من هذا الطرف أو ذاك ، ومحاولة التوفيق بينهما للوصول إلى النتيجة المرجوّة ، في العودة بالبيت الزوجي إلى حالة «السّلام العادل ...». وهذا ما أثارته الفقرة التالية في قوله تعالى : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ...) وذلك للإيحاء بأن إرادة

٢٤٦

الإصلاح إذا انطلقت من موقع الإخلاص ، فإن الله يرعاها بتوفيقه ، الذي يتحرك في كل المواقف التي تتحرك فيها النفوس الخيّرة ، للوصول إلى نتائج الخير في الفكر والعمل. ولم تتحدث الآية عن الحالة الأخرى ، وهي حالة إرادة التفريق ، لأن القرآن يريد التأكيد على أن تنطلق الجهود في هذا الاتجاه ، بالإلحاح على ملاحقة كل إمكانية محتملة في هذا السبيل ، وعدم الوقوع في قبضة اليأس أمام بعض حالات الفشل ؛ هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فلأن موضوع التفريق هو النتيجة الطبيعية لكل حالات الخلاف المستحكم التي لا تجد حلا معقولا أمامها.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً ...) وفي هذه الفقرة التي تثير أمام الإنسان الشعور بالعلم المطلق لله والخبرة العميقة الواسعة بكل الأمور الظاهرة والباطنة ... يقف الإنسان ـ الزوج ، والزوجة ، والحكمان ـ ليعيش الخشوع الذي يمنعه عن مواقف الانحراف الاستعراضي ، الذي يؤدي به إلى إعطاء انحرافه لونا من ألوان الشرعية الظاهرية التي لا ترتكز على أساس ، مما يبعد المسيرة عن السير في الاتجاه الصحيح.

* * *

لماذا التحكيم العائلي لا القضاء؟

وقد نستوحي من طرح مجلس التحكيم العائلي ، أن مثل هذا المجلس يعالج المسألة من موقع المسؤولية الحميمة المباشرة التي تدرس الخلاف من موقع العاطفة والمحبة التي قد تكتشف بعض الأساليب والوسائل المنفتحة على عناصر القضية بشكل أعمق وأوسع وأفضل ، لأن هناك خصوصيات في داخل هذه العائلة أو تلك قد تؤثر في حل بعض المشاكل النفسية لدى هذا الطرف أو ذاك ، أو تجميد بعض الخلافات الشخصية لديهما ، عند ما يشعران

٢٤٧

بأن استمرارها يتجاوز وضعهما إلى وضع العائلتين ، بحيث يمكن امتداد المشكلة في تأثيرها عليهما إلى واقعهما الخاص حتى بعد الانفصال ، لو كان الانفصال هو ما يفكران فيه كحلّ للخلافات العالقة بينهما.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن التحاكم لدى المحاكم القضائية العادية قد يخلق الكثير من التعقيدات التي قد تترك تأثيراتها العميقة على نفسيتهما حتى لو كانت النتيجة هي الصلح بينهما ، لأن مجريات المحكمة القضائية قد تثير الكثير من الفضائح وتكشف الكثير من الأسرار أمام الناس ، بحيث تعمّق المشكلة في داخلهما بما تفتحه من الجراح العميقة في الأعماق لتتحول إلى المزيد من السلبيات الواقعية في البيت ، بينما نلاحظ في التحاكم العائلي ، أنّ إثارة الأسرار وكشف الفضائح أمام الأقرباء ، لا سيما في الدائرة الضيقة في نطاق ممثل هذه العائلة من هذا الجانب وممثل تلك العائلة من الجانب الآخر ، لا يخلق مشكلة عميقة لديهما ، لأن أسرارهما تمثل جزءا من أسرار العائلتين اللتين تحافظان على إبقائها في جوّ الكتمان نظرا لتأثيرها السلبي ـ إذا كانت فاضحة ـ على سمعة العائلتين ؛ الأمر الذي لا يخلق مشكلة جديدة لهما في المستقبل.

ثم إن الحكمين يتحسسان مسئولية الوصول إلى النتيجة الحاسمة من موقع ارتباط القضية بهما ذاتيا وعائليا ، مما يدفعهما إلى استعمال كل الوسائل واستنفاد كل الأساليب للوصول إلى حلّ إيجابيّ يعيد السّلام إلى البيت ، ولعل هذا هو الذي جعل الآية تتحدث عن الصلح كخيار للحكمين في الحلّ ولم تتحدث عن التفريق ، لأن خصوصية الحكمين ـ هنا ـ تتصل بالجانب النفسي لهما ، بحيث لا يسمحان لهما بالتفريق ، لأنه يؤدي إلى إيجاد شرخ بين العائلتين قد ينعكس سلبا على علاقتهما ببعضهما البعض مستقبلا ؛ الأمر الذي يجعل من الصلح مصلحة عائلية للعائلتين ، كما هو

٢٤٨

مصلحة شخصية للزوجين. ومن الطبيعي أن مثل هذه الخصوصيات الذاتية والموضوعية لا تتوفر ـ بمثل هذه الدقة ـ في المحاكم العادية التي قد تخلص إلى الحل ، ولكنها تبقى في الدائرة الرسمية التي تعالج الواقع من الخارج لا من الداخل ، لأنها لا تملك علاقة بالواقع الداخلي للشخصين بشكل حميم.

وهناك نقطة مهمة ، وهي أن المحاكم القضائية قد تكلف الشخصين بذل المال الذي تفرضه إجراءات المحاكم وتحملهما بعض الجهود الإضافية الفردية والاجتماعية ، مما لا يحتاجان إليه في المحكمة العائلية.

* * *

صفات الحكمين

وقد يكون من المفيد التنبيه على أن الحكمين العائليين لا بد من أن يكونا بالغين عاقلين خبيرين بدراسة المشاكل في الجانب الخاص والعام منها ، وبالتدبير المتحرك في عناصر الواقع المتشنّج بين الشخصين من خلال الخبرة الطويلة لهما في تجاربهما الواقعية ، ليتسنّى لهما الوصول إلى نتيجة حاسمة إيجابية بحكمة ورويّة واتزان.

* * *

ما هي سلطة الحكمين؟

وقد يثور هنا سؤال عن مدى نفوذ حكم الحكمين على الشخصين ، هل هما مصلحان يتوقف نفوذ حكمهما على قبول الطرفين بالنتائج المقترحة منهما ، باعتبار أنهما يقدمان للزوجين ما يعتقدان أنه الحل الأفضل للمشكلة وبحيث تبقى لهما حرية الرفض أو القبول ، أم هما حكمان حاكمان يملكان

٢٤٩

حق الفرض والإلزام؟

قد يظهر من بعض الفقهاء القول بنفوذ حكمهما في أيّ جانب من الإصلاح أو التفريق ، انطلاقا من صفة «الحكم» للشخصين الذي يعني أنهما يملكان سلطة الحكم الذي يفرض ـ بحسب طبيعة الموقع ـ نفوذه عليهما ، ولكن المشهور بينهم ، أن الحكم ينفذ في ما يريدانه ويحكمان به من الإصلاح بين الزوجين وحلّ المشكلة بينهما بالعودة إلى البيت في اتجاه السّلام العائلي وعودة الأمور بينهما إلى حالتها الطبيعية السابقة ، ليتقيدا بالحكم الصادر من الحكمين بشروطهما الإصلاحية. أما الطلاق ، الذي قد يكون حلّا للمشكلة ، فلا صلاحية لهما في فرضه عليهما ، بل لا بد من موافقة الزوجين عليه ، لأن الأمر يتعلق بهما ـ الزوج والزوجة ـ أو بالزوج وحده لأنه هو الذي يملك حق الطلاق.

ولعل هذا الرأي هو الأوفق بمدلول الآية الذي يشير إلى الإصلاح ، لأن القضية هي قضية حل الخلاف الذي تحوّل إلى شقاق بينهما بتقريب وجهات النظر من قبل الشخصين القريبين لهما المطّلعين على أوضاعهما ، فذلك هو الذي اعتاد الناس أن يلجأوا إليه كلما حدثت هناك مشكلة في الواقع الاجتماعي ، فإنهم يبادرون إلى إيجاد لجنة تحكيمية تقوم بحلّ المشكلة لإعادة المياه إلى مجاريها من دون الدخول في أيّ مشروع للتفريق أو للقطيعة ، لأن ذلك ليس مهمة الفعاليات الاجتماعية في موقعها المميز الذي يتحرك من أجل الوصل لا الفصل ، ومن أجل التقارب لا التباعد ، ولعل هذا هو الوجه في اقتصار الآية على مسألة الإصلاح من دون تعرّض للتفريق ، باعتبار أن ذلك هو المعتاد في مهمة التحكيم الاجتماعي ، أما التفريق فهو مهمة القضاء ؛ والله العالم.

* * *

٢٥٠

نشوز الزوج

ولم تتحدث الآيات عن حالة نشوز الزوج وتمرّده على أداء حقوق الزوجة الشرعية ؛ وقد أثيرت المسألة في أبحاث الفقه ، واختلفت الآراء في موقف الزوجة ، هل تكتفي برفع أمرها إلى الحاكم الشرعي ليجبره على أداء حقوقها الشرعية ، أم يجوز لها أن تتصرف بأساليبها الخاصة ؛ فتمنعه بعض حقوقه عليها ، على أساس المعاملة بالمثل ، أم يفصل بين الحالات؟ ذهب الكثيرون ، إلى أن المسألة مربوطة بقرار الحاكم ؛ لأن الله لم يجعل لها أمر تنفيذ حدوده ، كما جعل للرجل ذلك من خلال صفة القوامة ؛ أمّا امتناعها عن أداء حقوقه فلا مبرر له ، لأن معصيته لله في أمرها ، لا تبرر لها المعصية في أمره ، بعد أن كان لكل واحد منهما تكليف مستقل ، لا يرتبط بالآخر. فإذا رفعت أمرها إلى الحاكم ، فيمكن للحاكم أن يطلّق بنفسه ، إذا امتنع الزوج من الطلاق والإنفاق ، بعد تخييره بينهما ، وذلك إذا كانت الحالة حالة النشوز عن النفقة ؛ ويمكنه أن يجبره في حالات أخرى ، على حسب القانون الشرعي المتبع في مثل هذه الأمور. وذهب البعض إلى أن لها الحق في الامتناع ، وتحفّظ بعض آخر ، فلم يجزم بأحد الرأيين ، لأن القضية باقية لديه في حدود الإشكال الذي يبحث عن الوضوح ؛ والله العالم بحقائق أحكامه.

* * *

٢٥١

الآية

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٤٢)

* * *

٢٥٢

معاني المفردات

(بِذِي الْقُرْبى) : صاحب القرابة كالأخ والعم والخال ومن إليهم.

(وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) : الجار الذي بينك وبينه قرابة.

(وَالْجارِ الْجُنُبِ) : الجار البعيد في قرابته ، الأجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة ، والجنب البعيد ، والجنب القريب.

قال الراغب : بني من الجنب ، والفعل على وجهين ، أحدهما الذهاب على ناحيته ، والثاني الذهاب إليه ، فالأول نحو جنبته وأجنبته ، ومنه : (وَالْجارِ الْجُنُبِ) ، أي البعيد ... قال عزوجل : (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة : ٩٠] ، وذلك أبلغ من قولهم اتركوه (١).

(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) : الذي يصاحبك ملازما لجنبك ، مثل رفيق السمر وجليس الحضر ، أو شريكا في الدرس أو في عمل ، فإن للصحبة حقوقها.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) : المسافر المنقطع عن أهله وماله ، الذي لا يملك أمر تدبير أمره ماليّا للوصول إلى مقصده. قال الراغب : نسب إلى السبيل لممارسته إياه (٢). وقال صاحب الميزان : كأنه ليس له من ينتسب إليه إلّا السبيل فهو ابنه (٣).

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٩٧.

(٢) (م. ن) ، ص : ٢٢٨.

(٣) تفسير الميزان ، ج : ٤ ، ص : ٣٦٣.

٢٥٣

(وَما مَلَكَتْ) : الرقيق المملوك ، ولا وجود له في واقع العصر.

(مُخْتالاً) : متبخترا يعيش الزهو والغرور والشعور بالخيلاء ، والخيلاء هو التكبر ، من تخيّل فضيلة أو ميزة تراءت للإنسان من نفسه. قال الطبرسي : أصل المختال من التخيّل ، وهو التصور ، لأنه يتخيّل بحاله مرح البطر ، والمختال الصّلف (١) التيّاه ، ومنه الخيل ، لأنها تختال في مشيها ، أي تتبختر (٢).

(فَخُوراً) : كثير الفخر ، وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الذات ، كالمال والجاه. وفي مجمع البيان قال : الفخور الذي يعد مناقبه كبرا أو تطاولا ، وأما الذي يعددها اعترافا بالنعمة فيها فهو شكور (٣).

(يَبْخَلُونَ) : يمنعون العطاء عن الآخرين المحتاجين ، فلا يفكرون إلّا في ذاتهم بعيدا عن المجتمع. قال الطبرسي : البخل : أصله مشقة الإعطاء ، وقيل في معناه : إنه منع الواجب ، لأنه اسم ذمّ لا يطلق إلا على مرتكب الكبيرة ، وقيل : هو منع ما لا ينفع منعه ولا يضرّ بذله ، ومثله الشح وضده الجود ، والأول أليق بالآية ، لأنه تعالى نفى محبته عمن كان بهذه الصفة ، وقال علي بن عيسى : معناه منع الإحسان لمشقة الطباع ، ونقيضه الجود ، ومعناه بذل الإحسان لانتفاء مشقة الطباع (٤).

(رِئاءَ النَّاسِ) : المراءاة.

(قَرِيناً) : القرين : أصله من الاقتران ، ومنه : القرن لأهل العصر

__________________

(١) صلف صلفا : تمدّح بما ليس فيه أو عنده وادعى فوق ذلك إعجابا وتكبّرا ، فهو صلف.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٧١.

(٣) (م. ن) ، ج : ٣ ، ص : ٧١.

(٤) (م. ن) ، ج : ٣ ، ص : ٧٣.

٢٥٤

لاقترانهم ، والقرن المقاوم في الحرب ، والقرين : الصاحب المألوف ، وهو المراد ـ على الظاهر ـ من الكلمة. وقال عدي بن زيد :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فإن القرين بالمقارن يقتدي

(وَما ذا عَلَيْهِمْ) : أيّ شيء يضرّهم ، وهو استفهام للتأسف أو التعجب ، ودعوة لهم إلى التأمل والتفكير في عواقب الأمور.

(يَظْلِمُ) : الظلم هو الألم الذي لا نفع فيه يوفي عليه ولا دفع مضرّة أعظم منه عاجلا ولا أجلا ولا يكون مستحقا ولا واقعا على وجه المدافعة وأصله : وضع الشيء في غير موضعه ، وقيل : أصله الانتقاص من قوله : ولم تظلم منه شيئا. فالظلم ـ على هذا ـ انتقاص الحق ، والظلمة انتقاص النور بذهابه.

(مِثْقالَ) : أصل المثقال الثقل فالمثقال مقدار الشيء في الثقل ، والثقل ما ثقل من متاع السفر.

(ذَرَّةٍ) : هي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى ، عن ابن عباس وابن زيد ، وهي أصغر النمل ، وقيل : هي جزء من أجزاء الهباء في الكوة من أثر الشمس (١) ، وقيل أيضا : إنه الغبار المتطاير من يد الإنسان إذا جعلها على التراب وما شابهه ثم نفخها. وقيل : أطلقت على كل شيء صغير جدا ، وتطلق الآن على ما يتكوّن من «الإلكترون» و «البروتون» أيضا ، لأنها إذا كانت تطلق سابقا على أجزاء الغبار ، فلأن تلك الأجزاء كانت أصغر أجزاء الجسم ، ولكن حيث ثبت اليوم أن أصغر أجزاء «الجسم المركّب» هو «المولوكول» ، وأصغر أجزاء «الجسم البسيط» هو «الذرات» ، اختيرت لفظة «الذرّة» في الاصطلاح العلمي ، وأطلقت على تلك الجزئيات التي لا ترى

__________________

(١) (م. س) ، ج : ٣ ، ص : ٧٦.

٢٥٥

بالعين المجرّدة ، بل لا يمكن أن ترى حتى بأقوى «الميكروسكوبات» الإلكترونية ، وإنما يحسّ بوجودها من خلال القوانين والمعادلات العلمية ، والتصوير بآلات مزوّدة بأدق الأجهزة وأقواها ، ـ كما جاء في تفسير الأمثل.

* * *

مناسبة النزول

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ).

في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال أكثر المفسرين : نزلت في اليهود ؛ كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم ولم يبينوها للناس ، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في كتبهم. وقال الكلبي : هم اليهود بخلوا أن يصدقوا من أتاهم صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونعته في كتابهم ، وقال مجاهد : الآيات الثلاث إلى قوله : (عَلِيماً) ، نزلت في اليهود. وقال ابن عباس وابن زيد : نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالاً من الأنصار يخالطونهم وينصحونهم ويقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ، فأنزل الله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) (١).

* * *

ونلاحظ أن الآراء الأولى تنسجم مع الفقرة الثانية من الآية وهي (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). أما رواية ابن عباس وابن زيد ،

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٨٤ ـ ٨٥.

٢٥٦

فهي تنطبق مع الفقرة الأولى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) وربما كان الوجهان صادرين عن اجتهاد ذاتيّ من المفسرين لا عن رواية ، والله العالم.

* * *

الخط الإيماني في مسئولية العلاقات الإنسانية

كان الحديث في الآيات السابقة عن الأسرة الصغيرة ؛ وفي هذه الآيات بعض الحديث عن الأسرة الكبيرة ، وهي المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد ضمن خلايا متنوعة ، ينتقل فيها الإنسان منذ طفولته من خلية إلى أخرى ، ويتحمّل ـ على أساس ذلك ـ مسئوليته تجاهه. وتلك هي النظرة الإسلامية الواسعة للحياة ، فإن النمو الطبيعي للإنسان في المؤسسات الاجتماعية المختلفة التي ترعاه وتطعمه وتسقيه وتعلّمه وتمرّضه وتدافع عنه ، يجعل للمجتمع حقا عليه في القيام بمسؤوليته ، من خلال الإمكانات المالية والعلمية والبدنية التي ساهم المجتمع بها في تكوينه ، وهذا ما أرادت هذه الآيات أن توجه الإنسان إليه في بعض مجالاته العملية.

ولمّا كان الإسلام يعتقد أن على الإنسان أن يرتكز على قاعدة فكرية وروحية تحدد له مواقعه ومساره في الحياة ، فقد بدأ بالنداء الذي يدعو إلى عبادة الله وحده وعدم الإشراك به ، لأن ذلك هو الذي يوحّد التصور والمسار والهدف ، ويجعل الإنسان خاضعا في تصرفاته العملية لقوة واحدة ، هي الله باعتباره النقطة الوحيدة التي تحدد له منطلقاته في الحياة ، فهو الهاجس الدائم الخفي الذي يحكم كل أفكاره ومشاعره ، لأن معنى أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، هو أن نخشع له ونخضع لسلطته ونطيعه ونطلب رضاه ومحبته ، وبذلك نبتعد عن كل الأشياء التي تبعدنا عنه ، ونجعل الحياة كلها ساحة

٢٥٧

متحركة من أجل الحصول على ثوابه والبعد عن عقابه. وهذا هو قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً). وفي هذا الجو ، يمكننا أن نحدّد علاقتنا بالأشياء والأشخاص ، لتكون بأجمعها مشدودة إلى هذا الخط وسائرة في هذا الاتجاه. فإذا فكر الإنسان أن يقترب من هذا أو يبتعد عن ذاك ، أو يعطي هذا أو يمنع ذاك ؛ فإن مسار التفكير ينطلق في الاتجاه الذي يحدده ما يرضي الله أو ما يسخطه ، وما يحبه الله أو ما يبغضه ، وهذا ما حددته بعض الآيات الكريمة التي تحدثت عن صفة المؤمنين في كلمة واحدة حاسمة. (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف : ١٣]. فإن الاعتراف بالله الرب الواحد ، يحدّد للإنسان نقطة البدء التي تنتهي إليه في نهاية المطاف. وهذا هو معنى الاستقامة التي توجّه الخطوط المنطلقة من الإيمان به ، نحوه ، في مسيرة الإنسان الصاعدة إليه.

ومن هنا كانت البداية ؛ فإذا كنا نريد أن نعبد الله وحده ، فعلينا أن نحب ونرعى من يريد الله منا أن نحبه ونرعاه ؛ وتلك هي بعض النماذج الإنسانية التي تعيش داخل المجتمع.

* * *

وبالوالدين إحسانا

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) هذه هي الخلية الأولى من خلايا المجتمع التي تحضن الإنسان ؛ وهي تضم والديه اللذين هما السبب المباشر لوجوده ، وهما اللذان أعطياه من كل شيء يملكانه من دون مقابل ، وذلك هو النموذج الذي يشعر معه المعطي بالعطاء ، كحالة وجدانية ذاتية تتصل بالإحساس الطاهر الرفيع من كيانه. وقد أراد الله لنا أن نعيش الشعور بالحاجة إلى الإحسان إليهما ، من خلال ما نقدم إليهما من خدمات ، وما نصبر عليه من سلبياتهما المزاجية والعملية ، كنوع من الاعتراف بالجميل لإحسانهما الذي

٢٥٨

لن نستطيع بلوغ مداه ؛ لأنهما عاشا العطاء من موقع الإحساس الذاتي بالحاجة إليه ، تماما كما هي حاجتنا إلى أن نعيش حياتنا. أما نحن ، فنعيش ـ غالبا ـ العطاء من موقع الواجب الذي قد نحس بثقله علينا في كثير من الحالات.

ولعل الإحسان إلى الوالدين ، بما يعنيه من الاعتراف بالجميل ، يعطينا درسا في الفكرة من ناحية المبدأ ، عند ما نواجه الكثيرين من الناس الذين يقدّمون إلينا خدمات متنوعة فيكون علينا مقابلتهم بالإحسان إليهم من خلال إيماننا بالمبدأ الذي عشنا تجربته مع الوالدين ، وقد يكون في الجانب السلبي من الممارسة ، في عدم الإحسان إليهما ، ما يوحي بأننا سنعيش الشعور بالجحود والنكران مع الآخرين ، لأن حق الوالدين هو أعظم الحقوق بعد حق الله ، فإذا أنكره الإنسان ، فإن إنكار ما هو أهون منه أسهل. وقد نلاحظ أن القرآن لم يوص الوالدين بالولد كما أوصى الولد بوالديه ، وربما كان الأساس في ذلك أن الفطرة التي تفجر ينابيع العاطفة الروحية لدى الوالدين ، تغني عن كل النصائح والأوامر في هذا الاتجاه ، لأنهما يحققان المبدأ من ناحية فطرة ذاتية ، من دون ملاحظة لأيّ شيء خارجي. ولكن الأحاديث المأثورة تحدثت عن بعض تفاصيل حقوق الولد على والديه ، في بعض الجوانب التربوية الفكرية والعملية ، لتتحرك مسئوليتهما في ذلك ، في ما لا يلتفتان إليه من ناحية العاطفة.

* * *

كيف نفهم الإحسان للوالدين؟

وقد نحتاج للإشارة إلى نقطة مهمة في موضوع إطاعة الوالدين ، وهي أن القرآن الكريم لم يستخدم تعبير «إطاعة الوالدين» ليكون ذلك عنوانا للخط

٢٥٩

الذي يسير عليه الولد مع والديه ، فيكون ذلك لونا من ألوان جعل السلطة للوالدين بالتدخل في شؤون الولد في مسار حياته الخاصة والعامة ، وفي توجيه أفكاره وانتماءاته وعلاقته بالناس والأشياء ؛ كما ربما يعتقد الكثيرون من الناس ؛ بل استخدم تعبير الإحسان للوالدين وعدم محاولة إيذائهما والشكر لهما على ما قاما به ، إلا في الجانب السلبي كما في قوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) [العنكبوت : ٨] فإنهما قد يطلبان من الولد أن يجسّد الإحسان إليهما بإطاعتهما في معصية الله ، لأن ذلك يدخل السرور عليهما ويثبت لهما أن ولدهما بار بهما مخلص لهما ، فكان النهي الإلهي له عن ذلك أن يمتنع عن إطاعتهما في هذا الموضوع المضاد لمصلحته لأنه يبعده عن الله ويعرّضه لغضبه ، مع الأمر بمصاحبتهما بالمعروف ـ عند عصيانهما ـ واتباع سبيل المنيبين إلى الله. ولكن ذلك لا يعني وجوب الطاعة لهما في غير مورد المعصية إذا كان مضمون الأمر الأبوي أو الأمومي مخالفا لمصلحته في حياته ، لأن الإحسان إليهما يصطدم بالإساءة إلى نفسه ، وهذا ليس مطلوبا منه ، بل كل ما هناك أن عليه أن يتحرك معهما بأسلوب الإحسان من دون أن يقع في مشكلة في واقعه العملي. وعلى ضوء ذلك ، فإن المبدأ هو الإحسان والرعاية وتجنب الإيذاء.

أما في غير هذا المجال ، فللولد أن يتبع طريقه على هدي قناعاته المستمدة من الفكر والمعاناة والتجربة والإيمان ، فليس لهما أن يضغطا عليه في التخلي عن قناعاته بحجّة حقهما الوالدي ، وليس لهما تخريب مخططاته العملية على ذلك الأساس ، إلا إذا دخلا معه في عملية حوار وإقناع ؛ ولكن لا بد لنا من إثارة تحفّظ في هذا المجال ، وهو محاولة الولد الابتعاد عن مواجهتهما بالعصيان بطريقة مباشرة جافة ، بل إن عليه أن يدير الأمور بطريقة لبقة ذكية تحقق له مصلحته وتبتعد به عن إيذائهما ، لأن ذلك ما نفهمه من مبدأ الإحسان ، وقد يفرض عليه الموقف أن يضحّي ببعض مشاعره لمصلحة

٢٦٠