تفسير من وحي القرآن - ج ٧

السيد محمد حسين فضل الله

بعضا من المؤمنين ، لأن المجتمع الإيماني كنفس واحدة على طريقة قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] ، فلو قتل الإنسان غيره من المؤمنين فكأنه قتل نفسه.

* * *

ما جمع بالباطل باطل

إن القرآن يتحدث عن المجتمع كوحدة عضوية ذات أجزاء ، في ما يملكه من أموال ، وما يشتمل عليه من أفراد. فإذا تحدّث عن الأموال وكيفية التصرف بها والتحذير من العدوان عليها ، فإنه يتحدث في خطابه للمؤمنين عنها بصفتها «أموالكم» ؛ وإذا تحدّث عن الأفراد الذين يتألف منهم المجتمع ، محذرا من الاعتداء عليهم بالقتل والظلم ، فإنه يتحدث عنهم بصفتهم «أنفسكم» ، وذلك للإيحاء بأن المؤمنين وحدة متكاملة في ما يملكون من طاقات ، وما يمثلون من تجمّعات. وقد تحدّثت الآيتان هنا حول موضوعين :

أحدهما : طريقة التملك للأموال الموجودة في أيدي الناس.

ثانيهما : الاعتداء على الأنفس.

وقد جاءت الآية الكريمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) ، وحذّرت من أكل أموال الناس بالباطل ؛ وهي كناية عن الاستيلاء عليها بالتملّك. والمقصود بكلمة «الباطل» كل الوسائل التي لا ترتكز على أساس شرعي ، مما يدخل في التخطيط الذي وضعه الله لعباده في معاملاتهم وعلاقاتهم. فقد أراد الله

٢٠١

للناس السير في حياتهم على الأسس الثابتة التي تنسجم مع العقل والحكمة والفكر السليم ، واعتبر كل شيء يخالف ذلك باطلا. وبذلك كان الباطل شاملا للقمار ، والربا ، والسرقة ، والرشوة في الحكم ، وبيع المحرمات المضرة بأبدان الناس وعقولهم وحياتهم ، ونحو ذلك مما جاء به التحريم في الشريعة المطهرة. ولا تتوقف آثار صفة الباطل على جانب المسؤولية الأخروية من عقاب الآخرة ، بل تمتد إلى عدم ترتب أي أثر شرعي قانوني عليه ، فلا يملك الإنسان المال ، إذا نقل إليه بالوسائل المحرمة التي لم يشرّعها الله. وهذه قاعدة عامة في طريقة انتقال المال من شخص إلى آخر ، أو تملكه من خلال حيازة أو نحوها ، فلا بد من طريقة شرعية ثابتة في الكتاب والسنة. وقد جاء في بعض الأحاديث المأثورة : «لا يحل مال إلا من وجه أحلّه الله ...» (١). وقد تحدثت الآية عن نموذج من نماذج الوسائل المحلّلة وهي التجارة عن تراض ، فللإنسان أن يتملك ما يشاء بما يساوي ماله أو يزيد عليه ، على أساس العمليات التجارية مع الآخرين الصادرة عن اتفاق تراض بين الطرفين.

* * *

الحياة لله تعالى لم يسلّط أحدا عليها إلا بالحق

أما الموضوع الثاني ، وهو الاعتداء على النفوس ، فقد حذرت الآية المؤمنين من أن يقتلوا نفوسهم ، وذلك في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، لأن الحياة هي ملك الله وهبها لمخلوقاته ، ولم يسلّط عليها أحدا إلا بالحق ، فلا يجوز لإنسان أن يقتل أحدا إلا بالحق ، ولا يجوز له أن يقتل نفسه بطريقة الانتحار (٢).

__________________

(١) الوسائل ، م : ٦ ، باب : ٣ ، ص : ٣٧٥ ، رواية : ٢.

(٢) جاء في الفقيه ، عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : من قتل نفسا معتمدا ، فهو في ـ

٢٠٢

وقد تحدث الفقهاء كثيرا عن الاحتياط في النفوس والأموال والأعراض ، مما يوحى بأن الأصل في هذه الأمور التوقف حتى تثبت الإباحة. وربما ناقش بعضهم في بعض جزئيات ذلك كالأموال ، ولكن لم يناقش أحد في هذه القاعدة في ما يتصل بالدماء.

* * *

الرحمة نظام شامل للحياة

وقد عقب الله على هذين التحذيرين بكلمة (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) ، مما يوحي لنا بالفكرة التي تجعل الرحمة نظاما عمليا شاملا لحياة الإنسان في كل ما يصلحها ويبتعد بها عن الفساد ، لا مجرد عاطفة إشفاق. وهكذا تمثلت الرحمة في التقنين للحياة ، في ظل نظام قائم على أساس احترام الأموال والنفوس ، فلا يخاف الإنسان في المجتمع المؤمن أن يؤخذ ماله ، أو يعتدى على حياته بغير حق ، بل يعيش الأمن والطمأنينة في ذلك كله. ومن خلال ذلك ، يمكن لنا استيحاء الفكرة العملية ، من خلال ما تتمثله من عواطف ومشاعر ، لنتوقف عند الجانب العملي الذي يركّز الشعور بالموقف ـ لا بالإحساس المجرّد ـ حتّى نتعلّم أن تكون الجوانب العمليّة هي ما تستهدفه الأفكار والمشاعر والعواطف ؛ فنستطيع ـ من خلال ذلك ـ الوصول إلى خطوات متقدمة في الحياة في جميع الميادين.

* * *

__________________

ـ نار جهنم خالدا فيها ، واستشهد على ذلك بهذه الآية ، الفقيه ، ج : ٣ ، ص : ٥٧١ ، باب : ٢ ، رواية : ٤٩٥٣.

٢٠٣

من يتجاوز حدود الله سيصلى نارا

وجاءت الآية الثانية وهي قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) لتثير أمام الإنسان التحذير بالعقوبة الأخروية ، إذا تجاوز حدود الله في ذلك ، فاعتدى على أموال الناس وحرماتهم ونفوسهم ، أو قتل نفسه ؛ فإن جميع ذلك ظلم وعدوان عند الله ؛ وليس له إلا النار التي يصلاها جزاء على ذلك. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) وهكذا ينطلق الأسلوب القرآني في ربط الإنسان بالالتزام بالحكم الشرعي ، على أساس الترغيب بما ينتظره من رحمة الله في الدنيا ، والترهيب بما يتخلص به من عذاب الله في الآخرة.

وهنا ملاحظة تتعلق بهذا الجمع بين النهي عن الأكل للأموال بالباطل وعن قتل النفس ، فالمجتمع قائم على الأمن الاجتماعي الإنساني الذي يتقوم باحترام الحياة في علاقة الناس ببعضهم البعض ، وعلى الأمن الاقتصادي في احترام أموال بعضهم بعضا وعدم التحرك فيها بأيّ تصرف تمليكي أو شخصي إلا بالطرق المشروعة التي تمثل خط التوازن في سلامة الاقتصاد العام والخاص ، فإذا اختل أحدهما اختل نظام المجتمع ، مما يؤدي إلى الفساد والانهيار والدمار ، أمّا إذا سلّم الواقع الاجتماعي والاقتصادي من هذا الخلل ، فإنه يعيش التوازن والثبات.

* * *

٢٠٤

الآية

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٣١)

* * *

معاني المفردات

(تَجْتَنِبُوا) : الاجتناب : المباعدة عن الشيء وتركه جانبا ، ومنه الأجنبي ، ويقال : ما يأتينا فلان إلا عن جنابة ، أي عن بعد.

(كَبائِرَ) : واحدتها كبيرة ، هي المعاصي العظيمة في مقابل «السيئات» التي هي المعاصي الصغيرة ، كما قيل ، وقد ذكرت بعض الروايات الكبائر حتى وصلت إلى السبعين ، باعتبار اختلاف مراتب الكبر في المعصية ، علما أن أكبر الكبائر الشرك بالله.

(نُكَفِّرْ) : التكفير أصله الستر ، والمراد به هنا العفو والمغفرة ، باعتبار أنه يستر المعصية ، فلا تظهر ، أي لا يترتب عليها أثر.

(مُدْخَلاً) : ـ بضم الميم ـ من أدخل ـ وبفتحها ـ من دخل ، وفي الحالين هو اسم مكان والمراد به ـ هنا ـ الجنة.

* * *

٢٠٥

اجتناب الكبائر في طريق المغفرة

في هذه الآية حديث عن وجود كبائر وصغائر في المحرمات الإسلامية ، ودعوة إلى اجتناب كبائرها ، كشرط من شروط المغفرة والرضوان من الله ، باعتبارها مظهرا من مظاهر التوبة الحقيقية التي يعبّر بها الإنسان عن رجوعه إلى الله وعودته إلى رحاب طاعته ، ولكن ، هل معنى ذلك التسامح في ارتكاب الصغائر أو التشجيع على الاستهانة بها؟

الظاهر أن الآية ليست واردة في هذا السياق ، بل هي واردة في مورد التأكيد على الأساس الذي تنطلق منه التوبة ، لأن ذلك هو الذي يمثّل القاعدة الإيمانية المتحركة في عمق الروحية للإنسان ؛ فإن الاجتناب عن الكبائر ينطلق من إرادة واعية ثابتة للتغيير ، بينما تمثّل الصغائر ـ غالبا ـ حالة طارئة يمارسها الإنسان بشكل سريع لا دخل لها بركائزه الفكرية ، ليكون الاجتناب عنها أساسا للتوبة ، فربما تصدر من الإنسان المؤمن الصالح في بعض حالات الغفلة السريعة ، وهذا ما يمكن أن نستوحيه من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم : ٣٢] من خلال التعبير بكلمة (طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) و (اللَّمَمَ) بما توحيه الكلمة الأولى من انطلاق الفعل من فكرة تطوف بالإنسان من خارج ثم تذهب ، وما توحيه الكلمة الثانية من اعتبارها شيئا يلمّ به الإنسان وهو في الطريق من دون أن يتوقف عنده. فإن ذلك يعني أن قضية التوبة هي قضية الإرادة المتمثلة باجتناب الكبائر التي تنطلق من خلق أو عادة أو وضع ثابت في حياة الإنسان ، وليست قضية الأشياء الطارئة السريعة التي لا يلمّ بها الإنسان حتى يتركها. وربما كان اجتناب الكبائر مظهرا من مظاهر القدرة على اجتناب

٢٠٦

الصغائر ، لأن القدرة على الأثقل يستلزم القدرة على الأخفّ ـ بطريق أولى ـ فتكون الآية ، على هذا ، بمثابة الإيحاء بتحصيل قوة الموقف الذي يقرّب الإنسان إلى مرضاة الله ، من خلال ما يمثله ذلك من مناعة روحية وفكرية ؛ والله العالم.

* * *

ما الفرق بين الكبيرة والصغيرة؟

وقد اختلف الفقهاء والمفسرون في تحديد الكبيرة والصغيرة ؛ فذهب كل واحد إلى رأي على أساس اجتهادات ذاتية ، من خلال استنطاق الكلمة ، في ما توحيه بلحاظ معناها اللغوي ؛ واعتبر بعضهم أن القضية نسبية ؛ فكل معصية من المعاصي يمكن أن تكون كبيرة بلحاظ بعض ، ويمكن أن تكون صغيرة بالنسبة إلى بعض آخر. وقال بعضهم : إن كل المعاصي من الكبائر ، لأن كبر الحرام ليس بلحاظ خصوصيته ، بل بلحاظ الجهة التي أمرت باجتنابه. فإذا كان الله هو الذي نهى وأمر ، فإن كل مخالفة لذلك كبيرة ؛ وقال بعضهم : إن الكبيرة هي ما توعد الله عليه بالنار. وربما يلتقي هذا الرأي مع رأي آخر ـ أشار إليه صاحب تفسير الميزان (١) ـ بأن الكبيرة هي التي اقترنت بالتشديد والوعيد والتهديد ، وذلك من خلال استيحاء كلمة (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ...) ، فإن كون المنهيّ عنه كبيرا يرتبط بخطورته على مستوى النتائج الصعبة التي تصيب الإنسان ، في ما توحي به أجواء النهي. وقد لا يكون في تحديد الحدود التي يمثلها الفرق بين الكبيرة والصغيرة فائدة عملية كبيرة ، لا سيما أنها تلتقي في أكثر الموارد التي اعتبرها الكثيرون من الكبائر.

وقد جاءت الأخبار الواردة عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في ما رواه أهل

__________________

(١) راجع : تفسير الميزان ، ج : ٤ ، ص : ٣٣٣.

٢٠٧

بيته عليهم‌السلام في أحاديث متنوعة عن تعداد الكبائر ، بين ما يقتصر على بعض معيّن منها وبين ما يفيض في تعدادها إلى رقم كبير ، وربما كان الأساس في تحديد ما حدّد في بعض الأخبار ، أنها من الكبائر الكبيرة ، وليس ذلك من جهة اختصاص الكبيرة بها ، ولعل من المفيد أن نشير إلى بعض هذه الروايات ، فمن ذلك ما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره عن أنس بن مالك ، قال : ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكبائر ، أو سئل عن الكبائر ، فقال : الشرك بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين. فقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال : قول الزور ، أو قال : شهادة الزور (١).

وفي الدر المنثور ، أخرج البخاري ومسلّم وأبو داود والنسائي وابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا : وما هن يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (٢).

جاء في تفسير الطبري ، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة ، عن أبيه ، قال : إني لفي هذا المسجد مسجد الكوفة ، وعلي ـ رضي الله عنه ـ يخطب الناس على المنبر ، فقال : يا أيها الناس ، إن الكبائر سبع. فأصاخ الناس ، فأعادها ثلاث مرات ، ثم قال : ألا تسألوني عنها؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ، ما هي؟ قال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرب بعد الهجرة. فقلت لأبي : يا أبت ، التعرب بعد الهجرة كيف لحق هاهنا؟ فقال : يا بني ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل ، حتى إذا وقع سهمه في الفيء ووجب عليه

__________________

(١) تفسير البيان ، م : ٤ ، ج : ٥ ، ص : ٦٠.

(٢) الدر المنثور ، م : ٢ ، ص : ٥٠٠.

٢٠٨

الجهاد ، خلع ذلك من عنقه ، فرجع أعرابيا كما كان (١).

* * *

الكبائر في كتاب الله تعالى

وفي مجمع البيان : روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام ، عن أبيه علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ، عن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد الله ، جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ؛ فلما سلّم وجلس ، تلا هذه الآية : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) ثم أمسك ، فقال أبو عبد الله : ما أسكتك؟ قال : أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله ، قال : نعم يا عمرو ، أكبر الكبائر الشرك بالله ، لقول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] ، وقال : (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ) [المائدة : ٧٢] ، وبعده اليأس من روح الله ، لأن الله يقول : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] ، ثم الأمن من مكر الله ، لأن الله يقول : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩] ، ومنها عقوق الوالدين ، لأن الله جعل العاقّ جبّارا شقيا في قوله : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) [مريم : ٣٢] ، ومنها قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، لأنه يقول : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [النساء : ٩٣] ، وقذف المحصنات ، لأن الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النور : ٢٣] ، وأكل مال اليتيم ظلما لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء : ١٠] ، والفرار من الزحف ، لأن الله يقول : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ

__________________

(١) تفسير البيان ، م : ٤ ، ج : ٥ ص : ٥٤.

٢٠٩

جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال : ١٦] ، وأكل الربا ، لأن الله يقول : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة : ٢٧٥] ، ويقول : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة : ٢٧٩] ، والسحر ، لأن الله يقول : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [البقرة : ١٠٢] ، والزنى ، لأن الله يقول : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩] ، واليمين الغموس ، لأن الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [آل عمران : ٧٧] ، والغلول قال الله : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٦١] ، ومنع الزكاة المفروضة ، لأن الله يقول : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) [التوبة : ٣٥] ، وشهادة الزور وكتمان الشهادة ، لأن الله يقول : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] ، وشرب الخمر ، لأن الله تعالى عدل بها عبادة الأوثان ، وترك الصلاة متعمدا أو شيئا مما فرض الله تعالى ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من ترك الصلاة متعمدا فقد برىء من ذمة الله وذمة رسوله» (١) ونقض العهد وقطيعة الرحم ، لأن الله يقول : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢) [البقرة : ٢٥].

ولعل التأمّل في هذه الرواية يوحي لنا بأن الكبائر ليست مجرد أرقام في حساب المحرمات ، بل هي مفهوم ينطلق من نوعية النهي الشرعي في الكتاب والسنة ، من حيث شدة النهي المتمثل بالوعيد الإلهي بالعقوبة في الدار الآخرة ، والتشديد على الالتزام به من خلال النتائج الأخروية المتعلقة

__________________

(١) لأن الله عزوجل يقول : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ..) الآية : وأيضا قال الله تعالى شأنه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي بالعهود.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٦٢.

٢١٠

به ؛ وربما كان في هذا المقدار كفاية.

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) من الأعمال التي تمثل الخطورة الكبرى على الواقع العقيدي والعملي للإنسان ، سواء في علاقته بنفسه أو علاقته بالناس أو بالحياة من حوله ، بحيث تسيء إلى النظام الإنساني العام القائم على التوازن في حركة الإنسان في موقفه من نفسه ومن الله ومن الناس. وبذلك يكون الابتعاد عنها وتركها ، دليلا على وصول الإنسان إلى مستوى الإخلاص لله بمجاهدته لنفسه الأمّارة بالسوء لإبعادها عن خط الشيطان في دائرة الانحراف وتقريبها إلى خط الاستقامة ؛ الأمر الذي يجعله في مواقع رضا الله في حركته للقرب منه ، بحيث تكون النتيجة الطبيعية لذلك التطور الإيماني في الحركة التصاعدية في سلوك التقوى ، هو ما وعد الله به التائبين (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) التي ألممتم بها ، باعتبار أنها مجرد حالة طارئة لا عمق لها في العمق الإنساني للملكات السيّئة ، مما يجعلها من صغائر المعاصي التي تذهب وتزول من دون أن تترك أي أثر سلبي في الشخصية الإنسانية.

ولعل من الضروري التنبيه على أن المعصية الصغيرة قد تتحول إلى معصية كبيرة إذا أصر الإنسان عليها ، كما ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام «لا صغيرة مع الإصرار»(١)وهكذا هو الحكم إذا استهان الإنسان بها واستصغرها ، بحيث لم ينظر إليها من حيث كونها تمرّدا على الله ، فقد جاء عن الإمام علي عليه‌السلام ، كما في نهج البلاغة : أشد الذنوب ما استهان به صاحبه (٢) ، وكذا إذا انطلق العصيان عن عناد واستكبار متجذر في

__________________

(١) البحار ، م : ٣ ، ج : ٨ ، ص : ٦٤٥ ، باب : ٢٧ ، رواية : ١.

(٢) الإمام علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة ، ضبط نصّه وابتكر فهارسه د. صبحي الصالح ، دار الكتاب اللبناني ، ط : ٢ ، ١٩٨٢ م ، قصار الحكم : ٣٤٨ ، ص : ٥٣٤.

٢١١

النفس ، أو كان الشخص العاصي ممن يملك مكانة اجتماعية مميزة بين الناس بحيث تتحول معصيته إلى حالة من الاقتداء الاجتماعي به ، بفعل عنصر القدوة في الشخصيات الكبيرة في المجتمع ، كما جاء في قوله تعالى مخاطبا نساء النبي (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠].

وخلاصة الفكرة ، أن المعصية الصغيرة تمثل الذنب الذي ينطلق من الإنسان كحالة طارئة لا تجذّر لها في النفس ولا تأثير لها في الواقع ، فإن الله يكفّر هذه الذنوب الصغيرة عن المؤمن إذا اجتنب الذنوب الكبيرة (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) أي مكانا طيبا حسنا لا ينقصه شيء ، وربما كان المراد به الجنة ، لأنها هي المكان الذي يدخل الله إليه الذين يرضى عنهم ويغفر لهم ذنوبهم ويكفّر عنهم سيئاتهم ، فلا يبقى هناك مجال لإدخالهم في النار.

* * *

القضايا الأساسية التي تمثلها الكبائر

وقد نستطيع استيحاء هذه الآية ـ من خلال هذه الأحاديث ـ فنجد أن القضايا الأساسية التي تمثلها الكبائر في حياة الإنسان ، هي القضايا التي تتصل بالمحافظة على صفاء العقيدة ، من خلال ما يمثله التصور التوحيدي للإيمان بالله ، وعلى احترام الإنسان في نفسه وماله وعرضه ، في الحياة الفردية والاجتماعية ، وعلى إنسانية العلاقات بين الناس ، من خلال ما يمثله ذلك من الحفاظ على الفئات المقهورة والمستضعفة ، وعلى المحافظة على وعي العقل لذاته ولما حوله ، من دون أية محاولة لإغراقه في غيبوبة

٢١٢

مجنونة ، وعلى التخطيط لحركة العدل في الحياة ، في الكلمة والفعل والعلاقة والحكم والمعاملة ، وعلى الوقوف مع الحق في كل موقف من مواقف الصراع بين الحق والباطل ، والرجوع إلى الله والالتزام بفرائضه ، والانفتاح على آفاقه الروحية التي تملأ الفكر والقلب والضمير بالخير والحب والنور والإيمان ...

تلك هي الملامح الأساسية للشخصية الإنسانية الصالحة التي يريدها الإسلام للإنسان ، ويرى في الانحراف عنها انحرافا عن الصورة الصحيحة للحياة النابضة بما يصلح الإنسان في دنياه وآخرته.

وفي ضوء ذلك ، نعرف قيمة اجتناب الكبائر في الحصول على رضا الله ، لأنه يركز القاعدة التي تصنع للإنسان مناعته الروحية والعملية في ما يستقبله من قضايا الحياة ومشاكلها وخطواتها في ميدان الفكر والعمل.

* * *

٢١٣

الآية

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٣٢)

* * *

معاني المفردات

(تَتَمَنَّوْا) : التمني هو قول القائل لما لم يكن : ليته كان كذا ، وليته لم يكن كذا لما كان ، وقال أبو هاشم ـ كما في مجمع البيان ـ في بعض كلامه : التمني : معنى في القلب ، ومن قال بذلك قال : ليس هو من قبيل الشهوة ولا من قبيل الإرادة ، لأن الإرادة لا تتعلق إلا بما يصح حدوثه ، والشهوة لا تتعلق بما مضى كالإرادة ، والتمني قد يتعلق بما مضى ، وأهل اللغة ذكروا التمني في أقسام الكلام (١). والمراد بالكلمة في الآية : لا تتعلقوا بالأماني المريضة المنطلقة من الأنانية والجهل وضعف الثقة بالله والنفس ، فتطلبوا ما عند غيركم من طاقات وإمكانات تكوينية أو امتيازات تشريعية.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٦٣.

٢١٤

وقد يكون هذا التمني عاما ، وقد يكون خاصا ، كما هو ظاهر السياق ، في التنافس بين الرجال والنساء ، فللمرأة طاقاتها وخصائصها وعناصر قوتها ، وللرجل طاقاته وخصائصه وعناصر قوته ، وإذا اختلفت الطاقات ، اختلفت الأدوار والساحات.

(اكْتَسَبُوا) : ربما قيل إنه أعم من الاكتساب من خلال العمل ، فهو يشمل ما يتمتع به الرجال من طاقات تكوينية ومميزات تشريعية نابعة منها ، كما أن للنساء طاقات تكوينية ومميزات تشريعية كما في قوله تعالى : (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) ، ولكن الظاهر من الاكتساب أنه مختص بما يصدر من الشخص نفسه.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ بإسناده عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) ، وجاء فيه بإسناده عن عكرمة قال : إن النساء سألن الجهاد ، فقلن : وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فأنزل الله الآية. وقال قتادة والسدي : لمّا نزل قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، قال الرجال : إننا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضّلنا عليهن في الميراث ، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء ، وقالت النساء : إنّا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في

٢١٥

الدنيا ، فأنزل الله الآية (١).

وقد تكون هذه الروايات ناشئة من اجتهاد شخصي في فهم الآية ، من حيث ما توحيه للنساء من الاحتجاج الخفي على ما تميز به الرجال من الجهاد والإرث أو ما توحيه للرجال من الشعور بالتفوق والامتياز على النساء في الدنيا ، مما يفرض امتيازهم عليهن في الآخرة ، باعتبار فهمهم للمسألة بأن ذلك ناشئ من تفوّقهم الذاتي عند الله ، ولا سيما أن الروايات المذكورة عن هؤلاء مرسلة ليست متصلة بعهد نزول القرآن.

* * *

في آفاق الآية

وقد يلاحظ المتأمل في هذه الآية أنها ليست ناظرة ، بحسب المتبادر منها ، إلى التفضيل في مجال التشريع ، بل التفضيل الواقعي في واقع الحياة ، من خلال الأسباب الخارجية أو الداخلية الكامنة في حياة الإنسان ، لأن قضية الميراث لا تمثل تفضيلا للرجال على النساء ، بل تنطلق من خلال التوازن في مسألة الحقوق والواجبات ، لأن مسئولية الرجل عن المرأة في الحياة الزوجية تختلف عن مسئولية المرأة فيها ، وهكذا نجد في مسألة الجهاد أنها تنطلق من طبيعة العنصر المادي للقوة عند الرجل الذي لا تملكه المرأة ، الأمر الذي كان تشريعه منطلقا من طبيعة الواقع الخارجي لموازين القوة ، لا من جهة الجانب الذاتي للرجولة في مقابل الأنوثة. وعلى ضوء هذا ، فلا تكون المسألة مسألة تفضيل ، بل مسألة توزيع الأدوار وتنظيم الواقع ، مع ملاحظة دقيقة في مسألة الجهاد ، وهي أن الله لم يحرم المرأة من الجهاد بالمشاركة في الحرب في الصفوف الخلفية وفي الأعمال الثانوية في تمريض الجرحى

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٨٣.

٢١٦

وسقي العطاشى ، كما جاء في الحديث أن «جهاد المرأة حسن التبعّل» (١) الذي يوحي بأن الله يمنحها أجر المجاهدين ، وربما كان الأقرب إلى أجواء الآية ما رواه في مجمع البيان قال: قيل : جاءت وافدة النساء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله أليس الله رب الرجال والنساء وأنت رسول الله إليهم جميعا؟ فما بالنا يذكر الله الرجال ولا يذكرنا؟ نخشى أن لا يكون فينا خير ولا لله فينا حاجة ، فنزلت هذه الآية (٢) ، والله العالم.

* * *

في هذه الآية حديث قرآني عن بعض النوازع الأخلاقية المنحرفة ، التي تمثل لونا من ألوان الانحراف النفسي في بنيان الشخصية الإنسانية ، كمظهر من مظاهر الأنانية المريضة الغارقة في وحول الذات. فقد يعيش الفرد في مجتمع يتفاضل فيه الناس ، في ما يملكون من مال أو جاه أو فرص متنوّعة في أيّ جانب من جوانب المعيشة ... وقد يكون هذا الفرد محروما من بعض ما يجده لدى هؤلاء الناس ، فينعكس على نفسيته انعكاسا سلبيا ، تتوتر فيه أعصابه ، وتضطرب فيه مشاعره ، فيتحول إلى كائن ذي أمنيات عدوانية يريد أن تنتقل إليه كل هذه الامتيازات والفرص المختلفة ، ليكون هو المالك لها دون غيره ؛ وتلك هي الحالة التي تحصل للإنسان ، كنتيجة لضعف الثقة بالله ، وضعف الثقة بالنفس ؛ وهي التي يعبّر عنها ـ في علم الأخلاق ـ بالحسد.

وقد جاءت هذه الآية لتعالج هذه الحالة ، بالنهي ـ أولا ـ عن هذه

__________________

(١) البحار ، م : ٤ ، ج : ١٠ ، ص : ٢٧٧ ، باب : ٧ ، رواية : ١.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٦٣.

٢١٧

التمنيات الفارغة البعيدة عن جوّ الإيمان والواقعية ؛ فإذا كان الله هو الذي أعطى إنسانا فرصة أو مالا أو امتيازا ، فإن ذلك ينطلق من حكمته وتدبيره ، من خلال ما تقتضيه السنن الحياتية التي ركّز عليها حركة الحياة في الكون ، عند ما وضع القوانين الكونية التي ترتبط بها كل مفردات الأوضاع والأعمال الخاصة والعامة ، من خلال حركة الأسباب والمسببات ؛ وإذا كانت القضية مرتبطة بتدبير الله وإرادته غير المباشرة ، فما معنى هذه التمنيات؟ وهل يمكن أن يغيّر الله سنّته في الكون ، على أساس مزاج مريض ، أو أمنية منحرفة؟ وهذا ما تعبّر عنه الفقرة الكريمة : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) ...

وأثار القضية ـ ثانيا ـ في تأكيد هذا الواقع ؛ فإن للرجال ، الذين يحرّكون حياتهم في كسب المواقف والفرص والامتيازات والمواقع والأرباح ، حظّا من ذلك كله ، لأن الله جعل للإنسان ثمرة جهده وكسبه ، سواء في ذلك القضايا المتعلقة بأمور الدنيا أو القضايا المتعلقة بأمور الآخرة ؛ فليس لإنسان أن يطلب لنفسه ثمرة جهد إنسان من دون حق ، لأنه لا يملك أساسا لهذه المطالبة ، في ما يفرضه لنفسه من حق ، وليست القضية قضية الرجال ، بل هي قضية العمل والكسب ؛ فللنساء ـ كما للرجال ـ هذا الحق ، فلهنّ كل النتائج التي تحصل لهن من خلال جهدهن ، في أي صعيد عملي ؛ وليس لأحد أن ينكر عليهن ذلك ، أو يستأثر به من دون حق. وهذا ما عبرت عنه هذه الفقرة : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) ...

وهذا ما أراد الله أن يقرره للنساء كحقيقة قرآنية إسلامية ، ليعرف الناس ـ من خلالها ـ أن الفروق التي قررها الله في بعض حقول التشريع ، من خلال ما يتعلق بالرجل والمرأة ، في ما أعطاه للرجل من امتيازات ، وما منعه عن

٢١٨

المرأة من أعمال ومواقع ، لا تمتد إلى خارج النطاق المحدود الذي وضعه الله فيه ؛ بل هي أمور تخضع لمصالح معينة في حدود ضيّقة جدا. أما العمل ، فإنه يتجاوز كل الفروق ، ليقف الرجل والمرأة على صعيد واحد في الاحتفاظ بنتائجه على مستوى الدنيا والآخرة ـ كما جاء في آية أخرى ـ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) [النجم : / ٣٩ ـ ٤١].

ولا بد للإنسان المسلم المؤمن من أن يضع هذه الحقيقة في حسابه ، عند ما يتطلع إلى نتائج جهد الآخرين ، في ما تمثله حياتهم من مواقع وامتيازات ؛ فإذا أراد لنفسه بعضا من ذلك ، فليوجه نفسه نحو العمل المماثل الذي يؤدي إلى مثل نتائجهم ، ولا يكتفي بالتمنيات التي لا تحقق له إلا بعض التآكل الروحي الداخلي ، الذي تمثله العقد النفسية القابعة في فكره وشعوره ؛ لأن ذلك هو السبيل الذي يحقق للحياة معناها في حركة الإنسان في خط الواقع. فإذا استبطأتم الحصول على ذلك في خط العمل ، فانطلقوا من خلال إيمانكم بالله ، واسألوا الله من فضله ، ليهيّئ لكم السبل التي قد تكون مغلقة ، ويثير أمامكم الفرص التي لا تكون متاحة ، فإنّ الله قد يتدخل ـ في بعض الحالات ـ للاستجابة لنداء عبده الحائر المحروم ، إذا عرف منه صدق النية والدعاء والعمل ...

وهذه هي القضية الثالثة في علاج هذه الحالة ، وهي أن يكون رد فعله ، إزاء ما يتطلع إليه من حياة الناس ، الرجوع إلى الله ، واللجوء إليه والاستعانة به ، والإيمان العميق بأنه صاحب الفضل الذي لا يمنع أحدا فضله ، لأنه الواسع القادر على كل شيء ، الذي وسعت رحمته كل شيء ، فلا تضيق عن أحد ، فكيف يفكر أحد أن يستعين بغيره ويلجأ إلى غيره ، أو يواجه الموقف بالتمنيات التي ستأكل قلبه وروحه من دون أن تحقق له أية نتيجة حاضرة أو مستقبلة؟ ولماذا يضيّق الإنسان المجال على نفسه ، في ما

٢١٩

هو من آفاق رحمة الله ، ما دامت واسعة تتحرك مع كل نبضة قلب تنبض بالإيمان ، ومع كل رفة فن تحرّك الدموع من خشية الله ، ومع كل خطوة يخطوها الإنسان في اتجاه الخير والمحبة والعطاء؟ فليفكر المؤمن أن تبقى النعم لأصحابها ، وليسأل الله أن يعطيه من فضله الواسع ما يوازي هذه النعم أو يزيد عليها ، من دون أن ينقص من الآخرين أيّ شيء.

* * *

تأكيد القرآن على النظر الإيجابي والدافعي في الحياة

وهكذا يقرّر الله للإنسان الخط الواضح في نظرته إلى اختلاف المواقع في الحياة ، فلا يتعقّد أمام ذلك في نظرة سلبية يائسة خانقة ، بل يعمل على أن يجعل نظرته إيجابية منفتحة ، تبحث ـ في وعي عميق ـ عن الأسباب الطبيعية الكامنة خلف ذلك كله ، من خلال السنن الكونية التي أودعها الله في حركة الحياة والإنسان ، من خلال ما تلتقي به من نتائج التفاضل في المواقع والكائنات والناس ، انطلاقا من الحكمة الإلهية التي تريد أن تجعل من هذا التنوع مظهرا لحيوية الحياة التي توحي بالتنافس الذي يؤدّي إلى التقدم ، من خلال تفجير الطاقات المبدعة في حالات الصراع ، مع تحريك الفرص في اتجاهات متنوعة لجميع الناس ؛ فإذا واجهنا حالات غنى تقدم للغنيّ فرصة الحصول على رغباته من هذه الناحية ، فإننا نواجه ـ معها ـ فرصة ذكاء تقدم للفقير فرصة أخرى تحقق له مجالات التقدم من ناحية ثانية ؛ وبذلك يتحقق التعادل في مجالات الإحساس بالسعادة والشقاء ، فليس هناك سعادة مطلقة ، وليس هناك شقاء مطلق ، ولكن ذلك كله لا يمنع من أن تتحرك الرسالات التي أرادها الله على أساس المساواة بين الحقوق والواجبات ، فيعطي لكل طاقة فرصتها في النمو والتكامل ، ويعطي لكل إنسان نتيجة عمله ، ولكل

٢٢٠