تفسير من وحي القرآن - ج ٧

السيد محمد حسين فضل الله

أو أريد به الجلد المذكور في الآية الثانية من سورة النور ، لا يتلاءم مع عقوبة الرجم التي تمثل الإعدام ، وهذا ما جاء في البحار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) قال : يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب (فَآذُوهُما) ، قال : تحبس (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١).

* * *

٣ ـ ربما نستوحي من كلمة (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أن العاصي إذا تاب وأصلح أمره فلا بد من إهمال الحديث عن معصيته وقبول توبته اجتماعيا ، باعتبار قبول الله توبة التائب ، فلا يجوز تذكيره بها وتعبيره بنتائجها لتكون عنوانا لشخصيته في الواقع الاجتماعي بحيث يرفضه الناس من خلال تاريخه السّيئ ، فإن الله إذا عفا عنه وأسقط حقه بالتوبة والإصلاح ، فعلى الناس أن يمتنعوا عن الإساءة إليه ، بل لا بد من أن يعتبروا ذلك بمنزلة العدم ، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

وهكذا إذا طبّق عليه الحكم الشرعي بالجلد أو نحوه وتاب منه بعد ذلك فإن على الناس أن لا يثيروا ذلك في أحاديثهم عنه ، بل يتناسوه ليشجعوه على الاستمرار في خط التوبة بالتأكيد على الواقع الجديد الصالح الذي تحوّل إليه.

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ٢٧ ، ج : ٧٦ ، ص : ٥٧٠ ، باب : ٧٠ ، رواية : ٣٩.

١٤١

٤ ـ هل الآية منسوخة؟

جاء في مجمع البيان : حكم هذه الآية منسوخ عند جمهور المفسرين وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام، وقال بعضهم إنه غير منسوخ ، لأن الحبس لم يكن مؤبدا ، بل كان مستندا إلى غاية ، فلا يكون بيان الغاية نسخا له ، كما لو قالوا افعلوا كذا إلى رأس الشهر ، وقد فرّق بين الموضعين ، فإن الحكم المعلّق بمجيء رأس الشهر لا يحتاج إلى بيان صاحب الشرع ، بخلاف ما في الآية (١).

وقد ذكر الأستاذ المحقق السيد أبو القاسم الخوئي (قدس‌سره) في كتابه «البيان في تفسير القرآن» في بحث «النسخ في القرآن» ، بعد إشارته إلى ما ذكره الجصاص في أحكام القرآن أن الأمة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين ـ (في الآيتين) ـ عن الزانيين ما هذا نصه : «والحق أنه لا نسخ في الآيتين جميعا ، وبيان ذلك : أن المراد من لفظ الفاحشة ما تزايد قبحه وتفاحش ، وذلك قد يكون بين امرأتين فيكون مساحقة وقد يكون بين ذكرين فيكون لواطا ، وقد يكون بين ذكر وأنثى فيكون زنى ، ولا ظهور للفظ الفاحشة في خصوص الزنى لا وضعا ولا انصرافا ، ثم إن الالتزام بالنسخ في الآية الأولى يتوقف :

أوّلا : على أن الإمساك في البيوت حدّ لارتكاب الفاحشة.

ثانيا : على أن يكون المراد من جعل السبيل هو ثبوت الرجم والجلد ، وكلا هذين الأمرين لا يمكن إثباته ، فإن الظاهر من الآية المباركة أن إمساك المرأة في البيت إنما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرّة ثانية ، وهذا من قبيل دفع المنكر ، وقد ثبت وجوبه بلا إشكال في الأمور المهمة كالأعراض

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٣٤.

١٤٢

والنفوس ، والأمور الخطيرة ، بل في مطلق المنكرات على قول بعض ، كما أن الظاهر من جعل السبيل للمرأة التي ارتكبت الفاحشة هو جعل طريق لها تتخلص به من العذاب ، فكيف يكون منه الجلد والرجم ، وهل ترضى المرأة العاقلة الممسكة في البيت مرفهة الحال أن ترجم وتجلد؟ وكيف يكون الجلد أو الرجم سبيلا لها ، وإذا كان ذلك سبيلا لها ، فما هو السبيل عليها؟

وعلى ما تقدم ، فقد يكون المراد من الفاحشة خصوص المساحقة ، كما أن المراد بها في الآية الثانية خصوص اللواط ، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى ، وقد يكون المراد منها ما هو أعم من المساحقة والزنى ، وعلى كلا هذين الاحتمالين ، يكون الحكم وجوب إمساك المرأة التي ارتكبت الفاحشة في البيت حتى يفرّج الله عنها ، فيجيز لها الخروج إما للتوبة الصادقة التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة مرة ثانية ، وإما لسقوط المرأة عن قابلية ارتكاب الفاحشة لكبر سنّها ونحوه ، وإمّا بميلها إلى الزواج وتزويجها برجل يتحفظ عليها ، وإما بغير ذلك من الأسباب التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة. وهذا الحكم باق مستمر ، وأمّا الجلد أو الرجم ، فهو حكم آخر شرّع لتأديب مرتكبي الفاحشة ، وهو أجنبيّ عن الحكم الأول ، فلا معنى لكونه ناسخا له.

وبتعبير آخر : إن الحكم الأول شرّع للتحفّظ عن الوقوع في الفاحشة مرّة أخرى ، والحكم الثاني شرّع للتأديب على الجريمة الأولى وصونا لباقي النساء عن ارتكاب مثلها ، فلا تنافي بين الحكمين لينسخ الأول بالثاني. نعم ، إذا ماتت المرأة بالرجم أو الجلد ، ارتفع وجوب الإمساك في البيت لحصول غايته ، وفي ما سوى ذلك ، فالحكم باق ما لم يجعل الله لها سبيلا.

وجملة القول : إن المتأمل في معنى الآية لا يجد فيها ما يوهم النسخ ، سواء في ذلك تأخر آية الجلد عنها وتقدمها عليها.

١٤٣

وأما القول بالنسخ في الآية الثانية فهو أيضا يتوقف :

أوّلا : على أن يراد من الضمير في قوله تعالى : (يَأْتِيانِها) الزنى.

ثانيا : على أن يراد بالإيذاء الشتم والسب والتعيير ونحو ذلك ، وكلا هذين الأمرين ـ مع أنه لا دليل عليه ـ مناف لظاهر الآية.

وبيان ذلك : أن ضمير الجمع المخاطب قد ذكر في الآيتين ثلاث مرات ، ولا ريب أن المراد بالثالث منها هو المراد بالأولين ، ومن البيّن أن المراد بهما خصوص الرجال. وعلى هذا ، فيكون المراد من الموصول رجلين من الرجال ، ولا يراد منه ما يعمّ رجلا وامرأة ، على أن تثنية الضمير لو لم يرد منه الرجلان ، فليس لها وجه صحيح ، وكان الأولى أن يعبر عنه بصيغة الجمع ، كما كان التعبير في الآية السابقة كذلك. وفي هذا دلالة قوية على أن المراد من الفاحشة في الآية الثانية هو خصوص اللواط لا خصوص الزنى ، ولا ما هو أعم منه ومن اللواط ، وإذا تمّ ذلك ، كان موضوع الآية أجنبيا عن موضوع آية الجلد.

وإذا سلّمنا دخول الزاني في موضوع الحكم في الآية ، فلا دليل على إرادة نوع خاص من الإيذاء الذي أمر به في الآية ، عدا ما روي عن ابن عباس أنه التعيير وضرب النعال ، وهو ليس بحجة ليثبت به النسخ ، فالظاهر حمل اللفظ على ظاهره ، ثم تقييده بآية الجلد ، أو بحكم الرجم الذي ثبت بالسنّة القطعية.

وجملة القول : أنه لا موجب للالتزام بالنسخ في الآيتين ، غير التقليد المحض ، أو الاعتماد على أخبار الآحاد التي لا تفيد علما ولا عملا» (١).

ونلاحظ على كلام سيدنا الأستاذ (قدس‌سره) ، أن استظهاره من الآية

__________________

(١) الخوئي ، أبو القاسم ، البيان في تفسير القرآن ، دار الزهراء ، ط : ٦ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ص : ٣١٠ ـ ٣١٣.

١٤٤

المباركة الأولى أن إمساك المرأة في البيت إنما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرة ثانية ، غير واضح من حيث مدلولها ، بل قد تكون ظاهرة في العقوبة بالسجن المؤبد في البيت ، لأنه ليس من الطبيعي أن يكون إبعادها عن الفاحشة بهذه الطريقة ، إذ ليس من الضروري أن تكون هذه المرأة الزانية قد تحولت المعصية لديها إلى حالة متجذرة في الذات ومستمرّة في حركة سلوكها ، بل قد يكون الزنى حالة طارئة جديدة في حياتها ؛ الأمر الذي يمكن فيه نهيها عنه بالوسائل العادية للنهي عن المنكر.

أما ملاحظته حول جعل السبيل ، فإننا قد نتفق معه في رفض اعتبار الرجم أو الجلد سبيلا ، على أساس تفسير السبيل بالحلّ الذي يتخلص به من هذا السجن المؤبد ، ولكن من الممكن أن يكون المقصود منه الوسيلة التي يمكن لها فيه أن تنال عقوبتها ، كالجلد الذي اقتصر القرآن عليه ، «لأن الرجم ثبت بالسنة» ، فتملك بذلك حريتها في الحركة وتتخلص من سجنها ، وهذا هو الذي تؤيده الرواية التي جاءت عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما رواه صاحب مجمع البيان حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حسب الرواية ـ : قد جعل الله لهن سبيلا عند نزول آية (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي). وعلى ضوء هذا فيمكن أن يكون الحكم المذكور في هذه الآية منسوخا كما عبر به الطبرسي في مجمع البيان (١) ، بلحاظ أن الحكم بالإمساك بالبيوت قد ارتفع بآية النور وليس المراد بالنسخ المعنى المصطلح.

وبهذا تكون الآية واردة لبيان حكم النساء بقطع النظر عن الرجال. أمّا الآية الأخرى ، فقد تكون متعرضة لحكم الطرفين الرجل والمرأة ، وهذا هو سر التثنية ، ويكون الحديث عن الإيذاء حديثا عاما لا اختصاص له بما ذكره المفسرون ، وكأنه إشارة لما جاء في سورة النور ، والله العالم.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٣٤.

١٤٥

الآيتان

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٨)

* * *

معاني المفردات

(بِجَهالَةٍ) : الجهل مقابل العلم. قال الراغب : الجهل على ثلاثة أضرب ، الأول : خلو النفس من العلم ، وهذا هو الأصل ، والثاني : اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه ، والثالث : فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل ، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا.

وقد اختلف في معنى الجهالة في الآية ، كما سيأتي ، والأقرب أنها السفاهة ، فتشمل كل أولئك الذين ينحرفون عن الخط جهلا أو عملا من دون وعي عمليّ داخليّ للنتائج والعواقب.

(مِنْ قَرِيبٍ) : قبل أن يدهمهم الموت فيلاقوه وجها لوجه ، لأنّ التوبة

١٤٦

حال الاحتضار لا تعبّر عن موقف واع وإرادة حرّة ، بل هي تعبير العلم عن حالة تخلص من المأزق الصعب وهروب من حراجة الموقف.

* * *

لمن التوبة؟

للتوبة ـ في المفهوم الإسلامي القرآني ـ معنى العمق الإيماني في الانفتاح على الله بالعودة إليه ـ في حالة الخطيئة ـ بالإحساس العميق بالندم على التمرّد العملي على أوامره ونواهيه ، والإرادة القوية الواعية في تغيير المسار من خط الانحراف إلى خط الاستقامة ، ومن تحويل الموقف من واقع المعصية إلى واقع الطاعة في روحية إيمانية تتمثل الإخلاص في العلاقة بالله.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) الذي يتقبل التوبة عن عباده مما فرضه لهم من الحق في قبولها بالعفو عن الخطيئة وغفران الذنب وإدخالهم في رحمته من جديد ، (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) الذنب (بِجَهالَةٍ) بالسير في خط الانحراف عن خطه المستقيم انطلاقا من خلل في التصور ، أو في تقدير الأمور ، أو في حسابات الربح والخسارة ، أو غفلة عن النتائج السلبية على قضية المصير الأخروي ، أو الخضوع لسلطان الشهوة تحت تأثير النفس الأمارة بالسوء مما يدخل في عنوان «السفاهة» العقلية أو العملية في غياب الوعي الصافي الذي ينظر إلى الأمور بوضوح ويتحرك معها باتزان ، (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) قبل أن يعاينوا الموت ، وذلك في الحالة التي يملكون فيها التراجع عن الانحراف ، لأن الساحة تحمل الكثير من الفرص للتغيير ، لأن التوبة في مثل هذه الحالة تعني وعي خطورة الخطيئة وإرادة العودة الواعية إلى الله ، مما يوحي بأن هذا الإنسان يتحرك في نطاق العودة إلى معنى إيمانه في حركة الطاعة لله.

وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بقوله (مِنْ قَرِيبٍ) الزمان القريب من وقت حصول المعصية ، فيكون المعنى التوبة الفورية والندم السريع ، لأن

١٤٧

ذلك هو الذي يمنع من زوال أثر المعصية من النفس وعدم تجذّرها في عمق الشخصية ، فتكون الآية واردة على سبيل الإيحاء بالتوجيه الإلهي بضرورة السرعة في التوبة ، فإنها أقرب إلى القبول ، ولا يمنع ذلك من قبول التوبة بعد مرور زمان على المعصية ، باعتبار أنه يؤدي دورا مهما في تصحيح المسار ، لكن الحالة الأولى أقرب إلى الاستقامة.

(فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) من موقع رحمته التي تتسع للخاطئين التائبين الذين ابتعدوا عنه بفعل نقاط الضعف التي سيطرت على شخصياتهم وأرادوا العودة إليه ، بفعل التمرد على الضعف في اتجاه الانفتاح على القوة ، لأن الله يريد أن يمنح الإنسان الفرصة في كل وقت لتحويل نقاط الضعف في ذاته إلى نقاط قوة ، فإن ذلك يوحي بأن هذا الإنسان قد بدأ الرحلة الجديدة إلى الله في عملية إخلاص وتوحيد.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) بالواقع الإنساني الذي تختبئ الغرائز في داخله لتقود كل حركته وتتحرك النوازع في حياته لتوجه هذه الغرائز إلى دائرة الانحراف ، مما يجعل للإنسان بعض العذر في خطاياه تحت تأثير الضغوط الداخلية والخارجية ، الأمر الذي يريد الله فيه أن يساعده على الوقوف في خط المواجهة والانتصار على الذات.

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ويستغرقون فيها ويخلدون إلى الأرض في غفلة مستمرة لا تدع مجالا لأيّ تغيير في الداخل وتمرّد على أيّة حالة من حالات التوعية واليقظة الروحية ، لأن المسألة عندهم هي أن يعيشوا العمر في دائرة الشهوات والأطماع والملذات والأنانيات بعيدا عن أية رسالة وعن أيّة عودة إلى الله وإنابة إليه ورغبة في الحصول على رضوانه ، فهم سادرون في غيّهم ، مصرّون على خطاياهم ، متمردون على ربهم ، غافلون عن آخرتهم وعن النتائج المهلكة التي يواجهونها هناك ، فلا يفكرون في توبة ولا يعملون للتراجع عن الذنب ، (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ)

١٤٨

وعاين الأهوال القادمة ورأى تهاويل الواقع الجديد ، وعرف أن الفرصة قد انتهت ، وأنه يدخل في عالم جديد يواجه فيه نتائج أعماله ، ويقدّم فيه حساب عمره كله ، (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) كوسيلة من وسائل التجربة في الخروج من المأزق والتعبير عن الإحباط ، فلم تكن المسألة لديه مسألة وعي وإرادة للتغيير ، لأن الوقت قد ذهب ، بل هي مسألة اضطرار خائف لا عمق له في الاختيار. (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فلم يأخذوا من الإيمان بأيّ سبب في كل مجالات حياتهم مع قيام الحجة عليهم في ذلك كله ، (أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) في الدنيا والآخرة جزاء لتمردهم على الله في الخط الفكري والعملي.

وهكذا أراد الله التوبة لعباده رحمة بهم ، وتشجيعا لهم على التراجع عن مواقف الخطأ من موقع الإرادة الواعية المسؤولية ، لينفصلوا بذلك عن الأجواء المنحرفة في كل ما تحتويه من مشاعر وأحاسيس وعلاقات وظروف ونزوات ونزعات ، فيقف الإنسان موقف المتأمل الذي يحسب حساب ذلك كله في جميع نتائجه وآثاره ، بعيدا عن كل الضغوط الحسية والمعنوية ؛ فيفكر كيف يستقبل عواقب ذلك بوعي ومسئولية. وعلى ضوء ذلك ، كان لا بد للتوبة من وعي للموقف ومن إرادة للتغيير ؛ فينطلق الإنسان ليدخل في عملية مقارنة بين المبادئ التي يؤمن بها ، من خلال ما يمثله إيمانه بالله وطاعته له ، من تخطيط للعمل في صعيد الواقع ، وبين الممارسات القلقة المنحرفة التي تحرّكت في واقع حياته العملية. وهنا تبدأ عملية الشعور بالضغط الروحي الذي يثير في داخله الإحساس بالندم ، في حركة المسؤولية في فكره وضميره ، وتتحرك إرادة التحول والتغيير في داخل نفسه. ولعلّ من البديهي أن يكون للإنسان امتداد في حياته العملية في المستقبل ، ليعيش هذا الوعي وهذه الإرادة ، وليتحقق له الصدق الواعي الحرّ. ولهذا جاءت هاتان الآيتان لتجيبا عن السؤال : «لمن التوبة»؟

وكان الجواب ، حديثا عن نموذجين من الناس ، فهناك النموذج الذي

١٤٩

عمل السوء بجهالة ، وربما كانت كلمة الجهالة تعطي معنى عدم العلم ، وربما كانت تعبر عن السفاهة وعدم الوعي وعدم المسؤولية ، على أساس أن العلم الذي لا يترك تأثيره في عملية الوعي الداخلي لا يبتعد عن الجهل في طبيعة النتائج السلبية.

وقد كثر في القرآن ، وفي غيره ، استخدام كلمة الجهالة للتعبير عن ذلك ؛ بل ربما قال بعض العلماء : إن كلمة الجهالة ، تعني السفاهة بشكل أساسي. وربما كان هذا المعنى هو الأقرب للفكرة التي تعالجها الآية ، لأن التوبة لا تنحصر بأولئك الذين يعصون الله عن غير علم بما يفعلون ، بل تشمل كل أولئك الذين ينحرفون عن الخط جهلا أو عمدا ، من دون وعي عمليّ داخليّ للنتائج ، بالمستوى الذي يحرك الإحساس والشعور ، ويحوّل المعرفة إلى حالة شعورية داخلية قوية. فقد فتح الله لكل أولئك باب التوبة ، إذا تراجعوا عن انحرافهم وتابوا عن قريب ، أي قبل أن يدهمهم الموت فيلاقوه وجها لوجه ، فإن التوبة تمثّل ـ في مثل هذا النموذج ـ الموقف الذي يعبّر عن يقظة الإيمان داخل النفس وحركته في آفاق الضمير ، وينطلق بالإنسان في عملية التغيير ، لأن الساحة الزمنية المفتوحة أمامه تترك له المجال لتجربة جديدة وعمل جديد من أجل التصحيح والتقويم. وهؤلاء الذين يمارسون موقف التوبة في هذا الاتجاه ، هم الذين يتقبل الله توبتهم ويفتح لهم باب رحمته ومغفرته ، على أساس علمه بهم وبمنطلقاتهم وتطلعاتهم ، من خلال ما تقتضيه الحكمة من إفساح المجال للإنسان الذي يعيش حركة التجربة في حياته بين الخطأ والصواب أن يبدأ عملية التصحيح في كل فرصة مناسبة لذلك.

وهناك النموذج الذي تمتد به المعصية في نطاق التمرد في عمر الزمن ؛ فهو لا يفكر ـ أبدا ـ أن يتوقف ما دامت الحياة مفتوحة ، والفرصة متاحة له ، لأن القضية عنده ـ في كل طموحاته ـ هي إرواء شهواته وتحقيق

١٥٠

مطامعه الذاتية ، أمّا حسابات الله والدار الآخرة ، فهي مؤجّلة دائما ، بل ربما كانت من الأمور الثانوية المفعول عنها التي لا يدخلها في حسابه ، حتى إذا واجه الموت وضاقت عليه نواحي الحياة قال : (إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) ولكنها ليست توبة ، بل هي محاولة هروب من حراجة الموقف بالانطلاق بالكلمة السريعة التي يواجه بها الكثيرون من الناس المواقف الصعبة ، من أجل أن يتخففوا بذلك من حراجة المشكلة ؛ ثم يرجعون عنها إذا كان هناك مجال للرجوع. وبذلك لا تكون هذه الكلمة تعبيرا عن موقف وعي ، وإرادة تغيير ، بل تكون تعبيرا عن حالة تخلّص من المأزق الصعب. ويتمثل هذا النموذج في نوعين من الناس : المؤمنين الذين يعيشون الإيمان فكرا بعيدا عن الممارسة ، والكافرين الذين يواجهون الموت بالكفر ، من دون عمق في الفكر والشعور وامتداد في مجال الالتزام والممارسة. وقد أكّدت الآية أن هؤلاء لا تقبَل توبتهم بل ينتظرهم العذاب الأليم.

* * *

وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر خطبة خطبها : من تاب قبل موته بسنة ، تاب الله عليه. ثم قال : إن السنة لكثيرة ، من تاب قبل موته بشهر ، تاب الله عليه. ثم قال : إن الشهر لكثير ، ومن تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه ، ثم قال : إن الجمعة لكثيرة ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه. ثم قال : إن يوما لكثير ، ومن تاب قبل موته بساعة ، تاب الله عليه. ثم قال : وإن الساعة لكثيرة ، ومن تاب وقد بلغت نفسه هذه ـ وأهوى بيده إلى حلقه ـ تاب الله عليه (١).

وسئل الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)

__________________

(١) الفقيه ، ج : ١ ، ص : ١٣٣ ، رواية : ٣٥١.

١٥١

قال : ذلك إذا عاين أمر الآخرة (١). ويقول صاحب الميزان ـ تعليقا على ذلك ـ : «والرواية الثانية تفسير الآية وتفسّر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت ، بأن المراد من حضور الموت ، العلم به ، ومشاهد آيات الآخرة ، ولا توبة عندئذ. وأما الجاهل بالأمر ، فلا مانع من قبول توبته» (٢).

وما استوحيناه من الآية أن المقصود بها التوبة التي تعبير عن موقف وعي ، وإرادة تغيير في ما ينتظره الإنسان من الساحة الجديدة الزمنية التي تتحرك فيها خطواته العملية في المستقبل. ولن يكون ذلك إلا في المجال الذي ينتظر فيه المستقبل في انطلاقات الأمل الكبير بالحياة ؛ وفي ضوء ذلك ، لا تكون أمثال هذه الروايات بعيدة عن الجو العام للآية.

* * *

التوبة في خط التربية الإسلامية

ومن خلال هذا العرض ، نستطيع اعتبار التوبة وسيلة عملية من وسائل التربية الروحية والعملية ، لأن الإنسان قد يعيش في أغلب مواقفه الوقوع في خطأ التجربة ، ويعاني من عقدة الشعور بالنقص أمام المنحدر السحيق الذي تقوده إليه أخطاؤه ؛ وربما يقوده ذلك إلى التعقيد الداخلي والضياع الروحي ، عند ما يصطدم بالحقيقة ويواجه النتائج الحاسمة وجها لوجه من دون أن يتمكن من تغيير الواقع ، فيبقى أسير عقدته ؛ ويتحول ذلك إلى موقف سلبي من الحياة والأشخاص من حوله نتيجة ما تثيره العقدة الداخلية من أحاسيس ومشاعر وتحرّكات وتعقيدات.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٤ ، ص : ٢٥٨.

(٢) (م. ن) ، ج : ٤ ، ص : ٢٥٨.

١٥٢

وجاءت التوبة الإلهية لتقول للإنسان ، بأن الخطأ حالة طبيعية في حياته ، انطلاقا من نوازع الضعف الكامنة في داخل نفسه ، التي قد يستسلم لها تارة ، وقد يتمرّد عليها أخرى ؛ فكان لا بد له من أن يسقط أمام حالات الضعف ... ولكن ليس معنى ذلك أنها ضريبة لازمة له ، لا يستطيع الفكاك منها والتحرّر من عبوديتها ، بل هي قضية طبيعية ، تماما كما هي الحالات الطبيعية العارضة للإنسان التي قد يحتاج إلى التعامل معها بفعالية ، ومعالجتها بحكمة وقوّة ، كما يحتاج إلى عدم مواجهتها باللامبالاة والسلبية والاستمرار في أجواء الضياع. وهكذا كانت التوبة من أجل مساعدة الإنسان على مواجهة المعصية والخطأ ، كحالة طارئة لتزول وتذهب وتذوب ، فلا تبقى في حياته كعقدة ، لتتجدد له مشاعر الثقة بإنسانيته وبقدرته على رد التحدي ، وممارسة التغيير ، والبدء من جديد ... فلا يبقى أسير العقدة ، بل يقف أمام الله بكل حرية الإرادة ، وإرادة التغيير ، في ثياب بيضاء ، وقلب مفتوح للحق والخير والأمل الكبير بالمستقبل الأبيض الذي يبدأ من جديد ، تماما كما لو لم يكن هناك أيّ ماض معقّد أسود ، لأن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» ، فيخرج منه كما ولدته أمه. وإذا تاب الله على الإنسان ، وعاش مشاعر التوبة ، وأحسّ باللطف الإلهي يغمره بالمغفرة والرضوان ... فإنه يعيش الشعور الملائكي الروحيّ في نفسه ، كما لو كان ملاكا يطير بجناحين من طهر ونقاء وفرح روحي كبير غامر ... فيتجدّد ويتحوّل إلى إنسان جديد يبدأ الحياة مع الله ، في انطلاقة عمر جديد.

وفي ضوء ذلك ، لن تكون التوبة ـ كما يخيّل للبعض ـ وسيلة من وسائل تشجيع الإنسان على الامتداد في الخطأ والاستغراق في الجريمة ، لأنه يجد في التوبة طريقة للهروب كلما أراد ذلك ؛ وهكذا حتى تكون حياته كلها جريمة وتراجعا ، الأمر الذي يجعل الشخصية الإنسانية في مستوى الميوعة

١٥٣

الروحية والأخلاقية ، باسم التصحيح والتراجع. وقد أوضحنا الموضوع ـ من خلال مفهومنا للآية ـ وقلنا بأن التوبة ليست حالة طارئة سريعة ، تتحرك في نطاق الممارسة الشكلية ، بل هي موقف وعي للمبادئ وإرادة للتغيير ، ومحاولة جادة لتركيز الشخصية على أساس متين ... مما يجعل من التصور الإنساني للمستقبل ، تصورا للموقف الجديد الثابت الممتد في كل خطوات الزمن. وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في دعاء التوبة ، في الصحيفة السجادية في مناجاته لله :

«اللهم أيّما عبد تاب إليك ، وهو في علم الغيب عندك فاسخ لتوبته وعائد في ذنبه وخطيئته ، فإني أعوذ بك أن أكون كذلك ؛ فاجعل توبتي هذه توبة لا أحتاج بعدها إلى توبة موجبة لمحو ما سلف والسلامة في ما بقي» (١).

ثم يؤكد التصميم على الثبات على التوبة ـ الموقف ـ فيعمل على الاستعانة بالله على أن يمنحه القوة للاستمرار على هذا الخط :

«اللهم ولا وفاء لي بالتوبة إلا بعصمتك ، ولا استمساك بي عن الخطايا إلا بقوتك ؛ فقوني بقوة كافية وتولني بعصمة مانعة» ...

وهذا ما أثارته الآيتان الكريمتان في تحديدهما للتوبة المقبولة وغير المقبولة ؛ والله العالم.

* * *

الذنب والبيئة

ربما يثير البعض أن الإنسان خاضع في أفعاله إلى المحيط الذي نشأ

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، ص : ١٨٨.

١٥٤

فيه ، والبيئة التي ترعرع فيها ، مما يجعل المؤثرات التي تدفعه إلى ممارسة الخطأ والخطيئة ضاغطة على إرادته بالدرجة التي لا يصدر العمل منه عن اختيار ، فإن الأب والأم والأقرباء والمدرسة والمجتمع والمناخ ونحوها تترك تأثيراتها في عناصر شخصيته فيتحرك من خلالها حركة لا إرادية ، ويبتعد بسببها عن خط الاستقامة ، لذا كيف يحكم عليه بالإساءة وكيف يتصف فعله بالذنب ليحتاج بذلك إلى التوبة التي تخلصه من غضب الله وعقابه ، وكيف يعاقبه الله على ما لا خيار له فيه؟

وإجابة عن ذلك نقول ، لا ريب أن للبيئة تأثيرا كبيرا على شخصية الإنسان ، وعلى طبيعة عناصره التي تمثل نقاط الضعف فيه ، ولكن البيئة لا تشل إرادته ، ولا تغلق عقله ، ولا تمنعه من حرية الحركة في مواجهة الأفكار ، والخيارات الأخرى ، التي يمكن أن تحرك فكره وتهز قناعاته وتدفعه إلى البحث والحوار مع الآخرين ، مما يمكنه من تجاوز المؤثرات البيئية إلى قضايا أخرى ، فيملك القدرة ـ بذلك ـ على الاختيار ويتحرر من ضغط الواقع.

وقد رأينا في صعيد الواقع أن هناك الكثير من الناس الذين عاشوا في بيئة صالحة تحوّلوا بفعل مؤثرات خارجية إلى أشخاص شريرين ، كما أن هناك الكثيرين من الذين عاشوا في بيئة فاسدة تحوّلوا بفعل التفكير الحرّ والحوار الهادف إلى أناس خيّرين ، بل رأينا البعض من هؤلاء الناس يتحركون للضغط على ظروفهم وتغيير الأوضاع من حولهم ، وتلك هي حركة الطليعة الواعية التي تنتج من الواقع الفاسد واقعا صالحا ومن قلب اليأس أملا ، ومن تهاويل الحزن فرحا كبيرا.

وإذا عرفنا أن الله خلق للإنسان عقلا متحركا لا يتجمد في حال بل ينفتح على أكثر من أفق رحب ، فإننا نعرف من خلال ذلك ، أن العقل هو

١٥٥

القوة التي تدفع الإنسان إلى التغيير من خلال إثارة الفكر المتنوّع من داخله وخارجه ، وعلى ضوء هذا يبقى الإنسان مع حرية الاختيار في فعل الحسن تارة والقبيح أخرى بفعل جهاد النفس ، حيث يتمرد على الضعف ويتغلب على الانحراف ، وهذا ما يدركه الإنسان بالحسّ والوجدان.

* * *

١٥٦

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢١)

* * *

معاني المفردات

(وَلا تَعْضُلُوهُنَ) : أي تضيّقوا عليهن لكي يتنازلن عن بعض حقهن من المهر لفكّ عقدة النكاح. وأصل العضل : الامتناع. ويستعمل في كل منع شديد ، ومنه المعضلة وهي الأمر العسير ، والداء العضال الذي يصعب برؤه.

(بِفاحِشَةٍ) : المراد بالفاحشة هنا : الزنى.

(قِنْطاراً) : مالا كثيرا. مأخوذ من القنطرة ، وقد مرّ سابقا في قوله

١٥٧

تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً).

(بُهْتاناً) : باطلا وظلما تبهتون به الزوجة وتحيّرونها ، والبهتان : ما بهت الإنسان وجعله متحيّرا ، ويغلب استعماله في الكذب الشنيع ، وقد استعمل هنا في الفعل الذي هو الإخلاص من المهر في ما يمثله من الباطل في العلاقات المالية.

(وَإِثْماً) : الإثم : اسم للأفعال المبطئة على الثواب ، قال الراغب : الإثم أعمّ من العدوان.

(أَفْضى) : اتّصل وخلا وكشف ، من الفضاء الذي هو المكان الواسع ، يقال : أفضى إليه بسرّه ، والآية تشير إلى ما أفضى كلّ من الزوجين إلى الآخر في المشاعر والعواطف والهموم ، فلا يقتصر على المعنى المادي الذي هو كما قيل ، كناية عن العلاقة الجنسية ، فكأن الزوج حين يباشر زوجته وسعها ووسعته إلى الحد الذي ليس بعده شيء.

(مِيثاقاً غَلِيظاً) : عهدا مؤكدا.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول للواحدي بسنده إلى ابن عباس قال في سبب نزول هذه الآية : «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوّجها ، وإن شاؤوا زوّجوها ، وإن شاؤوا لم يزوّجوها وهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية في ذلك. رواه البخاري في التّفسير ، عن محمد بن مقاتل ، ورواه في كتاب الإكراه ، عن حسين بن منصور ، كلاهما

١٥٨

عن أسباط.

قال المفسرون : كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة ، جاء ابنه من غيرها أو قرابته من عصبته ، فألقى ثوبه على تلك المرأة ، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره ، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق ، إلا الصداق الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ، وإن شاء عضلها وضارّها لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت هي فيرثها. فتوفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية ، فقام ابن له من غيرها يقال له محصن ، ـ وقال مقاتل : اسمه قيس بن أبي قيس ـ ، فطرح ثوبه عليها ، فورث نكاحها ، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها لتفتدي منه بمالها ، فأتت كبيشة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله : إن أبا قيس توفي وورث ابنه نكاحي ، وقد أضرّني وطوّل عليّ فلا هو ينفق عليّ ، ولا يدخل بيّ ، ولا يخلّي سبيلي ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله ؛ قال : فانصرفت وسمعت بذلك النساء في المدينة فأتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقلن : ما نحن إلا كهيئة كبيشة غير أنه لم ينكحنا الأبناء ونكحنا بنو العم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية» (١).

وجاء في مجمع البيان عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام ما مفاده أن الآية نزلت في الذين يحتفظون بزوجاتهم من دون أن يعاملوهن كالأزواج في انتظار أن يمتن ، فيأخذوا أموالهن من بعد وفاتهن (٢).

* * *

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٨١ ـ ٨٢.

(٢) انظر مجمع البيان ، ج : ٣ ، ص : ٣٩.

١٥٩

الإسلام يضع الحدود للزوج في حقوق الزوجة

في هذه الآيات حديث عن التشريع الذي يريد الإسلام من خلاله أن يحدّد للرجل المؤمن حدود العلاقة الإنسانية الإسلامية ، التي تربطه بالمرأة ، في الجانب المادي من الالتزامات المالية في إطار الرابطة الزوجية وغيرها ... فلا يكون ضعف المرأة أساسا لحرمانها من حقها ، ومبررا لاضطهادها في ما فرضه الله لها. فإن الإيمان يمنع المؤمن من الانطلاق في استغلال حالة القوة والضعف لحسابات النوازع الذاتية ، ويدفعه إلى الوقوف مع خط العدل من دون مراعاة لأية حسابات أخرى ، لتنمو الشخصية الإيمانية على أساس المبادئ والقيم الروحية الإلهية التي تحمي الإنسان من شهواته ، وتحمي الآخرين الضعفاء من انحراف قوّته. وهذا هو السبيل القويم الذي يبني ، من خلاله الإسلام ، أسس الأمن الاجتماعي لدى الحاكم والمحكوم في حركة العلاقات الإنسانية ، لأن الرادع الداخلي هو القوة الحقيقية التي يرتكز عليها الرادع الخارجي ، في ما يخطط له الإسلام من وسائل الردع المتنوعة في القانون.

وقد استطاعت هذه التربية أن تتغلّب على كثير من مظاهر الظلم الذي عاشته المرأة من قبل الرجل في حقوقها المادية والمعنوية ... من خلال ما درجت عليه تقاليد الجاهلية ، من احتقار لها ، واضطهاد لإنسانيتها ، واعتبارها كمية مهملة ومتاعا رخيصا كبقية متاع البيت الذي ينتقل بالإرث من دون أن يملك لنفسه أية إرادة للقبول أو الرفض في شؤونه الخاصة .. ، وبدأ الإنسان المسلم ينظر إلى المرأة كإنسان سويّ كامل ، له حقوق وعليه واجبات ، على أساس حدود الله في أوامره ونواهيه.

وقد بدأت هذه الآيات بالنداء الذي يستثير الإيمان في نفوس

١٦٠