تفسير من وحي القرآن - ج ٧

السيد محمد حسين فضل الله

ومساكينهم الذين يأملون في اجتماعهم حول الورثة منحهم شيئا من التركة بنحو الإحسان ، (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي من المال الموروث.

وقد اختلف الرأي في المخاطبين بهذا الأمر ، فقيل : إن المخاطبين بذلك هم الورثة الذين يريد الله منهم أن يرزقوا هؤلاء الفقراء من الأقرباء واليتامى والمساكين شيئا من نصيبهم صدقة وإحسانا. وقيل إن المخاطبين الناس الذين تحضرهم الوفاة فيجتمع حولهم هؤلاء ممن لا نصيب لهم في الميراث ليوصوا لهم بشيء من التركة ، فأراد الله لهم منهم القيام بالإيصاء إليهم ، والظاهر أن الوجه الأول أقرب للسياق لأن الحديث يتركز في حالة حضورهم قسمة التركة. وهذا مما لا يتناسب مع الوجه الثاني لأن حالة الاحتضار ليست حالة القسمة ، حتى لو كان الميت يريد الوصية لبعض الناس ، فهو لا ينطبق عليه عنوان القسمة الواردة في حالة الشركة الحاصلة بعد الموت من خلال الإرث. (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) وذلك بالكلمة الطيبة التي لا ترهق كرامتهم ولا تسيء إلى إنسانيتهم لأن الله لا يريد للناس الإساءة إلى هذه الفئات المحرومة بالقول وبالعمل.

أما الآية الثانية ، فقد عالجت بعض الحالات القلقة ، عند ما يترك بعض الناس أولادا صغارا ضعافا ؛ وربما يستغلّ الأولياء السلطة على الأولاد بطريقة سيئة فيسيئون إليهم ، ويواجهونهم بالقهر والقسوة والإذلال ، ويتصرفون في أموالهم تصرفا غير شرعي ، فجاءت هذه الآية لتعالج هذه الناحية من موقع إثارة العاطفة الذاتية في ما يمكن للإنسان مواجهته في هذه التجربة في أولاده الذين قد يتركهم للآخرين ، وهم ذرية ضعاف ، كما ترك الآخرون ذريتهم له ، فإذا أحسن التصرف مع أولاد الآخرين ، كان ذلك موجبا لإحسان الآخرين لأولاده من بعده ، وإذا أساء ، كانت النتيجة إساءة لعقبه من بعده. وقد أجملت الآية المسألة بكلمتين : التقوى ، التي تمثل

١٠١

الممارسة العملية على خط الله ؛ والقول السديد ، الذي يمثل الكلمات الطيبة الصادقة في التوجيه والإحسان.

* * *

الانحراف لدى الأفراد قد يتحول إلى انحراف عام

وقد أثار بعض الناس سؤالا : إذا أساء إنسان ما التصرف في أولاد الآخرين ، فما ذنب عقبه ، ليبتليه الله بأناس يسيئون التصرف معهم من بعده ، والله يقول : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الأنعام : ١٦٤]؟

والجواب عن ذلك : أن المسألة تنطلق من قاعدة اجتماعية ، وهي أن السلوك المنحرف من بعض أفراد المجتمع ، في موقع من المواقع ، يتحول تدريجيا إلى وضع اجتماعي عام ، قد ينقلب عليه أو على من يتعلق به في نهاية المطاف ، كما أن السلوك الجيد المستقيم يتحرك في خط المصلحة له ولمن بعده ، من خلال النتائج الإيجابية التي يحققها للمجتمع ككل. وربما كان هذا هو المعنى الذي نستوحيه من قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [الأنفال : ٢٥]. والحديث المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لتأمرن بالمعروف ، ولتنهنّ عن المنكر ، أو ليسلطنّ الله شراركم على خياركم ، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم» (١). فإن طبيعة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تؤدي إلى تسلّط الأشرار

__________________

(١) البحار ، م : ٣٢ ، ج : ٩٠ ، ص : ٤٦٥ ، باب : ٢٥٢ ، رواية : ٢١.

١٠٢

على الأخيار ، لامتداد الشرّ ، بامتناع الناس من الوقوف بوجهه وملاحقته ؛ واستسلامهم للأمر الواقع ، فيتحوّل الأشرار إلى قوّة في المجتمع ، ويعيش الأخيار في مراكز الضعف.

وقد جاء في الحديث الشريف عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في الوجه الإيجابي من المسألة : «وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم ...» (١). فإن رعاية الأيتام من قبلنا يترك تأثيره على المجتمع ، ليعود ـ بعد ذلك ـ في حجم الظاهرة الاجتماعية التي نستفيد منها ـ في نهاية المطاف ـ في أنفسنا وأولادنا. وربما نستوحي ذلك من الكلمة المأثورة : «كما تكونون يولّى عليكم» ، فإن المجتمع إذا كان خيرا ، فإن الولاة سوف يخرجون إلى الولاية متّسمين بأخلاق المجتمع وصفاته الحسنة ؛ أما إذا كان شريرا ، فإن أخلاق الشر هي التي تصبغ شخصيتهم ، فيسيئون إلى المجتمع من خلال الجو الذي شارك في تربيتهم السلبية ؛ فإن شخصية القيادة هي غالبا النتيجة الطبيعية للواقع الاجتماعي في المفاهيم والتربية والأوضاع ، وبهذا نفهم هذه الآية الكريمة ، على أساس أن السلوك المنحرف في أيتام الآخرين يوحي للمجتمع بالسير في هذا الاتجاه ، لأن الخطوة الأولى من شخص أو أشخاص تتبعها خطوة أو خطوات من غيره ، فليتقوا الله في ذلك من موقع المسؤولية من جهة ، ومن موقع الشعور العاطفي تجاه ذريتهم ؛ وليقدّموا العمل الإيجابي من خلال الاهتمام والتحنّن على أيتام الآخرين ، لينعكس ذلك على تصرف الآخرين تجاه أيتامهم في المستقبل ، لما يحققه ذلك من وضع اجتماعي منسجم وشامل في نهاية المطاف.

__________________

(١) (م. س) ، م : ٣٤ ، ج : ٩٣ ، ص : ٢١٨ ، باب : ٤٦ ، رواية ٢٥.

١٠٣

اتقوا الله في اليتامى

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) ليفكر هؤلاء الذين يتولون شؤون الأيتام ممن قد تدفعهم النفس الأمارة بالسوء إلى الخيانة في أموالهم والإساءة إلى مشاعرهم وتحطيم نفسياتهم بالتعسف والقسوة ، ماذا لو فارقوا الحياة وخلفوا وراءهم أيتاما ضعافا لا يملكون أيّ عنصر من عناصر القوة الذاتية في حماية أنفسهم وأموالهم؟ ألا يخشون على مستقبلهم ويعيشون القلق عليهم والخوف من إهمال الآخرين من الأولياء لهم وأكلهم لأموالهم مما يجعلهم في قبضة الضياع والفساد؟ فإذا كانوا يعيشون هذا الهاجس النفسي ـ وهم أحياء ـ فإن عليهم أن يتصوروا واقع الأيتام في ولايتهم ممن فقدوا رعاية الآباء فيعيشوا الرحمة لهم والعطف عليهم والتوفر على رعايتهم وحفظ أموالهم من أنفسهم ومن غيرهم ، فإن للقضية بعدين.

البعد الأول : هو مسئوليتهم الشرعية الإنسانية عنهم باعتبار ارتباط حياتهم في حركة طفولتهم في اتجاه المستقبل بمسؤوليتهم أمام الله والناس مما يجب عليهم القيام بها بكل أمانة وإخلاص.

البعد الثاني : أن سلوكهم في اتجاه الأمانة في العناية بالأيتام يتحوّل ـ بانضمام أولياء الآخرين إلى ذلك ـ إلى سنّة اجتماعية تترك نتائجها الإيجابية على الواقع كله فيمتد إلى أيتامهم في المستقبل في رعاية الآخرين لهم ، تماما كما هي السنّة الحسنة التي يبدأ الإنسان في السير وفقها فيستفيد منها في القضايا المنفتحة عليها. (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في هذه الأمانة الإلهية التي حمّلهم الله مسئولياتها وليراقبوه في ذلك كله إذا دعتهم النفس الأمارة بالسوء إلى الخيانة ، ووسوس لهم الشيطان باستغلال قدرتهم الذاتية على التصرف

١٠٤

المطلق في أموال اليتيم ليدفعهم إلى أكلها بدون حق ، (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) منفتحا على البرنامج الشرعي في التجربة العملية والانفتاح الواعي ، والعاطفة النقية والكلمة الطيبة الحلوة ، التي تغمر اليتيم بالمشاعر الحميمة التي توحي له بالثقة وتدفعه إلى الاطمئنان ، وتعوّضه عما فقده من حنان الأبوة أو عاطفة الأمومة.

وقد جاءت الآية توجيها لكل الناس في رعاية اليتامى بأمانة وإخلاص حتى الذين ليس لهم ذرية يخافون عليهم ، لأن المسألة جارية على طريقة ضرب المثل في الفرضيّات الواقعية في حركة الإنسان في الحياة التي تؤكد الترابط في السلوك الاجتماعي من خلال التزام الناس بالقيمة الأخلاقية في العناية بالفئات الضعيفة المحرومة في المجتمع من موقع المسؤولية الدينية والإنسانية ، فإن القضية في سلبياتها وإيجابياتها تنعكس على واقع الناس بأجمعهم سلبا أو إيجابا بشكل مباشر أو غير مباشر ، الأمر الذي يوحي بأن الخير أو الشر الصادر من الإنسان لا يؤثر في حياة الآخرين ، بل يمتد إلى حياة الإنسان نفسه في كل واقعه وفي كل علاقاته العامة والخاصة.

* * *

وقد جاءت الآية الثالثة لتعالج هذه المسألة من زاوية أخرى ، وهي زاوية الترهيب والتهديد ؛ فإن الله ينذر هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وبدون حق ، انطلاقا من القوة التي يشعرون بها تجاه ضعف اليتيم الذي لا يملك القدرة على الدفاع عن نفسه ، كما يحدث في حالات كثيرة ، بأن هذه الأموال ستتحول إلى نار تحرق داخلهم ؛ وذلك على سبيل الكناية في ما ينتظرهم من نتائج سلبية في الدنيا والآخرة.

١٠٥

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) فيحوزونها لأنفسهم ، ويتصرفون بها في حياتهم الخاصة مستغلّين ضعف اليتيم وفقدان الجهة التي تراقبهم وتحاسبهم وتمنعهم من ذلك ، فيبادرون إلى استعمالها وإبقاء اليتيم من دون مال بفعل عمليّة النهب والاستغلال ؛ الأمر الذي يمثّل أبشع أنواع الظلم ، وقد جاء : أن «ظلم الضعيف أعظم الظلم». (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) فإن هذا الظلم الوحشي الذي يعبر عن فقدان المشاعر الإنسانية في شخصيات هؤلاء الأولياء سوف يتحوّل إلى نار تشتعل في بطونهم عذابا من الله وعقابا لهم على ذلك ، وربما كانت المناسبة في هذه الاستعارة أن الإنسان يأكل الطعام ـ عادة ـ ليتغذى وليقوى به وليحصل على الراحة الجسدية بفعل اللذة التي يحس بها ، فجاءت الآية لتصور النتائج في أكل مال اليتيم كمن يأكل نارا فتشتعل في بطنه لتحرقه وتثير فيه كل آلام الحريق.

وقد جاء في تفسير الميزان أن «الآية مما يدل على تجسّم الأعمال ... ولعل هذا مراد من قال من المفسرين إن قوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) كلام على الحقيقة دون المجاز. وعلى هذا لا يرد عليه بما أورده بعض المفسرين ، أن قوله (يَأْكُلُونَ) أريد به الحال دون الاستقبال بقرينة عطف قوله : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) عليه وهو فعل دخل عليه حرف الاستقبال ، فلو كان المراد به حقيقة الأكل ـ ووقته يوم القيامة ـ لكان من اللازم أن يقال: سيأكلون في بطونهم نارا ويصلون سعيرا ، فالحق أن المراد به المعنى المجازي وأنهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه نارا. انتهى ملخصا. وهو غفلة عن معنى تجسّم الأعمال (١).

والظاهر أن ما ذكره هذا البعض هو الأقرب لأن التجسم في مضمونه الفكري ، لا معنى له في الواقع الذي يعيشه الإنسان بالنسبة إلى هذه المسألة ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٤ ، ص : ٢١٠.

١٠٦

بل هو أمر ترك إلى يوم القيامة ، فلا معنى للحديث عنه في مرحلة الحياة الدنيا حتى لو كان المراد به تجسّد العمل في طبيعته إلى ذات النار. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن هذا الرأي خاضع للاستغراق في حرفيّة الكلام القرآني بعيدا عن جانب الاستعارة والكناية ونحوهما مما يفهمه العرب بشكل طبيعيّ جدّا بالطريقة التي يفهمون بها التعابير الفنية على أساس القواعد البلاغية بنحو التبادر الذي يسبق إليه الذهن الأول مرّة. وإذا كانت بعض الأحاديث توحي بذلك فإن علينا أن نعرضها على القرآن الذي يؤصّل المفاهيم الإسلامية لتكون الأحاديث خاضعة لعناوينه وظواهره بدلا من العكس.

(وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) في يوم القيامة فيحترقون في النار ويقاسون عذابها. وقد جاء في تفسير العياشي عن أبي عبد الله أو أبي الحسن عليه‌السلام : إن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين : أما إحداهما فعقوبة الآخرة النار ، وأما الأخرى فعقوبة الدنيا قوله : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) قال: يعني بذلك ليخش إن أخلفه في ذريته كما صنع هو بهؤلاء اليتامى (١).

وقد نلاحظ في هذه المتابعة القرآنية لموضوع علاقة الإنسان بالأيتام بأسلوب التراغيب والترهيب ، في أكثر من آية ، أن الله يريد أن يحقق في داخل كل منا حالة نفسية ضاغطة ، ضد النوازع الذاتية التي قد تدفعه إلى استغلال جانب الضعف المتمثل في حياة الأيتام الذين لا يملكون أمر حماية أنفسهم من الظلم والاضطهاد ، لتكون تلك الحالة سبيلا من سبل حمايتهم من نوازعنا الشريرة ؛ وهذه طريقة قرآنية إسلامية مستخدمة في جميع الحالات التي نلتقي فيها بواقع القوة والضعف ، في المجالات التي لا يملك فيها

__________________

(١) نقلا عن البحار ، ج : ٧٢ ، باب : ٣١ ، ص : ٢٦٩ ، رواية : ٢٤.

١٠٧

الضعيف أمر الدفاع عن نفسه ؛ فإن القرآن يواجه المسألة بشكل قوي جدا ، ليخلق التوازن بين واقع الضعف الموجود لدى الفئات الضعيفة ، وبين واقع القوة الموجود في الجانب الآخر ، ليضعف الشعور بالقوة في هذا ، ويقوّي جانب الضعف هناك ، فيمنع القوي من ظلم الضعيف ، أمّا في الحالات العادية فإن القرآن يثير التهديد بشكل عادي بالأسلوب المألوف.

* * *

١٠٨

الآيتان

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) (١٢)

* * *

١٠٩

معاني المفردات

(يُوصِيكُمُ) : الوصية : التقدم إلى الغير بما يعمل مقترنا بوعظ.

(كَلالَةً) : الإحاطة ، مأخوذ من الإكليل ، ويراد بها في باب الإرث قرابة الإنسان غير والديه وأولاده ، كالإخوة والأعمام ، لأن الوالدين والأولاد كالعمودين. وقد يوصف بالكلالة الميت المورّث على معنى أنه قد ورّث غير أولاده ووالديه ، وقد يوصف بالكلالة الحي الوارث على معنى أن الوارث هو من غير صنف الآباء والأبناء.

قال في الكشاف : فإن قلت ما الكلالة؟ قلت : ينطلق على ثلاثة : على من لم يخلف ولدا ولا والدا ، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلّفين ، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم ، ما ورث المجد عن كلالة ، كما تقول : ما صمت عن عيّ ، وما كفّ عن جبن. والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال ، وهو ذهاب القوة من الإعياء ... فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، لأنّها بالإضافة إلى قرابتهما كالّة ضعيفة. وإذا جعل صفة للموروث أو الوارث فبمعنى ذي كلالة ، كما تقول : فلان من قرابتي ، تريد من ذوي قرابتي (١).

وقد جاءت لفظة الكلالة في آيتين من القرآن ، الآية الأولى هي هذه ، والمراد بها إخوة الميت من أمه فقط ، والآية الثانية هي (يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] ، والمراد بها في الآية الأخيرة إخوة الميت لأبيه وأمه أو لأبيه فقط.

* * *

__________________

(١) الزمخشري ، محمود بن عمر ، تفسير الكشاف ، دار الفكر ، ج : ١ ، ص : ٥١٠.

١١٠

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ عن جابر قال : عادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان فوجداني لا أعقل ، فدعا بماء فتوضأ ، ثم رشّ عليّ منه فأفقت ، فقلت : كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية ، رواه البخاري ومسلّم.

وجاء في رواية عن جابر بن عبد الله قال : جاءت امرأة بابنتين لها فقالت : يا رسول الله ، هاتان بنتا ثابت بن قيس ـ أو قالت سعد بن الربيع ـ قتل معك يوم أحد وقد استفاد عمهما مالهما وميراثهما ، فلم يدع لهما مالا إلّا أخذه ، فما ترى يا رسول الله؟ فو الله ما ينكحان أبدا إلّا ولهما مال ، فقال : يقضي الله في ذلك ، فنزلت سورة النساء وفيها : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) إلى آخر الآية ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادع لي المرأة وصاحبها ، فقال لعمهما : أعطهما الثلثين ، وأعط أمهما الثمن ، وما بقي فلك (١).

وجاء عن ابن عباس قال : لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم وقالوا : تعطى المرأة الربع والثمن ، وتعطى الابنة النصف ، ويعطى الغلام الصغير ، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة ... وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، لا يعطون الميراث إلا من قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر (٢).

وهناك بعض الملاحظات في هذه الروايات :

١ ـ إنّ الرواية الأولى تدل على أن الآية نزلت في سؤال جابر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٨١.

(٢) تفسير البيان ، م : ٣ ، ج : ٤ ، ص : ٣٦٦.

١١١

عما يصنعه في ماله ـ وهو حيّ ـ بينما تدل الآية على حكم المال بعد الموت فليس له مدخلية في تقسيمه ، فكيف تكون الآية جوابا عن سؤاله؟

٢ ـ إن الرواية الثانية تتضمن ثبوت حكم الإرث في نزول الآية من خلال مناسبة الشكوى التي قامت بها المرأة ، لأن أخا زوجها الميت أخذ المال كله ولم يجعل لها ولا بنتي أخيه شيئا منه ، مما ينافي الرواية الأولى ، وربما كانت الرواية الثانية أقرب إلى المضمون لنزولها في الإرث بعد الموت.

٣ ـ إن الرواية الثالثة توحي بأن آيات الإرث كانت تمثل صدمة عنيفة للذهنية التي كانت سائدة في الواقع الإسلامي الممتد في كثير من مفاهيمه من الواقع العربي الجاهلي الذي ينطلق من اعتبار مال الميت حقا لمن يحمي العائلة ويقاتل في سبيلها ويحوز الغنيمة لها ويتحمّل مسئوليتها ، باعتبار أنه هو الذي يقوم مقام الميت ويمتد في دوره ، ليستطيع بالإرث القيام بمسؤولياته التي تمثّل رعاية العائلة في كل حاجاتها. وكانت هذه الذهنية متجذرة في أفكارهم وتقاليدهم ، الأمر الذي لم يملك فيه هؤلاء أنفسهم من القيام بردّة فعل صارخة في الاعتراض على التشريع بطريقة لا شعورية أو التساؤل عن الأساس في ذلك ، باعتبار أن هذا التشريع يهزّ قاعدة التفكير الاجتماعي ليحوّله إلى اتجاه آخر وقاعدة جديدة ترتكز على أن الولد الأكبر أو الشخص المقاتل لا يمثّل أية قاعدة في حجم الواقع الحركي العائلي في الواقع الاجتماعي العام.

* * *

من أحكام الإرث

وبعد ، فهذه بعض التفاصيل التي قرّر فيها الإسلام حكم الإرث ، الذي ركزه على أساسين : النسب ، والسبب. والسبب نوعان : زوجية وولاء. وقد

١١٢

عرض القرآن لبعض موارده تاركا التفاصيل الشاملة لما بيّنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحاديثه من حكم الفرائض ، ونحن نشرح ما ذكره القرآن في عدة نقاط :

* * *

وصية الله في الأولاد

١ ـ (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أشرنا في ما سبق إلى مسئولية الرجل ، داخل العلاقة الزوجية ، عن دفع المهر ، والإنفاق على الزوجة والأولاد ، ممّا نفهمه من سرّ اعتبار حصة الرجل ضعف حصة المرأة ، من خلال ما أراده الله من التوازن بين الحقوق والواجبات ، بعيدا عن كل إساءة للمرأة في إنسانيتها وكرامتها ؛ ونشير هنا ، إلى وجوب الجهاد على الرجل كفريضة ، مما قد يفرض عليه تحمّل بعض مصاريف الجهاد ، إذا لم تستطع الدولة أن توفّر له ذلك ، كما كان يحدث في الحروف الأولى في صدر الدعوة الإسلامية ، وفي دية الخطأ التي تثبت على عائلة القاتل التي يتحملها الرجل بنسبة أكثر من المرأة.

وبهذا كانت حصة المرأة من الإرث ـ في النتيجة ـ تفوق حصة الرجل أو تعادلها ، بلحاظ ما يبقى منها بعد القيام بالالتزامات المالية الواجبة عليه. أما كرامة المرأة وإنسانيتها ، فقد احتفظ الإسلام لها بهما من خلال المسؤوليات العامة في التشريع ؛ فلم يجعل الإسلام للمرأة تشريعا يختلف عما جعله للرجل ، مما يجعل من قضية المساواة بينهما قضية تطبع أكثر جوانب الحياة ، ما عدا بعض الموارد التي لاحظ الإسلام فيها الخصوصيات الذاتية للمرأة ، تماما كما هي خصوصياتها في عالم التكوين ، وذلك من خلال ما اختص الله به المرأة من القدرة على الحمل والإرضاع ونحو ذلك.

وينبغي لنا أن نشير هنا إلى ما نبهنا عليه في بداية السورة ، من أنه لا

١١٣

حلّ مطلقا في الحياة ، بحيث يكون إيجابيا في جميع موارده ؛ بل الحل الأفضل هو الذي تتقدم فيه مسألة الإيجابيات على السلبيات ، من خلال ما يحيط بالمسألة من ظروف ، وما ترتكز عليه من أنظمة وقوانين ، وفي ضوء ذلك ، كانت الآية تقريرا للمبدأ ؛ فإذا ترك الإنسان أولادا ذكورا وإناثا ، فإن التركة تقسيم على أساس حصتين للذكر في مقابل حصة واحدة للأنثى.

وهناك ملاحظة أشار إليها السيد العلامة الطباطبائي في الميزان قال : وفي العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أن حكم السهم والسهمين مخصوص بما ولده الميت بلا واسطة ، وأمّا أولاد الأولاد فنازلا ، فحكمهم حكم من يتصلون به ، فلبنت الابن سهمان ولابن البنت سهم واحد ، إذا لم يكن هناك من يتقدم على مرتبتهم ، كما أن الحكم في أولاد الإخوة والأخوات حكم من يتصلون به. وأما لفظ الابن فلا يقضي بنفي الواسطة ، كما أن الأب أعم من الوالد.

وأما قوله تعالى في ذيل الآية : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فسيجيء أن هناك عناية خاصة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد (١).

ونلاحظ على هذه الاستفادة ، أن الظاهر من استعمال كلمة الولد وكلمة الابن أنهما بمعنى واحد في ظهورهما في المتولد من الأب بشكل مباشر بحسب المعنى الحقيقي لهما. كما يمكن استعمالهما في صيغة الجمع «الأولاد والأبناء» في الأعم من ذلك ، فيمكن إطلاق الأولاد على ما يعم أولاد الأولاد ، وإطلاق الأبناء على أبناء الأبناء ، بحسب المناسبة العرفية من حيث الإلحاق المجازي بشكل شائع ، أما إطلاق (الابن أو الولد) بصيغة المفرد على ولد الابن أو الولد ، فهو بحاجة إلى عناية مفصلة بقرينة واضحة

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٤ ، ص : ٢١٣.

١١٤

لصرف اللفظ عن ظاهره.

وهناك نكتة تعبيرية قد توحي بها الفقرة (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وهي أن الحديث جاء عن سهم الذكر متفرعاً على سهم الأنثى ، كما لو كانت الأنثى هي الأصل في الإرث ، باعتبار أن حصته مثل حصة أنثيين ، وبذلك كانت تقاس بها بدلا من العكس وإلّا يقال : للأنثى نصف حظ الذكر.

٢ ـ (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) ظاهر هذه الفقرة ، أن المراد بها هي حالة ارتفاع عدد البنات إلى أكثر من اثنتين كما توحيه كلمة (فوق) ، ولكن المقصود منها هو اثنتان فما فوق ، وهذا مما جرى عليه التعبير عند العرب ، فإنهم يقولون في بعض الحالات (فوق اثنتين) قاصدين (اثنتين فما فوق) ؛ كما يدل عليه مقابلتها بقوله : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ، وقد يستفاد ذلك من الحديث عن إرث الأخوات في آخر هذه السورة من حيث جعل نصيب الأخت الواحدة النصف في مقابل نصيب البنت الواحدة. وجاء بعدها قوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ) مما يدل على أن ذلك في مقابل سهم البنتين وهو الثلثان. وهناك وجوه أخرى في تفسيرها.

وعلى كل حال ، فإن المسلمين متفقون على الحكم في صورة تعدد البنات من اثنتين فما فوق ، انطلاقا من هذه الآية أو من أحاديث السنة النبوية الشريفة ؛ فإذا ترك الميت ابنتين فصاعدا ، ولم يكن له أولاد ذكور ، فلهن الثلثان ؛ أما الثلث الباقي ، فإن كان هناك أبوان للميت ، فلكل واحد منهما السدس ؛ فإذا لم يكن له أبوان ، فإن الإمامية يذهبون إلى أنه يرد إلى البنات ولا يعطى إلى العصبة من إخوانه وأعمامه ؛ أما أهل السنة ، فإنهم يردونه الى العصبة انطلاقا من حديث يناقش الإمامية في صحة سنده وهو حديث طاوس اليماني عن أبيه ، عن ابن عباس (رض) عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ألحقوا

١١٥

الفرائض فما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر (١) وفي رواية أخرى : فما بقي فلرجل ذكر ، وعلى هذا الأساس فقد أجمعوا على أن الرجل إذا مات عن بنت فلهما النصف بالفرض ، فإن كان له أخ ، يختص بالنصف الآخر ، لأنه أقرب رجل إليه ، وإذا مات ولم يكن له ولد وله أخت وعم ؛ فللأخت النصف والباقي للعم ، وكذلك إذا كان له أختان فإن الثلث الباقي لأخيه أو عمه.

وقد رد الشيعة الإمامية على هذا الحديث بضعف سنده ـ كما ذكروه ـ فقد ذكر بعض علمائهم ـ وهو السيد محسن الأمين في كتابه «نقض الوشيعة» أن طاوس أنكر أن يكون راويا لهذا الحديث وقال ـ أي طاوس ـ إن الشيطان ألقاه على لسان من نسب إلىّ هذا القول (٢).

وقد استدل الإمامية على بطلان التعصيب بقوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧].

وقد ذكروا في تقريب الاستدلال بها ، أن الآية قد ساوت بين الذكور والإناث في استحقاق الإرث ، لأنها جعلت لكل منهما نصيبا مما ترك الوالدان والأقربون في حين أن القائلين بالتعصيب قد فرقوا بين الرجال والنساء ، فورثوا الرجال وتركوا النساء ، حيث التزموا صورة ما لو كان للميت بنت وأخ وأخت بأن البنت تأخذ النصف المفروض لها والنصف الآخر للأخ ولا شيء للأخت مع أنهما متساويان في الدرجة ، كما التزموا بأنه لو كان للميت أخت وعم وعمة ، بأن التركة للأخت وللعم ترث نصفها الأخت بالفرض ويرث العم نصفها بالتعصيب ولم يجعلوا للعمة شيئا مع أنها شقيقة

__________________

(١) الطوسي ، أبو جعفر ، محمد بن الحسن ، تهذيب الأحكام ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ـ لبنان. ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ٩ ، ص : ٢٢٣ ، باب : ٢١ ، رواية : ١٤.

(٢) انظر : مغنية ، محمد جواد ، التفسير الكاشف ، دار العلم للملايين ، ط : ٤ ، حزيران ١٩٩٠ ، م : ٢ ، هامش ص : ٢٦٤.

١١٦

العم وفي رتبته.

وقد ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الميت إذا ترك بنتا أو بناتا ، ولم يوجد واحد من أصحاب الفروض والعصبات ، فالمال كله للبنت ، النصف بالفرض والباقي بالرد ، وكذلك البنتان تأخذان جميع التركة ، الثلثين فرضا والثلث الباقي ردا ، مع العلم بأن الآية قالت : (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). فإذا كانت الآية تمنع أن تأخذ البنت أو البنات جميع التركة في هذه الصورة ، فكذلك لا تمنع أن تأخذ البنت أو البنات التركة كلها في صورة أخرى ، لأن الصورتين ترجعان في حكم الرد إلى قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] ، و [الأحزاب : ٦] ، حيث دلت على أن الأقرب أولى ممن هو دونه بالقرابة ، وليس من شك أن البنت أقرب من الأخ ، والأخت أقرب من العم.

وفي ضوء ذلك تبطل حجة القائلين بالتعصيب بالآيتين (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) وقوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ) ، فقد قالوا : إن القرآن في الآية الأولى أعطى النصف للبنت والثلثين للبنتين ، وفي الآية الثانية أعطى النصف للأخت والثلثين للأختين ، فإعطاؤهنّ التركة بكاملها ـ كما يذهب الإمامية ـ مخالف لصريح القرآن.

ويقول الإمامية في الرد : إن القرآن لم يتحدث عن النصف الآخر أو الثلث الآخر ، ولم يذكر الوارث الذي يستحق الباقي ، ولم تتعرض السنة النبوية لذلك ، إلا ما كان من حديث طاوس اليماني الذي لم يعاصر النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أدرك الصحابة ، ولو كان الحديث صحيحا لرواه أكثر الصحابة في جملة ما رووه من التشريعات ، لا سيما أن هذا الأمر مما يكثر

١١٧

فيه الابتلاء لاتصاله بحياة الناس بشكل عام. ولذلك فلا بد من الرجوع إلى القرآن لتحديد صاحب الحصة الأخرى ، وليس هناك إلا آية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ).

وهناك ملاحظة أخرى في إضعاف حجة أهل السنة ، وهي أن أصحاب المذاهب الأربعة ـ الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية ـ قد اتفقوا على أن الميت إذا ترك أبا وبنتا ، كان للأب السدس بالفرض ، وللبنت النصف بالفرض أيضا ، والباقي يرد على الأب وحده مع أنه من أصحاب الفروض بمقتضى الآية (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) فإذا كان الفرض لا يمنع من رد الباقي على الأب ـ كما يدعون ـ فينبغي أن لا يمنع من الرد على البنت.

وقد ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الميت إذا ترك أمّا وليس معها واحد من أصحاب الفروض والعصبات تأخذ التركة كلها الثلث بالفرض والثلثين بالرد ، مع العلم أن الله يقول : (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ). فإذا جاز للأم أن تأخذ التركة كلها مع قوله تعالى (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) جاز أيضا للبنت أن تأخذ التركة كلها ، وكذلك البنات مع قوله تعالى : (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ).

وخلاصة الفكرة أن فقهاء السنة لم يعتمدوا إلّا على رواية طاوس اليماني التي لا تثبت أمام النقد الحديثي ، فلا يعود لهم حجة على التعصيب. كما أشرنا إليه ، وتمام الكلام موكول إلى الفقه.

٣ ـ (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ...) اتفق المسلمون على أن حصة البنت الواحدة بالفرض هي النصف ؛ أما النصف الآخر ، فلم يتحدث عنه القرآن بصراحة ، كما لم يتحدث عن الثلث الباقي بعد أخذ حصة البنتين أو البنات وقد اختلف رأي الشيعة الإمامية مع رأي أهل السنة ، فذهب فقهاء

١١٨

الإمامية إلى إعطاء النصف الآخر للبنت ، انطلاقا من الآية الكريمة التي وضعت القاعدة العامة لإرث أولي الأرحام : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال: ٧٥] حيث أفادت بأن الأقرب يمنع الأبعد في كل طبقة ، مما يجعل الحصة للبنت دون غيرها لأنها الأقرب ؛ وقد أقر فقهاء أهل السنة هذا الحكم بشكل جزئي في مورد انعدام العصبة للميت ، فجعلوا التركة كلها للبنت ، مما يوحي بأن المبدأ وارد من حيث الأساس.

٤ ـ (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) في هذه الفقرة من الآية ثلاثة فروض :

أ ـ أن يكون للميت أبوان وله ولد ، واحدا كان أو أكثر ؛ فللأبوين السدس والباقي للولد. ويطلق الولد على الذكر والأنثى ، لأن اللفظ مأخوذ من الولادة الشاملة للابن والبنت ، وقد جاء في القرآن إطلاق كلمة الأولاد على الذكور والإناث. قال الله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وقال تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم : ٣٥].

والمراد بأبويه هنا خصوص الأب والأم ، فلا يشمل الجد والجدة ، فإذا كان الميت قد ترك أبوين وأولادا ، يلاحظ أنه إن كان في الأولاد ذكر واحد أو أكثر كان للأبوين الثلث والباقي للأولاد وإن كان الأولاد بنتين أو أكثر من دون ذكور ، أخذ الأبوان الثلث وكان الثلثان للبنتين ، وإن كان مع الأبوين بنت واحدة فلكل منهما السدس وللبنت النصف بالفرض ، ويبقى سدس يرد على الأب فقط عند السنة وعلى الأب والأم والبنت عند الشيعة.

ب ـ أن لا يكون له ولد ، فإن الأم ترث الثلث والأب يرث الباقي.

ج ـ الصورة نفسها مع وجود إخوة للميت ، فإنهم يحجبون الأم عن

١١٩

الثلث ضمن شروط خاصة. واختلف علماء المذاهب الأربعة في عدد الإخوة الذين يحجبون الأم ، قالت المالكية : أقل ما يحجبها اثنان من الإخوة دون الأخوات. وقالت الحنفية والشافعية والحنابلة : اثنان من الإخوة والأخوات ، وقال الإمامية : أخوان أو أخ وأختان ، على شريطة أن يكونوا إخوة للميت من أبيه وأمه ، أو من أبيه فقط ، وأن يكونوا منفصلين عند موت المورّث ولا حملا. وأن يكون الأب حيا ، وهؤلاء الإخوة يحجبون عن الميراث ولا يرثون ، فترث الأم سدس التركة والباقي للأب ، ولا يرث الإخوة منها شيئا. وفي جميع هذه الفروض يتقدم الدّين والوصية على الإرث ، فلا إرث قبل إخراجهما أو ملاحظتهما في الحساب ، على تفاصيل مذكورة في كتب الفقه.

وتبقى ملاحظة أخرى وهي أن الآية لم تتضمن تقديم أحدهما ـ الوصية والدّين ـ على الآخر ، ومجرد التقديم في الذكر ـ في الوصية ـ لا يعني التقدم في الحكم والتنفيذ ، لأن العطف يدل على المشاركة لا على الترتيب ، ولكن استفيد تقديم الدّين على الوصية من السنة الشريفة مما ورد عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة أهل البيت عليهم‌السلام وقد روي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنه قال : «إنّ الدّين قبل الوصية ، ثم الوصية على أثر الدّين ، ثم الميراث بعد الوصية ، فإن أول القضاء كتاب الله» (١). والإجماع على أنه لا وصية ولا ميراث إلّا بعد وفاء الدّين. بالإضافة إلى ما دلّ على أن الميت مرتهن بديونه.

٥ ـ (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

إن الله الذي قدّر الإرث وحدّد ما يرثه الآباء والأبناء من بعضهم ، هو الذي يعرف حدود الأشياء مما يصلح الإنسان أو

__________________

(١) تهذيب الأحكام ، ج : ٩ ، ص : ١٤٤ ـ ١٤٥ ، باب : ٥ ، رواية : ٢١.

١٢٠