الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. وعند الشافعي رحمه الله : لا نفقة بالقرابة إلا على الولد والوالدين : قاس سائر القرابات على ابن العم ، لأنه لا ولاد بينهم. فإن قلت : كيف تعلق قوله (فَآتِ ذَا الْقُرْبى) بما قبله حتى جيء بالفاء؟ قلت : لما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم ، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك (يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) يحتمل أن يراد بوجهه ذاته أو جهته وجانبه ، أى : يقصدون بمعروفهم إياه خالصا وحقه ، كقوله تعالى (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أو يقصدون جهة التقرّب إلى الله لا جهة أخرى ، والمعنيان متقاربان ، ولكن الطريقة مختلفة.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(٣٩)

هذه الآية في معنى قوله تعالى (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) سواء بسواء ، يريد : وما أعطيتم أكلة الربا (مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي) أموالهم : ليزيد ويزكو في أموالهم ، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أى صدقة تبتغون به وجهه خالصا ، لا تطلبون به مكافأة ولا رياء وسمعة (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ذوو الإضعاف من الحسنات. ونظير المضعف : المقوي والموسر ، لذي القوّة واليسار : وقرئ بفتح العين. وقيل : نزلت في ثقيف ، وكانوا يربون. وقيل : المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدى له ، ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى ، فليست تلك الزيادة بحرام ، ولكن المعوّض لا يثاب على تلك الزيادة. وقالوا : الربا ربوان : فالحرام : كل قرض يؤخذ فيه أكثر منه : أو يجرّ منفعة. والذي ليس بحرام : أن يستدعى بهبته أو بهديته أكثر منها. وفي الحديث «المستغزر يثاب من هبته» (١) وقرئ : وما أتيتم من ربا ، بمعنى : وما غشيتموه أو رهقتموه من إعطاء ربا. وقرئ : لتربوا ، أى : لتزيدوا في أموالهم ، كقوله تعالى (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أى يزيدها. وقوله تعالى (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) التفات حسن ، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه : فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم : هم المضعفون. فهو أمدح لهم من أن يقول : فأنتم المضعفون. والمعنى : المضعفون به ، لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما ، ووجه آخر : وهو أن يكون تقديره : فمؤتوه أولئك هم المضعفون. والحذف لما في الكلام من الدليل عليه ، وهذا أسهل مأخذا ، والأوّل أملأ بالفائدة.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ

__________________

(١) أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من وجهين عن ابن سيرين عن شريح بهذا موقوفا.

٤٨١

مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٤٠)

(اللهُ) مبتدأ وخبره (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أى الله هو فاعل هذه الأفعال الخاصة التي لا يقدر على شيء منها أحد غيره ، ثم قال (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) الذين اتخذتموهم أندادا له من الأصنام وغيرها (مَنْ يَفْعَلُ) شيئا قط من تلك الأفعال ، حتى يصح ما ذهبتم إليه ، ثم استبعد حاله من حال شركائهم. ويجوز أن يكون (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة للمبتدإ ، والخبر : هل من شركائكم ، وقوله (مِنْ ذلِكُمْ) هو الذي ربط الجملة بالمبتدإ ، لأن معناه : من أفعاله. ومن الأولى والثانية والثالثة : كل واحدة منهنّ مستقلة بتأكيد ، لتعجيز شركائهم ، وتجهيل عبدتهم.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٤١)

(الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) نحو : الجدب ، والقحط ، وقلة الريع في الزراعات والريح في التجارات ، ووقوع الموتان في الناس والدواب ، وكثرة الحرق والغرق ، وإخفاق الصيادين (١) والغاصة ، ومحق البركات من كل شيء ، وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضارّ. وعن ابن عباس : أجدبت الأرض وانقطعت مادّة البحر. وقالوا : إذا انقطع القطر عميت دواب البحر. وعن الحسن أنّ المراد بالبحر : مدن البحر وقراه التي على شاطئه. وعن عكرمة : العرب تسمى الأمصار البحار. وقرئ في البر والبحور (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بسبب معاصيهم وذنوبهم ، كقوله تعالى (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وعن ابن عباس (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ) بقتل ابن آدم أخاه. وفي البحر بأن جلندى كان يأخذ كل سفينة غصبا : وعن قتادة : كان ذلك قبل البعث ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع راجعون عن الضلال والظلم. ويجوز أن يريد ظهور الشر والمعاصي بكسب الناس ذلك. فإن قلت : ما معنى قوله (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)؟ قلت أمّا على التفسير الأول فظاهر ، وهو أنّ الله قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها ، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة ، لعلهم يرجعون عما هم عليه. وأمّا على الثاني فاللام مجاز ، على معنى أنّ ظهور الشرور بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم إرادة الرجوع ، فكأنهم إنما أفسدوا وتسببوا لفشوّ المعاصي في الأرض لأجل ذلك. وقرئ : لنذيقهم ، بالنون.

__________________

(١) قوله «وإخفاق الصيادين» في الصحاح : أخفق الصائد ، إذا رجع ولم يصطد. (ع)

٤٨٢

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)(٤٢)

ثم أكد تسبب المعاصي لغضب الله ونكاله : حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا كيف أهلك الله الأمم وأذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم ، ودل بقوله (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) على أنّ الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم ، وأنّ ما دونه من المعاصي يكون سببا لذلك.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)(٤٣)

القيم : البليغ الاستقامة «الذي لا يتأتى فيه عوج (مِنَ اللهِ) إمّا أن يتعلق بيأتى ، فيكون المعنى : من قبل أن يأتى من الله يوم لا يردّه أحد ، كقوله تعالى (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) أو بمردّ ، على معنى : لا يردّه هو بعد أن يجيء به ، ولا ردّ له من جهته. والمردّ : مصدر بمعنى الردّ (يَصَّدَّعُونَ) يتصدّعون : أى : يتفرّقون ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ).

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)(٤٥)

(فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) كلمة جامعة لما لا غاية وراءه من المضارّ ، لأنّ من كان ضاره كفره ، فقد أحاطت به كلّ مضرّة (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أى يسؤون لأنفسهم ما يسوّيه لنفسه الذي يمهد فراشه ويوطئه ، لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه عليه وينغض عليه مرقده : من نتوء أو قضض (١) أو بعض ما يؤذى الراقد. ويجوز أن يريد : فعلى أنفسهم يشفقون ، من قولهم في المشفق : أمّ فرشت فأنامت. وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أنّ ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعدّاه. ومنفعة الإيمان والعمل الصالح : ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه (لِيَجْزِيَ) متعلق بيمهدون تعليل له (مِنْ فَضْلِهِ) مما يتفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب ، وهذا يشبه الكناية ، لأن الفضل تبع للثواب ، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له : أو أراد من عطائه وهو ثوابه ، لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب. وتكرير (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح. وقوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) تقرير بعده تقرير ، على الطرد والعكس.

__________________

(١) قوله «من نتوء أو قضض» النتوء : الارتفاع. والقضض : صغار الحصى. أفاده الصحاح. (ع)

٤٨٣

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٤٦)

(الرِّياحَ) هي الجنوب والشمال والصبا ، وهي رياح الرحمة. وأما الدبور ، فريح العذاب. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا (١)» وقد عدد الأغراض في إرسالها ، وأنه أرسلها للبشارة بالغيث ولإذاقة الرحمة ، وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه ، والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض (٢)» وإزالة العفونة من الهواء ، وتذرية الحبوب ، وغير ذلك (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) في البحر عند هبوبها. وإنما زاد (بِأَمْرِهِ) لأن الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية (٣) ، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال لحبسها ، وربما عصفت فأغرقتها (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يريد تجارة البحر ، ولتشكروا نعمة الله فيها. فإن قلت : بم يتعلق وليذيقكم؟ قلت : فيه وجهان : أن يكون معطوفا على مبشرات على المعنى ، كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم. وأن يتعلق بمحذوف تقديره : وليذيقكم ، وليكون كذا وكذا : أرسلناها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(٤٧)

اختصر الطريق إلى الغرض بأن أدرج تحت ذكر الانتصار والنصر ذكر الفريقين ، وقد أخلى الكلام أوّلا عن ذكرهما. وقوله (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) تعظيم للمؤمنين ، ورفع من شأنهم ، وتأهيل لكرامة سنية ، وإظهار لفضل سابقة ومزية ، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم ، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم ، وقد يوقف على (حَقًّا). ومعناه : وكان الانتقام منهم حقا ، ثم يبتدأ : (عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة (٤)». ثم

__________________

(١) أخرجه الشافعي : أخبرنى من لا أنهم عن العلاء بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا نحوه ، ومن طريقه. أخرجه في المعرفة وفي الدعوات. وهذا المبهم : هو إبراهيم بن أبى يحيى وهو ضعيف. وله طريق أخرى عند أبى يعلى والطبراني وابن عدى من رواية حسين بن قيس عن عكرمة به وحسين ضعيف أيضا

(٢) لم أجده.

(٣) قوله «ولا تكون مؤاتية» في الصحاح : آتيته على ذلك الأمر هؤاتاة ، إذا وافقته. والعامة تقول : وأتيته. (ع)

(٤) أخرجه الترمذي وأحمد والطبراني من حديث أبى الدرداء وقال حسن. ورواه إسحاق والطبراني وأبو يعلى وابن عدى من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مرفوعا نحوه وإسناده ضعيف. واختلف فيه على شهر ـ

٤٨٤

تلا قوله تعالى (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ)(٤٩)

(فَيَبْسُطُهُ) متصلا تارة (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أى قطعا تارة (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) في التارتين جميعا. والمراد بالسماء. سمت السماء وشقها ، كقوله تعالى (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) ، وبإصابة العباد : إصابة بلادهم وأراضيهم (مِنْ قَبْلِهِ) من باب التكرير والتوكيد ، كقوله تعالى (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها). ومعنى التوكيد فيه : الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم بأسهم وتمادى إبلاسهم (١) فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٥٠)

قرئ : أثر وآثار ، على الوحدة والجمع. وقرأ أبو حيوة وغيره : كيف تحيى ، أى : الرحمة (إِنَّ ذلِكَ) يعنى إنّ ذلك القادر الذي يحيى الأرض بعد موتها ، هو الذي يحيى الناس بعد موتهم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من المقدورات قادر ، وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء.

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(٥٣)

(فَرَأَوْهُ) فرأوا أثر رحمة الله. لأنّ رحمة الله هي الغيث ، وأثرها : النبات. ومن قرأ بالجمع : رجع الضمير إلى معناه ؛ لأنّ معنى آثار الرحمة النبات ، واسم النبات يقع على القليل والكثير ، لأنه مصدر سمى به ما ينبت. ولئن : هي اللام الموطئة للقسم ، دخلت على حرف الشرط ، و (لَظَلُّوا) جواب القسم سدّ مسدّ الجوابين ، أعنى : جواب القسم وجواب الشرط ، ومعناه : ليظلنّ ذمّهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم القطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم

__________________

ـ ابن حوشب : فقال العلاج عنه هكذا ، وقال ليث بن أبى سليم عنه عن أبى هريرة ، أخرجه ابن مردويه.

(١) قوله «إبلاسهم» الإبلاس : اليأس من الخير ، والسكوت ، والانكسار غما وحزنا. أفاده الصحاح. (ع)

٤٨٥

على صدورهم مبلسين ، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر : استبشروا وابتهجوا ، فإذا أرسل ريحا فضرب زروعهم بالصفار ، ضجوا وكفروا بنعمة الله. فهم في جمع هذه الأحوال على الصفة المذمومة ، كان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله ، فقنطوا. وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ، فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار. وأن يصبروا على بلائه ، فكفروا. والريح التي اصفرّ لها النبات : يجوز أن تكون حرورا وحرجفا ، فكلتاهما مما يصوح (١) له النبات ويصبح هشيما. وقال : مصفرّا : لأنّ تلك صفرة حادثة. وقيل : فرأوا السحاب مصفرا ، لأنه إذا كان كذلك لم يمطر.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)(٥٤)

قرئ : بفتح الضاد وضمها ، وهما لغتان ، والضم أقوى في القراءة ، لما روى ابن عمر رضى الله عنهما : قال : قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعف ، فأقرأنى من ضعف (٢). قوله (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) كقوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) يعنى أنّ أساس أمركم وما عليه؟؟؟ بلتكم وبنيتكم الضعف (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أى ابتدأناكم في أوّل الأمر ضعافا ، وذلك حال الطفولة والنشء حتى بلغتم وقت الاحتلام والشبيبة ، وتلك حال القوّة إلى الاكتهال وبلوغ الاشدّ ، ثم رددتم إلى أصل حالكم وهو الضعف بالشيخوخة والهرم. وقيل : من ضعف من؟؟؟ النطف ، كقوله تعالى (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) وهذا الترديد في الأحوال المختلفة ، والتغيير من هيئة إلى؟؟؟ الهيئة وصفة إلى صفة : أظهر دليل وأعدل شاهد على الصانع العليم القادر.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ)(٥٥)

(السَّاعَةُ) القيامة ، سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا. أو لأنها تقع؟؟؟ بغتة وبديهة. كما تقول : «في ساعة» لمن تستعجله ، وجرت علما لها كالنجم للثريا ، والكوكب للزهرة. وأرادوا : لبثهم في الدنيا ، أو في القبور ، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث. وفي الحديث :

__________________

(١) قوله «وحرجفا ... الخ» في الصحاح «الحرجف» : الريح الباردة. وفيه أيضا «صوحته الريح» :؟؟؟ أيبسته. (ع)

(٢) أخرجه أبو داود والترمذي وإسحاق والبزار من حديث عطية عن ابن عمر دون التفسير ورواه ابن مردويه من رواية أبى عمرو بن العلاء عن نافع عن ابن عمر لكن في إسناده سلام بن سليمان.

٤٨٦

«ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون» (١) قالوا : لا نعلم أهى أربعون سنة أم أربعون ألف سنة؟ وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم ، وإنما يقدّرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له. أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أى مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا ، وهكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحق. أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)(٥٧)

القائلون : هم الملائكة ، والأنبياء ، والمؤمنون (فِي كِتابِ اللهِ) في اللوح. أو في علم الله وقضائه. أو فيما كتبه ، أى : أوجبه بحكمته. ردّوا ما قالوه وحلفوا عليه ، وأطلعوهم على الحقيقة تم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه. فإن قلت : ما هذه الفاء؟ وما حقيقتها؟ قلت : هي التي في قوله :

فقد جئنا خراسانا (٢)

وحقيقتها : أنها جواب شرط يدل عليه الكلام ، كأنه قال : إن صح ما قلتم من أن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان ، وآن لنا أن نخلص ، وكذلك إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث ، أى فقد تبين بطلان قولكم. وقرأ الحسن يوم البعث ، بالتحريك (لا يَنْفَعُ) قرئ بالياء والتاء (يُسْتَعْتَبُونَ) من قولك : استعتبني فلان فأعتبته. أى : استرضانى فأرضيته ، وذلك إذا كنت جانيا عليه. وحقيقة أعتبته : أزلت عتبه. ألا ترى إلى قوله :

غضبت تميم أن تقتّل عامر

يوم النّسار فأعتبوا بالصّيلم (٣)

__________________

(١) لم أجده هكذا. وفي الصحيحين عن أبى هريرة مرفوعا «ما بين النفختين» أربعون قالوا : يا أبا هريرة أربعون سنة؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون شهرا؟ قال : أبيت قالوا : أربعون يوما؟ قال : أبيت».

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٢٧١ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١٠٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٤٨٧

كيف جعلهم غضابا ، ثم قال : فأعتبوا ، أى : أزيل غضبهم. والغضب في معنى العتب. والمعنى : لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى (لا يُخْرَجُونَ مِنْها) ، (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات ، وغير معتبين في بعضها ، وهو قوله (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)؟ قلت : أما كونهم غير مستعتبين : فهذا معناه. وأما كونهم غير معتبين ، فمعناه : أنهم غير راضين بما هم فيه ، فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم ، فهم عاتبون على الجاني غير راضين عنه ، فإن يستعتبوا الله : أى يسألوه إزالة ما هم فيه ، فما هم من المجابين إلى إزالته.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(٦٠)

(وَلَقَدْ) وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كصفة المبعوثين يوم القيامة ، وقصتهم ، وما يقولون وما يقال لهم ، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم ـ لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة ـ إذا جئتهم بآية من آيات القرآن ، قالوا : جئتنا بزور وباطل ، ثم قال : مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الجهلة. ومعنى طبع الله : منع الألطاف (١) التي ينشرح لها الصدور حتى تقبل الحق ، وإنما يمنعها من علم أنها لا تجدى عليه ولا تغنى عنه ، كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبين له أنّ الموعظة تلغو ولا تنجع فيه ، فوقع ذلك كناية عن قسوة قلوبهم وركوب الصدإ والرين إياها ، فكأنه قال : كذلك تقسو وتصدأ قلوب الجهلة ، حتى يسموا المحقين مبطلين ، وهم أعرق خلق الله (٢) في تلك الصفة (فَاصْبِرْ) على عداوتهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله (حَقٌ) لا بدّ من إنجازه والوفاء به ، ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعا مما يقولون ويفعلون فإنهم قوم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. وقرئ بتخفيف النون. وقرأ ابن أبى إسحاق

__________________

(١) قوله «ومعنى طبع الله منع الألطاف» أوله بذلك بناء على أنه تعالى لا يخلق الشر وهو مذهب المعتزلة. وذهب أهل السنة إلى أنه يخلقه كالخير ، فالآية على ظاهرها. (ع)

(٢) قوله «وهم أعرق خلق الله» في الصحاح : أعرق الرجل ، أى : صار عريقا ، وهو الذي له عرق في الكرم. (ع)

٤٨٨

ويعقوب : ولا يستحقنك ، أى : لا يفتننك فيملكوك ويكونوا أحق بك من المؤمنين.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع في يومه وليلته» (١).

سورة لقمان

مكية [إلا الآيات ٢٧ و ٢٨ و ٢٩ فمدنية]

وآياتها ٣٤ وقيل ٣٣ [نزلت بعد الصافات]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥)

(الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ذى الحكمة. أو وصف بصفة الله تعالى على الإسناد المجازى. ويجوز أن يكون الأصل : الحكيم قائله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فبانقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة (هُدىً وَرَحْمَةً) بالنصب على الحال عن الآيات ، والعامل فيها : ما في تلك من معنى الإشارة. وبالرفع على أنه خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدإ محذوف (لِلْمُحْسِنِينَ) للذين يعملون الحسنات وهي التي ذكرها : من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيقان بالآخرة ونظيره قول أوس :

الألمعى الّذى يظن بك الظّنّ

كأن قد رأى وقد سمعا (٢)

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

(٢) أيتها النفس احملي جزعا

إن الذي تحذرين قد وقعا

إن الذي جمع السماحة و

النجدة والبر والتقى جمعا

الألمعى الذي يظن بك الظن

كأن قد رأى وقد سمعا

٤٨٩

حكى عن الأصمعى : أنه سئل عن الألمعى فأنشده ولم يزد. أو للذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال ، ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاث بفضل اعتداد بها.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٧)

اللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعنى و (لَهْوَ الْحَدِيثِ) نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها ، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام ، وما لا ينبغي من كان وكان ، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار (١) ، وما أشبه ذلك. وقيل : نزلت في النضر بن الحرث ، وكان يتجر إلى فارس ، فيشترى كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا ويقول : إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة ، فيستمحلون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقيل : كان يشترى المغنيات ، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ، ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهنّ ولا أثمانهنّ (٢) «وعنه صلى الله عليه وسلم «ما من رجل

__________________

 ـ أودى فلا تنفع الاشاحة من

أمر لمن يحاول البدعا

لأوس بن حجر ، يرثى فضالة بن كلدة. يقول : يا نفس احتملي جزعا عظيما ، إن الذي تخافين منه قد حصل ، وبينه بقوله : إن الذي جمع المكارم كلها أودى ، أى : هلك. وجمع ـ بالضم ـ : توكيد للصفات قبله. والألمعى : نصب على الصفة للذي ، وفسره بأنه الذي يظن بك ، يعنى كل مخاطب ، أى : يظن الظن الحق ، كأنه قد رأى وسمع ما ظنه أو يظن الظن فيصيب ، كأنه قد رآه إن كان فعلا ، أو سمعه إن كان قولا. وفيه نوع من البديع يسمى التفسير ، وهو أن يؤتى بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفته بدون تفسيره ، ذكره السيوطى في شرح عقود الجمان. والاشاحة : الشجاعة والجد في القتال. وضمن «تنفع» معنى «تحفظ» فعداه بمن ، أى : فلا تحفظ الشجاعة من مكروه أحدا. وعداه باللام ، نظرا للفظه. والأقرب أن من واللام زائدتان لتوكيد الكلام ، أى : فلا تنفع الاشاحة شيئا من النفع أحدا من الناس يحاول ويطلب بدائع الأمور وعظائمها ، يعنى : أن فضالة كان كذلك فمات ، وفيه نوع تسل.

(١) قوله «وتعلم الموسيقار» يونانية. ومعناه : علم الغناء ، وبغير راء : ذات الغناء ، كذا قيل. (ع)

(٢) أخرجه الطبري وابن أبى حاتم وغيرهما من رواية عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة بهذا. وهو عند أحمد وابن أبى شيبة والترمذي وأبى يعلى من هذا الوجه وهو ضعيف ، ورواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث عن القاسم نحوه. وله طريق آخر عند ابن ماجة من رواية عبيد الله الأفريقى عن أبى أمامة ، قال : «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المغنيات وعن شرائهن ، وعن كسبهن وعن أكل أثمانهن وفي الباب عن عمر. أخرجه الطبراني وابن عدى من رواية يزيد بن عبد الملك النوفلي عن يزيد بن خصيف عن السائب بن يزيد عن عمر نحوه ، ويزيد بن ـ

٤٩٠

يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت (١) «وقيل : الغناء منفدة للمال ، مسخطة للرب ، مفسدة للقلب. فإن قلت : ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت : معناها التبيين ، وهي الإضافة بمعنى من ، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه ، كقولك : صفة خز ، وباب ساج (٢). والمعنى : من يشترى اللهو من الحديث ، لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره ، فبين بالحديث. والمراد بالحديث. الحديث المنكر ، كما جاء في الحديث : «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش (٣)» ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى «من» التبعيضية ، كأنه قيل : ومن الناس من يشترى بعض الحديث الذي هو اللهو منه. وقوله (يَشْتَرِي) إما من الشراء ، على ما روى عن النضر : من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان. وإما من قوله (اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) أى استبدلوه منه واختاروه عليه. وعن قتادة : اشتراؤه : استحبابه ، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرئ : (لِيُضِلَ) بضم الياء وفتحها. و (سَبِيلِ اللهِ) دين الإسلام أو القرآن. فإن قلت : القراءة بالضم بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو : أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه ويمدّه ، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه. والثاني : أن يوضع ليضل موضع ليضل ، من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف. فإن قلت : ما معنى قوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ)؟ قلت : لما جعله مشتريا لهو الحديث بالقرآن قال : يشترى بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق. ونحوه قوله تعالى (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أى : وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها : وقرئ (وَيَتَّخِذَها) بالنصب والرفع عطفا على يشترى. أو ليضل ، والضمير للسبيل ، لأنها مؤنثة ، كقوله تعالى (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً).

__________________

ـ عبد المطلب ضعيف وعن على أخرجه أبو يعلى وابن عدى. وفيه الحارث بن نهان وهو ضعيف ، وعن عائشة أخرجه البيهقي وفيه ليث بن أبى سليم وهو ضعيف.

(١) أخرجه أبو يعلى وإسحاق والحارث من طريق أبى أمامة وهو عند الطبراني من رواية يحيى بن الحارث عن القاسم في الحديث الذي قبله.

(٢) قوله «كقولك صفة خز وباب ساج» لعله محرف. وأصله جبة خز ، ثم رأيت في الصحاح : صفة الدار والسرج : واحدة الصفف اه ، فلعل صفة السرج تكون من خز. (ع)

(٣) تقدم في براءة.

٤٩١

(وَلَّى مُسْتَكْبِراً) زاما (١) لا يعبأ بها ولا يرفع بها رأسا : تشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أى ثقلا ولا وقر فيهما ، وقرئ : بسكون الذال. فإن قلت : ما محل الجملتين المصدرتين بكأن؟ قلت : الأولى حال من مستكبرا والثانية من لم يسمعها : ويجوز أن تكونا استئنافين ، والأصل في كأن المخففة : كأنه ، والضمير : ضمير الشأن.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١١)

(وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران مؤكدان ، الأوّل : مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره ، لأن قوله (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) في معنى : وعدهم الله جنات النعيم ، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما (حَقًّا) فدال على معنى الثبات : أكد به معنى الوعد ، ومؤكدهما جميعا قوله (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء ولا يعجزه ، يقدر على الشيء وضده ، فيعطى النعيم من شاء والبؤس من شاء ، وهو (الْحَكِيمُ) لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة والعدل (تَرَوْنَها) الضمير فيه للسماوات ، وهو استشهاد برؤيتهم لها ، غير معمودة على قوله (بِغَيْرِ عَمَدٍ) كما تقول لصاحبك : أنا بلا سيف ولا رمح تراني فإن قلت : ما محلها من الإعراب؟ قلت : لا محل لها لأنها مستأنفة. أو هي في محل الحرّ صفة للعمد أى : بغير عمد مرئية ، يعنى : أنه عمدها بعمد لا ترى ، وهي إمساكها بقدرته (هذا) إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته. والخلق بمعنى المخلوق. و (الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) آلهتهم ، بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه. فأرونى ما ذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة ، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورّط في ضلال ليس بعده ضلال.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(١٢)

هو لقمان بن باعورا : ابن أخت أيوب أو ابن خالته. وقيل : كان من أولاد آزر ، وعاش

__________________

(١) قوله «زاما لا يعبأ بها» في الصحاح : زم بأنفه ، أي : تكبر ، فهو زام. (ع)

٤٩٢

ألف سنة ، وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام ، فلما بعث قطع الفتوى ، فقيل له؟ فقال : ألا أكتفى إذا كفيت؟ وقيل : كان قاضيا في بنى إسرائيل ، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما ولم يكن نبيا ، وعن ابن عباس رضى الله عنهما : لقمان لم يكن نبيا ولا ملكا. ولكن كان راعيا أسود ، فرزقه الله العتق ، ورضى قوله ووصيته ، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته. وقال عكرمة والشعبي : كان نبيا. وقيل : خير بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة (١). وعن ابن المسيب : كان أسود من سودان مصر خياطا ، وعن مجاهد : كان عبدا أسود غليظ الشفتين متشفق (٢) القدمين. وقيل : كان نجارا. وقيل : كان راعيا وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة. وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه : إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق ، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وروى أن رجلا وقف عليه في مجلسه فقال : ألست الذي ترعى معى في مكان كذا؟ قال : بلى. قال ما بلغ بك ما أرى؟ قال : صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. وروى أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع وقد لين الله له الحديد كالطين ، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت. فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله ، فقال له داود : بحق ما سميت حكيما. وروى أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين ، فأخرج اللسان والقلب ، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب ، فسأله عن ذلك؟ فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا ، وأخبث ما فيها إذا خبثا. وعن سعيد بن المسيب أنه قال لأسود : لا تحزن ، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان : بلال ، ومهجع مولى عمر ، ولقمان. (أَنِ) هي المفسرة ، لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول ، وقد نبه الله سبحانه على أنّ الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي : هو العمل بهما وعبادة الله والشكر له ، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر (غَنِيٌ) غير محتاج إلى الشكر (حَمِيدٌ) حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣)

قيل : كان اسم ابنه «أنعم» وقال الكلبي : «أشكم» وقيل : كان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال

__________________

(١) ذكر محمود في ذلك اختلاف العلماء في نبوته ، وذكر أثناء ذلك أنه خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة. قال أحمد : وفي هذا بعد بين ، وذلك أن الحكمة داخلة في النبوة ، وقطرة من بحرها ، وأعلى درجات الحكماء تنحط عن أدنى درجات الأنبياء بما لا يقدر قدره. وليس من الحكمة اختيار الحكمة المجردة من النبوة ،

(٢) قوله «متشفق» في الصحاح : «الشفق» : الرديء من الأشياء. يقال : غطاء مشفق ، أى : مقلل اه والظاهر أنه متشقق بقافين. (ع)

٤٩٣

بهما حتى أسلما (لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه ، ومن لا نعمة منه البتة ولا يتصوّر أن تكون منه ـ : ظلم لا يكتنه عظمه.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٥)

أى (حَمَلَتْهُ) تهن (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) كقولك رجع عودا على بدء ، بمعنى ، يعود عودا على بدء ، وهو في موضع الحال. والمعنى : أنها تضعف ضعفا فوق ضعف ، أى : يتزايد ضعفها ويتضاعف ، لأنّ الحمل كلما ازداد وعظم ، ازدادت ثقلا وضعفا. وقرئ : وهنا على وهن ، بالتحريك عن أبى عمرو. يقال : وهن يوهن. ووهن يهن. وقرئ : وفصله (أَنِ اشْكُرْ) تفسير لوصينا (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أراد بنفي العلم به نفيه ، أى : لا تشرك بى ما ليس بشيء (١) ، يريد الأصنام ، كقوله تعالى (ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ). (مَعْرُوفاً) صحابا ، أو مصاحبا معروفا حسنا بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة ، وما يقتضيه الكرم والمروءة (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) يريد : واتبع سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه ـ وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا ـ ثم إلىّ مرجعك ومرجعهما ، فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما ، علم بذلك حكم الدنيا وما يجب على الإنسان في صحبتهما ومعاشرتهما : من مراعاة حق الأبوة وتعظيمه ، وما لهما من المواجب التي لا يسوغ الإخلال بها ، ثم بين حكمهما وحالهما في الآخرة. وروى : أنها نزلت في سعد بن أبى وقاص وأمّه. وفي القصة : أنها مكثت ثلاثا لا تطعم ولا تشرب حتى شجروا فاها (٢) بعود. وروى أنه قال : لو كانت لها سبعون نفسا فخرجت ، لما ارتددت إلى الكفر. فإن قلت : هذا الكلام كيف وقع في أثناء وصية لقمان؟ قلت : هو كلام اعترض به على سبيل الاستطراد ، تأكيدا لما في وصية لقمان من النهى عن الشرك. فإن قلت : فقوله (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت : لما

__________________

(١) قال محمود : «معناه : ما ليس بشيء ، وعبر بنفي العلم عن نفى المعلوم» قال أحمد : هو من باب قوله : على لا حب لا يهتدى بمناره أى : ما ليس باله فيكون لك علم بالالهية ، وليس كما ذكره في قول فرعون (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وقد مر معناه فيما تقدم.

(٢) قوله «حتى شجروا فاها بعود» في الصحاح : شجرة بالرمح ، أى : طعنه. (ع)

٤٩٤

وصى بالوالدين : ذكر ما تكابده الأمّ وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدّة المتطاولة ، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا (١). وتذكيرا بحقها العظيم مفردا ، ومن ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له : من أبر؟ «أمّك ثم أمّك ثم أمّك» ثم قال بعد ذلك «ثم أباك (٢)». وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه :

أحمل أمّى وهي الحمّاله

ترضعنى الدرّة والعلالة

ولا يجازى والد فعاله (٣)

فإن قلت : ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت المعنى في توقيته بهذه المدة أنها الغاية التي لا تتجاوز ، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم : إن علمت أنه يقوى على الفطام فلها أن تفطمه. ويدل عليه قوله تعالى (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وبه استشهد الشافعي رضى الله عنه على أن مدة الرضاع سنتان ، لا تثبت حرمة الرضاع بعد انقضائهما ، وهو مذهب أبى يوسف ومحمد. وأما عند أبى حنيفة رضى الله عنه. فمدة الرضاع ثلاثون شهرا. وعن أبى حنيفة : إن فطمته قبل العامين فاستغنى بالطعام ثم أرضعته ، لم يكن رضاعا. وإن أكل أكلا ضعيفا لم يستغن به عن الرضاع ثم أرضعته ، فهو رضاع محرم.

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)(١٦)

قرئ (مِثْقالَ حَبَّةٍ) بالنصب والرفع ، فمن نصب كان الضمير للهنة (٤) من الإساءة أو الإحسان ،

__________________

(١) قال محمود : «فيه تخصيص حق الأم ، وهو مطابق لبدايته ، فذكرها في وجوب البر في الحديث المأثور» قال أحمد : وهذا من قبيل ما يقوله الفقهاء : إن اللأم من عمل الولد قبل الحلم جله ، وهو مما يفيد تأكيد حقها ، والله أعلم.

(٢) أخرجه أبو داود والترمذي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال «قلت يا رسول الله من أبر؟ الحديث» وله شاهد في الصحيحين من حديث أبى زرعة عن أبى هريرة قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من أحق بصحابتى؟ ـ الحديث»

(٣) لعربي يحمل أمه إلى الحج ، وهي الحمالة : جملة حالية ، أى : كثيرة الحمل بحسب ما كان. أو من عادتها ذلك ، وترضع : حال متداخلة ، والدرة ـ بالضم : كثرة اللبن وسيلانه ، والمراد بها : اللبن الكثير. والعلالة ـ بالضم ـ : بقية اللبن ، والحلبة بين الحلبتين ، وتطلق على بقية جرى الفرس. والعلل : الشرب الثاني ، والشرب الأول النهل : وروى ترضعنى الدرة. والفعال ـ بالفتح ـ : فعل الخير وأراد بالوالد : الأم ، أو ما يشمل الأب والأم.

(٤) قوله «للهنة من الاساءة» في الصحاح «هن» : على وزن أخ : كلمة كناية. ومعناه : شيء ، ومؤنثه : هنة. والقماءة : الصغر والحقارة. كذا في الصحاح (ع)

٤٩٥

أى : إن كانت مثلا في الصغر والقماءة كحبة الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة (١) أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلى (يَأْتِ بِهَا اللهُ) يوم القيامة فيحاسب بها عاملها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يتوصل علمه إلى كل خفى (خَبِيرٌ) عالم بكنهه. وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرّها. ومن قرأ بالرفع : كان ضمير القصة ، وإنما أنث المثقال لإضافته إلى الحبة ، كما قال :

كما شرقت صدر القناة من الدّم (٢)

وروى أنّ ابن لقمان قال له : أرأيت الحبة تكون في مقل البحر ـ أى : في مغاصه ـ يعلمها الله؟ فقال : إنّ الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة ، لأنّ الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء. وقيل : الصخرة هي التي تحت الأرض ، وهي السجين يكتب فيها أعمال الكفار. وقرئ : فتكن ، بكسر الكاف. من وكن الطائر يكن : إذا استقر في وكنته ، وهي مقره ليلا.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(١٧)

(وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) يجوز أن يكون عاما في كل ما يصيبه من المحن ، وأن يكون خاصا بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : من أذى من يبعثهم على الخير وينكر عليهم الشر (إِنَّ ذلِكَ) مما عزمه الله من الأمور ، أى : قطعه قطع إيجاب والزام. ومنه الحديث «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل (٣)» أى لم يقطعه بالنية : ألا ترى إلى قوله عليه السلام «لمن لم يبيت السيام» (٤) ومنه «إنّ الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» (٥)

__________________

(١) قال محمود : «هذا من البديع الذي يسمى التتميم» قال أحمد : يعنى أنه تمم خلفاءها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة ، وهو من وادى قولها كأنه علم في رأسه نار.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٣٩٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) تقدم في البقرة.

(٤) تقدم أيضا.

(٥) أخرجه ابن أبى شيبة وابن عدى من طريق أبى سلمة عن أبى هريرة «أن رجلا قال يا رسول الله ، أقصر الصلاة في سفري؟ قال : نعم ، إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بفريضته» وفيه عمر بن عبد الله بن أبى خشعم اليمامي وهو منكر الحديث : قاله ابن عدى ، وأخرجه أيضا من طريق سعد بن سعيد بن أبى سعيد ، حدثني أخى عبد الله عن أبيه. أن أبى هريرة مرفوعا نحوه ، ورواه ابن حبان وأحمد والبزار ، وأبو يعلى من رواية حرب ابن قيس عن نافع عن ابن عمر بلفظ «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» وفي الباب عن ابن عباس. أخرجه ابن حبان والطبراني وأبو نعيم في الحلية من رواية هشام بن حسان عن عكرمة عنه بلفظ ابن عمر ـ

٤٩٦

وقولهم : عزمة من عزمات ربنا. ومنه : عزمات الملوك. وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده : عزمت عليك إلا فعلت كذا ، إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله ولا مندوحة في تركه. وحقيقته : أنه من تسمية المفعول بالمصدر ، وأصله من معزومات الأمور ، أى : مقطوعاتها ومفروضاتها. ويجوز أن يكون مصدرا في معنى الفاعل. أصله : من عازمات الأمور ، من قوله تعالى (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) كقولك : جد الأمر ، وصدق القتال. وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات ، وأنها كانت مأمورا بها في سائر الأمم ، وأنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن ، سابقة القدم على ما سواها ، موصى بها في الأديان كلها.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(١٩)

تصاعر ، وتصعر : بالتشديد والتخفيف. يقال : أصعر خدّه ، وصعره ، وصاعره : كقولك أعلاه وعلاه وعالاه : بمعنى. والصعر والصيد : داء يصيب البعير يلوى منه عنقه. والمعنى : أقبل على الناس بوجهك تواضعا ، ولا تولهم شق وجهك وصفحته ، كما يفعل المتكبرون. أراد : (وَلا تَمْشِ) تمرح (مَرَحاً) أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا. ويجوز أن يريد : ولا تمش لأجل المرح والأشر ، أى لا يكن غرضك في المشي البطالة والأشر كما يمشى كثير من الناس لذلك ، لا لكفاية مهم دينى أو دنيوى. ونحوه قوله تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ). والمختال : مقابل للماشي مرحا ، وكذلك الفخور للمصعر خدّه كبرا (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) واعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين : لا تدب دبيب المتماوتين ، ولا تثب وثيب الشطار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سرعة المشي نذهب بهاء المؤمن» (١) وأما قول

__________________

ـ وعن ابن مسعود أخرجه الطبراني والعقيلي وأبو نعيم من رواية معمر بن عبد الله الأنصارى عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عنه تفرد برفعه معمر ، ووقفه غندر وروح بن عبادة وغيرهما عن شعبة. أخرجه ابن أبى شيبة وغيره. وعن عائشة : أخرجه ابن عدى من رواية الحكم بن عبد الله الأيلى عن القاسم عن عائشة ومن رواية عمر بن عبيد البصري عن هشام عن أبيه عنها والحكم وعمر ضعيفان. وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق إسماعيل بن عيسى العطار ، حدثنا عمر بن عبد الجبار ، حدثنا عبد الله بن زيد بن آدم عن أبى الدرداء وأبى أمامة وواثلة وأنس به وقال : لا يروى إلا بهذا الاسناد تفرد به إسماعيل. قلت : والاسناد مجهول. قوله «وقولهم عزمة من عزمات ربنا» هذا طرف من حديث أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم والبيهقي من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ، في أثناء حديثه قال فيه «ومن منعها يعنى الزكاة فانا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد منها شيء وإسناده حسن.

(١) جاء من حديث أبى هريرة وأبى سعيد وابن عمر ، وأخرجه ابن عدى من رواية عمار بن مطرد وهو لتروك ، وقد تابعه الوليد بن سلمة وهو ـ

٤٩٧

عائشة في عمر رضى الله عنهما «كان إذا مشى أسرع» (١) فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت. وقرئ : وأقصد ، بقطع الهمزة ، أى : سدّد في مشيك من أقصد الرامي إذا سدّد سهمه نحو الرمية (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) وانقص منه واقصر ، من قولك : فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه (أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) أوحشها ، من قولك : شيء نكر ، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت. والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة ، وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردا وتفاديهم من اسمه : أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به ، فيقولون : الطويل الأذنين ، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة : وقد عدّ في مساوي الآداب : أن يجرى ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة (٢) ، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير ، وتمثيل أصواتهم بالنهاق ، تم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة ـ وإن جعلوا حميرا وصوتهم نهاقا ـ ومبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه. وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. فإن قلت : لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت : ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع ، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت ، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس ، فوجب توحيده.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ)(٢٠)

(ما فِي السَّماواتِ) الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك (وَما فِي الْأَرْضِ) البحار والأنهار والمعادن والدواب وما لا يحصى (وَأَسْبَغَ) وقرىّ بالسين والصاد ، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف ، تقول في سلخ ، صلخ ، وفي سقر : صقر ، وفي سالغ : صالغ (٣)

__________________

ـ أو هي منه ، لكنه قال : عن ابن أبى ذئب عن المغيرة عن أبى سعيد والوليد بن سلمة. وفيه إسناد آخر أخرجه ابن عدى من روايته عن عمرو بن صهبان عن نافع عن ابن عمر ، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق أبى معشر عن سعيد عن أبى هريرة وإسناده ضعيف أيضا

(١) ذكره ابن الأثير في النهاية ، قلت : لعله أخذه عن الفائق ، وفي الطبقات لابن سعد من رواية سليمان ابن أبى حثمة قال قالت الشفاء بنت عبد الله ، وهي أم سليمان : كان عمر إذا مشى ... فذكره.

(٢) قوله «منه الرجلة» أى : المشي برجله ، يعنى : وإن أتعبه المشي وعدم الركوب. وفي الصحاح «الرجل» بالتحريك : مصدر قولك : رجل ـ بالكسر ـ أى : بقي راجلا. (ع)

(٣) قوله «وفي سالغ صالغ» في الصحاح : سلغت البقرة والشاة ، إذا أسقطت السن التي خلفت السديس

٤٩٨

وقرئ : نعمه ، ونعمة ، ونعمته. فإن قلت : ما النعمة؟ قلت : كل نفع قصد به الإحسان ، والله تعالى خلق العالم كله نعمة ، لأنه إما حيوان ، وإما غير حيوان. فما ليس بحيوان نعمة على الحيوان ، والحيوان نعمة من حيث أنّ إيجاده حيا نعمة عليه. لأنه لو لا إيجاده حيا لما صح منه الانتفاع ، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمة. فإن قلت : لم كان خلق العالم مقصودا به الإحسان؟ قلت : لأنه لا يخلقه إلا لغرض ، وإلا كان عبثا ، والعبث لا يجوز عليه ولا يجوز أن يكون لغرض راجع إليه من نفع ، لأنه غنى غير محتاج إلى المنافع ، فلم يبق إلا أن يكون لغرض يرجع إلى الحيوان وهو نفعه. فإن قلت : فما معنى الظاهرة والباطنة؟ قلت : الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة ، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل ، أو لا يعلم أصلا ، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها ولا يهتدى إلى العلم بها ، وقد أكثروا في ذلك : فعن مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصرة على الأعداء ، والباطنة : الأمداد من الملائكة. وعن الحسن رضى الله عنه : الظاهرة : الإسلام. والباطنة الستر. وعن الضحاك : الظاهرة : حسن الصورة ، وامتداد القامة. وتسوية الأعضاء. والباطنة : المعرفة. وقيل : الظاهرة البصر ، والسمع ، واللسان ، وسائر الجوارح الظاهرة. والباطنة : القلب ، والعقل ، والفهم ، وما أشبه ذلك. ويروى في دعاء موسى عليه السلام : إلهى ، دلني على أخفى نعمتك على عبادك ، فقال : أخفى نعمتي عليهم النفس. ويروى : أن أيسر ما يعذب به أهل النار : الأخذ بالأنفاس (١).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)(٢١)

معناه (أَ) يتبعونهم (وَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) أى في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٢٢)

قرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه : ومن يسلم بالتشديد ، يقال : أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله. فإن قلت : ماله عدّى بإلى ، وقد عدّى باللام في قوله (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)؟ قلت : معناه مع اللام : أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله. أى خالصا له. ومعناه ـ مع إلى ـ :

__________________

ـ والسلوغ في ذوات الأظلاف : بمنزلة البزول في ذوات الأخفاف. (ع)

(١) لم أجده.

٤٩٩

أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد : التوكل عليه والتفويض إليه (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) من باب التمثيل : مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق ، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أى هي صائرة إليه.

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ)(٢٤)

قرئ : يحزنك ، ويحزنك : من حزن ، وأحزن. والذي عليه الاستعمال المستفيض : أحزنه ويحزنه. والمعنى : لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام ، فإن الله عزّ وجلّ دافع كيده في نحره ، ومنتقم منه ، ومعاقبه على عمله (إِنَّ اللهَ) يعلم ما في صدور عباده ، فيفعل بهم على حسبه (نُمَتِّعُهُمْ) زمانا (قَلِيلاً) بدنياهم (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطرّ إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك (١) منه. والغلظ : مستعار من الأجرام الغليظة. والمراد الشدّة والثقل على المعذب.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٧)

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلزام لهم على إقرارهم بأنّ الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده ، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر. وأن لا يعبد معه غيره ، ثم قال (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّ ذلك يلزمهم ، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن حمد الحامدين المستحق للحمد ، وإن لم يحمدوه.

__________________

(١) قال محمود : «شبه إلزامهم التعذيب باضطرار المضطر إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك منه» قال أحمد : وتفسير هذا الاضطرار في الحديث في أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد ، فيرسل الله عليهم الزمهرير. فيكون عليهم كشدة اللهب ، فيتمنون عود اللهب اضطرارا ، فهو إخبار عن اضطرار. وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث يقول :

يرون الموت قداما وخلفا

فيختارون والموت اضطرار

٥٠٠