الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(٦٢)

(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه. وقيل : هم الزناة وأهل الفجور من قوله تعالى (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ). (وَالْمُرْجِفُونَ) ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : هزموا وقتلوا ، وجرى عليهم كيت وكيت ، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. يقال : أرجف بكذا ، إذا أخبر به على غير حقيقة ، لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت ، من الرجفة وهي الزلزلة. والمعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدكم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء : لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم وتنوؤهم (١) ، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة ، وإلى أن لا يساكنوك فيها (إِلَّا) زمنا (قَلِيلاً) ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم (٢) ، فسمى ذلك إغراء ، وهو التحريش على سبيل المجاز (مَلْعُونِينَ) نصب على الشتم أو الحال ، أى : لا يجاورونك إلا ملعونين ، دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا ، كما مرّ في قوله (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) ولا يصح أن ينتصب عن (أُخِذُوا) لأنّ ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. وقيل في (قَلِيلاً) وهو منصوب على الحال أيضا. ومعناه. لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين. فإن قلت : ما موقع لا يجاورونك؟ قلت : لا يجاورونك عطف على لنغرينك ، لأنه يجوز أن يجاب به القسم. ألا نرى إلى صحة قولك : لئن لم ينتهوا لا يجاورونك. فإن قلت : أما كان من حق لا يجاورونك أن يعطف بالفاء ، وأن يقال لنغرينك بهم فلا يجاورونك؟ قلت : لو جعل الثاني مسببا عن الأوّل لكان الأمر كما قلت ، ولكنه جعل جوابا آخر للقسم معطوفا على الأوّل ، وإنما عطف بثم ، لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم وأعظم من جميع ما أصيبوا به ، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه (سُنَّةَ اللهِ) في موضع مصدر مؤكد ، أى : سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا وعن مقاتل : يعنى كما قتل أهل بدر وأسروا.

__________________

(١) قوله «الأفاعيل التي تسوءهم وتنوؤهم» في الصحاح ، يقال : له عندي ما ساءه وناءه ، أى أثقله ، وما يسوؤه وينوؤه ، وقال بعضهم أراد ساءه وناءه وإنما قال ناءه وهو لا يتعدى لأجل ساءه ، ليزدوج الكلام. (ع)

(٢) قال محمود : «المراد بقوله تعالى (إِلَّا قَلِيلاً) ريثما يلتقطون عيالاتهم وأنفسهم لا غير» قال أحمد : وفيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي ، يمهل ربّما؟؟؟ ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان ، حتى يتحصل له منزل آخر على حسب الاجتهاد ، والله أعلم.

٥٦١

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً)(٦٣)

كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء ، واليهود يسألونه امتحانا ، لأن الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به ، لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا ، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع ، تهديدا للمستعجلين ، وإسكانا للممتحنين (قَرِيباً) شيئا قريبا. أو لأن الساعة في معنى اليوم ، أو في زمان قريب.

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(٦٥)

السعير : النار المسعورة الشديدة الإيقاد.

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا) (٦٦)

وقرئ : تقلب ، على البناء للمفعول. وتقلب ، بمعنى تتقلب. ونقلب ، أى : نقلب نحن. وتقلب ، على أن الفعل للسعير (١). ومعنى تقليبها : تصريفها في الجهات ، كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو تغييرها عن أحوالها وتحويلها عن هيئاتها. أو طرحها في النار مقلوبين منكوسين. وخصت الوجوه بالذكر ، لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده. ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة ، وناصب الظرف (يَقُولُونَ) أو محذوف. وهو «اذكر» وإذا نصب بالمحذوف كان (يَقُولُونَ) حالا.

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)(٦٨)

وقرئ : سادتنا وساداتنا : وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم. يقال : ضلّ السبيل وأضله إياه ، وزيادة الألف لإطلاق الصوت : جعلت فواصل الآي كقوافى الشعر ، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع ، وأن ما بعده مستأنف. وقرئ : كثيرا ، تكثيرا لإعداد اللعائن. وكبيرا ، ليدل على أشد اللعن وأعظمه (ضِعْفَيْنِ) ضعفا لضلاله وضعفا لإضلاله : يعترفون ، ويستغيثون ، ويتمنون ، ولا ينفعهم شيء من ذلك.

__________________

(١) قوله «على أن الفعل للسعير ، يعنى : وجوههم ، بالنصب. (ع)

٥٦٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً)(٦٩)

(لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) قيل : نزلت في شأن زيد وزينب ، وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وقيل : في أذى موسى عليه السلام : هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها ، وقيل : اتهامهم إياه بقتل هرون ، وكان قد خرج معه الجبل فمات هناك ، فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتا فأبصروه حتى عرفوا أنه غير مقتول. وقيل : أحياه الله فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام. وقيل : قرفوه بعيب (١) في جسده من برص أو أدرة ، فأطلعهم الله على أنه بريء منه (وَجِيهاً) ذا جاه ومنزلة عنده ، فلذلك كان يميط عنه التهم ، ويدفع الأذى ، ويحافظ عليه ، لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة ، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة. وكان عبد الله وجيها. قال ابن خالويه : صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان ، فسمعته يقرؤها. وقراءة العامة أوجه ؛ لأنها مفصحة عن وجاهته عند الله ، كقوله تعالى (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) وهذه ليست كذلك. فإن قلت : قوله (مِمَّا قالُوا) معناه : من قولهم ، أو من مقولهم ، لأنّ «ما» إما مصدرية أو موصولة ، وأيهما كان فكيف تصح البراءة منه؟ قلت المراد بالقول أو المقول : مؤداه ومضمونه ، وهو الأمر المعيب. ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة (٢) ، والقالة بمعنى القول؟

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٧٣)

(قَوْلاً سَدِيداً) قاصدا إلى الحق والسداد : القصد إلى الحق ، والقول بالعدل. يقال: سدّد السهم نحو الرميّة : إذا لم يعدل به عن سمتها ، كما قالوا : سهم قاصد ، والمراد : نهيهم عما خاضوا

__________________

(١) قوله «وقيل قرفوه بعيب» في الصحاح : قرفت الرجل ، أى : عبته ، ويقال : هو يقرف بكذا ، أى : ترمى برؤيتهم. (ع)

(٢) قوله «ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة» في الصحاح : صار هذا الأمر سبة عليه ـ بالضم ، أى : عارا (ع)

٥٦٣

فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول ، والبعث على أن يسد قولهم (١) في كل باب ؛ لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. والمعنى : راقبوا الله في حفظ ألسنتكم ، وتسديد قولكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة ؛ من تقبل حسناتكم والإثابة عليها ، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها ، بنيت تلك على النهى عما يؤذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ، ليترادف عليهم النهى والأمر ، مع اتباع النهى ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام ، وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. لما قال (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) وعلق بالطاعة الفوز العظيم ، أتبعه قوله (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) وهو يريد بالأمانة الطاعة ، فعظم أمرها وفخم شأنها ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنّ هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عز وعلا انقياد مثلها ـ وهو ما يتأتى من الجمادات ـ وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها ـ حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيآت مختلفة وأشكال متنوعة ، كما قال (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) وأما الإنسان فلم تكن حاله ـ فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف ـ مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع ، والمراد بالأمانة : الطاعة ، لأنها لازمة الوجود ، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها : مجاز. وأما حمل الأمانة فمن قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، تريد : أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها ؛ لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها. ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ، ولى عليه حق ، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها. ونحوه قولهم ، لا يملك مولى لمولى نصرا. يريدون : أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل. ومنه قول القائل :

أخوك الّذى لا تملك الحسّ نفسه

وترفضّ عند المحفظات الكتائف (٢)

أى لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده ، بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم ابغض حق أخيك؟ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده ، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه ،

__________________

(١) قوله «على ان يسد قولهم» في الصحاح : سد قوله يسدّ ـ بالكسر ـ : أى صار سديدا. (ع)

(٢) للقطامى. وقبل : لذي الرمة. وحس له حسا : رق له وعطف. والحس أيضا : العقل والتدبير والنظر في العواقب ، والارفضاض من الترشرش والتناثر ، وأحفظه إحفاظا : أغضبه ، فالمحفظات : المغضبات. والكتائف : جمع كتيفة ، وهي الضغينة والحقد. يقول : أخوك هو الذي لا تملك نفسه الرحمة ، بل يبذلها لك. أو لا تقدر نفسه على التدبر بالتأنى ، بل يسرع إليك بغتة وترتعد وتذهب ضغائنه من جهتك عند الأمور المغضبة لك ، لأنها تغضبه أيضا.

٥٦٤

فمعنى : فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان ، فأبين إلا أن يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة ، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها. والثاني : أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله : أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه : أن يتحمله ويستقل به ، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه ، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها ، وضمنها ثم خاس (١) بضمانه فيها ، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب. وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم : لو قيل للشحم : أين تذهب؟ لقال : أسوى العوج ، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم محال ، ولكن الغرض أنّ السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه ، فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأى واحد : أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، لأنه مثلت حاله ـ في تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما ـ بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضى في وجهه. وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة ، وليس كذلك ما في هذه الآية ، فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه ، غير مستقيم ، فكيف صح بناء التمثيل على المحال ، وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول. قلت : الممثل به في الآية وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب. وفي نظائره مفروض ، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات : مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها. واللام في (لِيُعَذِّبَ) لام التعليل على طريق المجاز ، لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة ، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش. ويتوب ، ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ، ويبتدئ : ويتوب الله (٢). ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها ، لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعا من عذاب الغادر ، والله أعلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه ، أعطى الأمان من عذاب القبر (٣)».

__________________

(١) قوله «ثم خاس بضمانه فيها» في الصحاح : خاس به يخيس ويخوس ، أى : غدر به يقال : خاص بالعهد ، إذ نكث. (ع)

(٢) قوله «ويتوب» أى بالرفع ، كما في النسفي. (ع)

(٣) أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

٥٦٥

سورة سبإ

مكية ، [إلا آية ٦ فمدنية]

وآياتها ٥٤ [نزلت بعد لقمان]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)(٢)

ما في السماوات والأرض كله نعمة من الله ، وهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجله ، ولما قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ثم وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيوية ، كان معناه : أنه المحمود على نعم الدنيا ، كما تقول : احمد أخاك الذي كساك وحملك ، تريد : احمده على كسوته وحملانه. ولما قال (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب. فإن قلت : ما الفرق بين الحمدين؟ قلت : أمّا الحمد في الدنيا فواجب ، لأنه على نعمة متفضل بها ، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب. وأمّا الحمد في الآخرة فليس بواجب (١) ، لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها (٢) ، إنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم : يلتذون به كما يلتذ من به العطاش (٣) بالماء البارد (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته (الْخَبِيرُ) بكل كائن يكون. ثم ذكر مما يحيط به علما (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من

__________________

(١) قال محمود : «الحمد الأول واجب لأنه على نعمة متفضل بها ، والثاني : ليس بواجب ، لأنه على نعمة واجبة على المنعم» قال أحمد : والحق في الفرق بين الحمدين : أن الأول عبادة مكلف بها ، والثاني غير مكلف به ولا متكلف ، وإنما هو في النشأة الثانية كالجليات في النشأة الأولى ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس» وإلا فالنعمة الأولى كالثانية بفضل من الله تعالى على عباده ، لا عن استحقاق. والله الموفق.

(٢) قوله «نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها» مبنى على مذهب المعتزلة ، أما أهل السنة فلا يوجبون على الله شيئا ، ولا يجب الحمد في الآخرة ، لأنها ليست دار تكليف. (ع)

(٣) قوله «كما يلتذ من به العطاش» في الصحاح «العطاش» : داء يصيب الإنسان : يشرب الماء فلا يروى. (ع)

٥٦٦

الغيث كقوله (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) ومن الكنوز والدفائن والأموات ، وجميع ما هي له كفات (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من الشجر والنبات ، وماء العيون ، والغلة ، والدواب ، وغير ذلك (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة وأنواع البركات والمقادير ، كما قال تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)(وَما يَعْرُجُ فِيها) من الملائكة وأعمال العباد (وَهُوَ) مع كثرة نعمه وسبوغ فضله (الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) للمفرطين في أداء مواجب شكرها. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه : ننزّل ، بالنون والتشديد.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٤)

قولهم (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) نفى للبعث وإنكار لمجيء الساعة. أو استبطاء لما قد وعدوه من قيامها على سبيل الهزء والسخرية ، كقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ). أوجب ما بعد النفي ببلى على معنى : أن ليس الأمر إلا إتيانها ، ثم أعيد إيجابه مؤكدا بما هو الغاية في التوكيد والتشديد ، وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل ، ثم أمد التوكيد القسمي إمدادا بما أنبع المقسم به من الوصف بما وصف به ، إلى قوله (لِيَجْزِيَ) لأنّ عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدّة ثباته واستقامته ، لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر ، وكلما كان المستشهد به أعلى كعبا وأبين فضلا وأرفع منزلة ، كانت الشهادة أقوى وآكد ، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ. فإن قلت : هل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى؟ قلت : نعم وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب ، وأدخلها في الخفية ، وأوّلها مسارعة إلى القلب : إذا قيل عالم الغيب ، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة ، وأنه كائن لا محالة ، ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب ، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات ، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة ، فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئا واضحا. فإن قلت : الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه ، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الأيمان وأقسم عليهم جهد القسم ، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذبا كيف تكون مصححة لما أنكروه؟ قلت : هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة والبينة الساطعة وهي قوله (لِيَجْزِيَ) فقد وضع الله في العقول وركب في

٥٦٧

الغرائز وجوب الجزاء (١) ، وأن المحسن لا بدّ له من ثواب ، والمسيء لا بد له من عقاب. وقوله (لِيَجْزِيَ) متصل بقوله (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) تعليلا له. قرئ : لتأتينكم بالتاء والياء. ووجه من قرأ بالياء : أن يكون ضميره للساعة بمعنى اليوم. أو يسند إلى عالم الغيب ، أى ليأتينكم أمره كما قال تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) وقال (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ). وقرئ : عالم الغيب ، وعلام الغيب : بالجر ، صفة لربي. وعالم الغيب ، وعالم الغيوب : بالرفع ، على المدح. ولا يعزب : بالضم والكسر في الزاى ، من العزوب وهو البعد. يقال : روض عزيب : بعيد من الناس (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) مقدار أصغر نملة (ذلِكَ) إشارة إلى مثقال ذرّة. وقرئ : ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، بالرفع على أصل الابتداء. وبالفتح على نفى الجنس ، كقولك : لا حول ولا قوّة إلا بالله ، بالرفع والنصب. وهو كلام منقطع عما قبله. فإن قلت : هل يصح عطف المرفوع على مثقال ذرّة ، كأنه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر وزيادة ، لا لتأكيد النفي. وعطف المفتوح على ذرّة بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف ، كأنه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرّة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر؟ قلت : يأبى ذلك حرف الاستثناء ، إلا إذا جعلت الضمير في (عَنْهُ) للغيب ، وجعلت (الْغَيْبِ) اسما للخفيات ، قبل أن تكتب في اللوح لأنّ إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب ، على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ، ولا يزل عنه إلا مسطورا في اللوح.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)(٥)

وقرئ معجزين ، وأليم ، بالرفع والجر. وعن قتادة : الرجز : سوء العذاب.

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(٦)

وقرئ معجزين. فأليم : بالرفع والجر ، وعن قتادة : الرجز : سوء العذاب. ويرى في موضع الرفع ، أى : ويعلم أولو العلم ، يعنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمّته. أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا مثل كعب الأحبار وعبد الله ابن سلام رضى الله عنهما. (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... الْحَقَ) هما مفعولان ليرى ، وهو فصل من قرأ (الْحَقَ) بالرفع : جعله مبتدأ و (الْحَقَ) خبرا ، والجملة في موضع المفعول الثاني. وقيل (يَرَى) في موضع النصب معطوف على (لِيَجْزِيَ) أى : وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق. علما

__________________

(١) قوله «وركب في الغرائز وجوب الجزاء» هذا مقتضى الحكمة وإن لم يجب على الله تعالى شيء عند أهل السنة ، فتدبر. (ع)

٥٦٨

لا يزاد عليه في الإيقان ، ويحتجوا به على الذين كذبوا وتولوا. ويجوز أن يريد : وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه هو الحق فيزدادوا حسرة وغما.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)(٨)

(الَّذِينَ كَفَرُوا) قريش. قال بعضهم لبعض : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يعنون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم : يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب : أنكم تبعثون وتنشئون خلقا جديدا بعد أن تكونوا رفاتا وترابا ويمزق أجسادكم البلى كل ممزق ، أى : يفرقكم ويبدد أجزاءكم كل تبديد. أهو مفتر على الله كذبا فيما ينسب إليه من ذلك؟ أم به جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه؟ ثم قال سبحانه ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء ، وهو مبرأ منهما ، بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث : واقعون في عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك. وذلك أجنّ الجنون وأشدّه إطباقا على عقولهم : جعل وقوعهم في العذاب رسيلا لوقوعهم في الضلال ، كأنهما كائنان في وقت واحد : لأنّ الضلال لما كان العذاب من لوازمه وموجباته : جعلا كأنهما في الحقيقة مقترنان. وقرأ زيد بن علىّ رضى الله عنه : ينبيكم. فإن قلت : فقد جعلت الممزق مصدرا ، كبيت الكتاب :

ألم تعلم مسرّحى القوافي

فلاعيّا بهنّ ولا اجتلابا (١)

فهل يجوز أن يكون مكانا؟ قلت نعم. معناه ما حصل من الأموات في بطون الطير والسباع ، وما مرّت به السيول فذهبت به كل مذهب ، وما سفته الرياح فطرحته كل مطرح. فإن قلت : ما العامل في إذا؟ قلت : ما دلّ عليه (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وقد سبق نظيره. فإن قلت : الجديد فعيل بمعنى فاعل أم مفعول؟ قلت : هو عند البصريين بمعنى فاعل ، تقول : جد فهو جديد ، كحد فهو حديد ، وقلّ فهو قليل. وعند الكوفيين بمعنى : مفعول ، من جده إذا قطعه. وقالوا : هو

__________________

(١) لجرير ، وهو من أبيات الكتاب. والمسرح : مصدر على زنة المفعول ، فهو بمعنى التسريح ، أى : الإرسال أو التسوية. وسرحت الجارية شعرها : مشطته ، فاسترسل وحسن ، وهو مضاف لباء الفاعل. والقوافي : مفعول ، ونصب العي لشبهه بالمضاف ، أو نونه للضرورة ، أى : لا أعيى بها ، ولا أعجز عنها ، ولا أجتلبها ، ولا أسرقها ، ويجوز أن العي ركاكة المعنى. والاجتلاب : الاستتار ، من جلبة الجرح ، وهي قشرته الساترة له ، فيهن : بمعنى فيهن.

٥٦٩

الذي جده الناسج الساعة في الثوب ، ثم شاع. ويقولون : ولهذا قالوا (١) ملحفة جديد ، وهي عند البصريين كقوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) ونحو ذلك. فإن قلت : لم أسقطت الهمزة في قوله (أَفْتَرى) دون قوله «السحر» ، وكلتاهما همزة وصل؟ قلت : القياس الطرح ، ولكن أمرا اضطرّهم إلى ترك إسقاطها في نحو «آلسحر» وهو خوف التباس الاستفهام بالخبر ، لكون همزة الوصل مفتوحة كهمزة الاستفهام. فإن قلت : ما معنى وصف الضلال بالبعد؟ قلت هو من الإسناد المجازى ، لأنّ البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادّة ، وكلما ازداد عنها بعدا كان أضل. فإن قلت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورا علما في قريش ، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم ، فما معنى قوله (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) فنكروه لهم ، وعرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدل على مجهول في أمر مجهول. قلت : كانوا يقصدون بذلك الطنز والسخرية ، فأخرجوه مخرج التحلي ببعض الأحاجى التي يتحاجى بها للضحك والتلهي متجاهلين به وبأمره.

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(٩)

أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض ، وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم ، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجلّ ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفا ، لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة (إِنَّ فِي ذلِكَ) النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله (لَآيَةً) ودلالة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) وهو الراجع إلى ربه المطيع له ، لأنّ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله ، على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به. قرئ يشأ ويخسف ويسقط : بالياء ، لقوله تعالى (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) وبالنون لقوله (وَلَقَدْ آتَيْنا) وكسفا : بفتح السين وسكونه. وقرأ الكسائي : يخسف بهم ، بالإدغام وليست بقوية.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)

__________________

(١) قوله «ولهذا قالوا» أى العرب. (ع)

٥٧٠

وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)(١٣)

(يا جِبالُ) إمّا أن يكون بدلا من (فَضْلاً) ، وإمّا من (آتَيْنا) بتقدير : قولنا يا جبال. أو : قلنا يا جبال. وقرئ : أوّبى ، وأوبى : من التأويب. والأوب : أى رجعي معه التسبيح. أو ارجعي معه في التسبيح كلما رجع فيه ، لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه : ومعنى تسبيح الجبال : أنّ الله سبحانه وتعالى يخلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبح : معجزة لداود. وقيل : كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين ، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها (١) والطير بأصواتها. وقرئ : والطير ، رفعا ونصبا ، عطفا على لفظ الجبال ومحلها. وجوّزوا أن ينتصب مفعولا معه ، وأن يعطف على فضلا ، بمعنى وسخرنا له الطير. فإن قلت : أى فرق بين هذا النظم وبين أن يقال (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) تأويب الجبال معه والطير؟ قلت : كم بينهما. ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى : من الدلالة على عزّة الربوبية وكبرياء الإلهية ، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا : إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت ، إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) وجعلناه له لينا كالطين والعجين والشمع ، يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة. وقيل : لان الحديد في يده لما أوتى من شدّة القوّة. وقرئ صابغات ، وهي الدروع الواسعة الضافية ، وهو أوّل من اتخذها وكانت قبل صفائح. وقيل : كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ، ويتصدّق على الفقراء. وقيل : كان يخرج حين ملك بنى إسرائيل متنكرا ، فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم : ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه ، فقيض الله له ملكا في صورة آدمى فسأله على عادته ، فقال : نعم الرجل لو لا خصلة فيه فريع داود ، فسأله؟ فقال : لو لا أنه يطعم عياله من بيت المال ، فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغنى به عن بيت المال ، فعلمه صنعة الدروع (وَقَدِّرْ) لا تجعل المسامير دقاقا فتقلق ، ولا غلاظا فتفصم الحلق. والسرد : نسج الدروع (وَاعْمَلُوا) الضمير لداود وأهله (وَ) سخرنا (لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) فيمن نصب : ولسليمان الريح مسخرة ، فيمن رفع ، وكذلك فيمن قرأ :

__________________

(١) قوله «بأصدائها» جمع صدى ، وهو الذي يجيبك بمثل صوتك في الجبال وغيرها ، كذا في الصحاح. (ع)

٥٧١

الرياح ، بالرفع (غُدُوُّها شَهْرٌ) جريها بالغداة مسيرة شهر ، وجريها بالعشي كذلك. وقرئ: غدوتها وروحتها. وعن الحسن رضى الله عنه : كان يغدو فيقيل بإصطخر ، ثم يروح فيكون رواحه بكابل. ويحكى أنّ بعضهم رأى مكتوبا في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان : نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه ، غدونا من إصطخر فقلناه ، ونحن رائحون منه فبائتون بالشام إن شاء الله. القطر : النحاس المذاب من القطران. فإن قلت : ما ذا أراد بعين القطر؟ قلت : أراد بها معدن النحاس ولكنه أساله (١) كما ألان الحديد لداود ، فنبع كما ينبع الماء من العين ، فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه ، كما قال (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) وقيل : كان يسبل في الشهر ثلاثة أيام (بِإِذْنِ رَبِّهِ) بأمره (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ) ومن يعدل (عَنْ أَمْرِنا) الذي أمرناه به من طاعة سليمان وقرئ. يزغ من أزاغه. وعذاب السعير : عذاب الآخرة ، عن ابن عباس رضى الله عنهما وعن السدى : كان معه ملك بيده سوط من نار ، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجنى. المحاريب : المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال : سميت محاريب لأنه يحامى عليها ويذب عنها. وقيل : هي المساجد. والتماثيل : صور الملائكة والنبيين والصالحين ، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم. فإن قلت : كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير؟ قلت : هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع ، لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب ، وعن أبى العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرّما. ويجوز أن يكون غير صور الحيوان كصور الأشجار وغيرها ، لأنّ التمثال كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان. أو تصوّر محذوفة الرؤوس. وروى أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. والجوابى : الحياض الكبار ، قال :

تروح على آل المحلّق جفنة

كجابية السّيح العراقىّ تفهق (٢)

لأنّ الماء يجبى فيها ، أى : يجمع. جعل الفعل لها مجازا وهي من الصفات الغالبة كالدابة. قيل : كان يقعد على الجفنة ألف رجل. وقرئ بحذف الياء اكتفاء بالكسرة. كقوله تعالى (يَوْمَ.

__________________

(١) قوله «ولكنه أساله كما ألان الحديد» لعله : أساله له (ع)

(٢) للأعشى في مدح المحلق. وروى «تلوح» بدل تروح ، لأنها تظهر عند خروجها من البيت أول النهار مستعلية عليهم. والجفنة : قصعة الثريد. والجابية : الحوض يجبى الماء ، أى : يجمعه إلى الحوض. والسيح : الماء الكثير الجاري. وفهق يفهق ، كفرح يفرح : اتسع وامتلأ وتدفق. ومنه الحديث : أنه قام إلى باب الجنة فانفهقت له ، أى : انفتحت واتسعت ، والمتفيهق : المكثر من الكلام ، فقوله «تفهق» أى تمتلئ مع اتساعها حتى تكاد تتدفق

٥٧٢

يَدْعُ الدَّاعِ). (راسِياتٍ) ثابتات على الأثافى لا تنزل عنها لعظمها (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ) حكاية ما قيل لآل داود. وانتصب (شُكْراً) على أنه مفعول له ، أى : اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدّى على طريق الشكر. أو على الحال ، أى : شاكرين. أو على تقدير اشكروا شكرا ، لأن اعملوا فيه معنى اشكروا ، من حيث أنّ العمل للمنعم شكر له. ويجوز أن ينتصب باعملوا مفعولا به. ومعناه : إنا سخرنا لكم الجنّ يعملون لكم ما شئتم ، فاعملوا أنتم شكرا على طريق المشاكلة (الشَّكُورُ) المتوفر على أداء الشكر ، الباذل وسعه فيه : قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه ، اعتقادا واعترافا وكدحا ، وأكثر أوقاته. وعن ابن عباس رضى الله عنهما ؛ من يشكر على أحواله كلها. وعن السدى : من يشكر على الشكر. وقيل : من يرى عجزه عن الشكر. وعن داود أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله ، فلم تكن تأتى ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلى. وعن عمر رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقول : اللهم اجعلنى من القليل ، فقال عمر ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل : إنى سمعت الله يقول (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل ، فقال عمر : كل الناس أعلم من عمر (١).

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)(١٤)

قرئ : فلما قضى عليه الموت. ودابة الأرض : الأرضة ، وهي الدويبة التي يقال لها السرفة والأرض فعلها ، فأضيفت إليه. يقال : أرضت الخشبة أرضا. إذا أكلتها الأرضة. وقرئ بفتح الراء ، من أرضت الخشبة أرضا ، وهو من باب فعلته ففعل ، كقولك : أكلت القوادح الأسنان أكلا ، فأكلت أكلا. والمنسأة : العصا. لأنه ينسأ بها ، أى : يطرد ويؤخر وقرئ بفتح الميم وبتخفيف الهمزة قلبا وحذفا وكلاهما ليس بقياس ، ولكن إخراج الهمزة بين بين هو التخفيف القياسي. ومنسأته على مفعالة. كما يقال في الميضأة ميضاءة. ومن سأته ، أى : من طرف عصاه ، سميت بسأة (٢) القوس على الاستعارة. وفيها لغتان ، كقولهم : قحة وقحة (٣). وقرئ. أكلت منسأته (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) من تبين الشيء إذا ظهر وتجلى. و (أَنْ) مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال ، كقولك : تبين زيد جهله : والظهور له في المعنى ، أى : ظهر أنّ الجن (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ) أو علم الجن كلهم علما بينا ـ بعد التباس الأمر

__________________

(١) أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الله بن أحمد في زيادات الزهد من رواية التيمي قال قال عمر ـ فذكره نحوه

(٢) قوله «سميت بسأة القوس» في الصحاح «سية القوس» : ما عطف من طرفيها ، وكان رؤبة يهمز : سية القوس ، وسائر العرب لا يهمزونها. (ع)

(٣) قوله «كقولهم قحة وقحة» كسعة وكمدة ، بمعنى الوقاحة : وهي الصلابة. (ع)

٥٧٣

على عامّتهم وضعفتهم وتوهمهم ـ أنّ كبارهم يصدّقون في ادعائهم علم الغيب. أو علم المدّعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد التهكم بهم كما تتهكم بمدّعى الباطل إذا دحضت حجته (١) وظهر إبطاله بقولك : هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبينا. وقرئ : تبينت الجن ، على البناء للمفعول ، على أن المتبين في المعنى هو (أَنْ) مع ما في صلتها ، لأنه بدل. وفي قراءة أبىّ : تبينت الإنس. وعن الضحاك : تباينت الإنس بمعنى تعارفت وتعالمت. والضمير في (كانُوا) للجن في قوله (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) أى علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب ، ما لبثوا. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه : تبينت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب. روى أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال ، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله ، فيسألها : لأى شيء أنت؟ فتقول لكذا ، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة ، فسألها ، فقالت : نبت لخراب هذا المسجد : فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حىّ ، أنت التي على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط له وقال : اللهم عم عن الجن موتى ، حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب. لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموّهون على الإنس أنهم يعلمون العيب ، وقال لملك الموت : إذا أمرت بى فأعلمنى ، فقال : أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة ، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلى متكئا على عصاه ، فقبض روحه وهو متكئ عليها ، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى ، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر به شيطان فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع ، فنظر فإذا سليمان قد خر ميتا. ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة ، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا ، فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة ، وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيا ، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنة ، وروى أنّ داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام ، فمات قبل أن يتمه ، فوصى به إلى سليمان ، فأمر الشياطين بإتمامه ، فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ، وليبطل دعواهم علم الغيب. روى أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه ، فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها ، فلم يجسر أحد بعد أن يدنو منه ، وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة : ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، فبقى في ملكه أربعين سنة ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه.

__________________

(١) قوله «إذا دحضت حجته» في الصحاح : بطلت. (ع)

٥٧٤

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)(١٧)

قرئ (لِسَبَإٍ) بالصرف ومنعه ، وقلب الهمزة ألفا. ومكنهم : بفتح الكاف وكسرها ، وهو موضع سكناهم ، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها ، أو مسكن كل واحد منهم. وقرئ : مساكنهم. و (جَنَّتانِ) بدل من آية. أو خبر مبتدإ محذوف ، تقديره : الآية جنتان. وفي الرفع معنى المدح ، تدل عليه قراءة من قرأ : جنتين ، بالنصب على المدح. فإن قلت : ما معنى كونهما آية؟ قلت : لم يجعل الجنتين في أنفسهما آية ، وإنما جعل قصتهما ، وأنّ أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما ، وأبدلهم عنهما لخمط والأثل : آية ، وعبرة لهم ، ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم. ويجوز أن تجعلهما آية ، أى : علامة دالة على الله ، وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره فإن قلت : كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ، ورب قرية من قريات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت؟ قلت : لم يرد بستانين اثنين فحسب ، وإنما أراد جماعتين من البساتين : جماعة عن يمين بلدهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها. كأنها جنة واحدة ، كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها. أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال : جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم ، أو لما قال لهم لسان الحال. أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، ولما قال (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) أتبعه قوله (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) يعنى : هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة ، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : كانت أخصب البلاد وأطيبها : تخرج المرأة وعلى رأسها المكتمل فتعمل بيديها وتسير بين تلك الشجر ، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر (طَيِّبَةٌ) لم تكن سبخة. وقيل : لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية. وقرئ : بلدة طيبة وربا غفورا ، بالنصب على المدح. وعن ثعلب : معناه اسكن واعبد (الْعَرِمِ) الجرذ (١)

__________________

(١) قوله «العرم الجرذ» في الصحاح «الجرذ» : ضرب من الفأر. وفيه : سكرت النهر سكرا ، إذا شددته. (ع)

٥٧٥

الذي نقب عليهم السكر. ضربت لهم بلقيس الملكة بسدّ ما بين الجبلين بالصخر والقار ، فحقنت به ماء العيون والأمطار ، وتركت فيه خروقا على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم ، فلما طغوا قيل : بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا يدعونهم إلى الله ويذكرونهم نعمته عليهم ، فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة سلط الله على سدّهم الخلد ، (١) فنقبه من أسفله فغرقهم. وقيل : العرم جمع عرمة ، وهي الحجارة المركومة. ويقال للكدس؟؟؟ من الطعام : عرمة ، والمراد : المسناة (٢) التي عقدوها سكرا : وقيل : العرم اسم الوادي : وقيل : العرم المطر الشديد. وقرئ : العرم ، بسكون الراء. وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وقرئ : أكل ، بالضم والسكون ، وبالتنوين والإضافة. والأكل : الثمر. والخمط : شجر الأراك : وعن أبى عبيدة : كل شجر ذى شوك. وقال الزجاج : كل نبت أخذ طعما من مرارة ، حتى لا يمكن أكله. والأثل : شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عودا. ووجه من نون : أن أصله ذواتي أكل أكل خمط. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. أو وصف الأكل بالخمط ، كأنه قيل : ذواتي أكل بشع. ومن أضاف وهو أبو عمرو وحده ، فلأن أكل الخمط في معنى البرير ، (٣) كأنه قيل : ذواتي برير. والأثل والسدر : معطوفان على أكل ، لا على خمط لأن الأثل لا أكل له. وقرئ وأثلا. وشيئا : بالنصب ، عطفا على جنتين. وتسمية البدل جنتين ، لأجل المشاكلة وفيه : ضرب من التهكم. وعن الحسن رحمه الله. قال السدر ، لأنه أكرم ما بدلوا. وقرئ : وهل يجازى. وهل نجازى ، بالنون. وهل يجازى والفاعل الله وحده. وهل يجزى ، والمعنى : أن مثل هذا الجزاء لا يستحقه إلا الكافر ، وهو العقاب العاجل ، وقيل : المؤمن تكفر سيئاته بحسناته ، والكافر يحبط عمله فيجازى بجميع ما عمله من السوء ، ووجه آخر : وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة ، يستعمل تارة في معنى المعاقبة ، وأخرى في معنى الإثابة ، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) بمعنى : عاقباهم بكفرهم. قيل : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) بمعنى : وهل يعاقب؟ وهو الوجه الصحيح ، وليس لقائل أن يقول : لم قيل : وهل يجازى إلا الكفور ، على اختصاص الكفور بالجزاء ، والجزاء عام للكافر والمؤمن ، لأنه لم يرد الجزاء العام ، وإنما أراد الخاص وهو العقاب ، بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه. ألا ترى أنك لو قلت : جزيناهم بما كفروا ، وهل يجازى إلا الكافر والمؤمن :

__________________

(١) قوله «سلط الله على سدهم الخلد فنقبه» في الصحاح «الخلد» : ضرب من الجرذان أعمى. وفيه «المكدس» بالضم : واحد أكداس الطعام. (ع)

(٢) قوله «والمراد المسناة التي عقدوها» في الصحاح : المسناة : العرم وفيه : العرم المسناة. وفي ذلك دور. (ع)

(٣) قوله «فلأن أكل الخمط في معنى البرير» في الصحاح «البرير» : ثمر الأراك. (ع)

٥٧٦

لم يصح ولم يسد كلاما ، فتبين أن ما يتخيل من السؤال مضمحل ، وأن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(١٩)

(الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي قرى الشام (قُرىً ظاهِرَةً) متواصلة ، يرى بعضها من بعض لتقاربها ، فهي ظاهرة لأعين الناظرين. أو راكبة متن الطريق : ظاهرة للسابلة ، لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) قيل : كان الغادي منهم يقيل في قرية ، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعا ولا عطشا ولا عدوا ، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء (سِيرُوا فِيها) وقلنا لهم : سيروا : ولا قول ثم ، ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه ، كأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه. فإن قلت : ما معنى قوله (لَيالِيَ وَأَيَّاماً)؟ قلت : معناه سيروا فيها ، إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات. أو سيروا فيها آمنين لا تخافون ، وإن تطاولت مدة سفركم فيها وامتدت أياما وليالي. أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم ، فإنكم في كل حين وزمان ، لا تلقون فيها إلا الأمن. قرئ : ربنا باعد بين أسفارنا. وبعد. ويا ربنا ، على الدعاء ، بطروا النعمة ، وبشموا من طيب العيش (١) ، وملوا العافية ، فطلبوا الكد والتعب كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المنّ والسلوى ، وقالوا : لو كان جنى جناننا أبعد كان أجدر أن نشتهيه ، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشأم مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد ، فجعل الله لهم الإجابة. وقرئ ربنا بعد بين أسفارنا ، وبعد بين أسفارنا على النداء ، وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به ، كما تقول : سير فرسخان ، وبوعد بين أسفارنا. وقرئ : ربنا باعد بين أسفارنا. وبين سفرنا. وبعد ، برفع ربنا على الابتداء ، والمعنى خلاف الأوّل ، وهو استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم ، كأنهم كانوا يتشاجون (٢) على ربهم

__________________

(١) قوله «وبشموا من طيب العيش» بشموا ، أى : سئموا. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قوله «كأنهم كانوا يتشاجون» في الصحاح «الشجو» : الهم والحزن. (ع)

٥٧٧

ويتحازنون عليه (أَحادِيثَ) يتحدّث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم ، وفرقناهم تفريقا اتخذه الناس مثلا مضروبا ، يقولون : ذهبوا أيدى سبا ، وتفرقوا أبادى سبا. قال كثير :

أيادى سبا يا عزّ ما كنت بعدكم

فلم يحل بالعينين بعدك منظر (١)

لحق غسان بالشأم ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان (صَبَّارٍ) عن المعاصي (شَكُورٍ) للنعم.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)(٢١)

قرئ : صدّق ، بالتشديد والتخفيف ، ورفع إبليس ونصب الظن ، فمن شدّد فعلى : حقق عليهم ظنه ، أو وجده صادقا ، ومن خفف فعلى : صدق في ظنه أو صدّق يظن ظنا ، نحو : فعلته جهدك ، وبنصب إبليس ورفع الظن ، فمن شدّد فعلى : وجده ظنه صادقا ؛ ومن خفف فعلى : قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم ، يقولون : صدقك ظنك ، وبالتخفيف ورفعهما على : صدق عليهم ظن إبليس ، ولو قرئ بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صدق ، كقوله : صدقت فيهم ظنوني ،

__________________

(١) لكثير صاحب عزة. وسبأ : بلدة كانت كثرة الخصب طيبة البساتين ، فكفر أهلها نعمة الله فأرسل عليهم السيل ، وبدلهم بالخصب جديا؟؟؟ ، وبالرغد ضيقا ، وبالسمن غثا ، فصاروا لا ينالون الأفوات إلا من جهات بعيدة. والمراد بالأيادى : النعم ، وأيادى سبا : استعارة لأحوال نفسه التي تشبه أحوال سبأ في التشتت والتنغص. أو تشبيه بلغ على الخلاف. وفيه مجاز بالحذف ، أى : أيادى أهل سبأ ما كنته بعدكم ، أى : ما كنت متصفا به من الأحوال كأحوال سبأ. ويجوز ان ما مصدرية ، أى : أكوانى وأحوالى بعدكم كأحوال سبأ. أو المراد بأيادى سبأ : أصحابها الذين كانوا يعمرونها ، ففرقوا أنفسهم بأيديهم فشبه نفسه بهم لعدم استقراره. وتطلق سبأ على قبيلة كانت تسكنها. ويحتمل أنها المراد هنا ، بل هو أظهر. ويجوز أن المراد أبوها ، وهو سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان : كان ذا مال وبنين ، فتفرق بنوه بعضهم إلى اليمن وبعضهم إلى الشام إلى غير ذلك ، فأطلق الأيادى عليهم ، لأن بهم قوته كالأيادى ، ثم شبه نفسه بهم في الشتات. وعن : مرخم ، وفي ندائها معنى التوجع والاستعطاف ، وخاطبها بضمير جمع المذكر تعظيما ، ولذلك لا تجده في مواضع ذمهن ، وجملة النداء معترضة بين الخبر والمبتدأ ؛ ويحتمل أن التقدير : أنا كأيادى سبأ مدة كوني بعدكم ، فهي معترضة بين الجملة والظرف المتعلق بها ، وحلا يحلو كدعا يدعو وغيره قليل ، شبه الحسن بالحلاوة بجامع اللذة. وقيل : حلى يحلى ، كرضى يرضى في المنظر. وحلا يحلو في الطعم ، وما هنا من الأول فلا مجاز ، والمنظر مصدر بمعنى النظر ، ويجوز أن الحلاوة الحسن والمنظر ـ بالفتح ـ : مكان النظر. ويجوز أنه النظر. أى : فلم يحسن لعيني غيرك ، ويجوز أن المراد بعدكم بعد ارتحالك أنت وأهلك ، فالخطاب لها ولحيها! ولكن موارد الاستعمال يعضدها ما تقدم ، وروى : فلن يحل ، فزعم بعضهم أن «لن» قد تجزم كما هنا ، وعلى المنع فحذف آخر الفعل للضرورة أو التخفيف.

٥٧٨

ومعناه : أنه حين وجد آدم ضعيف العزم قد أصغى إلى وسوسته قال : إنّ ذرّيته أضعف عزما منه ، فظنّ بهم اتباعه وقال : لأضلنهم ، لأغوينهم. وقيل : ظنّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكة أنه يجعل فيها من يفسد فيها. والضمير في (عَلَيْهِمْ) و (فَاتَّبَعُوهُ) إمّا لأهل سبأ ، أو لبنى آدم. وقلل المؤمنين بقوله (إِلَّا فَرِيقاً) لأنهم قليل بالإضافة إلى الكفار ، كما قال (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) ، (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ). (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ) من تسليط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء إلا لغرض صحيح وحكمة بينة ، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها ، وعلل التسليط بالعلم والمراد ما تعلق به العلم. وقرئ : ليعلم على البناء للمفعول (حَفِيظٌ) محافظ عليه ، وفعيل ومفاعل : متآخيان.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)(٢٢)

(قُلِ) لمشركي قومك (ادْعُوا الَّذِينَ) عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه كما تدعون الله ، والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجئون إليه ، وانتظروا استجابتهم لدعائكم ورحمتهم كما تنتظرون أن يستجيب لكم ويرحمكم ، ثم أجاب عنهم بقوله (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) من خير أو شر ، أو نفع أو ضر (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ) في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك ، كقوله تعالى (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وماله منهم من عوين يعينه على تدبير خلقه ، يريد : أنهم على هذه الصفة من العجز والبعد عن أحوال الربوبية ، فكيف يصح أن يدعوا كما يدعى ويرجوا كما يرجى ، فإن قلت : أين مفعولا زعم؟ «قلت» : أحدهما الضمير المحذوف الراجع منه إلى الموصول. وأمّا الثاني فلا يخلو إمّا أن يكون (مِنْ دُونِ اللهِ) أو (لا يَمْلِكُونَ) أو محذوفا فلا يصح الأول ، لأنّ قولك : هم من دون الله ، لا يلتئم كلاما ، ولا الثاني ، لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك ، فكيف يتكلمون بما هو حجة عليهم ، وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد؟ فبقى أن يكون محذوفا تقديره : زعمتموهم آلهة من دون الله فحذف الراجع إلى الموصول كما حذف في قوله (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) استخفافا ، لطول الموصول لصلته ، وحذف آلهة لأنه موصوف صفته (مِنْ دُونِ اللهِ) والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوما ، فإذا مفعولا زعم محذوفان جميعا بسببين مختلفين.

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٢٣)

٥٧٩

تقول : الشفاعة لزيد ، على معنى أنه الشافع ، كما تقول : الكرم لزيد : وعلى معنى أنه المشفوع له ، كما تقول : القيام لزيد ، فاحتمل قوله (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أن يكون على أحد هذين الوجهين ، أى : لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له. أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له ، أى : لشفيعه ، أو هي اللام الثانية في قولك : أذن لزيد لعمرو ، أى لأجله ، وكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله ، وهذا وجه لطيف وهو الوجه ، وهذا تكذيب لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فإن قلت : بما اتصل قوله (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ولأى شيء وقعت حتى غاية؟ قلت : بما فهم من هذا الكلام ، من أنّ ثم انتظارا للإذن وتوقعا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان ، وطول من التربص ، ومثل هذه الحال دلّ عليه قوله عز وجلّ (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) كأنه قيل : يتربصون ويتوقفون كليا فزعين وهلين ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ، أى : كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن : تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا) قال (الْحَقَ) أى القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة (١)» وقرئ أذن له ، أى : أذن له الله ، وأذن له على البناء للمفعول. وقرأ الحسن : فزع ، مخففا ، بمعنى فزع. وقرئ فزع ، على البناء للفاعل ، وهو الله وحده ، وفرّع ، أى : نفى الوجل عنها وأفنى ، من قولهم : فرغ الزاد ، إذا لم يبق منه شيء ، ثم ترك ذكر الوجل وأسند إلى الجار والمجرور ، كما تقول : دفع إلىّ زيد ، إذا علم ما المدفوع وقد تخفف ، وأصله : فرغ الوجل عنها ، أى : انتفى عنها ، وفنى ثم حذف الفاعل وأسند إلى الجار والمجرور. وقرأ : افرنقع عن قلوبهم ، بمعنى : انكشف عنها. وعن أبى علقمة أنه هاج به المرار (٢) فالتف عليه الناس ، فلما أفاق قال : ما لكم تكأكأتم علىّ تكأكؤكم على ذى جنة؟ افرنقعوا عنى. والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما ركب «اقمطر» من حروف القمط ، مع زيادة الراء. وقرئ الحق بالرفع ، أى : مقوله الحق (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ذو العلو والكبرياء ، ليس لملك ولا نبىّ أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه ، وأن يشفع إلا لمن ارتضى.

__________________

(١) لم أجده

(٢) قوله «أنه هاج به المرار» في الصحاح «المرار» بضم الميم : شجر مر ، إذا أكلت منه الإبل قلصت عنه مشافرها. ومنه : بنو آكل المرار : وهم قوم من العرب. (ع)

٥٨٠