الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

إليه من تكذيب الأنبياء وجرى عليهم من عذاب الله وتدميره. والتتبير : التفتيت والتكسير. ومنه : التبر ، وهو كسار الذهب والفضة والزجاج. و (كُلًّا) الأوّل منصوب بما دل عليه (ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) وهو : أنذرنا. أو : حذرنا. والثاني بتبرنا ، لأنه فارغ له.

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً)(٤٠)

أراد بالقرية «سدوم» من قرى قوم لوط ، وكانت خمسا : أهلك الله تعالى أربعا بأهلها وبقيت واحدة. ومطر السوء : الحجارة ، يعنى أن قريشا مرّوا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء (أَفَلَمْ يَكُونُوا) في مرار مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ويذكرون (بَلْ كانُوا) قوما كفرة بالبعث لا يتوقعون (نُشُوراً) وعاقبة ، فوضع الرجاء موضع التوقع ، لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن فمن ثم لم ينظروا ولم يذكروا ، ومرّوا بها كما مرّت ركابهم. أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم. أو لا يخافون ، على اللغة التهامية.

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٢)

(إِنْ) الأولى نافية ، والثانية مخففة من الثقيلة. واللام هي الفارقة بينهما. واتخذه هزوا : في معنى استهزأ به ، والأصل : اتخذه موضع هزؤ ، أو مهزوءا به (أَهذَا) محكي بعد القول المضمر. وهذا استصغار ، و (بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وإخراجه في معرض التسليم والإقرار ، وهم على غاية الجحود والإنكار سخرية واستهزاء ، ولو لم يستهزءوا لقالوا : أهذا الذي زعم أو ادّعى أنه مبعوث من عند الله رسولا. وقولهم (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم ، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم ، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، لو لا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم ، و (لَوْ لا) في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى ـ لا من حيث الصنعة ـ مجرى التقييد للحكم المطلق (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدّة الإمهال ، ولا بدّ للوعيد أن يلحقهم فلا يغرّنهم التأخير. وقوله (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) كالجواب

٢٨١

عن قولهم (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) لأنه نسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الضلال من حيث لا يضلّ غيره إلا من هو ضال في نفسه. ويروى أنه من قول أبى جهل لعنه الله.

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)(٤٣)

من كان في طاعة الهوى في دينه يتبعه في كل ما يأتى ويذر لا يتبصر دليلا ولا يصغى إلى برهان. فهو عابد هواه وجاعله إلهه ، فيقول لرسوله هذا الذي لا يرى معبودا إلا هواه كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام وتقول لا بدّ أن تسلم شئت أو أبيت ـ ولا إكراه في الدين؟ وهذا كقوله (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) ، (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) ويروى أنّ الرجل منهم كان يعبد الحجر ، فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ آخر. ومنهم الحرث بن قيس السهمي.

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٤)

أم هذه منقطعة ، معناه ، بل أتحسب كأن هذه المذمة أشدّ من التي تقدّمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول ، لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذنا ولا إلى تدبره عقلا ، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلال ، ثم أرجح ضلالة منها. فإن قلت لم أخر هواه والأصل قولك : اتخذ الهوى إلها؟ قلت : ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأوّل للعناية ، كما تقول : علمت منطلقا زيدا : لفضل عنايتك بالمنطلق (١). فإن قلت : ما معنى ذكر الأكثر؟ قلت : كان فيهم من لم يصدّه عن الإسلام إلا داء واحد : وهو حب الرياسة ، وكفى به داء عضالا. فإن قلت : كيف جعلوا أضل من الإنعام؟ قلت : لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها «وتهتدى لمراعيها ومشاربها. وهؤلاء لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوّهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشدّ المضارّ والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنىّ والعذب الروى.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً)(٤٦)

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت لم قدم إلهه وهو المفعول الثاني ، وأجاب بأنه قدم عناية به كقولك ظننت منطلقا زيدا إذا كانت عنايتك بالمنطلق» قال أحمد : وفيه نكتة حسنة وهي إفادة الحصر ، فان الكلام قبل دخول أرأيت مبتدأ وخبر : المبتدأ هواه ، والخبر إلهه. وتقديم الخبز كما علمت يفيد الحصر ، فكأنه قال : أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه ، فهو أبلغ في ذمه وتوبيخه ، والله أعلم.

٢٨٢

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) ألم ننظر إلى صنع ربك وقدرته ، ومعنى مدّ الظل : أن جعله يمتدّ وينبسط فينتفع به الناس (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أى لاصقا بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجرة ، غير منبسط فلم ينتفع به أحد : سمى انبساط الظل وامتداده تحركا منه وعدم ذلك سكونا. ومعنى كون الشمس دليلا : أنّ الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل ، من كونه ثابتا في مكان زائلا (١) ومتسعا ومتقلصا ، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك. وقبضه إليه : أنه ينسخه بضح الشمس (٢) (يَسِيراً) أى على مهل. وفي هذا القبض اليسير شيئا بعد شيء من المنافع ما لا يعدّ ولا يحصر ، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا. فإن قلت : ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت : موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة : كان الثاني أعظم من الأوّل ، والثالث أعظم منهما ، تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر : وهو أنه مدّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ، ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض فينانا ما في أديمه جوب (٣) لعدم النير ، ولو شاء لجعله ساكنا مستقرّا على تلك الحالة ، ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل ، أى : سلطها عليه ونصبها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق ، فهو يزيد بها وينقص ، ويمتدّ ويتقلص ، ثم نسخه بها فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير. ويحتمل أن يريد : قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تبقى الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه ، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه ، وقوله : قبضناه إلينا : يدل عليه ، وكذلك قوله يسيرا ، كما قال (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ)

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً)(٤٧)

شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر. والسبات : الموت. والمسبوت : الميت ، لأنه مقطوع الحياة ، وهذا كقوله (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ). فإن قلت : هلا فسرته بالراحة؟ قلت : النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق (٤). وهذه الاية مع دلالتها على

__________________

(١) قوله «زائلا» لعله ؛ زائلا عن آخر. (ع)

(٢) قوله «أنه ينسخه بضح الشمس» في الصحاح : ضحضح السراب وتضحضح ، إذا ترقرق. والضح : الشمس. وفي الحديث «لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل» فانه مقعد الشيطان. (ع)

(٣) قوله «ظلها على الأرض فينانا ما في أديمه جوب» في الصحاح «الفينان» الطويل ، وفيه «الأدم» جمع الأديم ، مثل : أفيق وأفق ، وربما سمى وجه الأرض أديما. وفيه : جاب يجوب جوبا ، إذا خرق وقطع ، فتدبر. (ع)

(٤) قوله «يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق» في الصحاح «العيوف» من الإبل : الذي يشم الماء فيدعه وهو عطشان. وفيه : رنقته ترنيقا : كدرته. (ع)

٢٨٣

قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه ، لأنّ الاحتجاب بستر الليل ، كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية ، والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة ، أى عبرة فيها لمن اعتبر.

وعن لقمان أنه قال لابنه : يا بنى ، كما تنام فتوقظ ، كذلك تموت فتنشر.

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٤٨)

قرئ : الريح. والرياح نشرا : إحياء. ونشرا : جمع نشور ، وهي المحيية. ونشرا : تخفيف نشر ، وبشرا تخفيف بشر : جمع بشور وبشرى. و (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) استعارة مليحة ، أى : قدام المطر (طَهُوراً) بليغا في طهارته. وعن أحمد بن يحيى هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره ، فإن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا. ويعضده قوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) وإلا فليس «فعول» من التفعيل في شيء. والطهور على وجهين في العربية : صفة ، واسم غير صفة ، فالصفة قولك : ماء طهور ، كقولك : طاهر ، والاسم قولك لما يتطهر به : طهور ، كالوضوء والوقود ، لما يتوضأ به وتوقد به النار. وقولهم : تطهرت طهورا حسنا ، كقولك : وضوءا حسنا ، ذكره سيبويه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ، لا صلاة إلا بطهور (١)» أى طهارة. فإن قلت : ما الذي يزيل عن الماء اسم الطهور؟ قلت : تيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظنّ ، تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير. أو استعماله في البدن لأداء عبادة عند أبى حنيفة وعند مالك بن أنس رضى الله عنهما : ما لم يتغير أحد أوصافه فهو طهور. فإن قلت : فما تقول في قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن بئر بضاعة فقال : «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه (٢)»؟ قلت : قال الواقدي : كان بئر بضاعة طريقا للماء إلى البساتين.

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)(٤٩)

وإنما قال (مَيْتاً) لأنّ البلدة في معنى البلد في قوله : (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) ، وأنه غير جار

__________________

(١) أخرجه الترمذي عن ابن عمر رضى الله عنهما «لا تقبل صلاة إلا بطهور» وأصله في مسلم والطبراني من طريق عيسى بن صبرة عن أبيه عن جده «لا صلاة إلا بوضوء» وفي الباب عن جماعة من الصحابة. قلت : استوفيت طرقه في أول شرحي على الترمذي ولم يذكر المخرج منها إلا شيئا يسيرا

(٢) لم أجده هكذا. بل هو ملفق من حديثين فالأول أخرجه أصحاب السنن من حديث رافع بن خديج. قال يا رسول الله. أنتوضأ من بضاعة وهي بئر يلقى فيها الجيف ولحوم الكلاب والنتن فقال : الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه. وقد استوفيت طرقها في تخريج أحاديث الرافعي.

٢٨٤

على الفعل كفعول ومفعال ومفعيل. وقرئ : نسقيه بالفتح. وسقى ، وأسقى : لغتان. وقيل: أسقاه : جعل له سقيا. الأناسى : جمع إنسى أو إنسان. ونحوه ظرابى في ظربان ، على قلب النون ياء ، والأصل : أناسين وظرابين. وقرئ بالتخفيف بحذف ياء أفاعيل ، كقولك : أناعم ، في : أناعيم. فإن قلت : إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك ، كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. قلت : لما كان سقى الأناسى من جملة ما أنزل له الماء ، وصفه بالطهور إكراما لهم ، وتتميما للمنة عليهم ، وبيانا أن من حقهم حين أراد الله لهم الطهارة وأرادهم عليها أن يؤثروها في بواطنهم ثم في ظواهرهم ، وأن يربئوا بأنفسهم عن مخالطة القاذورات كلها كما ربأ بهم ربهم. فإن قلت : لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب؟ قلت : لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب ، بخلاف الأنعام : ولأنها قنية الأناسى ، وعامة منافعهم متعلقة بها ، فكان الإنعام عليهم بسقى أنعامهم كالإنعام بسقيهم. فإن قلت : فما معنى تنكير الأنعام والأناسى ووصفها بالكثرة؟ قلت : معنى ذلك أن عليه الناس وجلهم منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء ، فبهم غنية عن سقى السماء ، وأعقابهم ـ وهم كثير منهم ـ لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه ، وكذلك قوله (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) يريد بعض بلاد هؤلاء المتبعدين من مظان الماء. فإن قلت : لم قدم إحياء الأرض وسقى الأنعام على سقى الأناسى؟ قلت : لأنّ حياة الأناسىّ بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم ، ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم ومواشيهم ، لم يعدموا سقياهم.

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)(٥٠)

يريد : ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل عليهم السلام ـ وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر ـ ليفكروا ويعتبروا ، ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا (فَأَبى) أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث لها. وقيل : صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة ، وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل ، وجود ورذاذ ، وديمة ورهام (١) ؛ فأبوا إلا الكفور وأن يقولوا : مطرنا بنوء كذا ، ولا يذكروا صنع الله ورحمته. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : ما من عام أقل مطرا من عام ، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء ، وتلا هذه الآية(٢). وروى

__________________

(١) قوله «ورذاذ وديمة ورهام» الرذاذ : مطر ضعيف. والرهام. جمع رهمة وهي المطرة الضعيفة الدائمة ، كذا في الصحاح. (ع)

(٢) أخرجه الحاكم والطبري من رواية الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال : «ما من عام ـ

٢٨٥

أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام ، لأنه لا يختلف ولكن تختلف فيه البلاد. وينتزع من هاهنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسى ، كأنه قال : لنحيي به بعض البلاد الميتة ، ونسقيه بعض الأنعام والأناسى ، وذلك البعض كثير. فإن قلت : هل يكفر من ينسب الأمطار إلى الأنواء؟ قلت : إن كان لا يراها إلا من الأنواء ويجحد أن تكون هي والأنواء من خلق الله : فهو كافر. وإن كان يرى أن الله خالقها وقد نصب الأنواء دلائل وأمارات عليها : لم يكفر.

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً)(٥٢)

يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم (وَلَوْ شِئْنا) لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى. و (لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) نبيا ينذرها. وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك به ، وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل ، فقابل ذلك بالتشدد والتصبر (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) فيما يريدونك عليه ، وإنما أراد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم. والضمير للقرآن أو لترك الطاعة الذي يدل عليه : (فَلا تُطِعِ) والمراد : أن الكفار يجدون ويجتهدون في توهين أمرك ، فقابلهم من جدك واجتهادك وعضك على نواجذك بما تغلبهم به وتعلوهم ، وجعله جهادا كبيرا لما يحتمل فيه من المشاق العظام. ويجوز أن يرجع الضمير في (بِهِ) إلى ما دل عليه : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) من كونه نذير كافة القرى ، لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لو جبت على كل نذير مجاهدة قريته ، فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهدات كلها ، فكبر جهاده من أجل ذلك وعظم ، فقال له (وَجاهِدْهُمْ) بسبب كونك نذير كافة القرى (جِهاداً كَبِيراً) جامعا لكل مجاهدة.

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً)(٥٣)

سمى الماءين الكثيرين الواسعين : بحرين ، والفرات : البليغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة.

__________________

ـ أمطر من عام. ولكن الله يصرفه ... الخ» وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه العقيلي من رواية على بن حميد عن شعبة ، أخرجه العقيلي من رواية على بن حميد عن شعبة عن أبى إسحاق عن أبى الأحوص عنه وقال : لا يتابع على رفعه. ثم أخرجه موقوفا من رواية عمر بن مرزوق عن شعبة وقال : هذا أولى ، وأورده ابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا.

٢٨٦

والأجاج : نقيضه ، ومرجهما : خلاهما متجاورين متلاصقين ، وهو بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج. وهذا من عظيم اقتداره. وفي كلام بعضهم : وبحران : أحدهما مع الآخر ممروج ، وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج (١) (بَرْزَخاً) حائلا من قدرته ، كقوله تعالى (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) يريد بغير عمد مرئية ، وهو قدرته. وقرئ : ملح ، على فعل. وقيل : كأنه حذف من مالح تخفيفا ، كما قال : وصليانا بردا ، بريد : باردا : فإن قلت : (وَحِجْراً مَحْجُوراً) ما معناه؟ قلت : هي الكلمة التي يقولها المتعوذ ، وقد فسرناها ، وهي هاهنا واقعة على سبيل المجاز ، كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول له : حجرا محجورا ، كما قال (لا يَبْغِيانِ) أى لا يبغى أحدهما على صاحبه بالممازجة ، فانتفاء البغي ثمة كالتعوذ هاهنا : جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه ، فهو يتعوّذ منه. وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً)(٥٤)

أراد : فقسم البشر قسمين ذوى نسب ، أى : ذكورا ينسب إليهم ، فيقال : فلان بن فلان وفلانة بنت فلان ، وذوات صهر : أى إناثا يصاهر بهنّ ، ونحوه قوله تعالى (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى). (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين : ذكرا وأنثى.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) (٥٥)

الظهير والمظاهر ، كالعوين والمعاون. و «فعيل» بمعنى مفاعل غير عزيز. والمعنى : أنّ الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك. روى أنها نزلت في أبى جهل ، ويجوز أن يريد بالظهير : الجماعة ، كقوله (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) كما جاء : الصديق والخليط ، يريد بالكافر : الجنس ، وأنّ بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله. وقيل : معناه : وكان الذي يفعل هذا الفعل ـ وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر ـ على ربه هينا مهينا ، من قولهم : ظهرت به ، إذا خلفته خلف ظهرك لا تلتفت إليه ، وهذا نحو قوله (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ).

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(٥٧)

__________________

(١) قوله «ممزوج» لعله : غير ممزوج ، فليحرر. (ع)

٢٨٧

مثال (إِلَّا مَنْ شاءَ) والمراد : إلا فعل من شاء واستثنائه عن الأجر قول ذى شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال : ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه. فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب ، ولكن صوّره هو بصورة الثواب وسماه باسمه ، فأفاد فائدتين ، إحداهما : قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله ، كأنه يقول لك : إن كان حفظك لمالك ثوابا فإنى أطلب الثواب ، والثانية : إظهار الشفقة البالغة وأنك إن حفظت مالك : اعتدّ بحفظك ثوابا ورضى به كما يرضى المثاب بالثواب. ولعمري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه. ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلا : تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة. وقيل : المراد التقرّب بالصدقة والنفقة في سبيل الله.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) (٥٨)

أمره بأن يثق به ويسند أمره إليه في استكفاء شرورهم ، مع التمسك بقاعدة التوكل وأساس الالتجاء وهو طاعته وعبادته وتنزيهه وتحميده ، وعرّفه أن الحي الذي لا يموت ، حقيق بأن يتوكل عليه وحده ولا يتكل على غيره من الأحياء الذين يموتون. وعن بعض السلف أنه قرأها فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق ، ثم أراه أن ليس إليه من أمر عباده شيء ، آمنوا أم كفروا ، وأنه خبير بأعمالهم كاف في جزاء أعمالهم.

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً)(٥٩)

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يعنى في مدة : مقدارها هذه المدّة ، لأنه لم يكن حينئذ نهار ولا ليل. وقيل : ستة أيام من أيام الآخرة ، وكل يوم ألف سنة. والظاهر أنها من أيام الدنيا. وعن مجاهد : أوّلها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة. ووجهه أن يسمى الله لملائكته تلك الأيام المقدرة بهذه الأسماء فلما خلق الشمس وأدارها وترتب أمر العالم على ما هو عليه ، جرت التسمية على هذه الأيام. وأما الداعي إلى هذا العدد ـ أعنى الستة دون سائر الأعداد ـ فلا نشك أنه داعى حكمة ، لعلمنا أنه لا يقدّر تقديرا إلا بداعي حكمة ، وإن كنا لا نطلع عليه ولا نهتدي إلى معرفته. ومن ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار تسعة عشر ، وحملة العرش ثمانية ، والشهور اثنى عشر ، والسماوات سبعا والأرض كذلك ، والصلوات خمسا ، وأعداد النصب والحدود والكفارات وغير ذلك. والإقرار بدواعى الحكمة في جميع أفعاله ، وبأن ما قدّره حق وصواب هو الإيمان. وقد نص عليه في قوله (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ

٢٨٨

كَفَرُوا ، لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ، وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) ثم قال (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) وهو الجواب أيضا في أن لم يخلقها في لحظة ، وهو قادر على ذلك. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنهما. إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة ، تعليما لخلقه الرفق والتثبت. وقيل : اجتمع خلقها يوم الجمعة فجعله الله عيدا للمسلمين. الذي خلق مبتدأ. و (الرَّحْمنُ) خبره. أو صفة للحىّ ، والرحمن : خبر مبتدإ محذوف. أو بدل عن المستتر في استوى. وقرئ : الرحمن ، بالجرّ صفة للحىّ. وقرئ فسل ، والباء في به صلة سل ، كقوله تعالى (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) كما تكون عن صلته في نحو قوله (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) فسأل به ، كقوله : اهتمّ به ، واعتنى به ، واشتغل به. وسأل عنه كقولك : بحث عنه ، وفتش عنه ، ونقر عنه. أو صلة خبيرا : وتجعل خبيرا مفعول سل ، يريد : فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته. أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته. أو : فسل بسؤاله خبيرا ، كقولك : رأيت به أسدا ، أى برؤيته. والمعنى : إن سألته وجدته خبيرا. أو تجعله حالا عن الهاء ، تريد : فسل عنه عالما بكل شيء. وقيل : الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة ، ولم يكونوا يعرفونه ، فقيل : فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب ، حتى يعرف من ينكره. ومن ثمة كانوا يقولون : ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة ، يعنون مسيلمة. وكان يقال له : رحمن اليمامة :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً)(٦٠)

(وَمَا الرَّحْمنُ) يجوز أن يكون سؤالا عن المسمى به ، لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم ، والسؤال عن المجهول ب «ما». ويجوز أن يكون سؤالا عن معناه ، لأنه لم يكن مستعملا في كلامهم كما استعمل الرحيم والرحوم والراحم. أو لأنهم أنكروا إطلاقه على الله تعالى (لِما تَأْمُرُنا) أى للذي تأمرناه ، بمعنى تأمرنا سجوده : على قوله : أمرتك الخير. أو لأمرك لنا. وقرئ بالياء ، كأن بعضهم قال لبعض : أنسجد لما يأمرنا محمد صلى الله عليه وسلم. أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو. وفي (زادَهُمْ) ضمير (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) لأنه هو المقول.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً)(٦١)

البروج : منازل الكواكب السبعة السيارة : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ،

٢٨٩

والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت : سميت بالبروج التي هي القصور العالية ، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها. واشتقاق البرج من التبرج ، لظهوره. والسراج : الشمس كقوله تعالى (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) وقرئ. سرجا ، وهي الشمس والكواكب الكبار معها. وقرأ الحسن والأعمش : وقمرا منيرا ، وهي جمع ليلة قمراء ، كأنه قال : وذا قمر منيرا ؛ لأنّ الليالي تكون قمرا بالقمر ، فأضافه إليها. ونظيره ـ في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه ـ قول حسان :

بردي يصفّق بالرّحيق السّلسل (١)

يريد : ماء بردي ، ولا يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر ، كالرشد والرشد ، والعرب والعرب.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)(٦٢)

الخلفة من خلف ، كالركبة من ركب : وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كلّ واحد منهما الآخر. والمعنى : جعلهما ذوى خلفة ، أى : ذوى عقبة ، أى : يعقب هذا ذاك وذاك هذا. ويقال : الليل والنهار يختلفان ، كما يقال : يعتقبان. ومنه قوله (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ويقال : بفلان (٢) خلفة واختلاف ، إذا اختلف كثيرا إلى متبرّزه. وقرئ : يذكر ويذكر. وعن أبىّ بن كعب رضى الله عنه : يتذكر. والمعنى لينظر في اختلافهما الناظر ، فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال ، وتغيرهما من ناقل ومغير. ويستدل بذلك على عظم قدرته ، ويشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار ، كما قال عز وعلا : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). وليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين ، من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر. وعن الحسن رضى الله عنه : من فانه عمله من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب. ومن فاته بالليل : كان له في النهار مستعتب.

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(٦٣)

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) مبتدأ خبره في آخر السورة ، كأنه قيل : وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٨٤ فراجعه إن شئت اه مصححه

(٢) قوله «ويقال بفلان خلفة» لعله : لفلان. (ع)

٢٩٠

أولئك يجزون الغرفة. ويجوز أن يكون خبره (الَّذِينَ يَمْشُونَ) وأضافهم إلى الرحمن تخصيصا وتفضيلا. وقرئ : وعباد الرحمن. وقرئ : يمشون (هَوْناً) حال ، أو صفة للمشي ، بمعنى: هينين. أو : مشيا هينا ، إلا أنّ في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة. والهون : الرفق واللين. ومنه الحديث «أحبب حبيبك هونا (١) مّا» وقوله «المؤمنون هينون لينون (٢)» والمثل : إذا عزّ أخوك فهن. ومعناه : إذا عاسر فياسر. والمعنى : أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع ، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا ، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق ، ولقوله (وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ). (سَلاماً) تسلما منكم لا نجاهلكم ، ومتاركة لا خير بيننا ولا شر ، أى : نتسلم منكم تسلما ، فأقيم السلام مقام التسلم. وقيل : قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم. والمراد بالجهل : السفه وقلة الأدب وسوء الرعة ، (٣) من قوله :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا (٤)

وعن أبى العالية : نسختها آية القتال ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأنّ الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة ، وأسلم للعرض والورع.

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً)(٦٤)

__________________

(١) أخرجه الترمذي من رواية أيوب عن ابن سيرين عن أبى هريرة تفرد به سويد بن عمرو عن حماد بن سلمة عن أيوب قال الترمذي. غريب. وقال ابن حبان ، في الضعفاء : سويد بن عمرو يضع المتون الواهية على الأسانيد الصحيحة. وليس هذا من حديث أبى هريرة. وإنما هو من قول على رضى الله عنه. وقد رفعه الحسن بن أبى جعفر عن أيوب عن حميد بن عبد الرحمن عن على. وهو خطأ فاحش. ورواية الحسن بن أبى جعفر في فوائد تمام وأخرجه ابن عدى من طريق الحسن بن دنيا ـ عن ابن سيرين عن أبى هريرة. قال : الحسن بن دنيا ـ أجمعوا على ضعفه ورواه الطبراني في الأوسط. من رواية أبى الزناد عن الأعرج. عن أبى هريرة لكن الراوي له عن أبى الزناد متروك. وهو عباد بن كثير. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه الطبراني وفيه أبو السلط الهروي. وهو متروك وعن ابن عمرو بن العاص أخرجه أيضا من طريق محمد بن كثير الضمري. عن ابن لهيعة ، عن أبى نهشل عنه وهذا إسناد واه جدا. والموقوف عن على. أخرجه البيهقي في الشعب في الحادي والأربعين من رواية أبى إسحاق عن صبرة بن يزيد ثم عن على. وقال الدارقطني. الصحيح على على موقوف

(٢) أخرجه ابن المبارك في الزهد قال أخبرنا سعيد بن عبد العزيز عن مكحول بهذا مرسلا «وزاد كالجمل الأنف الذي إن قيد انقاد. وإن ينخ على صخرة أناخ» وأخرجه البيهقي في الشعب في السادس والخمسين من هذا الوجه قال هذا مرسل ثم أخرجه من طريق العقيلي في منكرات عبد الله بن عبد العزيز. وفي الباب عن ابن أنس مرفوعا ذكره ابن طاهر في الكلام على أحاديث الشهاب. وفيه زكريا بن يحيى الوقاد وهو واهى الحديث.

(٣) قوله «وسوء الرعة» في الصحاح : يقال : فلان سيئ الرعة ، أى : قليل الورع. وفيه : قيل ذلك الورع ـ بكسر الراء ـ : الرجل التقى. وقد ورع يرع ـ بالكسر فيهما ـ ورعا ورعة. (ع)

(٤) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٣٩٠ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٢٩١

البيتوتة : خلاف الظلول ، وهو أن يدركك الليل ، نمت أو لم تنم ، وقالوا : من قرأ شيئا من القرآن في صلاته وإن قلّ فقد بات ساجدا وقائما. وقيل : هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء. والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو بأكثره. يقال : فلان يظل صائما ويبيت قائما.

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)(٦٦)

(غَراماً) هلاكا وخسرانا ملحا لازما قال :

ويوم النّسار ويوم الجفا

ر كانا عذابا وكانا غراما (١)

وقال :

إن يعاقب يكن غراما

وإن يعط جزيلا فإنّه لا يبالى (٢)

ومنه : الغريم : لإلحاجه وإلزامه. وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين ، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه ، إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم ، كقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ). (ساءَتْ) في حكم «بئست» وفيها ضمير مبهم يفسره : مستقرّا. والمخصوص بالذم محذوف ، معناه : ساءت مستقرّا ومقاما هي. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إنّ وجعلها خبرا لها. ويجوز أن يكون (ساءَتْ) بمعنى : أحزنت. وفيها ضمير اسم إنّ. و (مُسْتَقَرًّا) حال أو تمييز ، والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين ومترادفين ، وأن يكونا من كلام الله وحكاية لقولهم.

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)(٦٧)

قرئ (يَقْتُرُوا) بكسر التاء وضمها. ويقتروا ، بتخفيف التاء وتشديدها. والقتر والإقتار والتقتير : التضييق الذي هو نقيض الإسراف. والإسراف : مجاوزة الحدّ في النفقة. ووصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير. وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَلا تَجْعَلْ

__________________

(١) لبشر بن أبى حازم. والنسار : ماء لبنى عامر. والجفار : ماء لبنى تميم ينجد ، يقول : واقعة النسار وواقعة الجفار ، كانا عذابا على أهلهما ، وكانا غراما ، أى : هلاكا لازما لهم. وقيل : شرا دائما.

(٢) للأعشى ، يقول : إن يعاقب هذا الممدوح أعداءه يكن غراما أى هلاكا ملازما لهم. وإن يعط السائل عطاء جزيلا عظيما فانه لا يبالى به ولا يكترث به ولا يستكثره ، فهو شجاع جواد.

٢٩٢

يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) وقيل : الإسراف إنما هو الإنفاق في المعاصي ، فأما في القرب فلا إسراف. وسمع رجل رجلا يقول : لا خير في الإسراف. فقال : لا إسراف في الخير. وعن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه أنه شكر عبد الملك بن مروان حين زوّجه ابنته وأحسن إليه ، فقال : وصلت الرحم وفعلت وصنعت ، وجاء بكلام حسن ، فقال ابن لعبد الملك : إنما هو كلام أعدّه لهذا المقام ، فلما كان بعد أيام دخل عليه والابن حاضر ، فسأله عن نفقته وأحواله فقال : الحسنة بين السيئتين ، فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية فقال لابنه : يا بنىّ ، أهذا أيضا مما أعدّه؟ وقيل : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة ، ولكن كانوا يأكلون ما يسدّ جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم ، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحرّ والقرّ (١). وقال عمر رضى الله عنه : كفى سرفا أن لا يشتهى رجل شيئا إلا اشتراه فأكله (٢). والقوام : العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما. ونظير القوام من الاستقامة : السواء من الاستواء. وقرئ : قواما ، بالكسر ، وهو ما يقام به الشيء. يقال : أنت قوامنا ، بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص ، والمنصوبان أعنى (بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) : جائز أن يكونا خبرين معا ، وأن يجعل بين ذلك لغوا ، وقواما مستقرا. وأن يكون الظرف خبرا ، وقواما حالا مؤكدة. وأجاز الفراء أن يكون (بَيْنَ ذلِكَ) اسم كان ، على أنه مبنى لإضافته إلى غير متمكن ، كقوله :

لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت (٣)

وهو من جهة الإعراب لا بأس به ، ولكن المعنى ليس بقوى ؛ لأنّ ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة ، فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة.

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٧٠)

__________________

(١) قوله «والقر» أى البرد. (ع)

(٢) أخرجه عبد الرزاق في التفسير عن ابن عيينة عن رجل عن الحسن عن عمر بن الخطاب وهذا منقطع من طريقه. رواه الثعلبي. ورواه أحمد في الزهد عن إسماعيل عن يونس عن الحسن كذلك ورواه ابن ماجة وأبو يعلى والبيهقي في الشعب من طريق نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس رضى الله عنه مرفوعا والأول أصح

(٣) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٤٢٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٢٩٣

(حَرَّمَ اللهُ) أى حرّمها. والمعنى : حرّم قتلها. و (إِلَّا بِالْحَقِ) متعلق بهذا القتل المحذوف. أو بلا يقتلون ، ونفى هذه المقبحات العظام على الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين ، للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم ، كأنه قيل : والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. والقتل بغير الحق : يدخل فيه الوأد وغيره. وعن ابن مسعود رضى الله عنه قلت : يا رسول الله ، أىّ الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» قلت : ثم أىّ؟ قال «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت : ثم أى؟ قال «أن تزانى حليلة جارك» (١) فأنزل الله تصديقه. وقرئ : يلق فيه أثاما. وقرئ : يلقى ، بإثبات الألف ، وقد مر مثله. والآثام : جزاء الإثم ، بوزن الوبال والنكال ومعناهما. قال :

جزي الله ابن عروة حيث أمسى

عقوقا والعقوق له أثام (٢)

وقيل هو الإثم. ومعناه : يلق جزاء أثام. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه : أياما (٣) ، أى شدائد. يقال : يوم ذو أيام : لليوم العصيب. (يُضاعَفْ) بدل من يلق ، لأنهما في معنى واحد ، كقوله :

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (٤)

وقرئ : يضعف ، ونضعف له العذاب ، بالنون ونصب العذاب. وقرئ بالرفع على الاستئناف أو على الحال ، وكذلك (يَخْلُدْ) وقرئ : ويخلد ، على البناء للمفعول مخففا ومثقلا ، من الإخلاد والتخليد. وقرئ : وتخلد ، بالتاء على الالتفات (يُبَدِّلُ) مخفف ومثقل ، وكذلك سيئاتهم. فإن قلت : ما معنى مضاعفة العذاب وإبدال السيئات حسنات؟ قلت : إذا ارتكب المشرك معاصى مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعا ، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه. وإبدال السيئات حسنات : أنه يمحوها بالتوبة ، ويثبت مكانها الحسنات : الإيمان ، والطاعة ، والتقوى. وقيل : يبدّلهم بالشرك إيمانا ، وبقتل المسلمين : قتل المشركين ، وبالزنا : عفة وإحصانا.

__________________

(١) متفق عليه من رواية أبى وائل عن عمرو بن شرحبيل عنه.

(٢) العقوق ـ بالفتح ـ : كثير العقوق بالضم ، وهو منع بر الوالدين وقطع صلتهما ، والأثام ـ كالوبال ـ : جزاء الإثم. وقيل : هو الإثم ، فسمي به مسببه وهو الجزاء ، ومفعول جزى الثاني محذوف. وعقوقا خبر أمسى. والعقوق : مبتدأ ، أى : لا بد العقوق من جزاء سيء عظيم.

(٣) قوله «أياما» وفي الصحاح «الأيام» الدخان. (ع)

(٤) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٣٣١ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٢٩٤

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً)(٧١)

يريد. ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإنه بذلك تائب إلى الله (مَتاباً) مرضيا عنده مكفرا للخطايا محصلا للثواب. أو فإنه تائب متابا إلى الله الذي يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما يستوجبون ، والذي يحب التوابين ويحب المتطهرين. وفي كلام بعض العرب : لله أفرح بتوبة العبد من المضل الواجد ، والظمآن الوارد ، والعقيم الوالد. أو : فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعا حسنا وأىّ مرجع.

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)(٧٢)

يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين فلا يحضرونها ولا يقربونها ، تنزها عن مخالطة الشر وأهله ، وصيانة لدينهم عما يثلمه ؛ لأنّ مشاهد الباطل شركة فيه ، ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوّغه الشريعة : هم شركاء فاعليه في الإثم ، لأنّ حضورهم ونظرهم دليل الرضا به ، وسبب وجوده ، والزيادة فيه ، لأنّ الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه. وفي مواعظ عيسى بن مريم عليه السلام : إياكم ومجالسة الخطائين. ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعن قتادة : مجالس الباطل. وعن ابن الحنفية : اللهو والغناء. وعن مجاهد : أعياد المشركين. اللغو : كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى : وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به. مرّوا معرضين عنهم ، مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم ، كقوله تعالى (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) وعن الحسن رضى الله عنه : لم تسفههم المعاصي. وقيل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا. وقيل : إذا ذكروا النكاح كنوا عنه

(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً)(٧٣)

(لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها) ليس بنفي للخرور. وإنما هو إثبات له ، ونفى للصمم والعمى ، كما تقول : لا يلقاني زيد مسلما ، هو نفى للسلام لا للقاء. والمعنى : أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها ، سامعون بآذان واعية ، مبصرون بعيون راعية ، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها ، مظهرين الحرص الشديد على استماعها ، وهم كالصم العميان حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها كالمنافقين وأشباههم.

٢٩٥

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً)(٧٤)

قرئ : ذريتنا ، وذرياتنا. وقرة أعين ، وقرّات أعين. سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجا وأعقابا عمالا لله ، يسرون بمكانهم وتقرّبهم عيونهم. وعن محمد بن كعب : ليس شيء أقرّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : هو الولد إذا رآه يكتب الفقه. وقيل : سألوا أن يلحق الله بهم أزواجهم وذريتهم في الجنة ليتم لهم سرورهم. أراد. أئمة ، فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس ، كقوله تعالى (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أو أرادوا اجعل كل واحد منا إماما. أو أراد جمع آمّ ، كصائم وصيام. أو أرادوا اجعلنا إماما واحدا لا تحادنا واتفاق كلتنا. وعن بعضهم : في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها. وقيل : نزلت هذه الآيات في العشرة المبشرين بالجنة. فإن قلت : (مِنْ) في قوله (مِنْ أَزْواجِنا) ما هي؟ قلت : يحتمل أن تكون بيانية ، كأنه قيل : هب لنا قرّة أعين ، ثم بينت القرّة وفسرت بقوله : من أزواجنا وذرياتنا. ومعناه : أن يجعلهم الله لهم قرّة أعين ، وهو من قولهم : رأيت منك أسدا ، أى : أنت أسد ، وأن تكون ابتدائية على معنى : هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح. فإن قلت : لم قال (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) فنكر وقلل؟ قلت : أما التنكير فلأجل تنكير القرّة ، لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه ، كأنه قيل : هب لنا منهم سرورا وفرحا. وإنما قيل (أَعْيُنٍ) دون عيون ، لأنه أراد أعين المتقين ، وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم. قال الله تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١) ويجوز أن يقال في تنكير (أَعْيُنٍ) أنها أعين خاصة ، وهي أعين المتقين.

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)(٧٦)

المراد يجزون الغرفات وهي العلالي في الجنة ، فوحد اقتصارا على الواحد الدال على الجنس ،

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت : لم قلل الأعين إذ الأعين صيغة جمع قلة؟ قلت : لأن أعين المتقين قليل بالاضافة إلى غيرهم ، يدل على ذلك قوله : وقليل من عبادي الشكور» قال أحمد : والظاهر أن المحكي كلام كل أحد من المتقين ، فكأنه قال : يقول كل واحد منهم اجعل لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ، وهذا أسلم من تأويله ، فان المتقين وإن كانوا بالاضافة إلى غيرهم قليلا إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد. والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالنسبة والاضافة ، والله أعلم.

٢٩٦

والدليل على ذلك قوله (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) وقراءة من قرأ : في الغرفة (بِما صَبَرُوا) بصبرهم على الطاعات ، وعن الشهوات ، وعن أذى الكفار ومجاهدتهم ، وعلى الفقر وغير ذلك. وإطلاقه لأجل الشياع في كل مصبور عليه. وقرئ : يلقون ، كقوله تعالى (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) ويلقون ، كقوله تعالى (يَلْقَ أَثاماً). والتحية : دعاء بالتعمير. والسلام : دعاء بالسلامة ، يعنى أن الملائكة يحيونهم ويسلمون عليهم. أو يحيى بعضهم بعضا ويسلم عليه أو يعطون التبقية والتخليد مع السلامة عن كل آفة. اللهم وفقنا لطاعتك ، واجعلنا مع أهل رحمتك ، وارزقنا مما ترزقهم في دار رضوانك.

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٧٧)

لما وصف عبادة العباد ، وعدّد صالحاتهم وحسناتهم ، وأثنى عليهم من أجلها ، ووعدهم الرفع من درجاتهم في الجنة : أتبع ذلك بيان أنه إنما اكترث لأولئك وعبأ بهم وأعلى ذكرهم ووعدهم ما وعدهم ، لأجل عبادتهم ، فأمر رسوله أن يصرّح للناس ، ويجزم لهم القول بأن الاكتراث لهم عند ربهم ، إنما هو للعبادة وحدها لا لمعنى آخر ، ولو لا عبادتهم لم يكترث لهم البتة ولم يعتدّ بهم ولم يكونوا عنده شيء يبالى به. والدعاء : العبادة. و (ما) متضمنة لمعنى الاستفهام ، وهي في محل النصب ، وهي عبارة عن المصدر ، كأنه قيل : وأى عبء يعبأ بكم لو لا دعاؤكم. يعنى أنكم لا تستأهلون شيئا من العبء بكم لو لا عبادتكم. وحقيقة قولهم ما عبأت به : ما اعتددت به من فوادح همومى ومما يكون عبئا علىّ ، كما تقول : ما اكترثت له ، أى : ما اعتددت به من كوارثى ومما يهمني. وقال الزجاج في تأويل (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) : أى وزن يكون لكم عنده؟ ويجوز أن تكون (ما) نافية ، (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) يقول : إذا أعلمتكم أن حكمى أنى لا أعتدّ بعبادي إلا عبادتهم ، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمى ، فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار. ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن استعصى عليه : إن من عادتى أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع أمرى ، فقد عصيت فسوف ترى ما أحلّ بك بسبب عصيانك. وقيل : معناه ما يصنع بكم ربى لو لا دعاؤه إياكم إلى الإسلام. وقيل : ما يصنع بعذابكم لو لا دعاؤكم معه آلهة ، فإن قلت : إلى من يتوجه هذا الخطاب؟ قلت : إلى الناس على الإطلاق ، ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون عاصون ، فخوطبوا بما وجدوا في جنسهم من العبادة والتكذيب. وقرئ : فقد كذب الكافرون. وقيل : يكون العذاب لزاما. وعن مجاهد رضى الله عنه : هو قتل يوم بدر ، وأنه لوزم بين القتلى لزاما. وقرئ : لزاما ، بالفتح بمعنى اللزوم ، كالثبات والثبوت.

٢٩٧

والوجه أن ترك اسم كان غير منطوق به بعد ما علم أنه مما توعد به ، لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف ، والله أعلم بالصواب.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الفرقان لقى الله يوم القيامة وهو مؤمن بأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأدخل الجنة بغير نصب» (١)

سورة الشعراء

مكية ، إلا قوله (وَالشُّعَراءُ ...) إلى آخر السورة

وهي مائتان وسبع وعشرون آية. وفي رواية : وست وعشرون آية [نزلت بعد الواقعة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ)(٢)

(طسم) بتفخيم الألف وإمالتها ، وإظهار النون وإدغامها (الْكِتابِ الْمُبِينِ) الظاهر إعجازه ، وصحة أنه من عند الله ، والمراد به السورة أو القرآن. والمعنى : آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين.

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(٣)

البخع : أن يبلغ بالذبح البخاع بالباء ، وهو عرق مستبطن الفقار ، وذلك أقصى حدّ الذبح ، ولعل للإشفاق ، يعنى : أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) لئلا يؤمنوا ، أو لامتناع إيمانهم ، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وعن قتادة رضى الله عنه : باخع نفسك على الإضافة.

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)(٤)

أراد : آية ملجئة إلى الإيمان قاصرة عليه. (فَظَلَّتْ) معطوف على الجزاء الذي هو ننزل ،

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى.

٢٩٨

لأنه لو قيل : أنزلنا ، لكان صحيحا. ونظيره : فأصدّق وأكن ، كأنه قيل : أصدق. وقد قرئ : لو شئنا لأنزلنا. وقرئ : فتظل أعناقهم. فإن قلت : كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق قلت : أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع ، وترك الكلام على أصله ، كقوله : ذهبت أهل اليمامة ، كأنّ الأهل غير مذكور. أو لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل : خاضعين ، كقوله تعالى (لِي ساجِدِينَ) وقيل أعناق الناس : رؤساؤهم ومقدّموهم ، شبهوا بالأعناق كما قيل لهم هم الرءوس والنواصي والصدور. قال :

في محفل من نواصي النّاس مشهود (١)

وقيل : جماعات الناس. يقال : جاءنا عنق من الناس لفوج منهم. وقرئ : فظلت أعناقهم لها خاضعة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : نزلت هذه الآية فينا وفي بنى أمية. قال : ستكون لنا عليهم الدولة ، فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ، ويلحقهم هوان بعد عزة.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٦)

أى : وما يجدد لهم الله بوحيه موعظة وتذكيرا ، إلا جددوا إعراضا عنه وكفرا به. فإن قلت : كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد ، وهي الإعراض والتكذيب والاستهزاء؟ قلت : إنما خولف بينها لاختلاف الأغراض ، كأنه قيل. حين أعرضوا عن الذكر فقد كذبوا به ، وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره وصار عرضة للاستهزاء والسخرية ، لأنّ من كان قابلا للحق مقبلا عليه ، كان مصدقا به لا محالة ولم يظنّ به التكذيب. ومن كان مصدقا به ، كان موقرا له (فَسَيَأْتِيهِمْ) وعيد لهم وإنذار بأنهم سيعلمون إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة (ما) الشيء الذي كانوا يستهزءون به وهو القرآن ، وسيأتيهم أنباؤه وأحواله التي كانت خافية عليهم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٩)

وصف الزوج وهو الصنف من النبات بالكرم ، والكريم : صفة لكل ما يرضى ويحمد في

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٤٢٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٢٩٩

بابه ، يقال : وجه كريم ، إذا رضى في حسنه وجماله ، وكتاب كريم : مرضىّ في معانيه وفوائده ، وقال :

حتّي يشقّ الصّفوف من كرمه (١)

أى : من كونه مرضيا في شجاعته وبأسه ، والنبات الكريم : المرضى فيما يتعلق به من المنافع (إِنَّ فِي) إنبات تلك الأصناف (لَآيَةً) على أن منبتها قادر على إحياء الموتى ، وقد علم الله أن أكثرهم مطبوع على قلوبهم ، غير مرجوّ إيمانهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه من الكفرة (الرَّحِيمُ) لمن تاب وآمن وعمل صالحا. فإن قلت : ما معنى الجمع بين كم وكل ، ولو قيل كم أنبتنا فيها من زوج كريم (٢)؟ قلت : قد دلّ (كُلِ) على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ، و (كَمْ) على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة (٣) ، فهذا معنى الجمع بينهما ، وبه نبه على كمال قدرته. فإن قلت : فما معنى وصف الزوج بالكريم؟ قلت : يحتمل معنيين ، أحدهما :

__________________

(١) من رأى يومنا ويوم بنى التيم

إذا التف صيقه بدمه

لما رأوا أن يومهم أشب

شدوا حيازيمهم على ألمه

كأنما الأسد في عرينهم

ونحن كالليل جاش في قتمه

لا يسلمون الغداة جارهم

حتى يزل الشراك عن قدمه

ولا يخيم اللقاء فارسهم

حتى يشق الصفوف من كرمه

لرجل من حمير. ومن : استفهامية. والصيق والصيقة ـ بالكسر ـ : الغبار والتراب. والأشب ـ كحذر ـ : كثير الجلية والاختلاط ، ويطلق على المكان الذي التف شجره ، والحيزوم : الصدر. والعرين : أجمة الأسد يسكن فيها. وجاش : ارتفع وأقبل. والقتم : الغبار والسواد والظلمة. وروى في غشمه : بالغين. والمعنى واحد ، لا يسلمون لا يخذلون ولا يتركون. والشراك : سير النعل ، ولا يخيم : أى لا يجبن عن اللقاء ، واليوم : الزمن أو الواقعة ، وإضافة الصيق والدم إليه لأنه فيه. ووصف اليوم بأنه كثير الصياح والاختلاط ، لأن ذلك واقع فيه ، وشد الحيازيم على الألم : كناية عن التجلد والصبر. وشبههم بالأسود في شجاعتهم ، وشبه قومه بالليل في الاحاطة والقهر للغير ، ثم قال : لا يتركون حليفهم غداة الروع حتى يرتبك وحده في الحرب ، فزلل الشراك : كناية عن ذلك ولا يجبن الفارس منهم عن اللقاء ، فهو نصب على نزع الخافض ، وقيل : مفعول معه ، حتى يشق صفوف الحرب ويدخلها من كرمه ، أى شجاعته وجراءته ، لأن الكرم في كل باب بحسبه ، وحتى الأولى غاية للمنفي ، والثانية غاية للنفي. ويجوز أن الثانية ابتدائية ، والفعل بعدها مرفوع على الاستئناف ، وهذا أبلغ في المدح ، ثم إن مدح عدوهم مدح لهم.

(٢) قوله «كم أنبتنا فيها من زوج كريم» لعل بعده سقطا تقديره «كان مستقيما». (ع)

(٣) قال محمود : «إن قلت : ما فائدة الجمع بين كل وكم؟ وأجاب بأن كلا دخلت للاحاطة بأزواج النبات وكم دلت على أن هذا المحاط به متكاثر مفرط الكثرة» قال أحمد : فعلى مقتضى ذلك يكون المقصود بالتكثير : الأنواع والظاهر أن المقصود آحاد الأزواج والأنعام ، ويدل عليه أنك لو أسقطت (كُلِ) فقلت : انظروا إلى الأرض كم أنبت الله فيها من الصنف الفلاني ، لكنت مكنيا عن آحاد ذلك الصنف المشار إليه ، فإذا أدخلت (كُلِ) فقد أديت بتكريره آحاد كل صنف لا آحاد صنف معين ، والله أعلم.

٣٠٠