الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

ونحوه قول زهير :

أخى ثقة لا تهلك الخمر ماله

ولكنّه قد يهلك المال نائله (١)

والمعنى. أنّ جميع ما في السموات والأرض مختصة به خلقا وملكا وعلما ، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها. وسينبئهم يوم القيامة بما أبطنوا من سوء أعمالهم وسيجازيهم حق جزائهم. والخطاب والغيبة في قوله (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) يجوز أن يكونا جميعا المنافقين على طريق الالتفات. ويجوز أن يكون (ما أنتم عليه) عاما ، و (يرجعون) للمنافقين ، والله أعلم.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة النور أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي (٢)».

__________________

فان تمس مهجور الفناء فربما

أقام به بعد الوفود وفود

لابن عطاء السندي : يرث ى ابن هبيرة لما قتله المنصور. وواسط : موضع الواقعة. وأتم بالمكان : أقام به.

والمأتم : مكان الاقامة : استعمل في جماعة النساء الحزينات مجازا مشهورا ، وجمعه : مآتم بمد الهمزة. يقول:إن كل عين لم تبك عليك ذلك اليوم لشديدة الجمود. وعشية : بدل من يوم. وجيب القميص. مخرج الرأس منه ، أى : مزقت الجيوب والخدود بأيدى النساء ، ثم التفت إلى الخطاب ، وصبر وتصبر بقوله : فان تمس مهجور الفناء ، كناية عن الموت ، فربما : أى كثيرا أقام بفناء بيتك جموع من الناس بعد جموع ، يستمنحونك ، أى : فان يهجر فناؤك الآن فلا حزن ، لأنه كثيرا ما اجتمع فيه الناس ومنحوا خيرا.

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ١٧ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه باسناديهما إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.

٢٦١

سورة الفرقان

مكية إلا الآيات ٦٨ و ٦٩ و ٧٠ فمدنية

وآياتها ٧٧ [نزلت بعد يس]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(٢)

البركة : كثرة الخير وزيادته. ومنها (تبارك الله) وفيه معنيان : تزايد خيره ، وتكاثر. أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله. والفرقان : مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما وسمى به القرآن لفصله بين الحق والباطل. أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ولكن مفروقا ، مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال (١). ألا ترى إلى قوله (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) وقد جاء الفرق بمعناه (٢). قال :

ومشركىّ كافر بالفرق

وعن ابن الزبير رضى الله عنه : على عباده ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّته ، كما قال (لقد أنزلنا إليكم) ، (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا). والضمير في (لِيَكُونَ) لعبده أو للفرقان. ويعضد رجوعه إلى الفرقان قراءة ابن الزبير (لِلْعالَمِينَ) للجنّ والإنس (نَذِيراً) منذرا أى مخوّفا أو إنذارا ، كالنكير بمعنى الإنكار. ومنه قوله تعالى (فكيف كان عذابى ونذر) ، (الَّذِي لَهُ) رفع على الإبدال من الذي نزل أو رفع على المدح. أو نصب عليه. فإن قلت :

__________________

(١) قال محمود : «يجوز أن يراد بوصفه بالفرقان تفريقه بين الحق والباطل ، ويجوز أن يراد نزوله مفرقا شيئا فشيئا كما قال. وقرآنا فرقناه» قال أحمد : والأظهر هنا هو المعنى الثاني ، لأن في أثناء السورة بعد آيات (وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) قال الله تعالى (كذلك) أى أنزلناه مفرقا كذلك (لنثبت به فؤادك) فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة ـ والله أعلم ـ كالمقدمة والتوطئة لما يأتى بعد.

(٢) قوله «وقد جاء الفرق بمعناه» في الصحاح : والفرق أيضا : الفرقان. ونظيره : الخسر والخسران. قال الراجز : ومشركي ... الخ. (ع)

٢٦٢

كيف جاز الفصل بين البدل والمبدل منه؟ قلت : ما فصل بينهما بشيء ، لأنّ المبدل منه صلته نزل. و (ليكون) تعليل له ، فكأنّ المبدل منه لم يتمّ إلا به. فإن قلت : في الخلق معنى التقدير ، فما معنى قوله (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) كأنه قال : وقدّر كل شيء فقدّره؟ قلت : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية ، فقدّره وهيأه لما يصلح له ، مثاله : أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوّى الذي تراه ، فقدّره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابى الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدّرة بأمثلة الحكمة والتدبير ، فقدّره لأمر مّا ومصلحة مطابقا لما قدر له غير متجاف عنه. أو سمى إحداث الله خلقا لأنه لا يحدث شيئا لحكمته إلا على وجه التقدير من غير تفاوت ، فإذا قيل : خلق الله كذا فهو بمنزلة قولك : أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ، فكأنه قيل : وأوجد كل شيء فقدّره في إيجاده لم يوجده متفاوتا. وقيل ، فجعل له غاية ومنتهى. ومعناه : فقدّره للبقاء إلى أمد معلوم.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً)(٣)

الخلق بمعنى الافتعال ، كما في قوله تعالى (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا) والمعنى : أنهم آثروا على عبادة الله سبحانه عبادة آلهة لا عجز أبين من عجزهم ، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا من أفعال العباد ، حيث لا يفتعلون شيئا وهم يفتعلون ، لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير (وَلا يَمْلِكُونَ) أى : لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضرر عنها أو جلب نفع إليها وهم يستطيعون ، وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع التي يقدر عليها العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلا الله أعجز.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً)(٤)

(قَوْمٌ آخَرُونَ) قيل : هم اليهود. وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي ، وأبو فكية الرومي : قال ذلك النضر بن الحرث بن عبد الدار. «جاء» «وأتى» يستعملان في معنى فعل ، فيعديان تعديته ، وقد يكون على معنى : وردوا ظلما ، كما تقول : جئت المكان. ويجوز أن يحذف الجار ويوصل الفعل. وظلمهم : أن جعلوا العربي يتلقن

٢٦٣

من العجمي الرومي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب. والزور : أن بهتوه بنسبة ما هو برىّ منه إليه.

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥)

(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ما سطّره المتقدمون من نحو أحاديث رستم وإسفنديار ، جمع : أسطار أو أسطورة كأحدوثة (اكْتَتَبَها) كتبها لنفسه وأخذها ، كما تقول : استكب الماء واصطبه : إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه. وقرئ : أكتتبها. على البناء للمفعول. والمعنى : اكتتبها كاتب له. لأنه كان أمّيا لا يكتب بيده ، وذلك من تمام إعجازه ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ، كقوله (واختار موسى قومه) ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان بارزا منصوبا ، وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار (اكتتبها) كما ترى. فإن قلت : كيف قيل : اكتتبها (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) وإنما يقال : أمليت عليه فهو يكتتبها؟ قلت : فيه وجهان. أحدهما : أراد اكتتابها أو طلبه فهي تملى عليه. أو كتبت له وهو أمىّ فهي تملى عليه : أى تلقى عليه من كتابه يتحفظها : لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. وعن الحسن : أنه قول الله سبحانه يكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار. ووجهه أن يكون نحو قوله :

أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا شصائصا نبلا (١)

وحق الحسن أن يقف على الأولين. (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أى دائما ، أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس ، وحين يأوون إلى مساكنهم.

__________________

(١) إن كنت أزننتني بها كذبا

جزء فلاقيت بعدها عجلا

أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا شصائصا نبلا

لحضرمى بن عامر ، يخاطب جزء بن سنان بن مؤلة حين اتهمه بسروره بأخذ دية أخيه القتيل ، وقيل : لجرير ، وليس بذاك. وجزء ـ بفتح فسكون ـ وإن هنا للشرط مجردا عن السك ، أو بمعنى إذ. وأزننتنى : أى تهمتنى بها : أى بتلك الفعلة الرذيلة كذبا منك يا جزء ، فهو منادى ، فلاقيت أنت بعدها عجلا : دعاء عليه بأن ينال مثلها سريعا ، وينظر هل يفرح أو يحزن؟ وروى : فلاقيت مثلها عجلا. أفرح ، أى : أأفرح بأن أرزأ الكرام وأصاب فيهم ، فحذفت همزة الاستفهام الإنكاري أو التعجبي على فرض الوقوع لدلالة المقام عليها ، وليصور الكلام بصورة الاخبار والإثبات ، فيظهر للخصم قبح دعواه. وأرزأ : مبنى للمجهول ، وكذلك أورث ، أى : أعطى ذودا : أى قطيعا من الإبل بعد موتهم. والذود : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، مؤنث لا واحد له من لفظه ، عبر به عن الدية كلها استقلالا وتحقيرا لها. ولذلك وصفه بشصائصا : جمع شصوص ، وهي النافة القليلة اللبن. وصرفه للوزن. والنبل ـ كسبب ـ : جمع نبيل. ويروى بالضم ، فهو جمع نبيل أيضا ، ككرم وكريم. أو جمع نبلة ، كغرف وغرفة : أي الصغار؟؟؟ أو النجائب فهو من الأضداد ، لكن الأول أوفق بالمقام. ويجوز أن الدية كانت عشرة.

٢٦٤

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٦)

أى يعلم كل سرّ خفىّ في السموات والأرض. ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم مع علمكم أنّ ما تقولونه باطل وزور ، وكذلك باطن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبراءته مما تبهتونه به ، وهو يجازيكم ويجازيه على ما علم منكم وعلم منه. فإن قلت : كيف طابق قوله (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) هذا المعنى؟ قلت : لما كان ما تقدّمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه ، لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة. أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صبّا ، ولكن صرف ذلك عنهم إنه غفور رحيم : يمهل ولا يعاجل.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً)(٨)

وقعت اللام في المصحف مفصولة عن هذا خارجة عن أوضاع الخط العربي. وخط المصحف سنة لا تغير. وفي هذا استهانة وتصغير لشأنه وتسميته بالرسول سخرية منهم وطنز (١) ، كأنهم قالوا : ما لهذا الزاعم أنه رسول. ونحوه قول فرعون (إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) أى : إنّ صحّ أنه رسول الله فما باله حاله مثل حالنا (يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما نأكل ، ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد ، يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش. ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى. اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك ، حتى يتساندا في الإنذار والتخويف. ثم نزلوا أيضا فقالوا : وإن لم يكن مرفودا بملك ، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق كما الدهاقين والمياسير. أو يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم. وأراد بالظالمين : إياهم بأعيانهم : وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوا. وقرئ : فيكون ، بالرفع. أو يكون له جنة ، بالياء ، ونأكل ، بالنون. فإن قلت : ما وجها الرفع والنصب في فيكون؟ قلت : النصب لأنه جواب «لولا» بمعنى «هلا» وحكمه حكم الاستفهام. والرفع على أنه معطوف على أنزل ، ومحله الرفع. ألا تراك

__________________

(١) قوله «وطنز» في الصحاح «الطنز» : السخرية. (ع)

٢٦٥

تقول : لولا ينزل بالرفع ، وقد عطف عليه : يلقى ، وتكون مرفوعين ، ولا يجوز النصب فيهما لأنهما في حكم الواقع بعد لولا ، ولا يكون إلا مرفوعا. والقائلون هم كفار قريش النضر بن الحرث ، وعبد الله بن أبى أمية ، ونوفل بن خويلد ومن ضامهم (مَسْحُوراً) سحر فغلب على عقله. أو ذا سحر ، وهو الرئة : عنوا أنه بشر لا ملك.

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٩)

(ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أى : قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة ، من نبوّة مشتركة بين إنسان وملك. وإلقاء كنز عليك من السماء وغير ذلك ، فبقوا متحيرين ضلالا ، لا يجدون قولا يستقرّون عليه. أو فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا إليه.

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)(١٠)

تكاثر خير (الَّذِي إِنْ شاءَ) وهب لك في الدنيا (خَيْراً) مما قالوا ، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور. وقرئ : ويجعل ، بالرفع عطفا على جعل : لأن الشرط إذا وقع ماضيا ، جاز في جزائه الجزم والرفع ، كقوله :

وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالى ولا حرم (١)

ويجوز في (ويجعل لك) إذا أدغمت : أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع جميعا. وقرئ بالنصب ، على أنه جواب الشرط بالواو.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)(١٤)

(بَلْ كَذَّبُوا) عطف على ما حكى عنهم. يقول : بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٥٣٧ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٢٦٦

بالساعة. ويجوز أن يتصل بما يليه ، كأنه قال : بل كذبوا بالساعة ، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة. السعير: النار الشديدة الاستعار. وعن الحسن رضى الله عنه : أنه اسم من أسماء جهنم (رَأَتْهُمْ) من قولهم : دورهم تترا (١) ، أى : وتتناظر. ومن قوله صلى الله عليه وسلم «لا تراءى ناراهما» (٢) كأن بعضها يرى بعضها على سبيل المجاز. والمعنى : إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها. وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. ويجوز أن يراد : إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار وشهوة للانتقام منهم. الكرب مع الضيق ، كما أن الروح مع السعة ، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السماوات والأرض. وجاء في الأحاديث : أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا ، ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق والإرهاق ، حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا ، كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما في تفسيره أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح ، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل : قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع. وقيل : يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد. والثبور : الهلاك. ودعاؤه أن يقال : وا ثبوراه ، أى : تعال يا ثبور فهذا حينك وزمانك (لا تَدْعُوا) أى يقال لهم ذلك : أو هم أحقاء بأن يقال لهم ، وإن لم يكن ثمة قول ومعنى (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا ، إنما هو ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته. أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها ، فلا غاية لهلاكهم

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً)(١٦)

الراجع إلى الموصولين محذوف ، يعنى : وعدها المتقون وما يشاءونه. وإنما قيل : كانت ، لأن ما وعده الله وحده فهو في تحققه كأنه قد كان. أو كان مكتوبا في اللوح قبل أن برأهم بأزمنة

__________________

(١) قال محمود : «هو من قولهم : دور بنى فلان تترا ، أى على المجاز» قال أحمد : لا حاجة إلى حمله على المجاز فان رؤية جهنم جائزة ، وقدرة الله تعالى صالحة ، وقد تظافرت الظواهر على وقوع هذا الجائز ، وعلى أن الله تعالى يخلق لها إدراكا حسيا وعقليا. ألا ترى إلى قوله (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً) وإلى محاجتها مع الجنة ، وإلى قولها (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) وإلى اشتكائها إلى ربها فأذن لها في نفسين ، إلى غير ذلك من الظواهر التي لا سبيل إلى تأويلها ، إذ لا محوج إليه. ولو فتح باب التأويل والمجاز في أحوال المعاد ، لتطوح الذي يسلك ذلك إلى وادى الضلالة والتحير إلى فرق الفلاسفة ، فالحق أنا متعبدون بالظاهر ما لم يمنع مانع ، والله أعلم.

(٢) تقدم في المائدة.

٢٦٧

متطاولة : أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم. فإن قلت : ما معنى قوله (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً)؟ قلت : هو كقوله : (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) فمدح الثواب ومكانه ، كما قال : (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) فذم العقاب ومكانه لأنّ النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة ، وأن لا تنغص ، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع (١) وضيقه وظلمته وجمعه لأسباب الاجتواء والكراهة ، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء. والضمير في (كانَ) لما يشاءون. والوعد : الموعود ، أى : كان ذلك موعودا واجبا على ربك إنجازه ، حقيقا أن يسئل ويطلب ، لأنه جزاء وأجر مستحق وقيل : قد سأله الناس والملائكة في دعواتهم : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) ، (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) ، (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ).

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً)(١٨)

يحشرهم. فيقول. كلاهما بالنون والياء ، وقرئ : يحشرهم ، بكسر الشين (وَما يَعْبُدُونَ) يريد : المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي : الأصنام ينطقها الله. ويجوز أن يكون عاما لهم جميعا. فإن قلت : كيف صحّ استعمال (ما) في العقلاء؟ قلت : هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم ، بدليل قولك ـ إذا رأيت شبحا من بعيد ـ : ما هو؟ فإذا قيل لك : إنسان ، قلت حينئذ : من هو؟ ويدلك قولهم «من» لما يعقل. أو أريد به الوصف ، كأنه قيل : ومعبوديهم. ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد : ما زيد؟ تعنى : أطويل أم قصير؟ أفقيه أم طبيب؟ فإن قلت : ما فائدة أنتم وهم؟ وهلا قيل أضللتم عبادي هؤلاء ، أم هم (٢) ضلوا السبيل؟ قلت. ليس السؤال عن الفعل ووجوده ، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب ، وإنما هو عن متوليه ، فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام ، حتى يعلم أنه المسئول عنه. فإن قلت : فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه ، فما فائدة هذا السؤال؟ قلت : فائدته أن يجيبوا بما

__________________

(١) قوله «بغثاثة الموضع» أى فساده ورداءته. والاجتواء : كراهة المقام بالمكان. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قوله «أم هم ضلوا» لعله أم ضلوا ، كعبارة النسفي. (ع)

٢٦٨

أجابوا به ، حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم ، فيبهتوا (١) وينخذلوا وتزيد حسرتهم ، ويكون ذلك نوعا مما يلحقهم من غضب الله وعذابه ، ويغتبط المؤمنون ويفرحوا بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك ، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين. وفيه كسر بين لقول من يزعم (٢) أن الله يضل عباده على الحقيقة (٣) ، حيث يقول للمعبودين من دونه : أأنتم أضللتموهم ، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ، ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم ، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون

__________________

(١) قوله «فيبهتوا» يدهشوا. أو يتحيروا. أفاده الصحاح (ع)

(٢) قوله «لقول من يزعم أن الله ... الخ» يريد أهل السنة القائلين : إضلال الله لعباده خلق الضلال في قلوبهم ، خلافا للمعتزلة القائلين : أنه تعالى لا يخلق الشر ولا يريده. (ع)

(٣) قال محمود : «في هذه الآية كسر بين لمن يزعم أن الله تعالى يضل عباده حقيقة ، حيث يقول للمعبودين من دونه : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء ، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون منهم ويستعيذون مما نسب إليهم ، ويقولون : بل تفضلك على هؤلاء أوجب أن جعلوا عرض الشكر كفرا ، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من ذلك. فهم لله أشد تبرئة وتنزيها منه ، ولقد نزهوه حيث أضافوا التفضل بالنعمة إلى الله تعالى ، وأسندوا الضلال الذي نشأ عنه إلى الضالين ، فهو شرح للاسناد المجازى في قوله (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) ولو كان مضلا حقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا : بل أنت أضللتهم» قال أحمد : قد تقدم شرح عقيدة أهل الحق في هذا المعنى ، وأن الباعث لهم على اعتقاد كون الضلال من خلق الله تعالى : التزامهم للتوحيد المحض والايمان الصرف ، الذي دل على صحته بعد الأدلة العقلية قوله تعالى (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) والضلال شيء ، فوجب كونه خالقه : هذا من حيث العموم. وأما من حيث الخصوص ، فأمثال قوله تعالى (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، والأصل الحقيقة ، وقول موسى عليه السلام (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) فلو كان الإضلال مستحيلا على الله تعالى لما جاز أن يخاطبه الكليم بما لا يجوز ، فإذا أوضح ذلك فالملائكة لم يسئلوا في هذه الاية عن المضل لعبادهم حقيقة ، فيقال لهم : من أضل هؤلاء ، وإنما قيل لهم : أأنتم أضللتموهم ، أم هم ضلوا؟ فليس الجواب المطابق العتيد أن يقولوا : أنت أضللتهم. ولو كان معتقدهم أن الله تعالى هو المضل حقيقة ، لكان قولهم في جواب هذا السؤال : بل أنت أضللتهم مجاوزة لمحل السؤال ومحله ، وإنما كان هذا الجواب مطابقا لو قيل لهم : من أضل عبادي هؤلاء؟ فقد وضح أن هذا السؤال لإيجاب عنه بما تخيله الزمخشري ، بتقدير أن يكون معتقدهم أن الله تعالى هو الذي أضلهم ، وأن عدو لهم عنه ليس لأنهم لا يعتقدونه ، ولكن لأنه لا يطابق ، وبقي وراء ذلك نظر في أن جوابهم هذا يدل على معتقدهم الموافق لأهل الحق ، لأن أهل الحق يعتقدون أن الله تعالى وإن خلق لهم الضلالة إلا أن لهم اختيارا فيها وتميزا لها ، ولم يكونوا عليها مقسورين كما هم مقسورون على أفعال كثيرة يخلقها الله فيهم كالحركات الرعشية ونحوها. وقد قدمنا في مواضع : أن كل فعل اختيارى له نسبتان : إن نظر إلى كونه مخلوقا فهو منسوب إلى الله تعالى ، وإن نظر إلى كونه اختياريا للعبد فهو منسوب إلى العبد. وبذلك قطعت الملائكة في قولهم : بل متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر ، فنسبوا نسيان الذكر إليهم ، أى : الانهماك في الشهوات الذي نشأ عنه النسيان ، لأنهم اختاروه لأنفسهم ، فصدقت نسبته إليهم ، ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهما كهم في الشهوات إلى الله تعالى : وهو استدراجهم ببسط النعم عليهم ، فيها ضلوا ، فلا تنافى بين معتقد أهل الحق وبين مضمون قول الملائكة حينئذ. بل هما متواطئان على أمر واحد ، والله أعلم.

٢٦٩

سبب الشكر ، سبب الكفر ونسيان الذكر ، وكان ذلك سبب هلاكهم ، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه ، فهم لربهم الغنىّ العدل أشدّ تبرئة وتنزيها منه ، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها ، وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة. فشرحوا الإضلال المجازى الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا : بل أنت أضللتهم. والمعنى : أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق؟ أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ وضل : مطاوع «أضله» وكان القياس : ضل عن السبيل ، إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق. والأصل : إلى الطريق ، وللطريق. وقولهم : أضلّ البعير ، في معنى : جعله ضالا ، أى : ضائعا ، لما كان أكثر ذلك بتفريط من صاحبه وقلة احتياط في حفظه ، قيل : أضله ، سواء كان منه فعل أو لم يكن (سُبْحانَكَ) تعجب منهم ، قد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون ، فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه. أو نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون المتقدّسون الموسومون بذلك ، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده. أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد ، وأن يكون له نبىّ أو ملك أو غيرهما ندّا ، ثم قالوا : ما كان يصحّ لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحدا دونك. فكيف يصحّ لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك. أو ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار. قال الله تعالى (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) يريد الكفرة وقال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) وقرأ أبو جعفر المدني : نتخذ ، على البناء للمفعول. وهذا الفعل أعنى «اتخذ» يتعدى إلى مفعول واحد ، كقولك : اتخذ وليا ، وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلانا وليا. قال الله تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) وقال (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) فالقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو (مِنْ أَوْلِياءَ) والأصل : أن نتخذ أولياء ، فزيدت (مِنْ) لتأكيد معنى النفي ، والثانية من المتعدي إلى مفعولين. فالأول ما بنى له الفعل. والثاني : (مِنْ أَوْلِياءَ). ومن للتبعيض ، أى : لا نتخذ بعض أولياء. وتنكير (أَوْلِياءَ) من حيث أنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام والذكر : ذكر الله والإيمان به. أو القرآن والشرائع. والبور : الهلاك ، يوصف به الواحد والجمع. ويجوز أن يكون جمع بائر ، كعائذ وعوذ.

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً)(١٩)

٢٧٠

هذه المفاجأة (١) بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول ونحوها قوله تعالى (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) وقول القائل :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثمّ القفول فقد جئنا خراسانا (٢)

وقرئ : يقولون ، بالتاء والياء. فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم أنهم آلهة. ومعنى من قرأ بالياء : فقد كذبوكم بقولهم (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) : فإن قلت : هل يختلف حكم الباء مع التاء والياء؟ قلت إي والله ، هي مع التاء كقوله (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) والجار والمجرور بدل من الضمير ، كأنه قيل : فقد كذبوا بما تقولون : وهي مع الياء كقولك : كتبت بالقلم. وقرئ : يستطيعون ، بالتاء والياء أيضا. يعنى. فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم. وقيل : الصرف : التوبة وقيل : الحيلة ، من قولهم : إنه ليتصرف ، أى. يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب. أو أن يحتالوا لكم. الخطاب على العموم للمكلفين. والعذاب الكبير لا حق بكل من ظلم ، والكافر ظالم ، لقوله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) والفاسق ظالم. لقوله (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وقرئ : يذقه ، بالياء. وفيه ضمير الله. أو ضمير مصدر يظلم.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(٢٠)

الجملة بعد «إلا» صفة لموصوف محذوف. والمعنى : وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور. أعنى من المرسلين ونحوه قوله عز من قائل : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) على معنى : وما منا أحد. وقرئ : ويمشون ، على البناء للمفعول ، أى : تمشيهم حوائجهم أو الناس. ولو قرئ : يمشون ، لكان أوجه لولا الرواية. وقيل : هو احتجاج على من قال (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي

__________________

(١) قوله «هذه المفاجأة» أى : التي في قوله تعالى (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ). (ع)

(٢) يقول : قالوا إن هذه البلدة أبعد ما يراد بنا وغاية السفر بنا ، ثم يكون القفول أى الرجوع. ويجوز أنه عطف على خراسان. وقوله «فقد جئنا» مرتب على محذوف ، أى : إن صدقوا في قولهم فقد جئنا خراسان ، فلم لم نتخلص من السفر. ويجوز أنه عدل إلى الخطاب ، أى : فقولوا لهم اقطعوا السفر بنا وارجعوا. فقد جئنا الموعد ، لكن ليس ذلك التفاتا.

٢٧١

الْأَسْواقِ).(فِتْنَةً) أى محنة وابتلاء. وهذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه ، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل ، يقول : وجرت عادتى وموجب حكمتى على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. والمعنى : أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم ، وبمناصبتهم لهم العداوة ، وأقاويلهم الخارجة عن حدّ الإنصاف ، وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل ، ونحوه (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وموقع (أَتَصْبِرُونَ) بعد ذكر الفتنة موقع (أَيُّكُمْ) بعد الابتلاء في قوله (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). (بَصِيراً) عالما بالصواب فيما يبتلى به وغيره فلا يضيقنّ صدرك ، ولا يستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين. وقيل : هو تسلية له عما عيروه به من الفقر ، حين قالوا : أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة. وأنه جعل الأغنياء فتنه للفقراء ؛ لينظر : هل يصبرون؟ وأنها حكمته ومشيئته : يغنى من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل : جعلناك فتنة لهم ، لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا ، أو ممزوجة بالدنيا ، فإنما بعثناك فقيرا ليكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوى. وقيل : كان أبو جهل والوليدين المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون : إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة ، فهو افتتان بعضهم ببعض.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً)(٢١)

أى لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم كفرة. أو لا يخافون لقاءنا بالشر. والرجاء في لغة تهامة : الخوف ، وبه فسر قوله تعالى (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) جعلت الصيرورة إلى دار جزائه بمنزلة لقائه لو كان ملقيا. اقترحوا من الآيات أن ينزل الله عليهم الملائكة فتخبرهم بأن محمدا صادق حتى يصدقوه. أو يروا الله جهرة فيأمرهم بتصديقه واتباعه. ولا يخلو : إما أن يكونوا عالمين بأن الله لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء ، وأن الله لا يصح أن يرى (١). وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون. وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم ، كما فعل قوم موسى حين قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فإن قلت : ما معنى (فِي أَنْفُسِهِمْ)؟ قلت : معناه أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد

__________________

(١) قوله «لا يصح أن يرى ، هذا مذهب المعتزلة ، وعند أهل السنة : يصح أن يرى. (ع)

٢٧٢

في قلوبهم واعتقدوه. كما قال (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ). (وَعَتَوْا) وتجاوزوا الحدّ في الظلم. يقال : عتا علينا فلان. وقد وصف العتوّ بالكبير ، فبالغ في إفراطه يعنى أنهم لم يخسروا على هذا القول العظيم ، إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العنوّ ، واللام جواب قسم محذوف. وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية. وفي أسلوبها قول القائل :

وجارة جسّاس أبأنا بنابها

كليبا غلت ناب كليب بواؤها (١)

وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب. ألا ترى أن المعنى : ما أشدّ استكبارهم ، وما أكبر عتوّهم ، وما أغلى نابا بواؤها كليب.

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً)(٢٢)

(يَوْمَ يَرَوْنَ) منصوب بأحد شيئين : إما بما دل عليه (لا بُشْرى) أى : يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها. ويومئذ للتكرير. وإما بإضمار «اذكر» أى : اذكر يوم يرون الملائكة ثم قال (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ). وقوله «للمجرمين» إما ظاهر في موضع ضمير ، وإما لأنه عام ، فقد تناولهم بعمومه (حِجْراً مَحْجُوراً) ذكره سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو : معاذ الله ، (٢) وقعدك الله ، وعمرك الله. وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ موتور أو هجوم نازلة ، أو نحو ذلك : يضعونها موضع الاستعاذة. قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل : أتفعل كذا وكذا ،

__________________

(١) لرجل من بنى بكر : قبيلة جساس ، يفتخر على بنى تغلب : قبيلة كليب بن ربيعة أخى مهلهل وخال امرئ القيس. وجارة جساس : هي خالته البسوس. أبأنا ـ بالهمز ـ : أى قابلنا وساوينا كليبا ، بنابها : أى بناقتها المسنة ، فقتلناه فيها ، ثم قال تعجبا واستعظاما : غلت ، أى : ارتفعت وعظمت ناقة مسنة مهزولة بواؤها كليب المشهور. وبواء كسواء وزنا ومعنى ، أى : كفؤها ومساويها كليب بن ربيعة الشجاع المعروف. ومن خبرها أن البسوس أتت مع رجل من جرم تزور أختها هيلة أم جساس بن مرة فخرجت ناقة الجرمي ترعى مع إبل بنى بكر في أرض تغلب لما كان بينهما من المصاهرة والمودة ، فأنكر كليب الناقة وظنها أجنبية ، فرماها بسهم فأصاب ضرعها فرجعت تشخب دما ، وبركت بفناء جساس ، فرأتها البسوس فصاحت : واذلاه ، واغربتاه! فقال جساس : اهدئى ، والله لأعقرن فيها فحلا هو أعز على أهله منها ، فظن كليب أنه يعنى فحلا عنده اسمه عليان ، فقال : دون عليان خرط القتاد ، لكن جساسا كان يعنى نفس كليب ، فترقبه يوما ورماه برمحه فصرعه ، وتبعه عمرو بن الحرث ، فلما رآه كليب قال له : اسقني يا عمرو. فقال : تركت الماء وراءك وأجهز عليه ، فضرب به المثل المشهور :

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار

واشتعلت الحرب بين بكر وتغلب نحو ثلاثين سنة ، وضرب المثل السائر : سد كليب في الناقة.

(٢) قوله «وقعدك الله» في الصحاح : وقولهم : قعيدك لا آتيك ، وقعيدك الله لا آتيك ، وقعدك الله لا آتيك : يمين العرب ، وهي مصادر استعملت منصوبة بفعل مضمر. والمعنى : بصاحبك الذي هو صاحب كل نجوى ، كما يقال : نشدتك الله. (ع)

٢٧٣

فيقول : حجرا ، وهي من حجره إذا منعه ، لأنّ المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكان المعنى : أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا. ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن ، تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد ، كما كان قعدك وعمرك كذلك ، وأنشدت لبعض الرّجاز :

قالت وفيها حيدة وذعر

عوذ بربىّ منكم وحجر (١)

فإن قلت : فإذ قد ثبت أنه من باب المصادر ، فما معنى وصفه بمحجور؟ قلت : جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر ، كما قالوا. ذيل ذائل ، والذيل : الهوان. وموت مائت. والمعنى في الآية : أنهم يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه ، وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم ، لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون ، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدوّ الموتور (٢) وشدة النازلة. وقيل : هو من قول الملائكة ومعناه: حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى ، أى : جعل الله ذلك حراما عليكم.

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)(٢٣)

ليس هاهنا قدوم ولا ما يشبه القدوم ، ولكن مثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، وقرى ضيف ، ومنّ على أسير ، وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه ، فقدم إلى أشيائهم ، وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها ومزقها كل ممزق ، ولم يترك لها أثرا ولا عثيرا (٣) والهباء : ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وفي أمثالهم : أقل من الهباء (مَنْثُوراً) صفة للهباء ، شبهه بالهباء في قلته وحقارته عنده ، وأنه لا ينتفع به ، ثم بالمنثور منه ، لأنك تراه منتظما مع الضوء ، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب كل مذهب. ونحوه قوله (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) لم يكف أن شبههم بالعصف حتى جعله مؤوفا بالأكال (٤) ولا أن شبه عملهم بالهباء حتى جعله متناثرا. أو مفعول ثالث لجعلناه أى فجعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر ، كقوله (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أى جامعين للمسح والخسء. ولام الهباء واو ، بدليل الهبوة.

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً)(٢٤)

__________________

(١) الحيدة : الصدود ، وذعره ذعرا : فزعه. والذعر ـ بالضم ـ : اسم مصدر ، وكذلك العوذ بمعنى التعوذ والالتجاء ، وكذلك الحجر بمعنى الامتناع والتحصن ، والمبتدأ محذوف ، أى : قالت أمرى تعوذ منكم وتحصن بربي ، والحال أنها صادة فزعة ، وهذا يقال على لسانهم عند لقاء المكروه.

(٢) قوله «الموتور» في الصحاح : الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. (ع)

(٣) قوله «لم يترك لها أثرا ولا عثيرا» في الصحاح «العثير» بتسكين الثاء : الغبار. (ع)

(٤) قوله «بالأكال» هو بالضم : الحكة. (ع)

٢٧٤

المستقرّ : المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرّين يتجالسون ويتحادثون. والمقيل : المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهنّ وملامستهنّ ، كما أنّ المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب. وروى أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم ، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وفي معناه قوله تعالى (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) قيل في تفسير الشغل : افتضاض الأبكار ، ولا نوم في الجنة. وإنما سمى مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه. وفي لفظ الأحسن : رمز إلى ما يتزين به مقيلهم. من حسن الوجوه وملاحة الصور ، إلى غير ذلك من التحاسين والزين.

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً)(٢٥)

وقرئ (تَشَقَّقُ) والأصل : تتشقق ، فحذف بعضهم التاء ، وغيره أدغمها. ولما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها ، جعل الغمام كأنه الذي تشقق به السماء ، كما تقول : شق السنام بالشفرة وانشق بها. ونظيره قوله تعالى (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ). فإن قلت : أى فرق بين قولك : انشقت الأرض بالنبات ، وانشقت عن النبات؟ قلت : معنى انشقت به : أنّ الله شقها بطلوعه فانشقت به. ومعنى انشقت عنه : أنّ التربة ارتفعت عنه عند طلوعه. والمعنى : أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها ، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. وروى تنشق سماء سماء ، وتنزل الملائكة إلى الأرض. وقيل : هو غمام أبيض رقيق ، مثل الضبابة ، ولم يكن إلا لبنى إسرائيل في تيههم. وفي معناه قوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ). وقرئ : وننزل الملائكة ، وتنزل الملائكة ، ونزل الملائكة ، ونزلت الملائكة ، وأنزل الملائكة ، ونزل الملائكة ، ونزل الملائكة : على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل : قراءة أهل مكة.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً)(٢٦)

الحق : الثابت : لأنّ كل ملك يزول يومئذ ويبطل ، ولا يبقى إلا ملكه.

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)(٢٩)

٢٧٥

عض اليدين والأنامل ، والسقوط في اليد ، وأكل البنان ، وحرق الأسنان والأرم (١) ، وقرعها : كنايات عن الغيظ والحسرة ، لأنها من روادفها ، فيذكر الرادفة ويدل بها على المردوف ، فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة ، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند لفظ المكنى عنه. وقيل : نزلت في عقبة بن أبى معيط بن أمية بن عبد شمس ، وكان يكثر مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل اتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ، ففعل وكان أبى بن خلف صديقه فعاتبه وقال : صبأت يا عقبة؟ قال : لا ، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامى وهو في بيتي ، فاستحييت منه فشهدت له والشهادة ليست في نفسي ، فقال : وجهى من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه ، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف ، فقتل يوم بدر : أمر عليا رضى الله عنه بقتله. وقيل : قتله عاصم بن ثابت بن أفلح الأنصارى وقال : يا محمد ، إلى من السبية (٢) قال : إلى النار. وطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيا بأحد ، فرجع إلى مكة فمات (٣). واللام في (الظَّالِمُ) يجوز أن تكون للعهد ، يراد به عقبة خاصة. ويجوز أن تكون للجنس فيتناول عقبة وغيره. تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم يتشعب به طرق الضلالة والهوى. أو أراد أنى كنت ضالا لم يكن لي سبيل قط ، فليتني حصلت بنفسي في صحبة الرسول سبيلا. وقرئ : يا ويلتى بالياء ، وهو الأصل ، لأن الرجل ينادى ويلته وهي هلكته ، يقول لها : تعالى فهذا أوانك. وإنما قلبت الياء ألفا كما في : صحارى ، ومدارى. فلان : كناية عن الأعلام ، كما أن الهن كناية عن الأجناس فإن أريد بالظالم عقبة ، فالمعنى : ليتني لم أتخذ أبيا خليلا ، فكنى عن اسمه. وإن أريد به الجنس ،

__________________

(١) قوله «وحرق الأسنان والأرم» في الصحاح : حرقت الشيء حرقا : بروته وحككت بعضه ببعض. ومنه قولهم : حرقت نابه ، أى سحقه حتى سمع له صريف. وفلان يحرق عليك الأرم غيظا. وفيه أيضا : أرم على الشيء أى : عض عليه وأرمه أيضا ، أى : أكله ، والأرم : الأضراس ، كأنه جمع آرم ، يقال : فلان يحرق عليك الأرم ، إذا تغيظ فحك أضراسه بعضها ببعض. (ع)

(٢) قوله «وقال يا محمد إلى من السبية» في الصحاح «السبية» : المرأة تسبى. (ع)

(٣) أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس فذكره مطولا لكن إلى قوله «فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا. ولم يقتل من الأسارى يوم بدر غيره. قتله ثابت بن أبى الأفلح» وروى الطبري من طريق مجاهد في قوله تعالى. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) قال «دعا عقبة بن أبى معيط النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام صنعه إلى قوله فشهدت له ، والشهادة ليست في نفسي» ومن طريق مقسم نحوه ، مختصرا قال فقتل عقبة يوم بدر صبرا» وأما أبى بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد في القتال وهما اللذان أنزل الله تعالى فيهما (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) وذكره الثعلبي ثم الواحدي من غير سند.

٢٧٦

فكل من اتخذ من المضلين خليلا كان لخليله اسم علم لا محالة ، فجعله كناية عنه (عَنِ الذِّكْرِ) عن ذكر الله ، أو القرآن ، أو موعظة الرسول. ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق ، وعزمه على الإسلام. والشيطان : إشارة إلى خليله ، سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان ، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. أو أراد إبليس ، وأنه هو الذي حمله على مخالة المضل ومخالفة الرسول ، ثم خذله. أو أراد الجنس ، وكل من تشيطن من الجنّ والإنس. ويحتمل أن يكون (وَكانَ الشَّيْطانُ) حكاية كلام الظالم ، وأن يكون كلام الله. اتخذت : يقرأ على الإدغام والإظهار ، والإدغام أكثر.

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)(٣٠)

الرسول : محمد صلى الله عليه وسلم وقومه قريش ، حكى الله عنه شكواه قومه إليه. وفي هذه الحكاية تعظيم للشكاية وتخويف لقومه ؛ لأن الأنبياء كانوا إذا التجئوا إليه وشكوا إليه قومهم : حلّ بهم العذاب ولم ينظروا.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً)(٣١)

ثم أقبل عليه مسليا ومواسيا وواعدا النصرة عليهم ، فقال (وَكَذلِكَ) كان كل نبىّ قبلك مبتلى بعداوة قومه ، وكفاك بى هاديا إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ، وناصرا لك عليهم. مهجورا : تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه ، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب العالمين ، عبدك هذا اتخذني مهجورا ، اقض بيني وبينه (١). وقيل : هو من هجر ، إذا هذى ، أى : جعلوه مهجورا فيه ، فحذف الجار وهو على وجهين ، أحدهما : زعمهم أنه هذيان وباطل وأساطير الأوّلين. والثاني : أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه ، كقوله تعالى (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر ، كالمجلود والمعقول. والمعنى : اتخذوه هجرا. والعدوّ : يجوز أن يكون واحدا وجمعا. كقوله (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) وقيل المعنى : وقال الرسول يوم القيامة.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ

__________________

(١) أخرجه الثعلبي من طريق أبى هدية عن أنس وأبو هدية كذاب.

٢٧٧

بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣٤)

(نُزِّلَ) هاهنا بمعنى أنزل لا غير ، كخبر بمعنى أخبر ، وإلا كان متدفعا. وهذا أيضا من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على شرادهم عن الحق وتجافيهم عن اتباعه. قالوا : هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة ، وماله أنزل على التفاريق. والقائلون : قريش. وقيل : اليهود. وهذا فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته ، لأنّ أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرّقا. وقوله (كَذلِكَ) جواب لهم ، أى : كذلك أنزل مفرّقا. والحكمة فيه : أن نقوّى بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه ، لأنّ المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء ، وجزأ عقيب جزء. ولو ألقى عليه جملة واحدة لبعل به وتعيا (١) بحفظه ، والرسول صلى الله عليه وسلم فارقت حاله حال موسى وداود وعيسى عليهم السلام ، حيث كان أميا لا يقرأ ولا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين ، فلم يكن له بدّ من التلقن والتحفظ ، فأنزل عليه منجما في عشرين سنة. وقيل : في ثلاث وعشرين. وأيضا : فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين ، ولأنّ بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرّقا. فإن قلت : ذلك في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدّمه ، والذي تقدّم هو إنزاله جملة واحدة ، فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرّقا؟ قلت : لأنّ قولهم : لو لا أنزل عليه جملة : معناه : لم أنزل مفرّقا؟ والدليل على فساد هذا الاعتراض : أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه ، وتحدّوا بسورة واحدة من أصغر السور ، فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة ، ثم قالوا : هلا نزل جملة واحدة ، كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته (وَرَتَّلْناهُ) معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك ، كأنه قال : كذلك فرقناه ورتلناه. ومعنى ترتيله : أن قدره آية بعد آية ، ووقفة عقيب وقفة. ويجوز أن يكون المعنى : وأمرنا بترتيل قراءته ، وذلك قوله (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أى اقرأه بترسل وتثبت. ومنه حديث عائشة رضى الله عنها في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم «لا كسردكم هذا ، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه يعدّها» (٢) وأصله : الترتيل في الأسنان :

__________________

(١) قوله «لبعل به وتعيا بحفظه» في الصحاح : بعل الرجل ـ بالكسر ـ : أى دهش : وفيه أيضا : عييت بأمرى ، إذا لم تهتد لوجهه. وأعيا عليه الأمر وتعيا وتعايا ، بمعنى اه فتدبر. (ع)

(٢) أخرجه البخاري. من رواية عروة. قال «جلس أبو هريرة رضى الله عنه إلى حجرة عائشة رضى الله

٢٧٨

وهو تفليجها. يقال : ثغر رتل ومرتل ، ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. وقيل : هو أن نزله مع كونه متفرقا على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة ، ولم يفرقه في مدة متقاربة (وَلا يَأْتُونَكَ) بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة ـ كأنه مثل في البطلان ـ إلا أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ، ومؤدّى من سؤالهم. ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام ، وضع موضع معناه فقالوا : تفسير هذا الكلام كيت وكيت ، كما قيل : معناه كذا وكذا. أو لا يأتونك بحال وصفة عجيبة يقولون : هلا كانت هذه صفتك وحالك ، نحو : أن يقرن بك ملك ينذر معك ، أو يلقى إليك كنز ، أو تكون لك جنة ، أو ينزل عليك القرآن جملة ، إلا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه ، وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته ، يعنى : أن تنزيله مفرقا وتحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلما تزل شيء منها : أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة ويقال لهم جيئوا بمثل هذا الكتاب في فصاحته مع بعد ما بين طرفيه ، كأنه قيل لهم : إن حاملكم على هذه السؤالات أنكم تضللون سبيله وتحتقرون مكانه ومنزلته. ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوههم إلى جهنم ، لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله. وفي طريقته قوله (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ...) الآية ويجوز أن يراد بالمكان : الشرف والمنزلة ، وأن يراد الدار والمسكن ، كقوله (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازى وعن النبي صلى الله عليه وسلم : يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث : ثلث على الدواب وثلث على وجوههم ، وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا (١).

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً)(٣٦)

__________________

ـ عنها فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يحدث الحديث لوعده العاد لأحصاه» ولمسلم «لم يكن يسرد الحديث كسردكم» وزاد الترمذي والنسائي ولكن كان يتكلم بكلام فصل يحفظه من جلس اليه» وسيأتى في المزمل.

(١) أخرجه البيهقي من طريق مسدد عن بشر بن المفضل عن على بن زيد عن أوس بن أبى أوس. عن أبى هريرة مرفوعا بهذا. وأصله في الترمذي والبزار وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة من هذا الوجه لكن قال عن أوس ابن خالد وعند الحاكم من رواية أبى الطفيل عن حذيفة بن أسيد عن أبى ذر حدثني الصادق المصدوق «أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج. فوجا طاعمين لا بسين راكبين. وفوجا يمشون ويسعون. وفوجا تسحيهم الملائكة على وجوههم إلى النار» وفي الترمذي والنسائي من رواية معاوية بن جبلة حدثنا يهز بن حكيم رفعه «إنكم محشورون إلى الله ركبانا ورجالا وتمرون على وجوهكم».

٢٧٩

الوزارة : لا تنافى النبوّة ، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا. والمعنى : فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم ، كقوله (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) أى فضرب فانفلق. أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أوّلها وآخرها ، لأنهما المقصود من القصة بطولها أعنى : إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم. وعن علىّ رضى الله عنه فدمّرتهم. وعنه : فدمّراهم. وقرئ فدمّرانّهم ، على التأكيد بالنون الثقيلة.

(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً)(٣٧)

كأنهم كذبوا نوحا ومن قبله من الرسل صريحا. أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيب للجميع أو لم يروا بعثة الرسل أصلا كالبراهمة (وَجَعَلْناهُمْ) وجعلنا إغراقهم أو قصتهم (لِلظَّالِمِينَ) إمّا أن يعنى بهم قوم نوح ، وأصله : وأعتدنا لهم ، إلا أنه قصد تظليمهم فأظهر. وإمّا أن يتناولهم بعمومه.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً)(٣٩)

عطف عادا على «هم» في جعلناهم أو على الظالمين ، لأنّ المعنى : ووعدنا الظالمين. وقرئ : وثمود ، على تأويله القبلة. وأما المنصرف فعلى تأويل الحىّ أو لأنه اسم الأب الأكبر. قيل في أصحاب الرس : كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش ، فبعث الله إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام. فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه. فبيناهم حول الرس وهو البئر غير المطوية. عن أبى عبيدة : انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم. وقيل : الرس قرية بفلج اليمامة ، قتلوا نبيهم فهلكوا ، وهم بقية ثمود قوم صالح. وقيل : هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ، كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير ، سميت لطول عنقها ، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح ، وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم ، إن أعوزها الصيد. فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا : وقيل : هم أصحاب الأخدود ، والرس : هو الأخدود. وقيل الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار. وقيل : كذبوا نبيهم ورسوه في بئر ، أى : دسوه فيها (بَيْنَ ذلِكَ) أى بين ذلك المذكور ، وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ، ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ثم يقول : فذلك كيت وكيت على معنى : فذلك المحسوب أو المعدود (ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) بينا له القصص العجيبة من قصص الأوّلين ، ووصفنا لهم ما أجروا

٢٨٠