الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

دينه إلا (هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أى مطبوعا على قلبه ممنوع الألطاف (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) أى لا يلطف بالقوم الثابتين على الظلم الذين اللاطف بهم عابث. وقوله بغير هدى في موضع الحال ، يعنى : مخذولا مخلى بينه وبين هواه.

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٥١)

قرئ (وَصَّلْنا) بالتشديد والتخفيف. والمعنى : أن القرآن أتاهم متتابعا متواصلا ، وعدا ووعيدا ، وقصصا وعبرا ، ومواعظ ونصائح : إرادة أن يتذكروا فيفلحوا. أو نزل عليهم نزولا متصلا بعضه في أثر بعض ، كقوله (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ).

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ)(٥٢)

نزلت في مؤمنى أهل الكتاب وعن رفاعة بن قرظة : نزلت في عشرة أنا أحدهم. وقيل : في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل : اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من أرض الحبشة ، وثمانية من الشام. والضمير في (مِنْ قَبْلِهِ) للقرآن.

(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ)(٥٣)

فإن قلت : أى فرق بين الاستئنافين إنه وإنا؟ قلت : الأوّل تعليل للإيمان به ، لأن كونه حقا من الله حقيق بأن يؤمن به. والثاني : بيان لقوله (آمَنَّا بِهِ) لأنه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد وبعيده ، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم ، لأنّ آباءهم القدماء قرءوا في الكتب الأول ذكره وأبناءهم من بعدهم (مِنْ قَبْلِهِ) من قبل وجوده ونزوله (مُسْلِمِينَ) كائنين على دين الإسلام ، لأن الإسلام صفة كل موحد مصدّق للوحى.

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٥٤)

(بِما صَبَرُوا) بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن. أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله. أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. ونحوه (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، (بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) بالطاعة المعصية المتقدمة. أو بالحلم الأذى.

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)(٥٥)

٤٢١

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) توديع ومتاركة. وعن الحسن رضى الله عنه : كلمة حلم من المؤمنين (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) لا نريد مخالطتهم وصحبتهم فإن قلت : من خاطبوا بقولهم (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ)؟ قلت : اللاغين الذين دل عليهم قوله (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ).

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(٥٦)

(لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم ، لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره (وَلكِنَّ اللهَ) يدخل في الإسلام (مَنْ يَشاءُ) وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه ، وأن الألطاف ننفع فيه ، فيقرن به ألطافه حتى تدعوه إلى القبول (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) بالقابلين من الذين لا يقبلون. قال الزجاج : أجمع المسلمون أنها نزلت في أبى طالب ، وذلك أن أبا طالب قال عند موته : يا معشر بنى هاشم ، أطيعوا محمدا وصدّقوه تفلحوا وترشدوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال : فما تريد يا ابن أخى؟ قال : أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا : أن تقول لا إله إلا الله ، أشهد لك بها عند الله. قال : يا ابن أخى ، قد علمت إنك لصادق ، ولكنى أكره أن يقال : خرع عند الموت (١) ، ولو لا أن تكون عليك وعلى بنى أبيك غضاضة (٢) ومسبة بعدي ، لقلتها ، ولأقررت بها عينك عند الفراق ، لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ، ولكنى سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف.

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٥٧)

قالت قريش (٣) ، وقيل : إن القائل الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف : نحن نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك ـ وإنما نحن أكلة رأس ، أى : قليلون ـ أن يتخطفونا من أرضنا ، فألقمهم الله الحجر. بأنه مكن لهم في الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته ، وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناحرون ، وهم آمنون في حرمهم لا يخافون ، وبحرمة البيت هم قارّون بواد غير ذى زرع ، والثمرات والأرزاق تجبى إليهم من كل

__________________

(١) قوله «أكره أن يقال خرع عند الموت» في الصحاح : خرع الرجل ـ بالكسر ـ : ضعف ، فهو خرع. (ع)

(٢) قوله «غضاضة» أى : مذلة ومنقصة. (ع)

(٣) لم أجده ، وقصة وفاة أبى طالب في الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن ابنه بغير هذا السياق أو أخصر منه.

٤٢٢

أوب ، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرضهم للتخوّف والتخطف ، ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام. وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة ، وإلى الحرم مجاز (يُجْبى إِلَيْهِ) تجلب وتجمع. قرئ : بالياء والتاء. وقرئ : تجنى ، بالنون ، من الجنى. وتعديته بإلى كقوله : يجنى إلىّ فيه ، ويجنى إلى الخافة (١). وثمرات : بضمتين وبضمة وسكون. ومعنى الكلية : الكثرة كقوله (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) متعلق بقوله (مِنْ لَدُنَّا) أى قليل منهم يقرون بأنّ ذلك رزق من عند الله ، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولا يفطنون له ، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده ، ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به وخلعوا أنداده. فإن قلت : بم انتصب رزقا؟ قلت : إن جعلته مصدرا جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله ، لأنّ معنى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) ويرزق ثمرات كل شيء : واحد ، وأن يكون مفعولا له. وإن جعلته بمعنى : مرزوق ، كان حالا من الثمرات لتخصصها بالإضافة ، كما تنتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ)(٥٨)

هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش ، فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر ، (٢) فدمرّهم الله وخرّب ديارهم. وانتصبت (مَعِيشَتَها) إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل ، كقوله تعالى (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) وإمّا على الظرف بنفسها ، كقولك : زيد ظنى مقيم (٣). أو بتقدير حذف الزمان المضاف ، أصله : بطرت أيام معيشتها ، كخفوق النجم ، ومقدم الحاج : وإمّا بتضمين (بَطِرَتْ) معنى : كفرت وغمطت. وقيل : البطر سوء احتمال الغنى : وهو أن لا يحفظ حق الله فيه (إِلَّا قَلِيلاً) من السكنى. قال ابن عباس رضى الله عنهما : لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوما أو ساعة ويحتمل أنّ شؤم معاصى المهلكين بقي أثره في ديارهم ، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا

__________________

(١) قوله «ويجنى إلى الخافة» في الصحاح «الخافة» : خريطة من أدم يشتار فيها بعسل. وفيه «يشتار» : يجتنى. (ع)

(٢) قوله «فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر» أى بطروها وحقروها. والأشر والبطر : شدة المرح والمرح : شدة الفرح ، كذا في الصحاح. (ع)

(٣) قوله «كقولك زيد ظنى مقيم» أى : في ظنى. (ع)

٤٢٣

قليلا (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) لتلك المساكن من ساكنيها ، أى : تركناها على حال لا يكنها أحد ، أو خرّبناها وسوّيناها بالأرض.

تتخلّف الآثار عن أصحابها

حينا ويدركها الفناء فتتبع (١)

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ)(٥٩)

وما كانت عادة ربك أن يهلك القرى في كل وقت (حَتَّى يَبْعَثَ فِي) القرية التي هي أمّها ، أى : أصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها (رَسُولاً) لإلزام الحجة وقطع المعذرة ، مع علمه أنهم لا يؤمنون ، أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى ـ يعنى مكة ـ رسولا وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. وقرئ : أمها ، بضم الهمزة وكسرها لاتباع الجرّ ، وهذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم ، حيث أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الهلاك بظلمهم (٢) ، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل ، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم ، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين ، كما قال تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) فنصّ في قوله (بِظُلْمٍ) أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما منه ، وأنّ حاله في غناه وحكمته منافية للظلم ، دلّ على ذلك بحرف النفي مع لامه ، كما قال الله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

__________________

(١) أين الذي الهرمان من بنيانه

ما قومه ما يومه ما المصرع

تتخلف الآثار عن أصحابها

حينا ويدركها الفناء فتتبع

لأبى الطيب حين دخل مصر ورأى الأهرام التي بناها الملك سورند. وقيل : سنان بن مشلشل. وقيل : إدريس عليه السلام. والهرمان : تثنية هرم ـ كسبب ـ وأراد بهما القريبين من مصر ، ويومه : هو زمن ملكه ، ويجوز أنه يوم موته ، كما أن المصرع مكان الموت ، والاستفهام عن هذا بعد الاستفهام عن قومه لاستحضار الصورتين والفرق بين الحالتين ، ثم قال : تتخلف ، أى : تتأخر الآثار من البنيان والأشجار وغير ذلك زمنا طويلا بعد أصحابها. ثم يلحقها الفناء فتتبع أصحابها ولو طال زمن تخلفها. ويجوز أن المعنى : حينا قليلا ، فالتنوين للتكثير أو التقليل.

(٢) قال محمود : «هذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم حتى أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا العذاب ولا يستحقوا حتى تتأكد عليهم الحجة ببعثة الرسل» قال أحمد : هذا إسلاف من الزمخشري لجواب ساقط عن سؤال وارد على القدرية لا جواب لهم عنه ، ينشأ السؤال في هذه الآية فيقال : لو كانت العقول تحكم عن الله تعالى بأحكام التكليف ، لقامت الحجة على الناس وإن لم يكن بعث رسل ، إذ العقل حاكم ، فلا يجدون للخلاص من هذا السؤال سبيلا.

٤٢٤

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٦٠)

وأى شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياما قلائل ، وهي مدة الحياة المتقضية (وَما عِنْدَ اللهِ) وهو ثوابه (خَيْرٌ) في نفسه من ذلك (وَأَبْقى) لأنّ بقاءه دائم سرمد وقرئ : يعقلون ، بالياء ، وهو أبلغ في الموعظة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن الله خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن ، والمنافق ، والكافر : فالمؤمن يتزوّد ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع.

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)(٦١)

هذه الآية تقرير وإيضاح للتي قبلها. والوعد الحسن : الثواب ، لأنه منافع دائمة على وجه التعظيم والاستحقاق ، وأى شيء أحسن منها ، ولذلك سمى الله الجنة بالحسنى. و (لاقِيهِ) كقوله تعالى. ولقاهم نضرة وسرورا ، وعكسه (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا). (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) من الذين أحضروا النار. ونحوه (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) ، (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) قيل : نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى جهل. وقيل : في على وحمزة وأبى جهل. وقيل : في عمار ابن ياسر والوليد بن المغيرة. فإن قلت : فسر لي الفاءين وثم ، وأخبرنى عن مواقعها. قلت : قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما ، ثم عقبه بقوله (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) على معنى : أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوّى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا ، فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها. وأمّا الثانية فللتسبيب ؛ لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير. وأمّا «ثم» فلتراخى حال الإحضار عن حال التمتيع ، لا لتراخى وقته عن وقته. وقرئ (ثُمَّ هُوَ) بسكون الهاء ، كما قيل عضد في عضد ، تشبيها للمنفصل بالمتصل ، وسكون الهاء في : فهو ، وهو ، ولهو : أحسن ؛ لأنّ الحرف الواحد لا ينطق به وحده فهو كالمتصل.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(٦٢)

(شُرَكائِيَ) مبنى على زعمهم ، وفيه تهكم. فإن قلت : زعم يطلب مفعولين ، كقوله :

... ولم أزعمك عن ذاك معزلا (١)

__________________

(١) وإن الذي قد عاش يا أم مالك

يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا

يقول. وإن كل حى ـ وإن طال عمره ـ يموت. ولم أظنك يا أم مالك معزلا عن ذلك الحكم أو الموت ، والمعزل :

٤٢٥

فأين هما؟ قلت : محذوفان ، تقديره : الذين كنتم تزعمونهم شركائى. ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت ، ولا يصح الاقتصار على أحدهما.

(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ)(٦٣)

(الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الشياطين أو أئمة الكفر ورءوسه. ومعنى حق عليهم القول : وجب عليهم مقتضاه وثبت ، وهو قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) و (هؤُلاءِ) مبتدأ ، و (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) صفته ، والراجع إلى الموصول محذوف ، و (أَغْوَيْناهُمْ) الخبر. والكاف صفة مصدر محذوف ، تقديره : أغويناهم ، فغووا غيا مثل ما غوينا ، يعنون : أنا لم نغو إلا باختيارنا ، لا أن فوقنا مغوين أغرونا بقسر منهم وإلجاء. أو دعونا إلى الغىّ وسوّلوه لنا ، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم ، لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلا لا قسرا وإلجاء ، فلا فرق إذا بين غينا وغيهم. وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر ، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل ، وما بعث إليهم من الرسل وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر ، وناهيك بذلك صارفا عن الكفر وداعيا إلى الإيمان. وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) والله تعالى قدّم هذا المعنى أوّل شيء ، حيث قال لإبليس (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ). (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر بأنفسهم ، هوى منهم للباطل ومقتا للحق ، لا بقوّة منا على استكراههم ولا سلطان (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم. وإخلاء الجملتين من العاطف ، لكونهما مقرّرتين لمعنى الجملة الأولى.

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ)(٦٦)

(لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب. أو لو أنهم كانوا مهتدين

__________________

ـ مكان العزلة والانفراد ، أى : لم أظنك في معزل عنه ، أو ذات معزل ، أو معتزلة ، أو نفس المقول مبالغة.

٤٢٦

مؤمنين ، لما رأوه. أو تمنوا لو كانوا مهتدين. أو تحيروا عند رؤيته وسدروا (١) فلا يهتدون طريقا. حكى أوّلا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء ، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمتهم عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة ، اعتذروا بأن الشياطين هم الذين استغووهم وزينوا لهم عبادتها ، ثم ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم ، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعا لا تهتدى إليهم (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات ، لأنهم يتساوون جميعا في عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب. وقرئ : فعميت ، والمراد بالنبإ : الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله ، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال ، ويفوّضون الأمر إلى علم الله ، وذلك قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فما ظنك بالضلال من أممهم.

(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ)(٦٧)

(فَأَمَّا مَنْ تابَ) من المشركين من الشرك ، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح (فَعَسى أَنْ) يفلح عند الله ، و «عسى» من الكرام تحقيق. ويجوز أن يراد : ترجى التائب وطمعه ، كأنه قال : فليطمع أن يفلح.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٦٨)

الخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير : تستعمل بمعنى المصدر هو التخير ، وبمعنى المتخير كقولهم : محمد خيرة الله من خلقه (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بيان لقوله (وَيَخْتارُ) لأنّ معناه : ويختار ما يشاء ، ولهذا لم يدخل العاطف. والمعنى : أنّ الخيرة لله تعالى في أفعاله ، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه. قيل : السبب فيه قول الوليد بن المغيرة : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يعنى : لا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم. وقيل : معناه ويختار الذي لهم فيه الخيرة ، أى : يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح ، وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم ، من قولهم في الأمرين : ليس فيهما خيرة لمختار. فإن قلت : فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت ما موصولة؟ قلت : أصل الكلام : ما كان لهم فيه

__________________

(١) قوله «وسدروا» أى تحيروا. أفاده الصحاح. (ع)

٤٢٧

الخيرة ، فحذف «فيه» كما حذف «منه» في قوله (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) لأنه مفهوم (سُبْحانَ اللهِ) أى الله بريء من إشراكهم وما يحملهم عليه من الجرأة على الله واختيارهم عليه ما لا يختار.

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٧٠)

(ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) من عداوة رسول الله وحسده (وَما يُعْلِنُونَ) من مطاعنهم فيه. وقولهم : هلا اختير عليه غيره في النبوّة (وَهُوَ اللهُ) وهو المستأثر بالإلهية المختص بها ، و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير لذلك ، كقولك : الكعبة القبلة ، لا قبلة إلا هي. فإن قلت : الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟ قلت : هو قولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) والتحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة. وفي الحديث : يلهمون التسبيح والتقديس (١) (وَلَهُ الْحُكْمُ) القضاء بين عباده.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٧٣)

(أَرَأَيْتُمْ) وقرئ أريتم : بحذف الهمزة ، وليس بحذف قياسي. ومعناه : أخبرونى من يقدر على هذا؟ والسرمد : الدائم المتصل ، من السرد وهو المتابعة. ومنه قولهم في الأشهر الحرم : ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، والميم مزيدة. ووزنه فعمل. ونظيره. دلامص ، من الدلاص (٢). فإن قلت : هلا قيل : بنهار تتصرفون فيه ، كما قيل : (بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ)؟ قلت ذكر الضياء وهو ضوء

__________________

(١) أخرجه مسلم من حديث جابر في أثناء حديث في صفة أهل الجنة : وفيه «يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» وفي رواية له «التسبيح والتكبير».

(٢) قوله «ونظيره دلامص من الدلاص» في الصحاح ، الدلاص : اللين البراق. والدلامص : البراق. يقال : دلصت الدرع ـ بالفتح. (ع)

٤٢٨

الشمس : لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ، ليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ، ومن ثمة قرن بالضياء (أَفَلا تَسْمَعُونَ) لأنّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل (أَفَلا تُبْصِرُونَ) لأنّ غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره. وأنت من السكون ونحوه (وَمِنْ رَحْمَتِهِ) زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة : لتسكنوا في أحدهما وهو الليل ، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار ولإرادة شكركم.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(٧٤)

وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء : إيذان بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به ، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. اللهم فكما أدخلتنا في أهل توحيدك ، فأدخلنا في الناجين من وعيدك.

(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٧٥)

(وَنَزَعْنا) وأخرجنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) وهو نبيهم : لأن أنبياء الأمم شهداء عليهم ، يشهدون بما كانوا عليه (فَقُلْنا) للأمة (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول (فَعَلِمُوا) حينئذ (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) ولرسوله ، لا لهم ولشياطينهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب والباطل.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(٧٧)

(قارُونَ) اسم أعجمى مثل هرون ، ولم ينصرف للعجمة والتعريف ، ولو كان فاعولا من قرن لانصرف. وقيل : معنى كونه من قومه أنه آمن به. وقيل ، كان إسرائيليا ابن عم موسى : هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وموسى بن عمران بن قاهث. وقيل : كان موسى ابن أخيه ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أقرأ بنى إسرائيل للتوراة ، ولكنه

٤٢٩

نافق كما نافق السامري وقال : إذا كانت النبوّة لموسى عليه السلام ، والمذبح والقربان إلى هرون فما لي؟ وروى : أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة والحبورة لهارون يقرّب القربان ويكون رأسا فيهم ـ وكان القربان إلى موسى فجعله موسى إلى أخيه ـ وجد قارون في نفسه وحسدهما ، فقال لموسى : الأمر لكما ولست على شيء ، إلى متى أصبر؟ قال موسى : هذا صنع الله قال : والله لا أصدق حتى تأتى بآية ، فأمر رؤساء بنى إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه ، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحى ينزل عليه فيها ، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل ، فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورق أخضر ، وكانت من شجر اللوز ، فقال قارون : ما هو بأعجب مما تصنع من السحر (فَبَغى عَلَيْهِمْ) من البغي وهو الظلم. قيل : ملكه فرعون على بنى إسرائيل فظلمهم. وقيل : من البغي وهو الكبر والبذخ : تبذخ عليهم بكثرة ماله وولده. قيل : زاد عليهم في الثياب شبرا. المفاتح : جمع مفتح بالكسر : وهو ما يفتح به. وقيل هي الخزائن ، وقياس واحدها : مفتح ـ بالفتح. ويقال : ناء به الحمل ، إذا أثقله حتى أماله. والعصبة : الجماعة الكثيرة والعصابة : مثلها. واعصوصبوا : اجتمعوا. وقيل : كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلا ، لكل خزانة مفتاح ، ولا يزيد المفتاح على أصبع. وكانت من جلود. قال أبو رزين : يكفى الكوفة مفتاح ، وقد بولغ في ذكر ذلك بلفظ : الكنوز ، والمفاتح ، والنوء ، والعصبة ، وأولى القوة. وقرأ بديل بن ميسرة : لينوء بالياء. ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ، ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال ، كقولك ذهبت أهل اليمامة. ومحل إذ منصوب بتنوء (لا تَفْرَحْ) كقوله (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) وقول القائل :

ولست بمفراح إذا الدّهر سرّنى (١)

وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن. وأمّا من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب ، لم تحدّثه نفسه بالفرح. وما أحسن ما قال القائل :

أشد الغمّ عندي في سرور

تيقّن عنه صاحبه انتقالا (٢)

__________________

(١) ولست بمفراح إذا الدهر سرني

ولا جازع من صرفه المتقلب

ولا أبتغى شرا إذا الشر تاركي

ولكن متى أحمل على الشر أركب

لهدبة بن خشرم لما قاده معاوية إلى الحرة ليقتص منه في زياد بن زيد العذرى ، فلقيه عبد الرحمن بن حسان فاستنشده فأنشده ذلك. والمفراح : كثير الفرح. والمراد : نفى الفرح من أصله. وصرف الدهر : حدثانه. وإذا : شرطية فلا بد بعدها من فعل ، أى : إذا كان الشر تاركي. وأحمل مبنى للمجهول ، وأركب للفاعل. والمعنى : أنى جربت الدهر فإذا هو خئون ، ومع ذلك لا أتضعضع.

(٢) لأبى الطيب ، أى : أشد الغم عندي وقت السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه ، وهكذا سرور الدنيا كله.

٤٣٠

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ) من الغنى والثروة (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب إليه ، وتجعله زادك إلى الآخرة (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ) وهو أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أو أحسن بشكرك وطاعتك لله كما أحسن إليك. والفساد في الأرض : ما كان عليه من الظلم والبغي. وقيل إن القائل موسى عليه السلام. وقرئ : واتبع.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)(٧٨)

(عَلى عِلْمٍ) أى على استحقاق واستيجاب لما فىّ من العلم الذي فضلت به الناس ، وذلك أنه كان أعلم بنى إسرائيل بالتوراة. وقيل : هو علم الكيمياء. عن سعيد بن المسيب : كان موسى عليه السلام يعلم علم الكيمياء ، فأفاد يوشع بن نون ثلثه ، وكالب بن يوفنا ثلثه ، وقارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. وقيل : علم الله موسى علم الكيمياء ، فعله موسى أخته ، فعلمته أخته قارون. وقيل : هو بصره بأنواع التجارة والدهقنة (١) وسائر المكاسب. وقيل (عِنْدِي) معناه : في ظنى ، كما تقول الأمر عندي كذا ، كأنه قال : إنما أوتيته على علم ، كقوله تعالى (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) ثم زاد (عِنْدِي) أى هو في ظنى ورأيى هكذا. يجوز أن يكون إثباتا لعلمه بأنّ الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى ، لأنه قد قرأه في التوراة ، وأخبر به موسى ، وسمعه من حفاظ التواريخ والأيام كأنه قيل (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) في جملة ما عنده من العلم هذا ، حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوّته. ويجوز أن يكون نفيا لعلمه بذلك ، لأنه لما قال : أوتيته على علم عندي ، فتنفج بالعلم (٢) وتعظم به. قيل : أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين (وَأَكْثَرُ جَمْعاً) للمال ، أو أكثر جماعة وعددا. فإن قلت : ما وجه اتصال قوله (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) بما قبله؟ قلت : لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذين كانوا أقوى منه وأغنى ، قال على سبيل التهديد له : والله مطلع على ذنوب المجرمين ، لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم. وهو قادر على أن يعاقبهم عليها ، كقوله تعالى (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وما أشبه ذلك.

__________________

(١) قوله «والدهقنة» أى الزراعة ، كما عبر غيره. (ع)

(٢) قوله «فتنفج بالعلم» أى ترفع وتفاخر وتكبر. أفاده الصحاح. (ع)

٤٣١

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(٧٩)

(فِي زِينَتِهِ) قال الحسن : في الحمرة والصفرة. وقيل : خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان (١) وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعن يمينه ثلاثمائة غلام ، وعن يساره ثلاثمائة جارية ، بيض عليهنّ الحلي والديباج. وقيل في تسعين ألفا عليهم المعصفرات ، وهو أوّل يوم رئي فيه المعصفر : كان المتمنون قوما مسلمين وإنما تمنوه على سبيل الرغبة في اليسار والاستغناء كما هو عادة البشر. وعن قتادة : تمنوه ليتقربوا به إلى الله وينفقوه في سبل الخير. وقيل : كانوا قوما كفارا. الغابط : هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه. والحاسد : هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه فمن الغبطة قوله تعالى (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) ومن الحسد قوله (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل يضر الغبط؟ فقال (٢) : «لا إلا كما يضر العضاه الخبط (٣)» والحظ : الجدّ ، وهو البخت والدولة : وصفوه بأنه رجل مجدود مبخوت ، يقال : فلان ذو حظ ، وحظيظ ، ومحظوظ ، وما الدنيا إلا أحاظ وجدود.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ)(٨١)

ويلك : أصله الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى ، كما استعمل : لا أبا لك. وأصله الدعاء على الرجل بالإقراف (٤) في الحث على الفعل. والراجع

__________________

(١) قوله «بغلة شهباء عليها الأرجوان» في الصحاح : قطيفة حمراء أرجوان. وفيه أيضا : الأرجوان صبغ أحمر شديد الحمرة ، ويقال : هو بالفارسية أرغوان ، وهو شجر له نور أحمر أحسن ما يكون. (ع)

(٢) ذكره ثابت السر قسطي في الغريب هكذا بغير إسناد. وأخرجه إبراهيم الحربي في الغريب من طريق ابن أبى حسين «أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيضر الناس الغبط؟ قال : نعم كما يضر العضاه الخبط» بهذا اللفظ أخرجه الطبراني من رواية أم الدرداء قالت : قلت يا رسول الله. فذكره ، لكن قال «الشجر» بدل العضاه. قال الحربي الغبط إرادة السعة. وقال ثابت : الغبط الحسد.

(٣) قوله «إلا كما يضر العضاه الخبط» في الصحاح «العضاه» : كل شجر يعظم وله شوك. وفيه «الخبط» : ضرب الشجرة بالعصا ليسقط ورقها. (ع)

(٤) قوله «الدعاء على الرجل بالإقراف» أى بفساد الأب. أفاده الصحاح. (ع)

٤٣٢

في (وَلا يُلَقَّاها) للكلمة التي تكلم بها العلماء ، أو للثواب ، لأنه في معنى المثوبة أو الجنة ، أو للسيرة والطريقة ، وهي الإيمان والعمل الصالح (الصَّابِرُونَ) على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير. كان قارون يؤذى نبى الله موسى عليه السلام كل وقت ، وهو يداريه للقرابة التي بينهما ، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه ، فجمع بنى إسرائيل وقال : إنّ موسى أرادكم على كل شيء ، وهو يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا وسيدنا ، فمر بما شئت ، قال : نبرطل فلانة البغىّ حتى ترميه بنفسها فيرفضه بنو إسرائيل ، فجعل لها ألف دينار. وقيل : طستا من ذهب. وقيل : طستا من ذهب مملوءة ذهبا. وقيل : حكمها فلما كان يوم عيد قام موسى فقال : يا بنى إسرائيل ، من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه ، وإن أحصن رجمناه ، فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإنّ بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة ، فأحضرت ، فناشدها موسى بالذي فلق البحر ، وأنزل التوراة أن تصدق ، فتداركها الله فقالت : كذبوا ، بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك لنفسي ، فخرّ موسى ساجدا يبكى وقال : يا رب ، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى إليه : أن مر الأرض بما شئت ، فإنها مطيعة لك. فقال : يا بنى إسرائيل ، إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معنى فليعتزل ، فاعتزلوا جميعا غير رجلين ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم ، وموسى لا يلتفت اليهم لشدّة غضبه ، ثم قال : خذيهم ، فانطبقت عليهم (١). وأوحى الله إلى موسى : ما أفظك : استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم ، أما وعزتي لو إياى دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا ، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم : إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله (مِنَ المُنْتَصِرِينَ) من المنتقمين من موسى عليه السلام ، أو من الممتنعين من عذاب الله. يقال : نصره من عدوه فانتصر ، أى : منعه منه فامتنع.

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق والطبراني. من رواية على بن زيد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي. قال ، فذكره موقوفا. ووصله الحاكم بذكر ابن عباس. قال «لما أتى موسى قومه أمرهم بالزكاة فجمعهم قارون. فذكره باختصار. قوله وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه ، يعنى وقوع الرعب في قلوب جميع الناس يوم الموقف يمكن أن يستدل له بحديث الشفاعة الطويل. ففي المتفق عليه عن أبى هريرة في حديث الشفاعة قال «يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس ، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. وفيه قول آدم وغيره : نفسي نفسي» وانفقا عليه من حديث أنس كذلك

٤٣٣

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ)(٨٢)

قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك ، ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة (مَكانَهُ) منزلته من الدنيا «وى» مفصولة عن «كأن» ، وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم. ومعناه : أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وقولهم (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) وتندموا ثم قالوا (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أى : ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح ، وهو مذهب الخليل وسيبويه. قال :

وى كأنّ من يكن له نشب يحبب

ومن يفتقر يعش عيش ضرّ (١)

وحكى الفراء أنّ أعرابية قالت لزوجها : أين ابنك؟ فقال : وى كأنه وراء البيت. وعند الكوفيين أنّ «ويك» بمعنى : ويلك ، وأنّ المعنى ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون. ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وى ، كقوله :

...... ويك عنتر أقدم (٢)

__________________

(١) سألتانى الطلاق أن رأتا

قل مالى قد جئتمانى بنكر

وى كأن من يكن له نشب يحبب

ومن يفتقر يعش عيش ضر

ويجنب سر النجي ولكن

أخا المال محضر كل سر

لزيد بن عمرو بن نفيل القرشي. وقيل : لسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة. وقيل : لنبيه بن الحجاج بن عامر ، قتل كافرا يوم بدر. وسألتانى بقلب الهمزة ألفا للوزن ، وهي لغة قليلة ، والضمير لزوجتيه ، والطلاق مفعول ثان ، وأن رأتا : أى لرؤيتهما ، وقل : يحتمل أنه فعل ماض ، فلا بد به من تقدير محذوف قبله به يتم الكلام ، أى : لأن رأتانى قل مالى. أو لرؤيتهما أنى قل مالى. ويحتمل أنه اسم بمعنى قليل ، ولا حذف في الكلام ، فالمعنى : لأن رأتا قليل مالى ، أى : مالى القليل ، والتفت من الغيبة إلى خطابهما بقوله : قد جثتمانى بنكر ، أى : منكر. وفيه معنى التعجيب من حالهما ، و «وى» : اسم فعل للتعجب ، وقيل : لفظه تيقظ وتندم ، وكأن : للظن أو للتحقيق ، كما أجازه الكوفيون ، وهي مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن. وقيل : لا اسم للمخففة. والنشب : المال. ويعش عيش ضرّ ، أى : يبغض. والنجي ـ بالتشديد ـ : المناجى ، أى : المتكلم بالسر. ويجنب : مبنى للمجهول. وسر : مفعوله الثاني. وأخا المال : صاحب المال. ومحضر : اسم مفعول ، وكل : مفعوله الثاني.

(٢) ولقد شفى نفسي وأذهب سقمها

قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

لعنترة بن شداد من معلقته. ويروى : وأبر أسقمها. ويروى : وأذهب غمها. ويروى : قول ، بدل : قيل. وكلاهما مصدر. وويك : اسم فعل للتعجب ، لكن لا بلائم البيت. وقيل : كلمة تنبيه ، والكاف حرف خطاب. وقال ـ

٤٣٤

وأنه بمعنى لأنه ، واللام لبيان المقول لأجله هذا القول ، أو ، لأنه لا يفلح الكافرون كان ذلك ، وهو الخسف بقارون ، ومن الناس من يقف على «وى» ويبتدئ «كأنه» ومنهم من يقف على «ويك». وقرأ الأعمش لو لا منّ الله علينا. وقرئ (لَخَسَفَ بِنا) (١) وفيه ضمير الله. ولا نخسف بنا ، كقولك : انقطع به. ولتخسف بنا.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(٨٣)

(تِلْكَ) تعظيم لها وتفخيم لشأنها ، يعنى : تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها. لم يعلق الموعد (٢) بترك العلو والفساد ، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما ، كما قال : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فعلق الوعيد بالركون. وعن على رضى الله عنه : إنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها (٣). وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال. ذهبت الأمانى هاهنا (٤). وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يردّدها حتى قبض. ومن الطماع من يجعل العلوّ لفرعون ، والفساد لقارون ، متعلقا بقوله (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) ، (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) ويقول : من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ، ولا يتدبر قوله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كما تدبره علىّ والفضيل وعمر.

__________________

ـ الكسائي : أصل «ويك» : ويلك ، فالكاف ضمير مجرور ، لكن تبعد ملاءمته للبيت. وعنتر : منادى مرخم ، وحسن الترخيم وحذف حرف النداء : أن المقام للاهتمام وسرعة الكلام ، وأقدم : أى أقبل على العدو ، لتمنعنا بأسه.

(١) قوله : «وقرئ : لخسف بنا» يفيد أن القراءة المشهورة : لخسف ، مبنيا للمجهول. (ع)

(٢) قوله «لم يعلق الموعد» لعله : الوعد. (ع)

(٣) أخرجه الطبري والواحدي من رواية وكيع عن أشعث السمان عن أبى سلام الأعرج عن على بهذا موقوفا وإسناده ضعيف.

(٤) قال محمود : «لم يعلق الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما ، كما قال تعالى (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) فعلق الوعيد بالركون إلى الظلمة. وعن على أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله خيرا من شراك نعل أخيه فيدخل تحتها. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض. وعن الفضيل أنه قرأها وقال : ذهبت الأمانى هاهنا. ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون ، لقوله (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) وقوله (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) ويقول : من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ، ولا يتدبر قوله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كما تدبرها على وعمر والفضيل» قال أحمد : هو تعرض لغمص أهل السنة ، فان كل موحد من أهل الجنة ، وإنما طمعوا حيث أطمعهم الله تعالى ، بل وحقق طمعهم في رحمته حيث يقول رسوله عليه الصلاة والسلام : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ... ثلاثا ، وفي الثالثة : وإن رغم أنف أبى ذر» اللهم اقسم لنا من رجاء رحمتك ما تعصمنا به من القنوط ، ومن خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ، والله الموفق للصواب.

٤٣٥

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٨٤)

معناه : فلا يجزون ، فوضع (الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) موضع الضمير ، لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكررا. فضل تهجين لحالهم ، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلا مثل ما كانوا يعملون ، وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزى السيئة إلا بمثلها ، ويجزى الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة ، وهو معنى قوله (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها).

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٨٥)

(فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ، يعنى : أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف. و (لَرادُّكَ) بعد الموت (إِلى مَعادٍ) أى معاد ليس لغيرك من البشر وتنكير المعاد لذلك : وقيل : المراد به مكة : ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح : ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن ، ومرجعا له اعتداد ، لغلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ، وقهره لأهلها ، ولظهور عز الإسلام وأهله وذل الشرك وحزبه. والسورة مكية ، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها : أنه يهاجر به منها ، ويعيده إليها ظاهرا ظافرا. وقيل : نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم ، فنزل جبريل فقال له : أتشتاق إلى مكة؟ قال : نعم ، فأوحاها إليه. فإن قلت : كيف اتصل قوله تعالى (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ) بما قبله؟ قلت : لما وعد رسوله الردّ إلى معاد ، قال : قل للمشركين : (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) يعنى نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعنيهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم.

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ)(٨٦)

فإن قلت : قوله (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ما وجه الاستثناء فيه؟ قلت : هذا كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن للاستدراك ، أى : ولكن لرحمة من ربك ألقى إليك.

٤٣٦

(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٨٧)

وقرئ : يصدنك ، من أصدّه بمعنى صدّه ، وهي في لغة كلب. وقال :

أناس أصدوا النّاس بالسّيف عنهمو

صدود السّواقى عن أنوف الحوائم (١)

(بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) بعد وقت إنزاله (٢) وإذ تضاف إليه أسماء الزمان ، كقولك : حينئذ وليلتئذ ويومئذ وما أشبه ذلك. والنهى عن مظاهرة الكافرين ونحو ذلك من باب التهييج الذي سيق ذكره.

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٨)

(إِلَّا وَجْهَهُ) إلا إياه. والوجه يعبر به عن الذات.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ طسم القصص كان له الأجر بعدد من صدق موسى وكذب به ، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا أن كل شيء هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون» (٣).

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٥٣٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) قوله «بعد وقت إنزاله» لعله : إنزالها. (ع)

(٣) أخرجه الثعلبي وابن مردويه. والواحدي من حديث أبى بن كعب بأسانيدهم المتقدم ذكرها.

٤٣٧

سورة العنكبوت

مكية [إلا من آية ١ إلى غاية آية ١١ فمدنية]

وآياتها ٦٩ [نزلت بعد الروم]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ)(٣)

الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات ، ولكن بمضامين الجمل. ألا ترى أنك لو قلت : حسبت زيدا وظننت الفرس : لم يكن شيئا حتى تقول : حسبت زيدا عالما ؛ وظننت الفرس جوادا ، لأنّ قولك : زيد عالم ، أو الفرس جواد ؛ كلام دال على مضمون ، فأردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتا عندك على وجه الظن لا اليقين ، فلم تجد بدّا في العبارة عن ثباته عندك على ذلك الوجه ، من ذكر شطرى الجملة مدخلا عليهما فعل الحسبان ، حتى يتم لك غرضك. فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية؟ قلت : هو في قوله (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) وذلك أن تقديره : أحسبوا تركهم غير مفتونين ، لقولهم : آمنا ، فالترك أول مفعولي حسب ، ولقولهم : آمنا ، هو الخبر. وأما «غير مفتونين» فتتمة الترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :

فتركته جزر السّباع ينشنه (١)

ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان ، تقدر أن تقول : تركهم غير مفتونين ، لقولهم : آمنا ، على تقدير : حاصل ومستقر ، قبل اللام. فإن قلت : (أَنْ يَقُولُوا) هو علة تركهم غير مفتونين ، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت : كما تقول خروجه لمخافة الشر ، وضربه للتأديب ، وقد كان التأديب والمخافة في قولك : خرجت مخافة الشر ، وضربته تأديبا : تعليلين. وتقول أيضا : حسبت خروجه لمخافة الشر ، وظننت ضربه للتأديب ، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٧٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٤٣٨

وخبرا. والفتنة : الامتحان بشدائد التكليف : من مفارقة الأوطان ، ومجاهدة الأعداء ، وسائر الطاعات الشاقة ، وهجر الشهوات والملاذ ، وبالفقر ؛ والقحط ، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال. وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم. والمعنى : أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان : أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين ، بل يمحنهم الله بضروب المحن ، حتى يبلو صبرهم ، وثبات أقدامهم ، وصحة عقائدهم ، ونصوع نياتهم ، ليتميز المخلص من غير المخلص ، والراسخ في الدين من المضطرب ، والمتمكن من العابد على حرف ، كما قال (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وروى أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جزعوا من أذى المشركين. وقيل في عمار بن ياسر : وكان يعذب في الله. وقيل : في ناس أسلموا بمكة ، فكتب إليهم المهاجرون : لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا ، فخرجوا فتبعهم المشركون فردّوهم ، فلما نزلت كتبوا بها إليهم ، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا. وقيل : في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، وهو أوّل قتيل من المسلمين يوم بدر ، رماه عامر بن الحضرمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة (١) ، فجزع عليه أبواه وامرأته (وَلَقَدْ فَتَنَّا) موصول بأحسب أو بلا يفتنون ، كقولك : ألا يمتحن فلان وقد امتحن من هو خير منه ، يعنى : أن أتباع الأنبياء عليهم السلام قبلهم ، قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم. أو ما هو أشدّ منه فصبروا ، كما قال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا ...) الآية وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه» (٢) (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) بالامتحان (الَّذِينَ صَدَقُوا) في الإيمان (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) فيه. فإن قلت : كيف وهو عالم بذلك فيما لم يزل؟ قلت : لم يزل يعلمه معدوما ، ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد (٣) ، والمعنى :

__________________

(١) ذكره الثعلبي عن مقاتل قال «نزلت هاتان الآيتان في مهجع بن عبد الله مولى عمر ، كان أول من قتل من المسلمين يوم بدر ، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» وسنده إلى مقاتل في أول كتابه ، وفي الدلائل لابن أبى شيبة من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال «أول من استشهد يوم بدر مهجع مولى عمر».

(٢) أخرجه البخاري من حديث خباب بن الأرت به ، وأتم منه.

(٣) قال محمود : «إن قلت هو لم يزل يعلم الصادقين والكاذبين قبل الامتحان ، فما وجه هذا الكلام؟

قلت : لم يزل يعلمه معدوما ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد» قال أحمد : فيما ذكر إيهام بمذهب فاسد ،

٤٣٩

وليتميزن الصادق منهم من الكاذب. ويجوز أن يكون وعدا ووعيدا ، كأنه قال : وليثيبن الذين صدقوا وليعاقبنّ الكاذبين. وقرأ على رضى الله عنه والزهري : وليعلمنّ ، من الإعلام ، أى :وليعرفنهم الله الناس من هم. أو ليسمنهم بعلامة يعرفون بها من بياض الوجوه وسوادها ، وكحل العيون وزرقتها.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(٤)

(أَنْ يَسْبِقُونا) أن يفوتونا ، يعنى أنّ الجزاء يلحقهم لا محالة ، وهم لم يطمعوا في الفوت ، ولم يحدّثوا به نفوسهم ، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وإصرارهم على المعاصي : في صورة من يقدر ذلك ويطمع فيه. ونظيره (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) ، (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ). فإن قلت : أين مفعولا «حسب»؟ قلت : اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سدّ مسدّ المفعولين ، كقوله تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة. ومعنى الإضراب فيها : أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل ، لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا. أو بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا ، فحذف المخصوص بالذم.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٥)

لقاء الله : مثل للوصول إلى العاقبة ، من تلقى ملك الموت ، والبعث ، والحساب ، والجزاء : مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل ، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتى ويذر ، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضى من أفعاله ، أو بضد ذلك لما سخطه منها ، فمعنى قوله (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) : من كان يأمل تلك الحال. وأن يلقى فيها الكرامة من الله والبشر (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) وهو الموت (لَآتٍ) لا محالة ، فليبادر العمل الصالح الذي يصدق رجاءه ، ويحقق أمله ، ويكتسب به القربة عند الله والزلفى (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي لا يخفى عليه شيء مما يقوله عباده ومما يفعلونه ، فهو حقيق بالتقوى والخشية. وقيل (يَرْجُوا) : يخاف من قول الهذلي في صفة عسال :

__________________

ـ وهو اعتقاد أن العلم بالكائن غير العلم بأن سيكون ، والحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه ، وفائدة ذكر العلم هاهنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم : التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء ، كأنه قال تعالى : لنعلمنهم فلنجازينهم بحسب علمه فيهم ، والله أعلم.

٤٤٠