الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

العادلة غيرهم من المهاجرين ، لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء. وعن الحسن : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل (الَّذِينَ) منصوب بدل من قوله من ينصره. والظاهر أنه مجرور ، تابع للذين أخرجوا (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أى مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٤٤)

يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية له : لست بأوحدى في التكذيب ، فقد كذب الرسل قبلك أقوامهم ، وكفاك بهم أسوة. فإن قلت : لم قيل (وَكُذِّبَ مُوسى) ولم يقل : وقوم موسى؟ قلت : لأنّ موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. وفيه شيء آخر ، كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم : وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته (١) وعظم معجزاته ، فما ظنك بغيره.

النكير : بمعنى الإنكار والتغيير ، حيث أبدلهم بالنعمة محنة ، وبالحياة هلاكا ، وبالعمارة خرابا.

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥)

كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة أو كرم فهو «عرش» والخاوي : الساقط ، من خوى النجم إذا سقط. أو الخالي ، من خوى المنزل إذا خلا من أهله. وخوى بطن الحامل وقوله (عَلى عُرُوشِها) لا يخلو من أن يتعلق بخاوية ، فيكون المعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أى خرّت سقوفها على الأرض ، ثم تهدّمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. أو أنها ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها. وإما أن يكون خبرا بعد خبر ، كأنه قيل : هي خالية ، وهي على عروشها

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت : لم قيل وكذب موسى ولم يقل وقوم موسى بدون تكرير التكذيب؟ قلت : لأن قوم موسى هم بنو إسرائيل ولم يكذبوه ، وإنما كذبه القبط. أو لأن آيات موسى كانت باهرة ظاهرة فكأنه قال : وكذب موسى أيضا على ظهور آياته» قال أحمد : ويحتمل عندي ـ والله أعلم ـ أنه لما صدر الكلام بحكاية تكذيبهم ثم عدد أصناف المكذبين وطوائفهم ولم ينته إلى موسى إلا بعد طول الكلام ، حسن تكريره ليلى قوله (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) فيتصل المسبب بالسبب ، كما قال في آية ق بعد تعديدهم (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) فربط العقاب والوعيد ووصلهما بالتكذيب ، بعد أن جدد ذكره ، والله أعلم.

١٦١

أى قائمة مطلة على عروشها ، على معنى أنّ السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان ماثلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة. فإن قلت : ما محل الجملتين من الإعراب أعنى (وَهِيَ ظالِمَةٌ ، فَهِيَ خاوِيَةٌ)؟ قلت : الأولى في محل النصب على الحال ، والثانية لا محلّ لها لأنها معطوفة على أهلكناها ، وهذا الفعل ليس له محل. قرأ الحسن : معطلة ، من أعطله بمعنى عطله. ومعنى المعطلة : أنها عامرة فيها الماء ، ومعها آلات الاستقاء ، إلا أنها عطلت ، أى : تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها. والمشيد : المجصص أو المرفوع البنيان. والمعنى : كم قرية أهلكنا؟ وكم بئر عطلنا عن سقاتها؟ وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه؟ فترك ذلك لدلالة معطلة عليه. وفي هذا دليل على أنّ (عَلى عُرُوشِها) بمعنى «مع» أوجه. روى أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به. ونجاهم الله من العذاب ، وهي بحضر موت. وإنما سميت بذلك لأنّ صالحا حين حضرها مات ، وثمة بلدة عند البئر اسمها «حاضوراء» بناها قوم صالح ، وأمّروا عليهم جلهس بن جلاس ، وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما ، وأرسل الله إليهم حنظلة ابن صفوان نبيا فقتلوه ، فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرّب قصورهم.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٤٦)

يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر ، ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم ، ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا. وأن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا ، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. وقرئ (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ) بالياء ، أى : يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ، ويسمعون ما يجب سماعه من الوحى (فَإِنَّها) الضمير ضمير الشأن والقصة ، يجيء مذكرا ومؤنثا وفي قراءة ابن مسعود : فإنه. ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره (الْأَبْصارُ) وفي تعمى ضمير راجع إليه. والمعنى : أنّ أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها. وإنما العمى بقلوبهم. أولا يعتدّ بعمى الأبصار ، فكأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. فإن قلت : أى فائدة في ذكر الصدور؟ قلت : الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ، ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار ، كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك ، فقولك «الذي بين فكيك» تقرير لما ادّعيته للسانه وتثبيت لأنّ محلّ المضاء هو هو لا غير ، وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة

١٦٢

ولا سهوا منى ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)(٤٨)

أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل أو الآجل ، كأنه قال : ولم يستعجلون به؟ كأنهم يجوّزون الفوت ، وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف ، والله عز وعلا لا يخلف الميعاد وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين ، وهو سبحانه حليم لا يعجل ، ومن حلمه ووقاره واستقصاره المدد الطوال أنّ يوما واحدا عنده كألف سنة (١) عندكم. وقيل : معناه كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم ، لأنّ أيام الشدائد مستطالة. أو كأن ذلك اليوم الواحد لشدّة عذابه كألف سنة من سنى العذاب. وقيل : ولن يخلف الله وعده في النظرة والإمهال. وقرئ : تعدون ، بالتاء والياء ، ثم قال : وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حينا ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع إلىّ وإلى حكمى. فإن قلت : لم كانت الأولى معطوفة بالفاء ، وهذه بالواو؟ قلت : الأولى وقعت بدلا عن قوله (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) وأمّا هذه فحكمها حكم ما تقدّمها من الجملتين المعطوفتين بالواو ، أعنى قوله (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٥١)

يقال : سعيت في أمر فلان ، إذا أصلحه أو أفسده بسعيه. وعاجزه : سابقه ، لأنّ كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل : أعجزه وعجزه. والمعنى : سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها ، حيث سموها : سحرا وشعرا وأساطير ، ومن تثبيط الناس

__________________

(١) قال محمود : «فيه إيذان بحلم الله تعالى ووقاره واستقصاره الأمد الطويل حتى إن يوما واحدا عنده كألف سنة» قال أحمد : الوقار المقرون بالحلم يفهم لغة : السكون وطمأنينة الأعضاء عند المزعجات والأناة والتؤدة ، ونحو ذلك مما لا يطلق على الله تعالى إلا بتوقيف. وأما الوقار في قوله تعالى (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) فقد فسر بالعظمة فليس من هذا ، وعلى الجملة فهو موقوف على ثبت في النقل.

١٦٣

عنها سابقين أو مسابقين في زعمهم ، وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم. فإن قلت : كأن القياس أن يقال : إنما أنا لكم بشير ونذير ، لذكر الفريقين بعده. قلت : الحديث مسوق إلى المشركين. ويا أيها الناس : نداء لهم ، وهم الذين قيل فيهم (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ووصفوا بالاستعجال. وإنما أفحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٥٢)

(مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) دليل بين على تغاير الرسول والنبي. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قيل فكم الرسول منهم؟ قال : «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» (١). والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء : من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه. والنبىّ غير الرسول : من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. والسبب في نزول هذه الآية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أعرض عنه قومه وشاقوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به : تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم ، فاستمرّ به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة «والنجم» وهو في نادى قومه ، وذلك التمني في نفسه ، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) التي تمناها ، أى : وسوس إليه بما شيعها به ، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال : تلك الغرانيق (٢) العلى ، وإن شفاعتهنّ لترتجى. وروى : الغرانقة ، ولم يفطن له حتى أدركته

__________________

(١) أخرجه أحمد وإسحاق من رواية معاذ بن رفاعة عن على بن زيد عن القاسم عن أبى أمامة «أن أبا ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم الأنبياء؟ فقال : مثله. وعلى ضعيف. ورواه ابن حبان من طريق إبراهيم بن هشام الغساني حدثنا أبى عن حذيفة. يعنى يحيى الغساني عن أبى إدريس الخولاني عن أبى ذر ـ فذكره في حديث طويل جدا. وأفرط ابن الجوزي فذكره في الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام المذكور. ولم يصب في ذلك : فإنها طريقا أخرجها الحاكم وغيره من رواية يحيى بن سعيد السعيدي عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبى ذر بطوله. ويحيى السعيدي ضعيف. ولكن لا يأتى الحكم بالوضع مع هذه المتابعة.

(٢) أخرجه البزار والطبري والطبراني وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبى بشر عن سعيد ابن جبير قال : لا أعلمه إلا عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة فقرأ سورة النجم ، حتى انتهى إلى قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) فجرى على لسانه : تلك الغرانيق العلا ، الشفاعة منها ترتجى ، قال : فسمع بذلك مشركو مكة ، فسروا بذلك. فاشتبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ـ

١٦٤

العصمة فتنبه عليه. وقيل : نبهه جبريل عليه السلام. أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم ، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء ، زاد المنافقون به شكا وظلمة ، والمؤمنون نورا وإيقانا. والمعنى : أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت ، مكن الله الشيطان ليلقى في أمانيهم مثل ما ألقى في أمنيتك ، إرادة امتحان من حولهم ، والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ، ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. وقيل (تَمَنَّى) : قرأ. وأنشد :

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

تمنّى داود الزّبور على رسل (١)

وأمنيته : قراءته. وقيل : تلك الغرانيق : إشارة إلى الملائكة ، أى : هم الشفعاء لا الأصنام (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أى يذهب به ويبطله (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أى يثبتها.

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ

__________________

ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) ـ الآية» زاد في رواية ابن مردويه : فلما بلغ آخرها سجد وسجد معه المسلمون والمشركون» ورواه الطبري من طريق سعيد بن جبير مرسلا. وأخرجه ابن مردويه من طريق أبى عاصم النبيل عن عثمان بن الأسود عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه. ولم يشك في وصله ، وهذا أصح طرف هذا الحديث. قال البزار : تفرد بوصله أمية بن خالد عن شعبة ، وغيره يرويه عنه مرسلا. وأخرجه الطبري وابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس. وهو من طريق العوفى عن جده عطية عنه ، وأخرجه الطبري من طريق محمد بن كعب القرظي ، ومن طريق قتادة ، ومن طريق أبى العالية. فهذه مراسيل يقوى بعضها بعضا. وأصل القصة في الصحيح بلفظ «أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ـ فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس» قال البزار : المعروف في هذا رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وأخرجها ابن مردويه من طريقه. وأخرجه الواقدي من طريق أخرى. قلت : وفي مجموع ذلك رد على عياض حيث قال : إن من ذكر من المفسرين وغيرهم لم يسندها أحد منهم ، ولا رفعها إلى صاحب إلا رواية البزار. وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى ما ذكره وفيه ما فيه مع وقوع الشك. قلت : أما ضعفه فلا ضعف فيه أصلا. فان الجميع ثقات وأما الشك فيه فقد يجيء تأثيره ولو فردا غريبا لكن غايته أنه يصير مرسلا ، إنما هو حجة عند عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة ، أما هو حجة إذا اعتضد عند من يرد المرسل إنما يعتضد بكثرة المتابعات. تبع ثقة رجالها. وأما طعنه فيه باختلاف الألفاظ فلا تأثير للروايات الضعيفة الواهية في الرواية القوية. فيعتمد من القصة على الرواية الصحيحة أى يعتمد على الرواية المتابعة وليس فيها ولا فيما تابعها اضطراب والاضطراب في غيرها. فيكفى لأنه ضعيف برواية الكلبي ، ويكفى ما عداها ، وأما طعنه فيه من جهة المعنى فله أسوة كثيرة من الأحاديث الصحاح التي لا يؤخذ بظاهرها ، بل يرد بالتأويل المعتمد إلى ما يليق بقواعد الدين.

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١٥٧ فراجعه إن شئت اه مصححه ،

١٦٥

مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٥٤)

والذين (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المنافقون والشاكون (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) المشركون المكذبون (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) يريد : وإن هؤلاء المنافقين والمشركين. وأصله : وإنهم ، فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أى ليعلموا أن تمكين الشيطان من الإلقاء : هو الحق من ربك والحكمة (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى) أن يتأوّلوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ، ويطلبوا لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة والقوانين الممهدة ، حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة ولا تزلّ أقدامهم. وقرئ : لهاد الذين آمنوا ، بالتنوين.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ)(٥٥)

الضمير في (مِرْيَةٍ مِنْهُ) للقرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم. اليوم العقيم : يوم بدر ، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأنّ أولاد النساء يقتلون فيه ، فيصرن كأنهن عقم لم يلدن ، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب ، فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز. وقيل : هو الذي لا خير فيه. يقال : ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا. وقيل : لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة عليهم السلام فيه. وعن الضحاك أنه يوم القيامة ، وأن المراد بالساعة مقدّماته. ويجوز أن يراد بالساعة وبيوم عقيم : يوم القيامة ، وكأنه قيل : حتى تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها ، فوضع (يَوْمٍ عَقِيمٍ) موضع الضمير.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(٥٧)

فإن قلت : التنوين في (يَوْمَئِذٍ) عن أى جملة ينوب؟ قلت : تقديره : الملك يوم يؤمنون. أو يوم تزول مريتهم ، لقوله (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ).

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)(٥٩)

١٦٦

لما جمعتهم المهاجرة في سبيل الله سوّى بينهم في الموعد ، وأن يعطى من مات منهم مثل ما يعطى من قتل تفضلا منه وإحسانا. والله عليهم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم (حَلِيمٌ) عن تفريط المفرط منهم بفضله وكرمه. روى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم قالوا : يا نبى الله ، هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)(٦٠)

تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث أنه سبب وذاك مسبب عنه كما يحملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة. فإن قلت : كيف طابق ذكر العفوّ الغفور هذا الموضع؟ قلت : المعاقب مبعوث من جهة الله عزّ وجلّ على الإخلال بالعقاب ، والعفو عن الجاني ـ على طريق التنزيه لا التحريم ـ ومندوب إليه ، ومستوجب عند الله المدح إن آثر ما ندب إليه وملك سبيل التنزيه ، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب ، ولم ينظر في قوله تعالى (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) ، (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) : فإنّ الله لعفو غفور ، أى : لا يلومه على ترك ما بعثه عليه ، وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه. ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي ، ويعرّض مع ذلك بما كان أولى به من العفو ، ويلوّح به بذكر هاتين الصفتين. أو دلّ بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة. لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٦١)

(ذلِكَ) أى ذلك النصر بسبب أنه قادر. ومن آيات قدرته البالغة أنه (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجرى فيهما على أيدى عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف ، وأنه (سَمِيعٌ) لما يقولون (بَصِيرٌ) بما يفعلون. فإن قلت : ما معنى إيلاج أحد الملوين في الآخر؟ قلت : تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذاك بغيبوبة الشمس. وضياء ذاك في مكان ظلمة هذا بطلوعها ، كما يضيء السرب (١)

__________________

(١) قوله «كما يضيء السرب» السرب ـ بالفتح ـ : الطريق. والسرب ـ بالتحريك ـ : بيت في الأرض. أفاده الصحاح. (ع)

١٦٧

بالسراج ويظلم بفقده. وقيل : هو زيادته في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٦٢)

وقرئ (يَدْعُونَ) بالتاء والياء. وقرأ اليماني. وأن ما يدعون ، بلفظ المبنى للمفعول ، والواو راجعة إلى «ما» لأنه في معنى الآلهة ، أى : ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجرى فيهما وإدراك كل قول وفعل ، بسبب أنه الله الحق الثابت إلهيته ، وأن كل ما يدعى إلها دونه باطل الدعوة ، وأنه لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٦٤)

قرئ (مُخْضَرَّةً) أى ذات خضر ، على مفعلة ، كمقبلة ومسبعة. فإن قلت : هلا قيل : فأصبحت؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت : لنكتة فيه ، وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان ، كما تقول : أنعم علىّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدو شاكرا له. ولو قلت : فرحت وغدوت ، لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟ قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ، لأنّ معناه إثبات الاخضرار ، فينقلب بالنصب إلى نفى الاخضرار ، مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر : إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله (لَطِيفٌ) واصل علمه أو فضله إلى كل شيء (خَبِيرٌ) بمصالح الخلق ومنافعهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)(٦٦)

(ما فِي الْأَرْضِ) من البهائم مذللة للركوب في البر ، ومن المراكب جارية في البحر ، وغير

١٦٨

ذلك من سائر المسخرات. وقرئ (وَالْفُلْكَ) بالرفع على الابتداء (أَنْ تَقَعَ) كراهة أن تقع (إِلَّا) بمشيئته (أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم جمادا ترابا ، ونطفة ، وعلقة ، ومضغة (لَكَفُورٌ) لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ)(٦٧)

هو نهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أى : لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك. أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنازعة في الدين وهم جهال لا علم عندهم وهم كفار خزاعة. روى أن بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما قالوا للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتله الله! يعنون الميتة. وقال الزجاج : هو نهى له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم ، كما تقول : لا يضار بنك فلان ، أى : لا تضاربه. وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين (فِي الْأَمْرِ) في أمر الدين. وقيل : في أمر النسائك ، وقرئ : فلا ينزعنك ، أى اثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه. والمراد : زيادة التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله ولدينه. ومنه قوله (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ). وهيهات أن ترتع همة رسول الله صلى الله عليه وسلم حول ذلك الحمى ، ولكنه وارد على ما قلت لك من إرادة التهييج والإلهاب. وقال الزجاج : هو من نازعته فنزعته أنزعه ، أى : غلبته ، أى : لا يغلبنك في المنازعة. فإن قلت : لم جاءت نظيرة هذه الآية (١) معطوفة بالواو وقد نزعت عن هذه؟ قلت : لأنّ تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الاى الواردة في أمر النسائك ، فعطفت على أخواتها. وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا.

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ)(٦٨)

أى : وإن أبوا للجاجهم إلا المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع ، فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار ، ولكن برفق ولين.

(اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ

__________________

(١) قوله «نظيرة هذه الآية» هي قوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) الخ. (ع)

١٦٩

أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)(٧٠)

(اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) خطاب من الله للمؤمنين والكافرين ، أى : يفصل بينكم بالثواب والعقاب ومسلاة للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم ، وكيف يخفى عليه ما يعملون ، ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السماوات والأرض ، وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه. والإحاطة بذلك وإثباته وحفظه عليه (يَسِيرٌ) لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم (١).

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)(٧١)

(وَيَعْبُدُونَ) ما لم يتمسكوا في صحة عبادته ببرهان سماوي من جهة الوحى والسمع ، ولا ألجأهم إليها علم ضروري ، ولا حملهم عليها دليل عقلى (وَما) للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوّب مذهبهم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٧٢)

(الْمُنْكَرَ) الفظيع من التجهم والبسور (٢). أو الإنكار ، كالمكرم بمعنى الإكرام. وقرئ يعرف. والمنكر. والسطو : الوثب والبطش. قرئ (النَّارُ) بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف ، كأنّ قائلا قال : ما هو؟ فقيل : النار ، أى : هو النار. وبالنصب على الاختصاص. وبالجرّ على البدل من (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم. أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلى عليكم (وَعَدَهَا اللهُ) استئناف كلام. ويحتمل أن تكون (النَّارُ) مبتدأ و (وَعَدَهَا) خبرا ، وأن يكون حالا عنها إذا نصبتها أو جررتها بإضمار «قد».

__________________

(١) قال محمود : «معناه أن الله عالم بالذات لا يتعذر عليه تعلق بمعلوم» قال أحمد : وقد تقدم مثله وأنكرنا عليه تحميله القرآن ما لا يحتمله ، فان الأعلم في اللغة : ذو العلم الزائد المفضل على علم غيره ، فكيف يفسر بما ينفى صفة العلم البتة؟ هب أن الأدلة العقلية لا وجود لها ، والله الموفق للصواب.

(٢) قوله «التجهم والبسور» كل منهما : كلوح الوجه. أفاده الصحاح. (ع)

١٧٠

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(٧٣)

فإن قلت : الذي جاء به ليس بمثل ، فكيف سماه مثلا؟ قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستحسان والاستغراب : مثلا ، تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة ، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم. قرئ (تَدْعُونَ) بالتاء والياء ، ويدعون : مبنيا للمفعول (لَنْ) أخت «لا» في نفى المستقبل ، إلا أن «لن» تنفيه نفيا مؤكدا ، وتأكيده هاهنا الدلالة (١) على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم ، كأنه قال : محال أن يخلقوا. فإن قلت : ما محل (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)؟ قلت : النصب على الحال ، كأنه قال : مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا لخلقه وتعاونهم عليه ، وهذا من أبلغ ما أنزله الله في تجهيل قريش واستركاك عقولهم ، والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه (٢) حيث وصفوا بالإلهية ـ التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها ، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها ـ صورا وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه وأذله وأصغره وأحقره ، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا. وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم : أن هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا. وقوله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف. ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف ، لأن الذباب حيوان ، وهو جماد ، وهو غالب وذاك مغلوب. وعن ابن عباس : أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورءوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب ، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله.

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٧٤)

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أى ما عرفوه حق معرفته ، حتى لا يسموا باسمه من هو منسلخ عن صفاته بأسرها ، ولا يؤهلوه للعبادة ، ولا يتخذوه شريكا له : إن الله قادر غالب ، فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به؟

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥)

__________________

(١) قوله «الدلالة» لعله «للدلالة» كعبارة النسفي ، (ع)

(٢) قوله «إن الشيطان قد خزمهم بخزائمه» في الصحاح ، خزمت البعير بالخزامة ، وهي حلقة من شعر تجعل في وترة أنفه ، يشد فيها الزمام. (ع)

١٧١

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٧٦)

هذا ردّ لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر ، وبيان أن رسل الله على ضربين :

ملائكة وبشر ، ثم ذكر أنه تعالى درّاك للمدركات ، عالم بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر ، لا تخفى عليه منهم خافية. وإليه مرجع الأمور كلها ، والذي هو بهذه الصفات ، لا يسأل عما يفعل ، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٧٧)

للذكر شأن ليس لغيره من الطاعات. وفي هذه السورة دلالات على ذلك ، فمن ثمة دعا المؤمنين أولا إلى الصلاة التي هي ذكر خالص ، ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج والغزو ، ثم عمّ بالحث على سائر الخيرات. وقيل : كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود. وقيل : معنى (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله. وعن ابن عباس في قوله (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) صلة الأرحام ومكارم الأخلاق (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أى افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح طامعون فيه ، غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم ، وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال : قلت يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال : «نعم ، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما (١)» وعن عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما فضلت سورة الحج بسجدتين. وبذلك احتج الشافعي رضى الله عنه ، فرأى سجدتين في سورة الحج. وأبو حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم لا يرون فيها إلا سجدة واحدة ، لأنهم يقولون : قرن السجود بالركوع ، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة.

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(٧٨)

__________________

(١) لم أره بصيغة المواجهة. وإنما أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والدارقطني والطبراني والحاكم. كلهم من رواية ابن لهيعة عن فرج بن ماهان عن عقبة بلفظ «ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» قال الترمذي : إسناده ليس بالقوى.

١٧٢

(وَجاهِدُوا) أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع من بعض غزواته فقال «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (١)» (فِي اللهِ) أى في ذات الله ومن أجله. يقال : هو حق عالم ، وجدّ عالم ، أى : عالم حقا وجدا. ومنه (حَقَّ جِهادِهِ). فإن قلت : ما وجه هذه الإضافة ، وكان القياس : حق الجهاد فيه. أو حق جهادكم فيه ، كما قال (وَجاهِدُوا فِي اللهِ)؟ قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص ، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث أنه مفعول لوجهه ومن أجله ، صحت إضافته إليه. ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله :

ويوما شهدناه سليما وعامرا (٢)

(اجْتَباكُمْ) اختاركم لدينه ولنصرته (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فتح باب التوبة للمجرمين ، وفسح بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش. ونحوه قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وأمّة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة المرحومة الموسومة بذلك في الكتب المتقدمة.

نصب الملة بمضمون ما تقدّمها. كأنه قيل : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. أو على الاختصاص ، أى : أعنى بالدين ملة أبيكم كقولك : الحمد لله الحميد. فإن قلت : لم يكن (إِبْراهِيمَ) أبا للأمّة كلها. قلت : هو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان أبا لأمته ، لأنّ أمة الرسول في حكم أولاده (هُوَ) يرجع إلى الله تعالى : وقيل : إلى إبراهيم. ويشهد للقول الأوّل قراءة أبىّ بن كعب : الله سماكم (مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) أى من قبل القرآن في سائر الكتب وفي القرآن ، أى : فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أنه قد بلغكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بأنّ الرسل قد بلغتهم. وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة ، فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه ، فهو خير مولى وناصر.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الحج أعطى من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي (٣)».

__________________

(١) هكذا ذكره الثعلبي بغير سند ، وأخرجه البيهقي في الزهد من حديث جابر ، قال «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة. فقال : قدمتم بخير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قيل : وما الجهاد الأكبر؟ قال : مجاهدة العبد هواه» قال : فيه ضعف ، قلت : هو من رواية عيسى بن إبراهيم عن يحيى بن يعلى عن ليث ابن أبى سليم ، والثلاثة ضعفاء ، وأورده النسائي في الكنى من قول إبراهيم بن أبى عبلة ، أحد التابعين من أهل الشام.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٤٠٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب بالإسناد المذكور في سورة آل عمران.

١٧٣

سورة المؤمنون

مكية ، وهي مائة وتسع عشرة آية. وثماني عشرة عند الكوفيين

[نزلت بعد سورة الأنبياء]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)(٢)

(قَدْ) نقيضة «لما» هي تثبت المتوقع و «لما» تنفيه ، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والفلاح : الظفر بالمراد. وقيل : البقاء في الخير. و (أَفْلَحَ) دخل في الفلاح ، كأبشر : دخل في البشارة. ويقال : أفلحه : أصاره إلى الفلاح. وعليه قراءة طلحة بن مصرف : أفلح ، على البناء للمفعول. وعنه : أفلحوا ، على : أكلونى البراغيث. أو على الإبهام والتفسير. وعنه : أفلح ، بضمة بغير واو ، اجتزاء بها عنها ، كقوله :

فلو أنّ الاطبّا كان حولي (١)

فإن قلت : ما المؤمن؟ قلت : هو في اللغة المصدق. وأما في الشريعة فقد اختلف فيه على قولين ، أحدهما : أنّ كل من نطق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فهو مؤمن. والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البرّ التقىّ دون الفاسق الشقىّ (٢)

__________________

(١) فلو أن الأطباء كان حولي

وكان مع الأطباء الأساة

الأصل : كانوا حولي ، فقصره وقصر «الأطباء» لضرورة الوزن وهم علماء الطب. والأساة : جمع آس ، كالسعاة : جمع ساع ، وهم المباشرون للعلاج من الأطباء ، من الأسى كالفتى ، بمعنى المداواة. والاساء ـ بالكسر ـ : الدواء ، ولعله أصل الرواية ، كما روى الشفاء ، فحقه حرف الألف.

(٢) قال محمود : «اختلف في الايمان على قولين ، أحدهما : أن كل من نطق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فقد اتصف بالايمان. والآخر : أنه صفة مدح لا يستحقها الا البر التقى دون الفاسق الشقي» قال أحمد : والأول مذهب الأشعرية ، والثاني مذهب المعتزلة. والموحد الفاسق عندهم لا مؤمن ولا كافر. ولو لم يبن المعتزلة على هذا المعتقد تحريم الجنة على الموحد الفاسق بناء على أنه لا يندرج في وعد المؤمنين ، لكان البحث معهم لفظيا ، ولكن رتبوا ـ

١٧٤

الخشوع في الصلاة : خشية القلب وإلباد البصر ـ عن قتادة : وهو إلزامه موضع السجود. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يصلى رافعا بصره إلى السماء ، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده (١) ، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أن يشدّ بصره إلى شيء ، أو يحدّث نفسه بشأن من شأن الدنيا. وقيل : هو جمع الهمة لها ، والإعراض عما سواها. ومن الخشوع : أن يستعمل الآداب ، فيتوقى كفّ الثوب ، والعبث بجسده وثيابه ، والالتفات ، والتمطي ، والتثاؤب ، والتغميض ، وتغطية الفم ، والسدل ، والفرقعة ، والتشبيك ، والاختصار ، وتقليب الحصا. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال «لو خشع قلبه خشعت جوارحه (٢)» ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصا وهو يقول : اللهمّ زوجني الحور العين ، فقال : بئس الخاطب أنت! تخطب وأنت تعبث. فإن قلت : لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت : لأنّ الصلاة دائرة بين المصلى والمصلى له ، فالمصلى هو المنتفع بها وحده وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته : وأمّا المصلى له ، فغنىّ متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)(٣)

اللغو : ما لا يعنيك من قول أو فعل ، كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه وإطراحه ، يعنى أنّ بهم من الجدّ ما يشغلهم عن الهزل.

لما وصفهم بالخشوع في الصلاة ، أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف.

__________________

ـ على ذلك أمرا عظيما من أصول الدين وقواعده. وقد نقل القاضي عنهم في رسالة الايمان خبطا طويلا ، فنقل عن قدمائهم كعمرو بن عبيد وطبقته أن الايمان هو التصديق بالقلب وجميع فرائض الدين فعلا وتركا. ونقل عن أبى الهذيل العلاف أن الايمان هو جميع فرائض الدين ونوافله. ومختصر دليل القاضي لأهل السنة أن الايمان لغة هو مجرد التصديق اتفاقا ، فوجب أن يكون كذلك شرعا ، عملا بقوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) مع سلامته عن معارضة النقل ، فانه لو كان لنبيه عليه الصلاة والسلام ولو بينه لنقل لأنه مما يبتنى عليه قاعدة الوعد والوعيد ، ولم ينقل ، لأن النقل إما آحاد أو تواتر إلى آخر مادته.

(٢) أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر في السادس والأربعين بعد المائة من حديث أبى هريرة وفيه سليمان ابن عمرو وهو أبو داود والنخعي أحد من اتهم بوضع الحديث وفي شرح البخاري لزين الدين ابن المنير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه».

١٧٥

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ)(٤)

الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى ، فالعين : القدر الذي يخرجه المزكى من النصاب إلى الفقير والمعنى : فعل المزكى الذي هو التزكية ، وهو الذي أراده الله ، فجعل المزكين فاعلين له ولا يسوغ فيه غيره ، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل ويقال لمحدثه فاعل ، تقول للضارب : فاعل الضرب ، وللقاتل : فاعل القتل : وللمزكى : فاعل التزكية. وعلى هذا الكلام كله والتحقيق فيه أنك تقول في جميع الحوادث : من فاعل هذا؟ فيقال لك : فاعله الله أو بعض الخلق (١). ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها فاعلون ، لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل ، ولكن لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها. وقد أنشد لأمية ابن أبى الصلت:

المطعمون الطّعام في السّنة الأزمة والفاعلون للزّكوات (٢) ويجوز أن يراد بالزكاة : العين ، ويقدّر مضاف محذوف وهو الأداء ، وحمل البيت على هذا أصحّ ، لأنها فيه مجموعة.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(٧)

(عَلى أَزْواجِهِمْ) في موضع الحال ، أى الأوّالين على أزواجهم. أو قوّامين عليهنّ ، من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلّف عليها فلان. ونظيره : كان زياد على البصرة ، أى : واليا عليها. ومنه قولهم : فلانة تحت فلان. ومن ثمة سميت المرأة فراشا. والمعنى : أنهم لفروجهم

__________________

(١) قال محمود : «الزكاة تطلق ويراد بها العين المخرجة ، وتطلق ويراد بها فعل المزكى الذي هو التزكية ويتعين هاهنا أن يكون المراد التزكية لقوله (فاعِلُونَ) إذ العين المخرجة لم يفعلها المزكى ، ثم ضبط المصدر على الإطلاق بأنه الذي يصدق عليه أنه فعل الفاعل ؛ فعلى هذا تكون العين المخرجة مصدرا بالنسبة إلى الله تعالى ، وكذلك السماوات والأرض وكل مخلوق من جوهر وعرض ، قال : فجميع الحوادث إذا قيل من فاعلها؟ فيقال : الله أو بعض الخلق» قال أحمد : ويقول السنى : فاعل جميعها هو الله وحده لا شريك له ، ولكن إذا سئل بصيغة مشتقة من الفعل على طريقة اسم الفاعل ، مثل أن يقال له : من القائم؟ من القاعد؟ أجاب بمن خلق الله الفعل على يديه ، وجعله محلا له ، كزيد وعمرو.

(٢) لأمية بن أبى الصلت. والأزم : الجدب. والأزمة : الشديدة المجدبة. والزكوات : جمع زكاة ، تطلق على القدر المخرج من المال وعلى الإخراج ، فالمعنى على الأول : المؤدون للزكوات. وعلى الثاني : الفاعلون لذلك الإخراج ، والأول أوجه ، لأن المصدر لا يجمع إلا بتأويل الأنواع أو المرات.

١٧٦

حافظون في كافة الأحوال ، إلا في حال تزوّجهم أو تسريهم ، أو تعلق (عَلى) بمحذوف يدل عليه (غَيْرُ مَلُومِينَ) كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم ، أى : يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم ، فإنهم غير ملومين عليه. أو تجعله صلة لحافظين ، من قولك : احفظ علىّ عنان فرسي ، على تضمينه معنى النفي ، كما ضمن قولهم : نشدتك بالله إلا فعلت معنى ما طلبت منك إلا فعلك. فإن قلت هلا قيل : من ملكت؟ قلت : لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجرى مجرى غير العقلاء وهم الإناث جعل المستثنى حدا أوجب الوقوف عنده ، ثم قال : فمن أحدث ابتغاء وراء هذا الحدّ مع فسحته واتساعه ، وهو إباحة أربع من الحرائر ، ومن الإماء ما شئت (فَأُولئِكَ هُمُ) الكاملون في العدوان المتناهون فيه. فإن قلت : هل فيه دليل على تحريم المتعة؟ قلت : لا ، لأنّ المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صحّ النكاح.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)(٨)

وقرئ : لأمانتهم. سمى الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا. ومنه قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) وقال (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) وإنما تؤدّى العيون لا المعاني ، ويخان المؤتمن عليه ، لا الأمانة في نفسها. والراعي : القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعى الغنم وراعى الرعية. ويقال : من راعى هذا الشيء؟ أى متوليه وصاحبه : ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق ، والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ)(٩)

وقرئ (عَلى صَلَواتِهِمْ). فإن قلت : كيف كرّر ذكر الصلاة أوّلا وآخرا؟ قلت : هما ذكران مختلفان فليس بتكرير. وصفوا أوّلا بالخشوع في صلاتهم ، وآخرا بالمحافظة عليها. وذلك أن لا يسهوا عنها ، ويؤدّوها في أوقاتها ، ويقيموا أركانها ، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتمّ به أوصافها. وأيضا فقد وحدت أوّلا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أىّ صلاة كانت ، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها : وهي الصلوات الخمس ، والوتر ، والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة ، والعيدين والجنازة ، والاستسقاء ، والكسوف والخسوف ، وصلاة الضحى ، والتهجد وصلاة التسبيح ، وصلاة الحاجة ، وغيرها من النوافل.

(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١١)

أى (أُولئِكَ) الجامعون لهذه الأوصاف (هُمُ الْوارِثُونَ) الأحقاء بأن يسموا ورّاثا

١٧٧

دون من عداهم ، ثم ترجم الوارثين بقوله (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر. ومعنى الإرث : ما مرّ في سورة مريم. أنث الفردوس على تأويل الجنة ، وهو : البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روى أنّ الله عز وجلّ بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وجعل خلالها المسك الأذفر. وفي رواية : ولبنة من مسك مذرّى وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(١٤)

السلالة : الخلاصة ، لأنها تسلّ من بين الكدر ، و «فعالة» بناء للقلة كالقلامة والقمامة. وعن الحسن : ماء بين ظهراني الطين. فإن قلت : ما الفرق بين من ومن؟ قلت : الأوّل للابتداء ، والثاني للبيان ، كقوله (مِنَ الْأَوْثانِ). فإن قلت : ما معنى : (جَعَلْناهُ) الإنسان نطفة؟ قلت : معناه أنه خلق جوهر الإنسان أوّلا طينا ، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة. القرار : المستقرّ ، والمراد الرحم. وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقرّ فيها ، كقولك. طريق سائر. أو بمكانتها في نفسها ، لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت. قرئ : عظما فكسونا العظم. وعظاما فكسونا العظام وعظما فكسونا العظام. وعظاما فكسونا العظم : وضع الواحد مكان الجمع لزوال اللبس ، لأنّ الإنسان ذو عظام كثيرة (خَلْقاً آخَرَ) أى خلقا مباينا للخلق الأوّل مباينة ما أبعدها ، حيث جعله حيوانا وكان جمادا ، وناطقا وكان أبكم ، وسميعا وكان أصم ، وبصيرا وكان أكمه ، وأودع باطنه وظاهره ـ بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه ـ عجائب فطرة وغرائب حكمة لا تدرك بوصف الواصف ولا تبلغ بشرح الشارح : وقد احتجّ به أبو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده قال : يضمن البيضة ولا يرد الفرخ ، لأنه خلق آخر سوى البيضة (فَتَبارَكَ اللهُ) فتعالى أمره في قدرته وعلمه (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أى : أحسن المقدّرين تقديرا ، فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه. ونحوه : طرح المأذون فيه في قوله (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) لدلالة الصلة. وروى عن عمر رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ قوله خلقا آخر ، قال : فتبارك الله أحسن الخالقين (١). وروى أنّ عبد الله بن سعد بن أبى سرح كان يكتب للنبي صلى الله

__________________

(١) وفي الباب عن أنس قال : قال عمر : وافقت ربى في أربع فذكر الحديث ـ وفيه : فنزلت (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) ، إلى قوله (خَلْقاً آخَرَ). فقلت (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). فنزلت»

١٧٨

عليه وسلم ، فنطق بذلك قبل إملائه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «اكتب هكذا نزلت» فقال عبد الله : إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبىّ يوحى إلىّ ، فلحق بمكة كافرا ، ثم أسلم يوم الفتح (١).

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)(١٦)

قرأ ابن أبى عبلة وابن محيصن : لمائتون. والفرق بين الميت والمائت : أنّ الميت كالحي صفة ثابتة. وأمّا المائت ، فيدل على الحدوث. تقول : زيد مائت الآن ، ومائت غدا ، كقولك يموت. ونحوهما : ضيق وضائق ، في قوله تعالى (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة ، والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه : دليلين أيضا على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع. فإن قلت : فإذا لا حياة إلا حياة الإنشاء وحياة البعث. قلت : ليس في ذكر الحياتين نفى الثالثة وهي حياة القبر ، كما لو ذكرت ثلثي ما عندك وطويت ذكر ثلثه لم يكن دليلا على أن الثلث ليس عندك. وأيضا فالغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة : الإنشاء والإماتة والإعادة ، والمطوى ذكرها من جنس الإعادة.

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ)(١٧)

الطرائق : السموات ، لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل ، وكل شيء فوقه مثله فهو طريقة : أو لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم : وقيل : الأفلاك ، لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها : أراد بالخلق السموات ، كأنه قال : خلقناها فوقهم (وَما كُنَّا) عنها (غافِلِينَ) وعن حفظها وإمساكها أن تقع فوقهم بقدرتنا : أو أراد به الناس وأنه إنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها ، وينفعهم بأنواع منافعها ، وما كان غافلا عنهم وما يصلحهم.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ)(١٨)

(بِقَدَرٍ) بتقدير يسلمون معه من المضرة ، ويصلون إلى المنفعة. أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم. (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) كقوله (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) وقيل : جعلناه ثابتا في الأرض. وقيل : إنها خمسة أنهار : سيحون نهر الهند. وجيحون : نهر بلخ. ودجلة والفرات : نهرا العراق. والنيل : نهر مصر ، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة ،

__________________

(١) كذا ذكره الثعلبي عن ابن عباس رضى الله عنهما وعزاه الواحدي إلى الكلبي. عن ابن عباس رضى الله عنهما.

١٧٩

فاستودعها الجبال ، وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم. وكما قدر على إنزاله فهو قادر على رفعه وإزالته. وقوله (عَلى ذَهابٍ بِهِ) من أوقع النكرات وأحزها للمفصل. والمعنى : على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان باقتدار المذهب ، وأنه لا يتعايى عليه شيء إذا أراده ، وهو أبلغ في الإيعاد ، من قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم ، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر.

(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)(٢٠)

خصّ هذه الأنواع الثلاثة ، لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع. ووصف النخل والعنب بأنّ ثمرهما جامع بين أمرين : بأنه فاكهة يتفكه بها ، وطعام يؤكل رطبا ويابسا ، رطبا وعنبا ، وتمرا وزبيبا. والزيتون بأنّ دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. ويجوز أن يكون قوله (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من قولهم : يأكل فلان من حرفة يحترفها ، ومن ضيعة يغتلها ، ومن تجارة يتربح بها : يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه ، كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم ، منها ترتزقون وتتعيشون (وَشَجَرَةً) عطف على جنات. وقرئت مرفوعة على الابتداء ، أى : ومما أنشئ لكم شجرة (طُورِ سَيْناءَ) وطور سينين ، لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإمّا أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه ، كإمرئ القيس ، وكبعلبك ، فيمن أضاف. فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث ، لأنها بقعة ، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء. ومن فتح فلم يصرف ، لأنّ الألف للتأنيث كصحراء. وقيل : هو جبل فلسطين. وقيل : بين مصر وأيلة. ومنه نودي موسى عليه السلام. وقرأ الأعمش : سينا على القصر (بِالدُّهْنِ) في موضع الحال ، أى : تنبت وفيها الدهن. وقرئ : تنبت. وفيه وجهان ، أحدهما : أن أنبت بمعنى نبت. وأنشد لزهير :

رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم

قطينا لهم حتّي إذا أنبت البقل (١)

__________________

(١) إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت

ونال كرام الناس في الجحرة الأكل

رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم

قطينا بها حتى إذا أنبت البقل

١٨٠