الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

سؤال عن سبب العجلة (١) فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال : طلب زيادة رضاك أو الشوق إلى كلامك وتنجز موعدك. وقوله (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) كما ترى غير منطبق عليه. قلت : قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين ، أحدهما : إنكار العجلة في نفسها. والثاني : السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه ، فكان أهمّ الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه ، فاعتل بأنه لم يوجد منى إلا تقدّم يسير ، مثله لا يعتدّ به في العادة ولا يحتفل به. وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدّم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم ، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) ولقائل أن يقول : حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله ، فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المرتب على حدود الكلام.

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ)(٨٥)

أراد بالقوم المفتونين : الذين خلفهم مع هرون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. فإن قلت : في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة ، وحسبوها أربعين مع أيامها ، وقالوا : قد أكملنا العدة ، ثم كان أمر العجل بعد ذلك ، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ)؟ قلت : قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة ، بلفظ الموجودة الكائنة على عادته. أو افترص السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه ، وأخذ في تدبير ذلك. فكان بدء الفتنة موجودا. قرئ (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أى وهو أشدّهم ضلالا : لأنه ضال مضل ، وهو منسوب إلى قبيلة من بنى إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل : السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم : وقيل : كان من أهل باجرما. وقيل : كان علجا من كرمان ، واسمه موسى بن ظفر ، وكان منافقا قد أظهر الإسلام ، وكان من قوم يعبدون البقر.

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت : سئل عن سبب العجلة ... الخ» قال أحمد : وإنما أراد الله تعالى بسؤاله عن سبب العجلة وهو أعلم : أن يعلم موسى أدب السفر ، وهو أنه ينبغي تأخير رئيس القوم عنهم في المسير ليكون نظره محيطا بطائفته ونافذا فيهم ومهيمنا عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم ، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب لوطا فقال : (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضا الله عز وجل ، ومسارعة إلى الميعاد ، وذلك شأن الموعود بما يسره ، يود لو ركب إليه أجنحة الطير ، ولا أسر من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم.

٨١

حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ)(٨٨)

الأسف : الشديد الغضب. ومنه قوله عليه السلام في موت الفجأة «رحمة المؤمن وأخذة أسف للكافر (١)» وقيل : الحزين. فإن قلت. متى رجع إلى قومه؟ قلت : بعد ما استوفى الأربعين : ذا القعدة وعشر ذى الحجة. وعدهم الله سبحانه أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور ، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل ، حكى لنا أنها كانت ألف سورة كل سورة ألف آية ، يحمل أسفارها سبعون جملا (الْعَهْدُ) الزمان ، يريد : مدّة مفارقته لهم. يقال : طال عهدى بك ، أى : طال زماني بسبب مفارقتك. وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان ، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل (بِمَلْكِنا) قرئ بالحركات الثلاث ، أى : ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا ، لو ملكنا أمرنا وخلينا وراءنا لما أخلفناه ، ولكنا غلبنا من جهة السامري وكيده. أى : حملنا أحمالا من حلىّ القبط التي استعرناها منهم. أو أرادوا بالأوزار : أنها آثام وتبعات ، لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب. وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي ، على أن الغنائم لم تكن تحل حينئذ (فَقَذَفْناها) في نار السامري ، التي أوقدها في الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلىّ. وقرئ حملنا (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) أراهم أنه يلقى حليا في يده مثل ما ألقوا. وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطئ حيزوم فرس جبريل. أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتا صار حيوانا (فَأَخْرَجَ لَهُمْ) السامري من الحفرة عجلا خلقه الله من الحلىّ التي سبكتها النار يخور كما تخور العجاجيل. فإن قلت : كيف أثرت تلك التربة في إحياء الموات؟ قلت : أما يصحّ أن يؤثر الله سبحانه روح القدس بهذه الكرامة الخاصة كما آثره بغيرها من الكرامات ، وهي أن يباشر فرسه بحافره تربة إذا لاقت تلك التربة جمادا أنشأه الله إن شاء عند مباشرته حيوانا. ألا ترى كيف أنشأ المسيح

__________________

(١) أخرجه أحمد من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة ـ فذكره وله طريق أخرى عند عبد الرازق مرفوعة. وفيها يحيى بن العلاء الرازي وهو ضعيف. ورواه هو وابن أبى شيبة والطبراني من حديثهما موقوفا. وعن ابن مسعود أيضا موقوفا ، وفي الباب عن أنس في الجنائز لابن شاهين وعن عبيد بن خالد عند أبى داود بلفظ «موت الفجأة أخذة أسف».

٨٢

من غير أب عند نفخه في الدرع. فإن قلت : فلم خلق الله العجل من الحلىّ حتى صار فتنة لبنى إسرائيل (١) وضلالا؟ قلت : ليس بأوّل محنة محن الله بها عباده ليثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين. ومن عجب من خلق العجل ، فليكن من خلق إبليس أعجب. والمراد بقوله (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) هو خلق العجل للامتحان ، أى : امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال ، وأوقعهم فيه حين قال لهم (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أى : فنسي موسى أن يطلبه هاهنا ، وذهب يطلبه عند الطور. أو فنسي السامري : أى ترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر.

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)(٩١)

(يَرْجِعُ) من رفعه فعلى أنّ أن مخففة من الثقيلة. ومن نصب فعلى أنها الناصبة للأفعال (مِنْ قَبْلُ) من قبل أن يقول لهم السامري ما قال ، كأنهم أوّل ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه ، فقبل أن ينطق السامري بادرهم هرون عليه السلام بقوله (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ).

(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)(٩٣)

لا مزيدة. والمعنى ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدة الزجر عن الكفر والمعاصي؟ وهلا قاتلت من كفر بمن آمن؟ ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أبا شره أنا لو كنت شاهدا؟ أو مالك لم تلحقني.

(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(٩٤)

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت لم خلق الله العجل فتنة لهم» قال أحمد : هذا السؤال وجوابه تقدما له في أول سورة الأعراف. وقد أوضحنا أن الله تعالى إنما تعبدنا بالبحث عن علل أحكامه لا علل أفعاله. وجواب هذا السؤال في قوله تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فهذا الامر جائز. وقد أخبر الله تعالى بوقوعه فلا نبتغى وراء ذلك سبيلا ، لكن الزمخشري تقتضي قاعدته في وجوب رعاية المصالح على الله تعالى وتحتم هداية الخلق عليه : أن يؤول ذلك ويحرفه ، فذرهم وما يفترون.

٨٣

قرئ (بِلِحْيَتِي) بفتح اللام (١) وهي لغة أهل الحجاز ، كان موسى صلوات الله عليه رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء ، شديد الغضب لله ولدينه ، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام ، أن ألقى ألواح التوراة لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة ، غضبا لله واستنكافا وحمية ، وعنف بأخيه وخليفته على قومه ، فأقبل عليه إقبال العدّو المكاشف قابضا على شعر رأسه ـ وكان أفرع (٢) ـ وعلى شعر وجهه يجرّه إليه. أى : لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا ، فاستأنيتك أن تكون أنت المتدارك بنفسك ، المتلافى برأيك ؛ وخشيت عتابك على إطراح ما وصيتنى به من ضم النشر وحفظ الدهماء (٣) ، ولم يكن لي بد من رقبة وصيتك والعمل على موجبها.

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(٩٦)

الخطب : مصدر خطب الأمر إذا طلبه ، فإذا قيل لمن يفعل شيئا : ما خطبك؟ فمعناه : ا طلبك له؟ قرئ (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) بالكسر (٤) ، والمعنى : علمت ما لم تعلموه ، وفطنت ما لم تفطنوا له. قرأ الحسن (قَبْضَةً) بضم القاف وهي اسم المقبوض ، كالغرفة والمضغة. وأما القبضة فالمرة من القبض ، وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر ، كضرب الأمير. وقرأ أيضا : فقبصت قبصة ، بالصاد المهملة. الضاد : بجميع الكف. والصاد : بأطراف الأصابع. ونحوهما : الخضم ، والقضم : الخاء بجميع الفم ، والقاف بمقدمه : قرأ ابن مسعود : من أثر فرس الرسول. فإن قلت : لم سماه الرسول دون جبريل وروح القدس؟ قلت : حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به ، فأبصره السامري فقال : إنّ لهذا شأنا ، فقبض قبضة من تربة موطئه ، فلما سأله موسى عن قصته قال : قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد ، ولعله لم يعرف أنه جبريل.

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً

__________________

(١) قوله «قرئ بلحيتي بفتح اللام» والقراءة المشهورة : بالكسر. (ع)

(٢) قوله «وكان أفرع» أى تام الشعر. أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قوله «وحفظ الدهماء» أى الجماعة ، أفاده الصحاح. (ع)

(٤) قوله «وقرئ بصرت بما لم يبصروا به بالكسر» والقراءة المشهورة بالضم. وقرئ : تبصروا به. بالتاء : وعبارة النسفي : وبالتاء حمزة وعلى ، ولعلها سقطت هنا سهوا من الناسخ ، فليحرر. (ع)

٨٤

لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)(٩٧)

عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش ، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا ، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا ، وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة ، حم الماس والممسوس ، فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح : لا مساس ، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم ، ومن الوحشي النافر في البرية. ويقال : إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم. وقرئ (لا مِساسَ) بوزن فجار. ونحوه قولهم في الظباء. إذا وردت الماء فلا عباب ، وإن فقدته فلا أباب : وهي أعلام للمسة والعبة والأبة ، وهي المرة من الأب وهو الطلب (لَنْ تُخْلَفَهُ) أى لن يخلفك الله موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض ، ينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك بذلك في الدنيا ، فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين. وقرئ لن تخلفه. وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا. قال الأعشى :

أثوى وأقصر ليله ليزوّدا

فمضى وأخلف من قتيلة موعدا (١)

وعن ابن مسعود : نخلفه ، بالنون ، أى : لن يخلفه الله ، كأنه حكى قوله عز وجل كما مر في (لِأَهَبَ لَكِ). (ظَلْتَ) وظلت ، وظلت والأصل ظلت ، فحذفوا اللام الأولى ونقلوا حركتها إلى الظاء ، ومنهم من لم ينقل (لَنُحَرِّقَنَّهُ) ولنحرقنه ولنحرقنه. وفي حرف ابن مسعود : لنذبحنه ، ولنحرقنه ، ولنحرقنه : القراءتان من الإحراق. وذكر أبو على الفارسي في لنحرقنه انه يجوز أن يكون حرّق مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد. وعليه القراءة الثالثة ، وهي قراءة على بن أبى طالب رضى الله عنه (لَنَنْسِفَنَّهُ) بكسر السين وضمها ، وهذه عقوبة ثالثة وهي إبطال ما افتتن

__________________

(١) أثوى وأقصر ليله ليزودا

فمضت وأخلف من قتيلة موعدا

ومضى لحاجته وأصبح حبله

خلقا وكان بحالة لن ينكدا

للأعشى. وأقصر عن الشيء : أقلع عنه وامتنع منه. وأقصره : وجده قصيرا. وروى «قصر» بالتشديد. وروى «ليله» بالاضافة إلى الضمير ، لكن الذي في ديوان الأعشى «ليلة» بالتاء. وثوى بالمكان : أقام به ، وأثوى به : لغة فيه ، ويستعمل متعديا أيضا. يقول : إنه قطع السفر ، وأقام بربع قتيلة ، ووجد ليله قصيرا لتزوره بالوصال ، أو امتنع من السفر لذلك ، فمضى الليل على الأول ، أو مضت الليلة على الثاني. وجزالة المعنى تشهد له. وأخلف الموعد من قتيلة ، أى : وجده خلفا ، فسافر كما كان إلى حاجته ، واستعار الحبل للوداد أو للطمع فيه على طريق التصريحية والخلق ترشيح ، أى : يئس من مودته ، وكان الحبل أو العاشق بحالة حسنة ، هي أنه لن ينكدا ، أى لن يتنغص ، ولن يتكدر ، ولن يتعسر شأنه ، وزوال النعمة بعد نوالها يشق على النفس ، وخلق ـ بالضم ـ فهو خلق ، كحسن ، وهو في الأصل مصدر. وينكد كيتعب.

٨٥

به وفتن ، وإهدار سعيه ، وهدم مكره (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)(٩٨)

قرأ طلحة : الله الذي لا إله إلا هو الرحمن رب العرش (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) وعن مجاهد وقتادة : وسع ، ووجهه أن وسع متعدّ إلى مفعول واحد ، وهو كل شيء. وأمّا (عِلْماً) فانتصابه على التمييز ، وهو في المعنى فاعل ، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين ، فنصبهما معا على المفعولية لأنّ المميز فاعل في المعنى ، كما تقول في «خاف زيد عمرا» خوفت زيدا عمرا ، فترد بالنقل ما كان فاعلا مفعولا.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً)(١٠١)

الكاف في (كَذلِكَ) منصوب المحل ، وهذا موعد من الله عزّ وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم ، أى : مثل ذلك الاقتصاص ونحو ما اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون ، نقصّ عليك من سائر أخبار الأمم وقصصهم وأحوالهم ، تكثيرا لبيناتك ، وزيادة في معجزاتك ، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة ، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر ، وأن هذا الذكر الذي آتيناك يعنى القرآن مشتملا على هذه الأقاصيص والأخبار الحقيقة بالتفكر والاعتبار ، لذكر عظيم وقرآن كريم ، فيه النجاة والسعادة لمن أقبل عليه ، ومن أعرض عنه فقد هلك وشقى. يريد بالوزر : العقوبة الثقيلة الباهظة ، سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يفدح (١) لحامل ، وبنقض ظهره ، ويلقى عليه بهره (٢) : أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم. وقرئ : يحمل. جمع (خالِدِينَ) على المعنى ، لأنّ من معلق متناول لغير معرض واحد. وتوحيد الضمير في أعرض وما بعده للحمل على اللفظ. ونحوه قوله تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها). (فِيهِ) أى في ذلك الوزر. أو في احتماله (ساءَ) في حكم بئس. والضمير الذي فيه يجب أن يكون مبهما يفسره (حِمْلاً) والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر السابق عليه ، تقديره : ساء حملا وزرهم ، كما حذف في قوله تعالى

__________________

(١) قوله «يفدح الحامل» أى يثقله. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قوله «بهره» أى غلبته. أفاده الصحاح. (ع)

٨٦

(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أيوب هو المخصوص بالمدح. ومنه قوله تعالى (وَساءَتْ مَصِيراً) أى وساءت مصيرا جهنم. فإن قلت : اللام في (لَهُمْ) ما هي؟ وبم تتعلق؟ قلت : هي للبيان ، كما في (هَيْتَ لَكَ). فإن قلت. ما أنكرت (١) أن يكون في ساء ضمير الوزر؟ قلت : لا يصح أن يكون في ساء وحكمه حكم بئس ضمير شيء بعينه غير مبهم فإن قلت : فلا يكن ساء الذي حكمه حكم بئس ، وليكن ساء الذي منه قوله تعالى (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بمعنى أهم وأحزن؟ قلت : كفاك صادّا عنه أن يؤول كلام الله إلى قولك : وأحزن الوزر لهم يوم القيامة حملا ، وذلك بعد أن تخرج عن عهدة هذا اللام وعهدة هذا المنصوب.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً) (١٠٤)

أسند النفخ إلى الآمريه فيمن قرأ : ننفخ ، بالنون. أو لأن الملائكة المقرّبين وإسرافيل منهم بالمنزلة التي هم بها من رب العزة ، فصح لكرامتهم عليه وقربهم منه أن يسند ما يتولونه إلى ذاته تعالى. وقرئ : ينفخ ، بلفظ ما لم يسم فاعله. وينفخ. ويحشر ، بالياء المفتوحة على الغيبة والضمير لله عز وجل أو لإسرافيل عليه السلام. وأما يحشر المجرمون فلم يقرأ به إلا الحسن. وقرئ (فِي الصُّورِ) بفتح الواو جمع صورة ، وفي الصور : قولان ، أحدهما : أنه بمعنى الصور وهذه القراءة تدل عليه. والثاني : أنه القرن. قيل في الزرق قولان ، أحدهما : أن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب لأنّ الروم أعداؤهم وهم زرق العيون ولذلك قالوا في صفة العدوّ : أسود الكبد ، أصهب السبال ، أزرق العين. والثاني : أنّ المراد العمى ، لأنّ حدقة من يذهب نور بصره تزراقّ. تخافتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول ، يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا : إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر لأن أيام السرور قصار ، وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضت ، والذاهب وإن طالت مدّته قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت «أطال الله بقاءك» : «كفى بالانتهاء قصرا» وإما لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا ، ويقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشدّ تقاولا منهم في قوله تعالى (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ونحوه قوله تعالى (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) وقيل : المراد لبثهم في القبور. ويعضده

__________________

(١) قوله «ما أنكرت» لعله «لم أنكرت». غ

٨٧

قوله عز وجل (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) ، (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ).

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً)(١٠٧)

(يَنْسِفُها) يجعلها كالرمل ، ثم يرسل عليها الرياح فتفرّقها كما يذرى الطعام (فَيَذَرُها) (١) أى فيذر مقارّها ومراكزها. أو يجعل الضمير للأرض وإن لم يجر لها ذكر ، كقوله تعالى (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ). فإن قلت : قد فرّقوا بين العوج والعوج ، فقالوا : العوج بالكسر في المعاني. والعوج بالفتح في الأعيان ، والأرض عين ، فكيف صح فيها المكسور العين؟ قلت : اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ، ونفى الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون ، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة ، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط ، ثم استطلعت رأى المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية ، لعثر فيها على عوج في غير موضع ، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي ، فنفى الله عزّ وعلا ذلك العوج الذي دقّ ولطف عن الإدراك ، اللهمّ إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة ، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني ، فقيل فيه : عوج بالكسر. الأمت : النتوّ اليسير ، يقال : مدّ حبله حتى ما فيه أمت.

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)(١٠٩)

أضاف اليوم إلى وقت نسف الجبال في قوله (يَوْمَئِذٍ) أى يوم إذ نسفت ، ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل من يوم القيامة. والمراد : الداعي إلى المحشر. قالوا : هو إسرافيل قائما على صخرة بيت المقدس يدعو الناس ، فيقبلون من كل أوب إلى صوبه لا يعدلون (لا عِوَجَ لَهُ) أى لا يعوجّ له مدعوّ ، بل يستوون إليه من غير انحراف متبعين لصوته. أى: خفضت

__________________

(١) قوله تعالى (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) في الصحاح : أن كلا من القاع والصفصف بمعنى المستوى من الأرض ، فكأن الصفصف تأكيد. (ع)

٨٨

الأصوات من شدة الفزع وخفتت (١) (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) وهو الركز الخفي. ومنه الحروف المهموسة. وقيل : هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت ، أى : لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر (مَنْ) يصلح أن يكون مرفوعا ومنصوبا ، فالرفع على البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف ، أى : لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من (أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) والنصب على المفعولية. ومعنى أذن له (وَرَضِيَ لَهُ) لأجله. أى : أذن للشافع ورضى قوله لأجله. ونحو هذه اللام اللام في قوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ).

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)(١١٠)

أى يعلم ما تقدّمهم من الأحوال وما يستقبلونه ، ولا يحيطون بمعلوماته علما.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١)

المراد بالوجوه وجوه العصاة ، وأنهم إذا عاينوا ـ يوم القيامة ـ الخيبة والشقوة وسوء الحساب ، صارت وجوههم عانية ، أى ذليلة خاشعة ، مثل وجوه العناة وهم الأسارى. ونحوه قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ). وقوله تعالى (وَقَدْ خابَ) وما بعده اعتراض ، كقولك : خابوا وخسروا. وكلّ من ظلم فهو خائب خاسر.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً)(١١٢)

الظلم : أن يأخذ من صاحبه فوق حقه. والهضم : أن يكسر من حق أخيه فلا يوفيه له ، كصفة المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ويسترجحون ، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. أى : فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم ، لأنه لم يظلم ولم يهضم. وقرئ : فلا يخف ، على النهى.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً)(١١٣)

(وَكَذلِكَ) عطف على (كَذلِكَ نَقُصُ) أى : ومثل ذلك الإنزال ، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد (٢) أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة ، مكرّرين فيه آيات الوعيد ،

__________________

(١) قوله «وخفتت» في الصحاح «خفت الصوت» سكن. (ع)

(٢) قال محمود : «معناه وكما أنزلنا عليك هذه الآيات المضمنة للوعيد ... الخ» قال أحمد : الصواب في تفسيرها :

٨٩

ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة. والذكر ـ كما ذكرنا ـ يطلق على الطاعة والعبادة. وقرئ : نحدث وتحدث ، بالنون والتاء ، أى : تحدث أنت. وسكن بعضهم الثاء للتخفيف ، كما في :

فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل (١)

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(١١٤)

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) استعظام له ولما يصرف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه على حسب أعمالهم ، وغير ذلك مما يجرى عليه أمر ملكوته ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد : وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن ، فتأنّ عليك ريثما يسمعك ويفهمك ، ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك ، ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته. ونحوه قوله تعالى (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) وقيل معناه : لا تبلغ ما كان منه مجملا حتى يأتيك البيان. وقرئ : حتى تقضى إليك وحيه. وقوله تعالى (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم ، أى علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدبا جميلا ما كان عندي ، فزدني علما إلى علم ، فإنّ لك في كل شيء حكمة وعلما. وقيل : ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(١١٥)

يقال في أوامر الملوك ووصاياهم : تقدّم الملك إلى فلان وأوعز إليه ، وعزم عليه ، وعهد

__________________

ـ ليكونوا على رجاء التقوى والتذكر ، وإلا فلو أراد لله من جميعهم التقوى لوقعت. وقد تقدمت أمثالها. والعجب أنه نقل عن سيبويه في تفسير لعل أول هذه السورة عند قوله تعالى (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) أن معناه : كونا على رجائكما ، ثم رجع عن ذلك هاهنا ؛ لأن المعتقد الفاسد يحذوه إلى هذا التأويل الباطل ، والله الموفق.

(١) حلت لي الخمر وكنت امرأ

عن شربها في شغل شاغل

فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل

لامرئ القيس ، كان حلف لا يشرب الخمر حتى يقتل بنى أسد الذين قتلوا أباه حجرا ، فلما قتل جماعة منهم قال : حلت لي الخمر بعد أن كانت حراما على وكنت في شغل شاغل لي عن شربها ، فاليوم حين أخذت الثأر أشرب ، وكان حقه الرفع لعدم الجازم ، فسكن تخفيفا للوزن. والمستحقب للشيء : الحامل له على ظهره. ومنه الحقيبة ، فشبه الإثم بالشيء المحمول لمشقته على النفس ، والاستحقاب تخييل ، والواغل : الداخل على الشاربين من غير أن يدعوه ، أى : فاليوم أشرب ما شئت حال كوني غير متحمل ذنبا من الله. حيث بررت في قسمي ، ولا متطفل على الشاربين.

٩٠

إليه. عطف الله سبحانه قصة آدم على قوله (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) والمعنى : وأقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة ، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها ، وذلك من قبل وجودهم ومن قبل أن نتوعدهم ، فخالف إلى ما نهى عنه ، وتوعد في ارتكابه مخالفتهم ، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون ، كأنه يقول : إنّ أساس أمر بنى آدم على ذلك ، وعرقهم راسخ فيه. فإن قلت : ما المراد بالنسيان؟ قلت يجوز أن يراد النسيان الذي هو نقيض الذكر ، وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة ، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس ، حتى تولد من ذلك النسيان. وأن يراد الترك وأنه ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها. وقرئ : فنسي ، أى : نساه الشيطان. العزم : التصميم والمضىّ على ترك الأكل ، وأن يتصلب في ذلك تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل له. والوجود : يجوز أن يكون بمعنى العلم ، ومفعولاه (لَهُ عَزْماً) وأن يكون نقيض العدم كأنه قال : وعدمنا له عزما.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى)(١١٦)

(إِذْ) منصوب بمضمر ، أى : واذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس ووسوسته إليه وتزيينه له الأكل من الشجرة ، وطاعته له بعد ما تقدّمت معه النصيحة والموعظة البليغة والتحذير من كيده ، حتى يتبين لك أنه لم يكن من أولى العزم والثبات. فإن قلت : إبليس كان جنيا بدليل قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فمن أين تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة؟ قلت كان في صحبتهم ، وكان يعبد الله تعالى عبادتهم ، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له ، كان الجنى الذي معهم أجدر بأن بتواضع ، كما لو قام لمقبل على المجلس علية أهله وسراتهم ، كان القيام على واحد بينهم هو دونهم في المنزلة أوجب ، حتى إن لم يقم عنف. وقيل له : قد قام فلان وفلان ، فمن أنت حتى تترفع عن القيام؟ فإن قلت : فكيف صحّ استثناؤه وهو جنى عن الملائكة؟ قلت : عمل على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم وعليه ، فأخرج الاستثناء على ذلك ، كقولك : خرجوا إلا فلانة ، لامرأة بين الرجال (أَبى) جملة مستأنفة ، كأنه جواب قائل قال : لم لم يسجد. والوجه أن لا يقدّر له مفعول ، وهو السجود المدلول عليه بقوله (فَسَجَدُوا) وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط

(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى)(١١٧)

(فَلا يُخْرِجَنَّكُما) فلا يكونن سببا لإخراجكما. وإنما أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون

٩١

حوّاء بعد إشراكهما في الخروج ، لأنّ في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم ، كما أنّ في ضمن سعادته سعادتهم ، فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها. مع المحافظة على الفاصلة. أو أريد بالشقاء التعب في طلب القوت ، وذلك معصوب برأس الرجل وهو راجع إليه. وروى أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه. قرئ : (وَأَنَّكَ) بالكسر والفتح. ووجه الفتح العطف على (أَلَّا تَجُوعَ). فإن قلت : إنّ لا تدخل على أن ، فلا يقال : إنّ أن زيدا منطلق ، والواو نائبة عن إنّ وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها؟ قلت : الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن إنّ ، إنما هي نائبة عن كل عامل ، فلما لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة ـ كإن ـ لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إنّ وأن.

(إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى)(١١٩)

الشبع والرىّ والكسوة والكنّ : هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان ، (١) فذكره استجماعها له في الجنة ، وأنه مكفى لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا ، وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعرى والظمأ والضحو (٢) ، ليطرق سمعه بأسامى أصناف الشقوة التي حذره منها ، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى)(١٢٠)

__________________

(١) قال محمود : «ذكر تعالى الأصناف التي بها قوام الإنسان ... الخ» قال أحمد : تنبيه حسن ، وفي الآية سر بديع من البلاغة يسمى قطع النظير عن النظير ، وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع والضحو عن الكسوة ، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها ، ولو قرن كلا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة ، وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال الكندي الأول :

كأنى لم أركب جوادا للذة

ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولم أرشف الرزق الروى ولم أقل

لخيلى كرى كرة بعد إجفال

فقطع ركوب الجواد عن قوله «لخيلى كرى كرة» وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس مع التناسب ، وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها ، وتبعه الكندي الآخر فقال :

وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلى هزيمة

ووجهك وضاح وثغرك باسم

فاعترضه سيف الدولة بأنه ليس فيه قطع الشيء عن نظيره ، ولكنه على فطنته قصر قهمه عما طالت إليه يد أبى الطيب من هذا المعنى الطائل البديع ، على أن في هذه الآية سرا لذلك زائدا على ما ذكر ، وهو أن قصد تناسب الفواصل ، ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل : إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ ، لانتثر سلك رؤس الآي ، وأحسن به منتظما ، والله أعلم.

(٢) قوله «والضحو» الذي في الصحاح : ضحيت للشمس ضحا ـ ممدود ـ إذا برزت الشمس لها ، وضحيت ـ بالفتح ـ مثله. (ع)

٩٢

فإن قلت : كيف عدى وسوس تارة باللام في قوله (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) وأخرى بإلى؟ قلت : وسوسة الشيطان كولولة الثكلى (١) ووعوعة الذئب ووقوفة الدجاجة ، في أنها حكايات للأصوات وحكمها حكم صوت وأجرس. ومنه : وسوس المبرسم ، وهو موسوس بالكسر. والفتح لحن. وأنشد ابن الأعرابى :

وسوس يدعو مخلصا ربّ الفلق (٢)

فإذا قلت : وسوس له ، فمعناه لأجله ، كقوله :

أجرس لها يا ابن أبى كباش (٣)

ومعنى «وسوس إليه» أنهى إليه الوسوسة ، كقولك. حدّث إليه. وأسرّ إليه. أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود ، لأن من أكل منها خلد بزعمه ، كما قيل لحيزوم : فرس الحياة ، لأنّ من باشر أثره حيي (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) دليل على قراءة الحسن بن على وابن عباس رضى الله عنهم : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) بالكسر.

(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)(١٢١)

__________________

(١) قوله «كولولة الثكلى» أى الحزينة. (ع)

(٢) وسوس يدعو مخلصا رب الفلق

سرا وقد أونّ تأوين العقق

في الزرب لو يمضغ شربا ما بصق

لرؤبة ، يصف قانصا. وسوس : تكلم في نفسه ، يدعو لله مخلصا أنه يظفره بالصيد ، وقوله «سرا» ساقه مساق الظرف للتوكيد ، أى تعلق بوسوس ، وللتأسيس إن تعلق بيدعو ، وتكون الجملة حالية مبينة للوسوسة. وقد أونّ أى : الحمير الوحشية ، والجملة أيضا حالية ، والتأوين : امتلاء الجنبين من الأون ، وهو جانب الخرج الممتلئ. والأوثان الجانبان الممتلئان. والعقق : الحوامل ، واحده عقوق كعروس ، وقيل : هو العقوق ، أى امتلأت بطونهن ماء لكثرة شربهن كامتلاء بطون الحوامل في الزرب ، حال من ضمير القانص. والزرب والزربة : قترته التي يكمن فيها وانزرب القانص : دخل الزرب. وقوله «لو يمضغ» في معنى الحال أيضا ، أى : ساكنا بحيث لو يمضغ شربا ، أى : لو يلوك بفمه مقدارا من مائه وهو الريق ، لم يبصق لئلا يسمع الصيد صوته. وأصل الشرب : النصيب من الماء ، استعاره لما يجتمع بفمه من الريق ، وبين الزرب والشرب الجناس المضارع.

(٣) أجرس لها يا ابن أبى كباش

فما لها الليلة من أنفاش

غير السرى وسائق نجاش

«أجرس» بقطع الهمزة وبالسين المهملة ، أى : صوت واحد للإبل في السير ، فما لها في هذه الليلة انفاش ، أى : إطلاق في المرعى. والسرى : سير الليل. ونجشت الإبل : جمعتها بعد تفرق. ونجاش : صيغة مبالغة ، أى : ليس لها رعى ، بل سير شديد. وروى «اجرش» بوصل الهمزة والشين المشالة ، وهو بمعناه هنا. والجرس ـ بالمهملة ـ : الصوت الخفي ، وبالمشالة : صوت المشط في الشعر. وما شابه ذلك.

٩٣

«طفق يفعل كذا» مثل : جعل يفعل ، وأخذ ، وأنشأ. وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا ، وبينها وبينه مسافة قصيرة هي للشروع في أوّل الأمر. وكاد لمشارفته والدنوّ منه. قرئ (يَخْصِفانِ) للتكثير والتكرير ، من خصف النعل وهو أن يخرز عليها الخصاف ، أى : يلزقان الورق بسوآتهما للتستر وهو ورق التين. وقيل كان مدورا فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما. وقيل كان لباسهما الظفر ، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع. عن ابن عباس : لا شبهة في أنّ آدم لم يمتثل ما رسم الله له ، وتخطى فيه ساحة الطاعة ، وذلك هو العصيان. ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشدا وخيرا ، فكان غيا لا محالة ، لأنّ الغى خلاف الرشد ، ولكن قوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) بهذا الإطلاق وبهذا التصريح ، وحيث لم يقل : وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك ، مما يعبر به عن الزلات والفرطات : فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة ، وكأنه قيل لهم : انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه إلا اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلطة وبهذا اللفظ الشنيع ، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر ، فضلا أن تجسروا على التورّط في الكبائر. وعن بعضهم (فَغَوى) فبشم (١) من كثرة الأكل ، وهذا ـ وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفا فيقول في «فنى ، وبقي» : «فنا ، وبقا» وهم بنو طىّ ـ تفسير خبيث.

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى)(١٢٢)

فإن قلت : ما معنى (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ)؟ قلت : ثم قبله بعد التوبة وقرّبه إليه ، من جبى إلىّ كذا فاجتبيته. ونظيره : جليت علىّ العروس فاجتليتها. ومنه قوله عز وجل (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أى هلا جبيت إليك فاجتبيتها. وأصل الكلمة الجمع. ويقولون : اجتبت الفرس نفسها إذا اجتمعت نفسها راجعة بعد النفار. و (هَدى) أى وفقه لحفظ التوبة وغيره من أسباب العصمة والتقوى.

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى)(١٢٣)

لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلى البشر ، والسببين اللذين منهما نشؤا وتفرعوا : جعلا كأنهما البشر في أنفسهما ، فخوطبا مخاطبتهم ، فقيل (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) على لفظ الجماعة.

__________________

(١) قوله «فبشم من كثرة الأكل» في الصحاح «البشم» التخمة ، (ع)

٩٤

ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب ، وهو في الحقيقة للمسبب (هُدىً) كتاب وشريعة. وعن ابن عباس : ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم تلا قوله (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) والمعنى أنّ الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضلّ في الدنيا عن طريق الدين فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه.

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى)(١٢٦)

الضنك : مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث. وقرئ (ضَنْكاً) على فعلى. ومعنى ذلك : أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته ؛ فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة ، فيعيش عيشا رافغا ؛ كما قال عز وجل (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) والمعرض عن الدين ، مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا ، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك وحاله مظلمة ، كما قال بعض المتصوّفة : لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوّش عليه رزقه. ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره : قال الله تعالى (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) وقال (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) وقال (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وقال (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) وقال (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) وعن الحسن : هو الضريع والزقوم في النار. وعن أبى سعيد الخدري : عذاب القبر. وقرئ (وَنَحْشُرُهُ) بالجزم عطفا على محل (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) لأنه جواب الشرط. وقرئ : ونحشره ، بسكون الهاء على لفظ الوقف ، وهذا مثل قوله (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) وكما فسر الزرق بالعمى (كَذلِكَ) أى مثل ذلك فعلت أنت ، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة ، فلم تنظر إليها بعين المعتبر ولم تتبصر ، وتركتها وعميت عنها ، فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) (١٢٧)

٩٥

لما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين : المعيشة الضنك في الدنيا ، وحشره أعمى في الآخرة ـ ختم آيات الوعيد بقوله (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) كأنه قال : وللحشر على العمى الذي لا يزول أبدا أشدّ من ضيق العيش المنقضى. أو أراد : ولتركنا إياه في العمى أشدّ وأبقى من تركه لآياتنا.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى)(١٢٨)

فاعل (فَلَمْ يَهْدِ) الجملة بعده يريد : ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه. ونظيره قوله تعالى (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أى تركنا عليه هذا الكلام. ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول ، ويدل عليه القراءة بالنون. وقرئ (يَمْشُونَ) يريد أنّ قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويمشون (فِي مَساكِنِهِمْ) ويعاينون آثار هلاكهم.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى)(١٢٩)

الكلمة السابقة : هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة ، يقول : لو لا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمودا لازما لهؤلاء الكفرة. واللزام : إما مصدر لازم وصف به ، وإما فعال بمعنى مفعل ، أى ملزم ، كأنه آلة اللزوم لفرط لزومه ، كما قالوا : لزاز خصم (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) لا يخلو من أن يكون معطوفا على (كَلِمَةٌ) أو على الضمير في (لَكانَ) أى لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود ، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى)(١٣٠)

(بِحَمْدِ رَبِّكَ) في موضع الحال ، أى : وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه. والمراد بالتسبيح الصلاة. أو على ظاهره قدم الفعل على الأوقات أوّلا ، والأوقات على الفعل آخرا ، فكأنه قال : صل لله قبل طلوع الشمس يعنى الفجر ، وقبل غروبها يعنى الظهر والعصر ، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها ، وتعمد آناء الليل وأطراف النهار مختصا لهما بصلاتك ، وذلك أن أفضل الذكر ما كان بالليل ، لاجتماع القلب وهدو الرجل والخلو بالرب. وقال الله عز وجل (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) وقال (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) ولأنّ الليل وقت السكون والراحة ، فإذا

٩٦

صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق ، وللبدن أتعب وأنصب ، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند الله. وقد تناول التسبيح في آناء الليل صلاة العتمة ، وفي أطراف النهار صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار ، إرادة الاختصاص ، كما اختصت في قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) عند بعض المفسرين. فإن قلت : ما وجه قوله (وَأَطْرافَ النَّهارِ) على الجمع ، وإنما هما طرفان كما قال (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ)؟ قلت : الوجه أمن الإلباس ، وفي التثنية زيادة بيان. ونظير مجيء الأمرين في الآيتين : مجيئهما في قوله :

ظهراهما مثل ظهور الترسين (١)

وقرئ : وأطراف النهار ، عطفا على آناء الليل ، ولعل للمخاطب ، أى : اذكر الله في هذه الأوقات ، طمعا ورجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك. وقرئ : ترضى ، أى يرضيك ربك.

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى)(١٣١)

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أى نظر عينيك ، ومدّ النظر : تطويله ، وأن لا يكاد يرده ، استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به ، وتمنيا أن يكون له ، كما فعل نظارة قارون حين قالوا (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) حتى واجههم أو لو العلم والإيمان ب (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ

__________________

(١) ومهمهين قذفين مرتين

ظهراهما مثل ظهور الترسين

جبتهما بالنعت لا بالنعتين

لخطام المجاشعي. وقيل : لهميان بن قحافة. والمهمه : المفازة. والقذف ـ بالتحريك ـ : الذي يقذف سالكه فلا يمكث فيه أحد. وقيل : البعيد. والمرت ـ بالسكون ـ : القفر لا ماء فيه ولا نبات. والترس : حيوان ناتئ الظهر. وثنى ظهراهما على الأصل ، وجمع فيما بعد لأمن اللبس ، ولأنه ربما كره اجتماع تثنيتين ، لا سيما عند تتابع التثنية كما هنا. وقال النحاة : كل مثنى في المعنى مضاف إلى متضمنه ، يختار في لفظه الجمع لتعدد معناه وكراهة اجتماع تثنيتين في اللفظ. ويجوز مجيئه على الأصل كما هنا. ويجوز إفراده كقوله :

حمامة بطن الواديين ترنمي

والجواب : القطع. والنعت : الوصف ، ويروى : «بالسمت لا بالسمتين» والسمت : الهيئة والقصد والجهة والطريق والمراد أنهما وصفا ، أو ذكرت هيأتهما له مرة واحدة. يقول : رب موضعين قفرين لا أنيس فيهما ، لهما ظهران مرتفعان ، كظهرى الترسين ، قطعتهما بالسير بنعت واحد ، لا بوصفهما لي مرتين أو ثلاثة كغيرى. ويجوز أن المعنى بذكر نعت واحد من نعوتها ، لا بذكر نعتين ، فالنعت بمعنى الصفة القائمة بالشيء. وفي الكلام دلالة على شجاعته وحذقه.

٩٧

آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه ، وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف ، ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع ، وأنّ من أبصر منها شيئا أحب أن يمدّ إليه نظره ويملأ منه عينيه : قيل (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أى لا تفعل ما أنت معتاد له وضاربه ، ولقد شدّد العلماء من أهل التقوى في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك ، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة ، فالناظر إليها محصل لغرضهم ، وكالمغري لهم على اتخاذها (أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا من الكفرة. ويجوز أن ينتصب حالا من هاء الضمير ، والفعل واقع على (مِنْهُمْ) كأنه قال : إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم وناسا منهم. فإن قلت : علام انتصب (زَهْرَةَ)؟ قلت : على أحد أربعة أوجه : على الذم وهو النصب على الاختصاص. وعلى تضمين (مَتَّعْنا) معنى أعطينا وخوّلنا ، وكونه مفعولا ثانيا له. وعلى إبداله من محل الجار والمجرور. وعلى إبداله من أزواجا ، على تقدير ذوى زهرة. فإن قلت : ما معنى الزهرة فيمن حرّك (١)؟ قلت : معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة ، كما جاء في الجهرة الجهرة. وقرئ : أرنا الله جهرة. وأن تكون جمع زاهر ، وصفا لهم بأنهم زاهروا هذه الدنيا ، لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون ، وتهلل وجوههم (٢) وبهاء زيهم وشارتهم (٣) ، بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء : من شحوب الألوان والتقشف في الثياب (لِنَفْتِنَهُمْ) لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب ، لوجود الكفران منهم. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه (وَرِزْقُ رَبِّكَ) هو ما ادّخر له من ثواب الآخرة الذي هو خير منه في نفسه وأدوم. أو ما رزقه من نعمة الإسلام والنبوّة. أو لأن أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة (٤) من بعض الوجوه ، والحلال (خَيْرٌ وَأَبْقى) لأن الله لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث ، والحرام لا يسمى رزقا أصلا (٥). وعن عبد الله بن قسيط عن رافع قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه

__________________

(١) قوله «حرك» أى حرك الهاء بالفتح. (ع)

(٢) قوله «وتهلل وجوههم» الذي في الصحاح : تهلل وجه الرجل من فرحه ، وهلهل النساج الثوب. أرق نسجه وخففه. (ع)

(٣) قوله «وبهاء زيهم وشارتهم» في الصحاح : الزي والشارة : اللباس والهيئة. (ع)

(٤) قال محمود : «معناه أن رزق هؤلاء المتمتعين في الدنيا أكثره مكتسب من الحرام ... الخ» قال أحمد : لو لا أن غرض القدرية من هذا إثبات رازق غير الله تعالى كما أثبتوا خالقا سوى الله تعالى لكان البحث لفظيا. فالحق والسنة أن كل ما تقوم به البنية رزق من الله تعالى ، سواء كان حلالا أو غيره ، لا يلزم من كون الله تعالى رزقه أن يكون حلالا ، فكما يخلق الله تعالى على يدي العبد ما نهاه عنه ، كذلك يرزقه ما أباح له تناوله وما لا (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) والله الموفق الصواب.

(٥) قوله «والحرام لا يسمي رزقا أصلا» هذا عند المعتزلة ، ويسمى رزقا عند أهل السنة. (ع)

٩٨

وسلم إلى يهودى وقال : «قل له يقول لك رسول الله أقرضنى إلى رجب» فقال : والله لا أقرضته إلا برهن ، فقال رسول الله «إنى لأمين في السماء وإنى لأمين في الأرض ، احمل إليه درعي (١) الحديد» فنزلت : ولا تمدّنّ عينيك.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)(١٣٢)

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) أى وأقبل أنت مع أهلك على عبادة الله والصلاة ، واستعينوا بها على خصاصتكم ؛ ولا تهتم بأمر الرزق والمعيشة ، فإنّ رزقك مكفىّ من عندنا ، ونحن رازقوك ولا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك ففرّغ بالك لأمر الآخرة. وفي معناه قول الناس : من دان في عمل الله كان الله في (٢) عمله. وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...) الآية ثم ينادى الصلاة الصلاة رحمكم الله. وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصابت أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا ، بهذا أمر الله رسوله ، ثم يتلو هذه الآية.

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى)(١٣٣)

اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوّة ، فقيل لهم : أو لم تأتكم آية هي أمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعنى القرآن ، من قبل أنّ القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته لأنه معجزة ، وتلك ليست بمعجزات ، فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها ، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة. وقرئ : الصحف. بالتخفيف. ذكر الضمير الراجع إلى البينة لأنها في معنى البرهان والدليل.

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى)(١٣٤)

__________________

(١) قلت وقع فيه تحريف في الراويين. وإنما هو عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبى رافع. ولعل ذلك من النساخ. والحديث أخرجه إسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار والطبري والطبراني من هذا الوجه مطولا. وفيه موسى بن عبيدة الزبيري وهو متروك. واستدل على بطلان ما رواه أنه وقع فيه «أن قوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) الآية نزلت في هذه القصة وسورة طه مكية ـ وهذه القصة إنما كانت في المدينة كما في الصحيح. وهذا يمكن الجواب عنه إذ لا مانع أن تكون الآية وحدها مدنية. وبقية السورة مكي. وأما حمله على تعدد القصة فلم يصب.

(٢) قوله «من دان في عمل الله كان الله في عمله» دان : ذل ، ودانه : أذله ، كذا في الصحاح. (ع)

٩٩

قرئ (نَذِلَّ وَنَخْزى) على لفظ ما لم يسم فاعله.

(قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)(١٣٥)

(كُلٌ) أى كل واحد منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) للعاقبة ولما يؤول إليه أمرنا وأمركم. وقرئ : السواء ، بمعنى الوسط والجيد. أو المستوى والسوء والسوأى والسوي تصغير السوء. وقرئ : فتمتعوا فسوف تعلمون. قال أبو رافع : حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة طه أعطى يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار (١)» وقال : «لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا طه ويس (٢)»

سورة الأنبياء

مكية وآياتها ١١٢ [نزلت بعد سورة إبراهيم]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)(١)

هذه اللام : لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب ، أو تأكيدا لإضافة الحساب إليهم ، كقولك : «أزف للحىّ رحيلهم» الأصل : أزف رحيل الحىّ ، ثم أزف للحىّ الرحيل ، ثم أزف للحىّ رحيلهم. ونحوه ما أورده سيبويه في «باب ما يثنى فيه المستقرّ توكيدا» عليك زيد حريص عليك. وفيك زيد راغب فيك. ومنه قولهم : لا أبالك : لأنّ اللام مؤكدة لمعنى الإضافة. وهذا الوجه أغرب من الأوّل. والمراد اقتراب الساعة. وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك. ونحوه (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ

__________________

(١) أخرجه الثعلبي من رواية زياد عن الحسن مرسلا.

(٢) أخرجه ابن مردويه من حديث أبى بن كعب.

١٠٠