الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢٤)

أمره بأن يقررهم بقوله (مَنْ يَرْزُقُكُمْ) ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: يرزقكم الله. وذلك للإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم ، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به ، لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته ، ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم : لزمهم أن يقال لهم : فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرن عليه من لا يقدر على الرزق ، ألا ترى إلى قوله (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) حتى قال : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) ثم قال (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) فكأنهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة ، ومرّة كانوا يتلعثمون عنادا وضرارا وحذارا من إلزام الحجة ، ونحوه قوله عزّ وجلّ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ومعناه : وإنّ أحد الفريقين من الذين يتوحدون الرازق من السماوات والأرض بالعبادة ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة ، لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال ، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك ، وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ : دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين ، ولكن التعريض والتورية أنضل (١) بالمجادل إلى الغرض ، وأهجم به على الغلبة ، مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته (٢) بالهوينا ونحوه قول الرجل لصاحبه : علم الله الصادق منى ومنك ، وإن أحدنا لكاذب (٣). ومنه بيت حسان :

__________________

(١) قوله «ولكن التعريض والتورية أفضل» في الصحاح «ناضله» : راماه ، يقال : ناضلت فلانا فنضلته إذا غلبته اه ، فالأنضل الأشد رميا ، فلذا عدى بالي. (ع)

(٢) قوله «وفل شوكته» أى كسرها. (ع)

(٣) قال محمود : «لما ألزمهم الحجة في قوله (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) وهلم جرا إلى الآية المذكورة ـ وهذا الإلزام إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه ـ أمره أن يقول (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ومعناه : أن أحد الفريقين من الموحدين الرازق من السماوات والأرض بالعبادة ، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة : لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال ، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موافق أو مخالف قال للمخاطب به : قد أنصفك صاحبك ، والتعريض أنضل بالمجادل إلى الغرض ، ـ

٥٨١

أتهجوه ولست له بكفء

فشر كما لخير كما الفداء (١)

فإن قلت : كيف خولف بين حرفى الجرّ الداخلين على الحق والضلال؟ قلت : لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء ، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدرى أين يتوجه. وفي قراءة أبىّ : وإنا أو إياكم إما على هدى أو في ضلال مبين.

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)(٢٦)

هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ فيه من الأوّل ، حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين والعمل إلى المخاطبين ، وإن أراد بالإجرام : الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن ، وبالعمل : الكفر والمعاصي العظام (٢). وفتح الله بينهم : وهو حكمه وفصله : أنه يدخل هؤلاء الجنة وأولئك النار.

(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢٧)

فإن قلت : ما معنى قوله (أَرُونِيَ) وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت : أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله ، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به. و (كَلَّا) ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسده بإبطال المقايسة ، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بعد ما حجهم ، وقد نبه على تفاحش

__________________

ـ وأهجم به على الغلبة ، مع قلة شغب الخصم وفل شوكته بالهوينا. ونحوه قول الرجل لصاحبه : الله يعلم الصادق منى ومنك ، وإن أحدنا لكاذب ومنه قول حسان:

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

قال أحمد : وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب ، رددته على سمعي فزاد رونقا بالترديد ، واستعاذه الخاطر كأنى بطيء الفهم حين يفيد ، ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخر والفقهاء في مجادلاتهم ومحاوراتهم ، وذلك قولهم : أحد الأمرين لازم على الإبهام ، فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد ، فتأمله والله الموفق.

(١) تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثاني صفحة ٥٦٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) قال محمود : «وهذا القول أدخل في الانصاف من الأول ، حيث أسند الاجرام إلى النفس وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلو عنها مؤمن ، وأسند العمل إلى المخاطبين وأراد به الكفر والمعاصي والكبائر» قال أحمد : فعبر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم ، وعن العظائم بما يعبر به عن الهفوات ، التزاما للانصاف ، وزيادة على ذلك أنه ذكر الاجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الذي يعطى تحقيق المعنى ، وعن العمل المنسوب إلى الخصم بما لا يعطى ذلك ، والله أعلم.

٥٨٢

غلطهم وإن لم يقدروا الله حق قدره بقوله (هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كأنه قال : أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات وهو راجع إلى الله وحده. أو ضمير الشأن ، كما في قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٢٨)

(إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم ، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم. وقال الزجاج المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ ، فجعله حالا من الكاف وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة ، ومن جعله حالا من المجرور متقدّما عليه فقد أخطأ ، لأنّ تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار ، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقع به حتى بضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى ، لأنه لا يستوي له الخطأ الأوّل إلا بالخطإ الثاني ، فلا بد له من ارتكاب الخطأين.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ)(٣٠)

قرئ : ميعاد يوم. وميعاد يوم. وميعاد يوما. والميعاد : ظرف الوعد من مكان أو زمان ، وهو هاهنا الزمان. والدليل عليه قراءة من قرأ : ميعاد يوم فأبدل منه اليوم. فإن قلت : فما تأويل من أضافه إلى يوم ، أو نصب يوما؟ قلت. أما الإضافة فإضافة تبيين ، كما تقول : سحق ثوب ، وبعير سانية. وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره : لكم ميعاد ، أعنى يوما أو أريد يوما من صفته كيت وكيت. ويجوز أن يكون الرفع على هذا ، أعنى التعظيم. فإن قلت : كيف انطبق هذا جوابا على سؤالهم؟ قلت : ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلا تعنتا ، لا استرشادا ، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقا لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت ، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم. فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدّما عليه.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)(٣١)

٥٨٣

الذي بين يديه : ما نزل قبل القرآن من كتب الله : يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم ، فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدّمه من كتب الله عز وجل في الكفر. فكفروا بها جميعا. وقيل : الذي بين يديه يوم القيامة. والمعنى : أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله تعالى ، وأن يكون لما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة ، ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام أو للمخاطب (وَلَوْ تَرى) في الاخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحادثة ويتراجعونها بينهم ، لرأيت العجيب (١) ، فحذف الجواب. والمستضعفون : هم الأتباع ، والمستكبرون : هم الرءوس والمقدّمون.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٣)

أولى الاسم أعنى (نَحْنُ) حرف الإنكار ، لأنّ الغرض إنكار أن يكونوا هم الصادين لهم عن الإيمان ، وإثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عنه ، وأنهم أتوا من قبل اختيارهم ، كأنهم قالوا : أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين كونكم ممكنين مختارين (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) بعد أن صممتم على الدخول في الإيمان وصحت نياتكم في اختياره؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلال على الهدى وأطعتم آمر الشهوة دون آمر النهى ، فكنتم مجرمين كافرين لاختياركم لا لقولنا وتسويلنا. فإن قلت : إذ وإذا من الظروف اللازمة للظرفية ، فلم وقعت إذ مضافا إليها؟ قلت : قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره ، فأضيف إليها الزمان ، كما أضيف إلى الجمل في قولك : جئتك بعد إذ جاء زيد ، وحينئذ ، ويومئذ ، وكان ذلك أو ان الحجاج أمير ، وحين خرج زيد. لما أنكر المستكبرون بقولهم (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ) أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أن ذلك بكسبهم واختيارهم ، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم ، كأنهم قالوا : ما كان الإجرام من جهتنا ، بل من

__________________

(١) قوله «لرأيت العجيب» لعله : العجب ، كعبارة النسفي. (ع)

٥٨٤

جهة مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا ، وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد. ومعنى مكر الليل والنهار : مكركم في الليل والنهار ، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه. أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازى. وقرئ : بل مكر الليل والنهار بالتنوين ونصب الظرفين. وبل مكرّ الليل والنهار بالرفع والنصب. أى تكرّون الإغواء مكرّا دائبا لا تفترون عنه. فإن قلت : ما وجه الرفع والنصب؟ قلت : هو مبتدأ أو خبر ، على معنى : بل سبب ذلك مكركم أو مكرّكم ، أو مكركم أو مكرّكم سبب ذلك. والنصب على : بل تكرّون الإغواء مكرّ الليل والنهار : فإن قلت : لم قيل : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) ، بغير عاطف ، وقيل (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)؟ قلت : لأن الذين استضعفوا مرّ أولا كلامهم ، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف ، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين ، فعطف على كلامهم الأوّل فإن قلت : من صاحب الضمير في (وَأَسَرُّوا) قلت : الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين ، وهم الظالمون في قوله (إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم ، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين (فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى في أعناقهم ، فجاء بالصريح للتنويه بذمهم ، وللدلالة على ما استحقوا به الأغلال. وعن قتادة : أسروا الكلام بذلك بينهم. وقيل : أسروا الندامة أظهروها ، وهو من الأضداد.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(٣٥)

هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما منى (١) به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به ، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد ، والمفاخرة (٢) وزخارفها ، والتكبر بذلك على المؤمنين ، والاستهانة بهم من أجله ، وقولهم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وكادوه بنحو ما كادوه به ، وقاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا ، واعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم ، ولو لا أنّ المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم ، فعلى قياسهم ذلك قالوا (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم ، نظرا إلى أحوالهم في الدنيا.

__________________

(١) قوله «مما منى به من قومه» أى ابتلى به. (ع)

(٢) قوله «والمفاخرة وزخارفها» لعله «والمفاخرة بالدنيا وزخارفها». (ع)

٥٨٥

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٣٦)

وقد أبطل الله تعالى حسبانهم بأنّ الرزق فضل من الله يقسمه كما يشاء على حسب ما يراه من المصالح ، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع ، وربما عكس ، وربما وسع عليهما وضيق عليهما ، فلا ينقاس عليه أمر الثواب الذي مبناه على الاستحقاق. وقدر الرزق : تضييقه. قال تعالى (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) وقرئ يقدّر ، بالتشديد والتخفيف.

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)(٣٨)

أراد : وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم ، وذلك أنّ الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث ، ويجوز أن يكون التي هي التقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها ، أى : ليست أموالكم بتلك الموضوعة للتقريب. وقرأ الحسن : باللاتى تقرّبكم ، لأنها جماعات. وقرئ : بالذي يقرّبكم ، أى : بالشيء الذي يقرّبكم. والزلفى والزلفة : كالكربى والكربة ، ومحلها النصب ، أى : تقرّبكم قربة ، كقوله تعالى (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) ، (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء من «كم» في (تُقَرِّبُكُمْ) ، والمعنى : أنّ الأموال لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ، والأولاد لا تقرب أحدا إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة ، جزاء (الضِّعْفِ) من إضافة المصدر إلى المفعول ، أصله : فأولئك لهم أن يجازوا الضعف ، ثم جزاء الضعف ، ثم جزاء الضعف. ومعنى جزاء الضعف :أن تضاعف لهم حسناتهم ، الواحدة عشرا. وقرئ : جزاء الضعف ، على : فأولئك لهم الضعف جزاء وجزاء الضعف على : أن يجازوا الضعف ، وجزاء الضعف مرفوعان : الضعف بدل من جزاء. قرئ (فِي الْغُرُفاتِ) بضم الراء وفتحها وسكونها. وفي الغرفة.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٣٩)

(فَهُوَ يُخْلِفُهُ) فهو يعوّضه لا معوّض سواه : إما عاجلا بالمال ، أو بالقناعة التي هي كنز

٥٨٦

لا ينفد. وإما آجلا بالثواب الذي كل خلف دونه. وعن مجاهد : من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد ، فإنّ الرزق مقسوم ، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه ، فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقر ، ولا يتأولن : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، فإن هذا في الآخرة. ومعنى الآية : وما كان من خلف فهو منه (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وأعلاهم رب العزة ، بأن كل ما رزق غيره : من سلطان يرزق جنده ، أو سيد يرزق عبده ، أو رجل يرزق عياله : فهو من رزق الله ، أجراه على أيدى هؤلاء ، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم : الحمد لله الذي أوجدنى (١) وجعلني ممن يشتهى ، فكم من مشته لا يجد ، وواجد لا يشتهى.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)(٤١)

هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار ، وارد على المثل السائر :

إيّاك أعنى واسمعي يا جاره (٢)

ونحوه قوله تعالى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) وقد علم سبحانه كون

__________________

(١) قوله «الحمد لله الذي أوجدنى» في الصحاح : وجد مطلوبه وأوجده الله مطلوبه ، أى أظفره به وأوجده أى : أغناه. (ع)

(٢) يا أخت خير البدو والحضاره

كيف ترين في فتى فزاره

أصبح يهوى حرة معطاره

إياك اعنى فاسمعي يا جاره

لسهل بن مالك الفزاري ، يخاطب أخت حارثة بن لأم ، وكان قد سألها على أخيها فلم يجده فأنزلته وأكرمته ، فرآها في غاية الجمال والكمال ، فأنشد ذلك ، فأجابته بقولها :

إنى أقول يا فتى فزاره

لا أبتغى الزوج ولا الدعارة

ولا فراق أهل هدى الحاره

فارحل إلى أهلك باستحاره

فارتحل ، ثم نزل عند أخيها مرة أخرى ، وكان حسن الطلعة ، فأرسلت إليه خفية أن يخطبها ، ففعل ، وتزوجها وارتحل بها. والبدو : هو البادية. والحضارة : هي الحاضرة. والمراد أهلهما ، وكيف : اسم استفهام نصب على المفعولية بترين. والمعنى : أى حال ترين في فتى هذه القيلة؟ يعنى نفسه. وفيه تعريض ب خطبتها. والمعطارة : كثيرة التعطر ، ولحاق تاء التأنيث لمفعال شاذ ـ إن كانت للفرق بين المذكر والمؤنث كما هنا ـ ويمكن أنها لزيادة المبالغة ، لا للتأنيث. والدعارة : الفسق والخبث والفساد. وهذى : اسم إشارة. وقولها : باستحارة ، أى بكمال وعدم نقص. أو بتحير وعدم اهتداء. يقال : استحار الإناء ، إذا امتلأ وتكامل. واستحار الرجل : إذا تحر في رأيه.

٥٨٧

الملائكة وعيسى منزهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير ، والغرض أن يقول ويقولوا ، ويسأل ويجيبوا ، فيكون تقريعهم أشدّ. وتعييرهم أبلغ ، وخجلهم أعظم : وهو أنه ألزم ، ويكون اقتصاص ذلك لطفا لمن سمعه ، وزاجرا لمن اقتص عليه. والموالاة : خلاف المعاداة. ومنها : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه. وهي مفاعلة من الولي وهو القرب ، كما أنّ المعاداة من العدواء وهي البعد ، والولي : يقع على الموالي والموالي جميعا. والمعنى أنت الذي نواليه من دونهم ، إذ لا موالاة بيننا وبينهم ، فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار : براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم ، لأنّ من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) يريدون الشياطين ، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله. وقيل : صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت. فيعبدون بعبادتها. وقرئ : نحشرهم. ونقول ، بالنون والياء.

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)(٤٢)

الأمر في ذلك اليوم لله وحده ، لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرّة لأحد ، لأنّ الدار دار ثواب وعقاب ، والمثيب والمعاقب هو الله ، فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف ، والناس فيها مخلى بينهم ، يتضارّون ويتنافعون. والمراد : أنه لا ضارّ ولا نافع يومئذ إلا هو وحده ، ثم ذكر معاقبته الظالمين بقوله (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) معطوفا على (لا يَمْلِكُ).

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(٤٣)

الإشارة الأولى : إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والثانية إلى القرآن. والثالثة : إلى الحق ، والحق أمر النبوّة كله ودين الإسلام كما هو. وفي قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وفي أن لم يقل وقالوا ، وفي قوله (لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه ، وفي لما من المبادهة بالكفر : دليل على صدور الكلام عن إنكار عظيم وغضب شديد ، وتعجيب من أمرهم بليغ ، كأنه قال : وقال أولئك الكفرة المتمرّدون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) فبتوا القضاء على أنه سحر ، ثم بتوه على

٥٨٨

أنه بين ظاهر كل عاقل تأمّله سماه سحرا.

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٤٥)

وما آتيناهم كتبا يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك ، ولا أرسلنا إليهم نذيرا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا ، كما قال عز وجل (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أو وصفهم بأنهم قوم أمّيون أهل جاهلية لا ملة لهم وليس لهم عهد بإنزال كتاب ولا بعثة رسول كما قال (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) فليس لتكذيبهم وجه متشبث ، ولا شبهة متعلق ، كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين : نحن أهل كتب وشرائع ، ومستندون إلى رسل من رسل الله. ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله (وَكَذَّبَ الَّذِينَ) تقدّموهم من الأمم والقرون الخالية كما كذبوا ، وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوّة الأجرام وكثرة الأموال ، فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكارى بالتدمير والاستئصال ، ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم به مستظهرون ، فما بال هؤلاء؟ وقرئ : يدرّسونها ، من التدريس وهو تكرير الدرس. أو من درّس الكتاب ، ودرّس الكتب : ويدّرسونها ، بتشديد الدال : يفتعلون من الدرس. والمعشار كالمرباع ، وهما : العشر ، والربع. فإن قلت : ما معنى (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) وهو مستغنى عنه بقوله (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)؟ قلت : لما كان معنى قوله (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : وفعل الذين من قبلهم التكذيب ، وأقدموا عليه : جعل تكذيب الرسل مسببا عنه ونظيره أن يقول القائل : أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن ينعطف على قوله : وما بلغوا ، كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فتفضل عليه (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (١) أى للمكذبين الأوّلين ، فليحذروا من مثله.

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ)(٤٦)

(بِواحِدَةٍ) بخصلة واحدة ، وقد فسرها بقوله (أَنْ تَقُومُوا) على أنه عطف بيان لها ، وأراد بقيامهم : إما القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرّقهم عن مجتمعهم عنده وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين ، ولكن الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة

__________________

(١) قوله «فكيف كان نكير» وفي النسفي : أن يعقوب قرأ «نكيري» بالياء في الوصل والوقف. (ع)

٥٨٩

والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم : وهي : أن تقوموا لوجه الله خالصا. متفرّقين اثنين اثنين ، وواحدا واحدا (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، أمّا الاثنان : فيتفكران ويعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه متصادقين متناصفين ، لا يميل بهما اتباع هوى ولا ينبض لهما عرق عصبية ، حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر الصحيح على جادة الحق وسننه ، وكذلك الفرد : يفكر في نفسه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها ويعرض فكره على عقله وذهنه وما استقرّ عنده من عادات العقلاء ومجارى أحوالهم ، والذي أوجب تفرّقهم مثنى وفرادى : أنّ الاجتماع مما يشوّش الخواطر ، ويعمى البصائر ، ويمنع من الروية ، ويخلط القول ، ومع ذلك يقل الإنصاف ، ويكثر الاعتساف ، ويثور عجاج التعصب. ولا يسمع إلا نصرة المذهب ، وأراهم بقوله (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أن هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة جميعا ، لا يتصدّى لا دعاء مثله إلا رجلان : إمّا مجنون لا يبالى باقتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز ، بل لا يدرى ما الافتضاح وما رقبة العواقب. وإمّا عاقل راجح العقل مرشح للنبوّة ، مختار من أهل الدنيا ، لا يدعيه إلا بعد صحته عنده بحجته وبرهانه ، وإلا فما يجدى على العاقل دعوى شيء لا بينة له عليه ، وقد علمتم أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم ما به من جنة ، بل علمتموه أرجح قريش عقلا ، وأرزنهم حلما وأثقبهم ذهنا وآصلهم رأيا ، وأصدقهم قولا ، وأنزههم نفسا ، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون به ، فكان مظنة لأن تظنوا به الخير ، وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب ، وإذا فعلتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بأن يأتيكم بآية ، فإذا أتى بها تبين أنه نذير مبين. فإن قلت : (ما بِصاحِبِكُمْ) ثم يتعلق؟ قلت : يجوز أن يكون كلاما مستأنفا تنبيها من الله عز وجل على طريقة النظر في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون المعنى : ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة ، وقد جوّز بعضهم أن تكون ما استفهامية (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) كقوله عليه الصلاة والسلام (١) : «بعثت في نسم الساعة (٢)».

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٤٧)

(فَهُوَ لَكُمْ) جزاء الشرط الذي هو قوله (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) تقديره : أىّ شيء سألتكم

__________________

(١) تقدم في الأنبياء.

(٢) قوله «بعثت في نسم الساعة» في الصحاح «نسم الريح» : أولها حين تقبل بلين قبل أن تشتد. ومنه الحديث «بعثت في نسم الساعة» أى : حين ابتدأت وأقبلت أوائلها. والنسم أيضا : جمع نسمة وهي النفس. (ع)

٥٩٠

من أجر فهو لكم ، كقوله تعالى (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) وفيه معنيان ، أحدهما : نفى مسألة الأجر رأسا ، كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتنى شيئا فخذه ، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا ولكنه يريد به البت ، لتعليقه الأخذ بما لم يكن. والثاني : أن يريد بالأجر ما أراد في قوله تعالى (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) وفي قوله (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) لأنّ اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم وما فيه نفعهم ، وكذلك المودّة في القرابة ، لأنّ القرابة قد انتظمته وإياهم (عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) حفيظ مهيمن ، يعلم أنى لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلا منه ، ولا أطمع منكم في شيء.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)(٤٨)

القذف والرمي : تزجية (١) السهم ونحوه بدفع واعتماد ، ويستعاران من حقيقتهما لمعنى الإلقاء ومنه قوله تعالى (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) ، (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) ومعنى (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) يلقيه وينزله إلى أنبيائه. أو يرمى به الباطل فيدمغه ويزهقه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) رفع محمول على محل إن واسمها ، أو على المستكن في يقذف ، أو هو خبر مبتدإ محذوف. وقرئ بالنصب صفة لربي ، أو على المدح. وقرئ : الغيوب بالحركات الثلاث ، فالغيوب كالبيوت. والغيوب كالصبور وهو الأمر الذي غاب وخفى جدا.

(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ)(٤٩)

والحىّ إمّا أن يبدئ فعلا أو يعيده فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة ، فجعلوا قولهم : لا يبدئ ولا يعيد مثلا في الهلاك. ومنه قول عبيد :

أقفر من أهله عبيد

فاليوم لا يبدي ولا يعيد (٢)

والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل ، كقوله تعالى : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) وعن ابن مسعود

__________________

(١) قوله «القذف والرمي تزجية السهم» في الصحاح : زجيت الشيء تزجية إذا دفعته برفق. (ع)

(٢) لعبيد بن الأبرص. وأقفر : خلا أو هلك عبيد من أهله. والإبداء والاعادة من لوازمهما الحياة ، فنفيهما كناية عن نفيها بالموت. كان المنذر بن ماء السماء يخرج في يوم من كل سنة فينعم على كل من يلقاه ، وفي آخر فيقتل أول من يلقاه ، فصادفه فيه عبيد ، فقيل له : امدحه بشعر لعله يعفو عنك ، فقال : حال الجريض دون القريض ، أى منعت الغصة الشعر ، فضرب ذلك مثلا وقال هذا البيت بعد ذلك تحسرا. وفي مجانى الأدب : أن المنذر قال له : أنشدنى : أقفر من أهله ملحوب ، فقال : أفقر من أهله عبيد. وملحوب : اسم موضع ، استنشده بيتا قديما فعلم أنه يريد هلاكه ، فقال : لا قدرة لي على إبداء شعر جديد ، ولا على إعادة شعر قديم ، ودخل في حشو البيت الزحاف الطى ، ومن العلل القطع ، فصار مستفعلن على وزن مستعل بسكون اللام ، وذلك في قوله «أهله».

٥٩١

رضى الله عنه : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل يطعنها بعود نبعة (١) ويقول (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ، (جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) (٢). والحق : القرآن. وقيل : الإسلام. وقيل : السيف. وقيل الباطل : إبليس لعنه الله ، أى : ما ينشئ خلقا ولا يعيده ، المنشئ والباعث : هو الله تعالى. وعن الحسن : لا يبدئ لأهله خيرا ولا يعيده ، أى : لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج : أىّ شيء ينشئ إبليس ويعيده ، فجعله للاستفهام. وقيل للشيطان : الباطل ، لأنه صاحب الباطل ، أو لأنه هالك كما قيل له : الشيطان ، من شاط إذا هلك.

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)(٥٠)

قرئ ، ضللت أضلّ ، بفتح العين مع كسرها. وضللت أضلّ ، بكسرها مع فتحها ، وهما لغتان ، نحو : ظللت أظلّ ، وظللت أظلّ. وقرئ اضلّ : بكسر الهمزة مع فتح العين. فإن قلت : أين التقابل بين قوله (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) وقوله (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) ، وإنما كان يستقيم أن يقال : فإنما أضل على نفسي ، وإن اهتديت فإنما أهتدى لها ، كقوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. أو يقال : فإنما أضل بنفسي. قلت : هما متقابلان من جهة المعنى ، لأنّ النفس كل ما عليها فهو بها ، أعنى : أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بها وبسببها : لأن الأمّارة بالسوء ، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عامّ لكل مكلف ، وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه ، لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة حمله وسداد طريقته كان غيره أولى به (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) يدرك قول كل ضالّ ومهتد ، وفعله لا يخفى عليه منهما شيء.

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)(٥١)

(وَلَوْ تَرى) جوابه محذوف ، يعنى : لرأيت أمرا عظيما وحالا هائلة. و «لو» و «إذ» والأفعال التي هي «فزعوا» و «أخذوا» وحيل بينهم : كلها للمضى. والمراد بها الاستقبال ، لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه ، ووقت الفزع : وقت البعث وقيام الساعة. وقيل : وقت الموت. وقيل : يوم بدر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : نزلت

__________________

(١) قوله «فجعل يطعنه بعود نبعة» لعله «معه» كعبارة النسفي. (ع)

(٢) متفق عليه وقد تقدم في الاسراء.

٥٩٢

في خسف البيداء ، وذلك أنّ ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها ، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم (فَلا فَوْتَ) فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. وقرئ : فلا فوت. والأخذ من مكان قريب : من الموقف إلى النار إذا بعثوا. أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا. أو من صحراء بدر إلى القليب. أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم. فإن قلت : علام عطف قوله (وَأُخِذُوا)؟ قلت : فيه وجهان : العطف على فزعوا ، أى : فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم. أو على لا فوت ، على معنى : إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا. وقرئ : وأخذ ، وهو معطوف على محل لا فوت. ومعناه : فلا فوت هناك ، وهناك أخذ.

(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)(٥٤)

(آمَنَّا بِهِ) بمحمد صلى الله عليه وسلم لمرور ذكره في قوله (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) : والتناوش والتناول : أخوان ؛ إلا أنّ التناوش تناول سهل لشيء قريب ، يقال ناشه ينوشه ، وتناوشه القوم. ويقال : تناوشوا في الحرب : ناش بعضهم بعضا. وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا : مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة (١) كما يتناوله الآخر من قيس ذراع تناولا سهلا لا تعب فيه وقرئ التناؤش : همزت الواو المضمومة كما همزت في أجؤه وأدؤر وعن أبى عمرو التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم : نأشت إذا أبطأت وتأخرت. ومنه البيت :

تمنّى نئيشا أن يكون أطاعنى (٢)

__________________

(١) قوله «أن يتناول الشيء من غلوة» في الصحاح : غلوت بالسهم غلوا ، إذا رميت به أبعد ما تقدر عليه ، والغلوة : الغاية مقدار رمية ، وفيه : يقال بينهما قيس رمح وقاس رمح ، أى : قدر رمح. (ع)

(٢) ومولى عصاني واستبد برأيه

كما لم يطع فيما أشار قصير

فلما رأى ما غب أمرى وأمره

وناءت بأعجاز الأمور صدور

تمنى نئيشا أن يكون أطاعنى

وقد حدثت بعد الأمور أمور

لنهشل بن حرى» واستبد : انفرد واستغنى بأمره. وقصير : علم رجل كان حسن الرأى ، وهو فاعل أشار. ومفعول «يطع» محذوف لدلالة المذكور عليه. أو لأن الفعل منزل منزلة اللازم ، والأوجه رواية لم يطع مبنيا للمجهول. وقصير : نائب الفاعل ، وضميره فاعل أشار ، وبالعكس على الخلاف في باب التنازع. رغب الأمر : بلغ فيه بالكسر عاقبته. وناء ـ بالمد ـ : أصله نأى ، فقلب : أى بعد ، وشبه الأمر بشيء له صدر وعجز على ـ

٥٩٣

أى أخيرا (وَيَقْذِفُونَ) معطوف على قد كفروا ، على حكاية الحال الماضية ، يعنى : وكانوا يتكلمون (بِالْغَيْبِ) ويأتون به (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر. ساحر. كذاب. وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي ، لأنهم لم يشاهدوا منه سحرا ولا شعرا ولا كذبا ، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله ، لأن أبعد شيء مما جاء به : الشعر والسحر ، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت : الكذب والزور : وقرئ : ويقذفون بالغيب ، على البناء للمفعول ، أى : يأتيهم به شياطينهم ويلقنونهم إياه ، وإن شئت فعلقه بقوله (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) على أنه مثلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة ، وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه ، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه شاحطا ، والغيب : الشيء الغائب ، ويجوز أن يكون الضمير للعذاب الشديد في قوله (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) وكانوا يقولون : وما نحن بمعذبين ، إن كان الامر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب ، ونحن أكرم على الله من أن يعذبنا ، قايسين أمر الآخرة على أمر الدنيا : فهذا كان قذفهم بالغيب ، وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة ، لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف (ما يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة. أو من الردّ إلى الدنيا ، كما حكى عنهم (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً). (بِأَشْياعِهِمْ) بأشباههم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم (مُرِيبٍ) إما من أرابه ، إذا أوقعه في الريبة والتهمة. أو من أراب الرجل ، إذا صار ذا ريبة ودخل فيها ، وكلاهما مجاز ؛ إلا أنّ بينهما فريقا : وهو أنّ المريب من الأول منقول ممن يصح أن يكون مريبا من لأعيان إلى المعنى ، والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك ، كما تقول : شعر شاعر.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبىّ إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا (١)»

__________________

ـ طريق المكنية وإثباتهما له تخييل ، كأن أوائل الأمور مضت بأواخرها ، فلما مضت الأوائل ظهرت الأواخر بعد خفائها. ويقال : نأش بالهمز إذا تأخر. ونئيشا : نصب على الظرف ، أى أخيرا ، أى : تمنى في آخر الأمر أن يكون أطاعنى في نصيحتي لما رأى عاقبة أمرى حسنة وعاقبة أمره سيئة ، والحال أنه قد حدثت بعد الأمور السهلة أمور صعبة كانت خفية أوجبت تمنيه ، فهي حال مبينة للمراد من الظرف. أو حدثت بعد الأمور السهلة التي كان يمكنه معها مطاوعتى أمور صعبة تمنعه من التخلص من ربكته ، كما نصحته بذلك أولا فلم يسمع ومضى على رأيه.

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم عن أبى بن كعب.

٥٩٤

سورة الملائكة

مكية ، وهي خمس وأربعون آية [نزلت بعد الفرقان]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١)

(فاطِرِ السَّماواتِ) مبتدئها ومبتدعها. وعن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما : ما كنت أدرى ما فاطر السماوات والأرض ، حتى اختصم إلىّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها (١) ، أى ابتدأتها. وقرئ : الذي فطر السماوات والأرض وجعل الملائكة. وقرئ : جاعل الملائكة ، بالرفع على المدح (رُسُلاً) بضم السين وسكونها (أُولِي أَجْنِحَةٍ) أصحاب أجنحة ، وأولو : اسم جمع لذو ، كما أن أولاء اسم جمع لذا ، ونظيرهما في المتمكنة : المخاض والخلفة (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) صفات لأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها. ذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر ، كما عدل عمر عن عامر. وحذام عن حاذمة ، وعن تكرير إلى غير تكرير. وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيما بين المعدولة والمعدول عنها. ألا تراك تقول : مررت بنسوة أربع ، وبرجال ثلاثة ، فلا يعرج عليها ، والمعنى : أن الملائكة (٢) خلقا أجنحتهم اثنان اثنان ، أى : لكل واحد منهم جناحان ، وخلقا أجنحتهم ثلاثة ثلاثة ، وخلقا أجنحتهم أربعة أربعة (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أى : يزيد في خلق الأجنحة ، وفي غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته. والأصل الجناحان ، لأنهما بمنزلة اليدين ، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل ، وذلك أقوى للطيران وأعون عليه. فإن قلت : قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه ، فما صورة الثلاثة؟ قلت : لعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة. أو لعله لغير الطيران ، فقد مرّبى في بعض الكتب أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بها أجسادهم ، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله ، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه رأى جبريل عليه السلام

__________________

(١) تقدم في أول الأنعام

(٢) قوله «أن الملائكة خلقا» لعله : متنوعة خلقا ... الخ. (ع)

٥٩٥

ليلة المعراج وله ستمائة جناح (١) ، وروى أنه سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته فقال : إنك لن تطيق ذلك. قال : «إنى أحب أن تفعل (٢) فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة ، فأتاه جبريل في صورته فغشى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه ، فقال : سبحان الله! ما كنت أرى أن شيئا من الخلق هكذا ، فقال جبريل : فكيف لو رأيت إسرافيل : له اثنا عشر جناحا : جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب. وإن العرش على كاهله ، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع (٣) وهو العصفور الصغير. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : «هو الوجه الحسن ، والصوت الحسن ، والشعر الحسن» وقيل «الخط الحسن» وعن قتادة : الملاحة في العينين ، والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق : من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام في الأعضاء ، وقوة في البطش ، وحصافة في العقل (٤) ، وجزالة في الرأى ، وجراءة في القلب ، وسماحة في النفس ، وذلاقة (٥) في اللسان ولباقة في التكلم (٦) ، وحسن تأنّ في مزاولة الأمور ، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢)

استعير الفتح للإطلاق والإرسال. ألا ترى إلى قوله (فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) مكان : لا فاتح له ، يعنى : أى شيء يطلق الله من رحمة أى من نعمة رزق أو مطر أو صحة أو أمن أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها. وتنكيره الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية ، فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها ، وأىّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه. فإن قلت : لم أنث الضمير أوّلا ، ثم ذكر آخرا؟ وهو راجع في الحالين إلى الاسم المتضمن معنى الشرط؟ قلت : هما لغتان : الحمل على المعنى وعلى اللفظ ، والمتكلم على الخيرة

__________________

(١) متفق عليه من حديث ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح» ولفظ ابن حبان «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى وله ستمائة جناح ينتشر في ريشه الدر والياقوت»

(٢) أخرجه ابن المبارك في الزهد. والثعلبي من طريقه أخبرنا الليث عن عقيل عن الزهري بهذا. وزاد «والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته» الوصع بفتح الصاد المهملة بعدها مهملة أيضا

(٣) قوله «مثل الوصع وهو العصفور» في الصحاح «الوصع» : طائر أصغر من العصفور. (ع)

(٤) قوله «وحصافة» أى : إحكام. أفاده الصحاح. (ع)

(٥) قوله «وذلاقة» أى : حدة وطلاقة ، أفاده الصحاح. (ع)

(٦) قوله «ولباقة في التكلم» أى حذق. أفاده الصحاح. (ع)

٥٩٦

فيهما ، فأنث على معنى الرحمة ، وذكر على أن لفظ المرجوع إليه لا تأنيث فيه ، ولأنّ الأوّل فسر بالرحمة ، فحسن اتباع الضمير التفسير ، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير وقرئ فلا مرسل لها. فإن قلت : لا بد للثاني من تفسير ، فما تفسيره؟ قلت : يحتمل أن يكون تفسيره مثل تفسير الأوّل ، ولكنه ترك لدلالته عليه ، وأن يكون مطلقا في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته ، وإنما فسر الأوّل دون الثاني للدلالة على أن رحمته سبقت غضبه. فإن قلت : فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس رضى الله عنهما؟ قلت : إن أراد بالتوبة الهداية لها والتوفيق فيها ـ وهو الذي أراده ابن عباس رضى الله عنهما إن قاله ـ فمقبول ، وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب ، وإن لم يشأ لم يتب ، فمردود ؛ لأنّ الله تعالى يشاء التوبة أبدا (١) ، ولا يجوز عليه أن لا يشاؤها (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد إمساكه ، كقوله تعالى (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) ، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ) أى من بعد هدايته وبعد آياته (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على الإرسال والإمساك (الْحَكِيمُ) الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)(٣)

ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط ، ولكن به وبالقلب ، وحفظها من الكفران والغمط (٢) وشكرها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها. ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه : اذكر أيادىّ عندك. يريد حفظها وشكرها والعمل على موجبها ، والخطاب عام للجميع لأنّ جميعهم مغمورون في نعمة الله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : يريد : يا أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكم ، حيث أسكنكم حرمه ومنعكم من جميع العالم ، والناس يتخطفون من حولكم. وعنه : نعمة الله العافية. وقرئ : غير الله ، بالحركات الثلاث فالجرّ والرفع على الوصف لفظا ومحلا ، والنصب على الاستثناء. فإن قلت : ما محل (يَرْزُقُكُمْ)؟ قلت : يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لخالق (٣) وأن لا يكون له محل إذا رفعت محل من خالق ، بإضمار يرزقكم ، وأوقعت يرزقكم تفسيرا له ، أو جعلته كلاما مبتدأ بعد قوله (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ

__________________

(١) قوله «يشاء التوبة أبدا» هذا وما بعده على مذهب المعتزلة ، من أنه تعالى يجب عليه الصلاح للعبد. وعند أهل السنة : لا يجب عليه شيء ، فالكلام على ظاهره ، ورده مردود. (ع)

(٢) قوله «وحفظها من الكفران والغمط» أى : الاحتقار. أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قال محمود : «إن قلت : ما محل يرزقكم؟ قلت : يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لخالق ، وأن لا يكون له محل إذا جعلته تفسيرا وجعلت من خالق مرفوع المحل بفعل يدل عليه هذا ، كأنه قيل : هل يرزقكم خالق غير الله ، أو جعلت يرزقكم كلاما مبتدأ» قال أحمد : والوجه المؤخر أوجهها

٥٩٧

اللهِ). فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الخالق لا يطلق على غير الله تعالى (١)؟ قلت ؛ نعم إن جعلت (يَرْزُقُكُمْ) كلاما مبتدأ وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة. وأمّا على الوجهين الآخرين وهما الوصف والتفسير. فقد يقيد فيهما بالرزق من السماء والأرض ، وخرج من الإطلاق ، فكيف يستشهد به على اختصاصه ، بالإطلاق ، والرزق من السماء المطر ، ومن الأرض النبات (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة مفصولة لا محل لها ، مثل : يرزقكم في الوجه الثالث ، ولو وصلتها كما وصلت يرزقكم لم يساعد عليه المعنى ، لأنّ قولك : هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق : غير مستقيم ، لأن قولك : هل من خالق سوى الله إثبات لله ، فلو ذهبت تقول ذلك : كنت مناقضا بالنفي بعد الإثبات (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فمن أى وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك؟

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤)

نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله ، ولتكذيبهم بها ، وسلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن له في الأنبياء قبله أسوة حسنة ، ثم جاء بما يشتمل على الوعد والوعيد : من رجوع الأمور إلى حكمه ومجازاة المكذب والمكذب بما يستحقانه. وقرئ : ترجع ، بضم التاء وفتحها. فإن قلت : ما وجه صحة جزاء الشرط؟ ومن حق الجزاء أن يتعقب الشرط وهذا سابق له. قلت : معناه : وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك ، فوضع (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) موضع : فتأس ، استغناء بالسبب عن المسبب : أعنى بالتكذيب عن التأسى. فإن قلت : ما معنى التنكير في رسل؟ قلت : معناه فقد كذبت رسل ، أى رسل ذو وعدد كثير. وأولو آيات ونذر ، وأهل أعمار طوال وأصحاب صبر وعزم ، وما أشبه ذلك. وهذا أسلى له ، وأحث على المصابرة.

__________________

(١) عاد كلامه. قال : فان قلت : هل فيه دليل على أن الخالق لا يطلق على غير الله تعالى؟ قلت : نعم إن جعلت يرزقكم كلاما مبتدأ ، وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة. وأما على الوجهين الآخرين وهما الوصف والتفسير فقد تقيد فيهما بالرزق من السماوات والأرض ، وخرج من الإطلاق ، فكيف يستشهد به على نفيه مطلقا. قال أحمد : القدرية إذا قرعت هذه الآية أسماعهم قالوا بجرأه على الله تعالى : نعم ثم خالق غير الله ، لأن كل أحد عندهم يخلق فعل نفسه ، فلهذا رأيت الزمخشري وسع الدائرة ، وجلب الوجوه الشاردة النافرة ، وجعل الوجهين يطابقان معتقده في إثبات خالق غير الله ، ووجهها هو الحق والظاهر ، وأخره في الذكر تأسيا له ، والذي يحقق الوجه الثالث وأنه هو المراد : أن الآية خوطب بها قوم على أنهم مشركون ، إذا سئلوا عن رازقهم من السماوات والأرض ، قالوا : الله ، فقرروا بذلك وقرعوا به ، إقامة للحجة عليهم بإقرارهم ، ولو كان على غير هذا الوجه قيد ، لكان مفهومه إثبات خالق غير الله ، لكنه لا يرزق وهؤلاء الكفرة قد تبرؤا عن ذلك ، فلا وجه لتقريعهم بما يلائم قولهم هذا ترجيح الوجه الثالث من حيث مقصود سياق الآية. وأما من حيث النظم اللفظي ، فلأن الجملتين اللتين هما قوله (يَرْزُقُكُمْ) وقوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) سقتا سياقا واحدا. والثانية مفصولة اتفاقا مما تقدم ، فكذلك (وَزِينَتَها).

٥٩٨

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)(٧)

وعد الله الجراء بالثواب والعقاب (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ) فلا تخدعنكم (الدُّنْيا) ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) لا يقولن لكم اعملوا ما شئتم فإن الله غفور يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة (١). والغرور الشيطان لأن ذلك ديدنه. وقرئ بالضم وهو مصدر غره كاللزوم والنهوك أو جمع غارّ كقاعد وقعود أخبرنا الله عز وجل أن الشيطان لنا عدوّ مبين ، واقتص علينا قصته وما فعل بأبينا آدم عليه السلام ، وكيف انتدب لعداوة جنسنا من قبل وجوده وبعده ، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا ، فوعظنا عز وجل بأنه كما علمتم عدوّكم الذي لا عدوّ أعرق في العداوة منه ، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله(فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) في عقائدكم وأفعالكم ، ولا يوجدن منكم إلا ما يدل على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم. ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأنّ غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته ومتبعي خطواته : هو أن يوردهم مورد الشقوة والهلاك ، وأن يكونوا من أصحاب السعير. ثم كشف الغطاء وقشر اللحاء (٢) ، ليقطع الأطماع الفارغة والأمانى الكاذبة ، فبنى الأمر كله على الإيمان والعمل وتركهما.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)(٨)

لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا ، قال لنبيه (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) يعنى : أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين ، كمن لم يزين له ، فكأن رسول الله صلى

__________________

(١) قال محمود : «معناه : ولا يقولن لكم الشيطان : اعملوا ما شئتم فان الله غفور ، يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة» قال أحمد : هو يعرض بأهل السنة في اعتقادهم جواز مغفرة الكبائر للموحد ، وإن لم يكن توبة. وهذا لا يناقض صدق وعده تعالى ، لأن الله تعالى حيث توعد على الكبائر قرن الوعد بالمشيئة في مثل قوله لهم (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فهم إذا مصدقون بوعد الله تعالى ، موقنون به على حسب ما ورد.

(٢) قوله «وقشر اللحاء» في الصحاح : اللحاء ـ ممدود ـ : قشر الشجر. (ع)

٥٩٩

الله عليه وسلم قال «لا» فقال (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ومعنى تزيين العمل والإضلال : واحد ، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدى عليه المصالح ، حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى وتخليته وشأنه ، فعند ذلك يهيم في الضلال ويطلق آمر النهى ، ويعتنق طاعة الهوى ، حتى يرى القبيح حسنا والحسن قبيحا ، كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه ، ويقعد تحت قول أبى نواس :

اسقني حتّى تراني

حسنا عندي القبيح (١)

وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم ، فإنّ على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقى بالا إلى ذكرهم ، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم : اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم. وذكر الزجاج أنّ المعنى : أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة ، فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليه : أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ، فحذف لدلالة (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) عليه. حسرات : مفعول له يعنى : فلا تهلك نفسك للحسرات. وعليهم صلة تذهب ، كما تقول : هلك عليه حبا ، ومات عليه حزنا. أو هو بيان للمتحسر عليه. ولا يجوز أن يتعلق بحسرات ، لأنّ المصدر لا يتقدم عليه صلته. ويجوز أن يكون حالا ، كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر ، كما قال جرير :

مشق الهواجر لحمهنّ مع السرى

حتّي ذهبن كلاكلا وصدورا (٢)

يريد : رجعن كلا كلا وصدورا ، أى : لم يبق إلا كلا كلها وصدورها. ومنه قوله :

فعلى إثرهم تساقط نفسي

حسرات وذكرهم لي سقام (٣)

وقرئ : فلا تذهب نفسك (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.

__________________

(١) نحن نخفيها فتأتى

طيب ريح فتفوح

اسقني حتى تراني

حسنا عندي القبيح

لأبى نواس. ونخفيها ، أى : الخمر ، فتفوح : أى رائحتها ، ثم قال لساقى الخمر : اسقني حتى أسكر ، فيحسن عندي القبيح ، وحسنا : المفعول الثاني ، والقبيح مرفوع به ، واستحسانه : كناية عن اشتداد السكر.

(٢) لجرير يصف نوقا بالهزال. يقال : فرس ممشوق ، أى : طويل مهزول. وجارية ممشوقة : رقيقة القوام. والهاجرة : شدة الحر. والسرى ـ بالضم ـ : سير الليل. والكلكل والكلكال : الصدر ، وعطف الصدور على الكلاكل للتفسير ، أى : صرن من شدة الحر والسير كأنهم عظام فقط لا لحم عليهن.

(٣) لما أصابه الحزن بعد ذهاب الأحباب وتمكن من نفسه ، تخيل أنها تتناثر وتنزل من جسمه حال كونها حسرات متتابعة ، وجعل النفس حسرات لامتزاجها بها ، فكأنها هي. أو تتساقط بعدهم لأجل الحسرات والأحزان وهو أوجه. وذكرهم : أى تذكرهم سقام لي ، وهو بالفتح مصدر كالسقم.

٦٠٠