الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

ما والنون : مؤكدتان ، أى : إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة (فَلا تَجْعَلْنِي) قرينا لهم ولا تعذبني بعذابهم. عن الحسن : أخبره الله أن له في أمته نقمة ولم يخبره أفى حياته أم بعد موته ، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء. فإن قلت : كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين ، حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ قلت : يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله ، إظهارا للعبودية وتواضعا لربه ، وإخباتا له. واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك ، وما أحسن قول الحسن في قول أبى بكر الصديق رضى الله عنهما «وليتكم ولست بخيركم : كان يعلم أنه خيرهم ، ولكن المؤمن يهضم نفسه. وقرئ : إما ترئنهم ، بالهمز (١) مكان تريني ، كما قرئ : فإما ترئن ، ولترؤن الجحيم. وهي ضعيفة. وقوله (رَبِ) مرتين قبل الشرط وقبل الجزاء ، حث على فضل تضرع وجؤار. كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه واستعجالهم له لذلك ، فقيل لهم : إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم ، فما وجه هذا الإنكار؟

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ)(٩٦)

هو أبلغ من أن يقال : بالحسنة السيئة ، لما فيه من التفضيل ، كأنه قال : ادفع بالحسنى السيئة. والمعنى : الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان ، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه : كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. وهذه قضية قوله (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٢) وعن ابن عباس رضى الله عنهما : هي شهادة أن لا إله إلا الله. والسيئة : الشرك.

__________________

(١) قوله «وقرئ إما ترئنهم بالهمزة» في نسخة أخرى : إما ترئنى بالهمز ، كما قرئ .. ، الخ ، (ع)

(٢) قال محمود : «هذا أبلغ من أن يقال : ادفع بالحسنة السيئة ، لما فيه من التفضيل كأنه قال : ادفع بالحسنى السيئة ، والمعنى : الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان ، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه ، كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة ، وهذه قضية قوله : بالتي هي أحسن» قال أحمد : ما ذكره تقريرا للمفاضلة عبارة عن الاشتراك في أمر والتميز بغيره ، ولا اشتراك بين الحسنة والسيئة ، فإنهما ضدان متقابلان ، فكيف تتحقق المفاضلة؟ قلت : المراد أن الحسنة من باب الحسنات ، أزيد من السيئة من باب السيئات ، فتجيء المفاضلة مما هو أعم من كون هذه حسنة وهذه سيئة. وذلك شأن كل مفاضلة بين ضدين ، كقولهم : العسل أحلى من الخل ، يعنون أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة. وليس لأن بينهما اشتراكا خاصا. ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال. نشأت أنا والأعمش في حجر فلان ، فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا ، بمعنى أنهما استويا في بلوغ كل منهما الغاية : أشعب بلغ الغاية على السفلة. والأعمش : بلغ الغاية على العلية ، هذا تفسير كلامه عن نفسه ، ونعود إلى الآية فنقول : هي تحتمل وجها آخر من التفضيل أقرب متناولا : وهو أن تكون المفاضلة بين الحسنات التي تدفع بها السيئة ، فإنها قد تدفع بالصفح والاغضاء ، ويقنع في دفعها بذلك ، وقد يزاد على الصفح الإكرام وقد تبلغ غايته ببذل الاستطاعة ، فهذه الأنواع من الدفع كلها دفع بحسنة ، ولكن أحسن هذه الحسنات في الدفع هي الأخيرة ، لاشتمالها على عدد من الحسنات ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ـ

٢٠١

وعن مجاهد : السلام : يسلم عليه إذا لقيه. وعن الحسن : الإغضاء والصفح. وقيل : هي منسوخة بآية السيف. وقيل : محكمة ؛ لأنّ المداراة محثوث عليها ما لم تؤدّ إلى ثلم دين وإزراء بمروءة (بِما يَصِفُونَ) بما يذكرونه من أحوالك بخلاف صفتها. أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم ، والله أعلم بذلك منك وأقدر على جزائهم.

(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨)

الهمز : النخس. والهمزات : جمع المرّة منه. ومنه : مهماز الرائض. والمعنى أنّ الشياطين يحثون الناس على المعاصي ويغرونهم عليها ، كما تهمز الراضة الدواب حثا لها على المشي. ونحو الهمز الأزّ في قوله تعالى (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أمر بالتعوّذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه ، المكرّر لندائه ، وبالتعوذ من أن يحضروه أصلا ويحوموا حوله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة : عند النزع.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(١٠٠)

(حَتَّى) يتعلق بيصفون ، أى : لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقف. والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم ، مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم. أو على قوله : وإنهم لكاذبون (١). خطاب الله بلفظ الجمع للتعظيم ، كقوله :

فإن شئت حرّمت النّساء سواكم (٢)

وقوله :

ألا فارحمونى يا إله محمّد (٣)

__________________

ـ بأحسن الحسنات في دفع السيئة. فعلى هذا تجرى المفاضلة على حقيقتها من غير حاجة إلى تأويل ، والله أعلم.

فتأمله فانه حسن جدا.

(١) قوله «أو على قوله : وإنهم لكاذبون» لعله عطف على المعنى ، فكأنه قال فيما مر : حتى رد على قوله (يَصِفُونَ). فقال هنا : أو على قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). (ع)

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٣٨٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣)ألا فارحمونى يا إله محمد

فان لم أكن أهلا فأنت له أهل

«ألا» استفتاحية دالة على الاهتمام بما يعقبها من الكلام ، وخاطب الاله الواحد الأحد بخطاب الجمع جريا على ـ

٢٠٢

إذا أيقن بالموت واطلع على حقيقة الأمر ، أدركته الحسرة على ما فرّط فيه من الإيمان والعمل الصالح فيه ، فسأل ربه الرجعة وقال (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) في الإيمان الذي تركته ، والمعنى: لعلى آتى بما تركته من الإيمان ، وأعمل فيه صالحا ، كما تقول : لعلى أبنى على أس ، تريد : أسس أسا وأبنى عليه. وقيل : فيما تركت من المال. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا ، فيقول : إلى دار الهموم والأحزان! بل قدوما إلى الله. وأمّا الكافر فيقول : رب ارجعون» (كَلَّا) ردع عن طلب الرجعة ، وإنكار واستبعاد. والمراد بالكلمة : الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض ، وهي قوله : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ). (هُوَ قائِلُها) لا محالة ، لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه وتسلط الندم. أو هو قائلها وحده لا يجاب إليها ولا تسمع منه (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) والضمير للجماعة ، أى : أمامهم حائل بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث ، وليس المعنى : أنهم يرجعون يوم البعث ، وإنما هو إقناط كلى لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (١٠١)

الصور ـ بفتح الواو ـ عن الحسن. والصور ـ بالكسر والفتح ـ عن أبى رزين. وهذا دليل لمن فسر الصور بجمع الصورة ، ونفى الأنساب : يحتمل أنّ التقاطع يقع بينهم حيث يتفرّقون معاقبين ومثابين ، ولا يكون التواصل بينهم والتألف إلا بالأعمال ، فتلغوا الأنساب وتبطل ، وأنه لا يعتدّ بالأنساب لزوال التعاطف والتراحم بين الأقارب ، إذ يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه. وعن ابن مسعود : ولا يساءلون ، بإدغام التاء في السين. فإن قلت : قد ناقض هذا ونحو قوله (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (١) وقوله (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) فكيف التوفيق بينهما؟ قلت : فيه جوابان ، أحدهما : أنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ، ففيه أزمنة وأحوال مختلفة يتساءلون ويتعارفون في بعضها ، وفي

__________________

ـ عادة العرب من خطاب السادة والملوك بذلك تعظما. وقيل : هو إشارة إلى تكرار الفعل للتوكيد ، كأنه قيل : ارحمني ارحمني ارحمني ، وإضافته إلى محمد صلى الله عليه وسلم للتوسل به إلى الله عز وجل ، فان لم أكن أهلا لهذا الطلب أو المطلوب من الرحمة والرفق» فأنت يا الله أهل له.

(١) قال محمود : «إن قلت قد ناقض هذا قوله : فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» قال أحمد : يجب أن لا يسلك هذا المسلك في إيراد الأسئلة عن فوائد الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وسؤال الأدب أن يقال : قصر فهمي عن الجمع بين هاتين الآيتين ، فما وجهه؟ ولو سأل سائل عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن شيء من كتاب الله تعالى بهذه الصيغة لأوجع ظهره بالدرة.

٢٠٣

بعضها لا يفطنون لذلك لشدّة الهول والفزع (١). والثاني : أنّ التناكر يكون عند النفخة الأولى ، فإذا كانت الثانية قاموا فتعارفوا وتساءلوا.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ)(١٠٤)

عن ابن عباس : الموازين : جمع موزون؟ وهي الموزونات من الأعمال : أى الصالحات ، التي لها وزن وقدر عند الله ، من قوله تعالى (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً). (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل من خسروا أنفسهم ، ولا محلّ للبدل والمبدل منه ، لأنّ الصلة لا محلّ لها. أو خبر بعد خبر لأولئك. أو خبر مبتدإ محذوف (تَلْفَحُ) تسفع. وقال الزجاج : اللفح والنفح واحد ، إلا أنّ اللفح أشدّ تأثيرا. والكلوح : أن تتقلص الشفتان وتتشمرا عن الأسنان ، كما ترى الرءوس المشوية. وعن مالك بن دينار : كان سبب توبة عتبة الغلام أنه مرّ في السوق برأس أخرج من التنور فغشى عليه ثلاثة أيام ولياليهنّ. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته (٢) وقرئ : كلحون.

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)(١٠٨)

(غَلَبَتْ عَلَيْنا) ملكتنا ، من قولك : غلبني فلان على كذا ، إذا أخذه منك وامتلكه. والشقاوة سوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم. قرئ (شِقْوَتُنا) وشقاوتنا بفتح الشين وكسرها فيهما (اخْسَؤُا فِيها) ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت. يقال : خسأ الكلب وخسأ بنفسه (٣). (وَلا تُكَلِّمُونِ) في رفع العذاب ، فإنه لا يرفع ولا يخفف. قيل : هو

__________________

(١) عاد كلامه إلى جواب السؤال. قال : «وجه الجمع بينهما أن يحمل ذلك على اختلاف موقف القيامة» قال أحمد : وكثيرا ما ينتهز الزمخشري الفرصة في إنكار الشفاعة ويشمر ذيله للرد على القائلين بها إذا انتهى إلى مثل قوله (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) ، (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ). ويتغافل حينئذ عن طريق الجمع بين ما ظاهره نفى الشفاعة وبين ما ظاهره ثبوتها ، بحمل الأمر على اختلاف الأحوال في القيامة ، والله الموفق.

(٢) أخرجه الترمذي وأحمد والبيهقي في الشعب من رواية أبى السمح عن الهيثم بن أبى سعيد.

(٣) قوله «يقال خسأ الكلب ... الخ» في الصحاح ؛ خسأت الكلب وخسأ بنفسه : يتعدى ولا يتعدى. (ع)

٢٠٤

آخر كلام يتكلمون به ، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون. وعن ابن عباس : إنّ لهم ست دعوات : إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) فيجابون : (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) ، فينادون ألفا (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) ، فيجابون : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) ، فينادون ألفا : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ، فيجابون : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) : فينادون ألفا : (رَبَّنا أَخِّرْنا) ، فيجابون : (أَوَلَمْ تَكُونُوا) ، فينادون ألفا : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً) ، فيجابون : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) ، فينادون ألفا : (رَبِّ ارْجِعُونِ) ، فيجابون : (اخْسَؤُا فِيها).

(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ)(١١١)

في حرف أبىّ : أنه كان فريق ، بالفتح ، بمعنى : لأنه.

السخرىّ ـ بالضم والكسر ـ : مصدر سخر كالسخر ، إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل ، كما قيل الخصوصية في الخصوص. وعن الكسائي والفراء : أنّ المكسور من الهزء ، والمضموم من السخرة والعبودية ، أى : تسخروهم واستعبدوهم ، والأوّل مذهب الخليل وسيبويه. قيل : هم الصحابة وقيل أهل الصفة خاصة. ومعناه : اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) بتشاغلكم بهم على تلك الصفة (ذِكْرِي) فتركتموه ، أى : تركتم أن تذكرونى فتخافونى في أوليائى. وقرئ (أَنَّهُمْ) بالفتح ، فالكسر استئناف ، أى : قد فازوا حيث صبروا ، فجزوا بصبرهم أحسن الجزاء. وبالفتح على أنه مفعول جزيتهم ، كقولك : جزيتهم فوزهم.

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١١٤)

(قالَ) في مصاحف أهل الكوفة. وقل : في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام ، ففي (قالَ) ضمير الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة ، وفي «قل» ضمير الملك أو بعض رؤساء أهل النار.

استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها ، لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مرّ عليه من أيام الدعة إليها. أو لأنهم كانوا في سرور ، وأيام السرور قصار ، أو لأنّ المنقضى في حكم ما لم يكن ، وصدقهم الله في مقالهم لسنى لبثهم في الدنيا ووبخهم

٢٠٥

على غفلتهم التي كانوا عليها. وقرئ (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) والمعنى : لا نعرف من عدد تلك السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم ، لما نحن فيه من العذاب ، وما فينا أن نعدّها ، فسل من فيه أن يعدّ ، ومن يقدر أن يلقى إليه فكره. وقيل : فسل الملائكة الذين يعدّون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. وقرئ : العادين ، بالتخفيف ، أى : الظلمة ، فإنهم يقولون كما نقول. وقرئ : العاديين ، أى : القدماء المعمرين ، فإنهم يستقصرونها ، فكيف بمن دونهم؟ وعن ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين.

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)(١١٨)

(عَبَثاً) حال ، أى : عابثين ، كقوله (لاعِبِينَ) أو مفعول له ، أى : ما خلقناكم للعبث ، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك ، وهي : أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي ، ثم نرجعكم من دار التكليف إلى دار الجزاء ، فنثيب المحسن ونعاقب المسيء (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) معطوف على (أَنَّما خَلَقْناكُمْ) ويجوز أن يكون معطوفا على (عَبَثاً) أى : للعبث ، ولترككم غير مرجوعين. وقرئ (تُرْجَعُونَ) بفتح التاء (١) (الْحَقُ) الذي يحق له الملك ، لأن كل شيء منه وإليه. أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه. وصف العرش بالكرم لأن الرحمة تنزل منه والخير والبركة. أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين ، كما يقال : بيت كريم ، إذا كان ساكنوه كراما. وقرئ. الكريم ، بالرفع. ونحوه : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ). (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) كقوله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) وهي صفة لازمة ، نحو قوله (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) جيء بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان (٢). ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط

__________________

(١) قوله «وقرئ ترجعون بفتح التاء» عبارة النسفي : بفتح التاء وكسر الجيم. (ع)

(٢) قال محمود : «لا برهان له به : إما صفة لازمة ، أو كلام معترض لأن في الصفة إفهاما لأن إلها سوى الله يمكن أن يكون به برهان» قال أحمد : إن كان صفة فالمقصود بها التهكم بمدعى إله مع الله ، كقوله (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) فنفى إنزال السلطان به وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان ولا غير منزل ، ومن جنس مجيء الجملة بعد النكرة وصرفها عن أن تكون صفة لها : ما قدمه عند قوله تعالى (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) حيث أعرب الزمخشري موعدا مصدرا ناصبا لمكانا سوى ، واعترضه بأن المصدر الموصوف لا يعمل إلا على كره ، واعتذرت عنه بصرف الجملة عن أن تكون صفة وجعلها معترضة مؤكدة لمعنى الكلام ، والله أعلم.

٢٠٦

والجزاء ، كقولك : من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان منه ، فالله مثيبه. وقرئ : أنه لا يفلح بفتح الهمزة. ومعناه : حسابه عدم الفلاح ، والأصل : حسابه أنه لا يفلح هو ، فوضع الكافرون موضع الضمير ، لأنّ (مَنْ يَدْعُ) في معنى الجمع ، وكذلك (حِسابُهُ ... إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) في معنى «حسابهم أنهم لا يفلحون».

جعل فاتحة السورة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وأورد في خاتمتها (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالروح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت (١).

وروى : أنّ أوّل سورة قد أفلح وآخرها من كنوز العرش ، من عمل بثلاث آيات من أوّلها ، واتعظ بأربع آيات من آخرها : فقد نجا وأفلح (٢)

وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يسمع عنده دوىّ كدوىّ النحل ، فمكثنا ساعة ، فاستقبل القبلة ورفع يده وقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا» ثم قال «لقد أنزلت علىّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنة» ثم قرأ : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم العشر (٣).

__________________

(١) تقدمت أسانيده.

(٢) لم أجده.

(٣) أخرجه الترمذي والنسائي ، وعبد الرزاق ، والحاكم وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة ، وعبد. كلهم من رواية يونس بن سليم الصنعاني عن يونس عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد عن عمر. قال النسائي : هذا حديث منكر. تفرد به يونس بن سليم ولا أعرفه. وقال ابن أبى حاتم عن أبيه لا أعرفه ولا أعرف هذا الحديث عن الزهري وقال الترمذي [كذا بياض بالأصل] : وقال العقيلي لا يتابع عليه يونس بن سليم ولا يعرف إلا به ، وبنحوه قال ابن عدى. وسئل عبد الرزاق عن شيخه يونس بن سليم هذا فقال : أظنه لا شيء

٢٠٧

سورة النور

مدنية ، وهي اثنتان وستون آية. وقيل : أربع وستون [نزلت بعد الحشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(١)

(سُورَةٌ) خبر مبتدإ محذوف. و (أَنْزَلْناها) صفة. أو هي مبتدأ موصوف والخبر محذوف ، أى : فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. وقرئ بالنصب على : زيدا ضربته ، ولا محل لأنزلناها ، لأنها مفسرة للمضمر فكانت في حكمه. أو على : دونك سورة أو اتل سورة. وأنزلناها : صفة. ومعنى (فَرَضْناها) فرضنا أحكامها التي فيها. وأصل الفرض : القطع ، أى : جعلناها واجبة مقطوعا بها ، والتشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيده. أو لأنّ فيها فرائض شتى ، وأنك تقول : فرضت الفريضة ، وفرّضت الفرائض. أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم (تَذَكَّرُونَ) بتشديد الذال وتخفيفها ، رفعهما على الابتداء ، والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه ، على معنى : فيما فرض عليكم.

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢)

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) أى جلدهما. ويجوز أن يكون الخبر : (فَاجْلِدُوا) ، وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمينه معنى الشرط (١) ، تقديره : التي زنت ، والذي زنى

__________________

(١) قال محمود : «في الرفع وجهين ، أحدهما : الابتداء والخبر محذوف ، وهو إعراب الخليل وسيبويه. والتقدير : وفيما فرض عليكم الزانية والزاني ، أى : جلدهما. الثاني : أن يكون الخبر فاجلدوا ، ودخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وقد ضمن معنى الشرط» قال أحمد : وإنما عدل سيبويه إلى هذا الذي نقله عنه لوجهين : لفظي ومعنوي. أما اللفظي فلأن الكلام أمر وهو يخيل اختيار النصب ، ومع ذلك قراءة العامة ، فلو جعل فعل الأمر خبرا وبنى المبتدأ عليه لكان خلاف المختار عند الفصحاء ، فالتجأ إلى تقدير الخبر حتى لا يكون المبتدأ مبنيا على الأمر ، فخلص من مخالفة الاختيار ، وقد مثلهما سيبويه في كتابه بقوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ـ

٢٠٨

فاجلدوهما ، كما تقول : من زنى فاجلدوه ، وكقوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ) وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر ، وهو أحسن من سورة أنزلناها لأجل الأمر. وقرئ : والزان ، بلا ياء. والجلد : ضرب الجلد ، يقال : جلده ، كقولك : ظهره وبطنه ورأسه. فإن قلت : أهذا حكم جميع الزناة والزواني ، أم حكم بعضهم؟ قلت : بل هو حكم من ليس بمحصن منهم ، فإنّ المحصن حكمه الرجم. وشرائط الإحصان عند أبى حنيفة ست : الإسلام ، والحرية ، والعقل ، والبلوغ ، والتزوج بنكاح صحيح ، والدخول. إذا فقدت واحدة منها فلا إحصان. وعند الشافعي : الإسلام ليس بشرط ، لما روى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا (١). وحجة أبى حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم «من أشرك بالله فليس بمحصن (٢)» فإن قلت : اللفظ يقتضى تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني ، لأن قوله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) عام في الجميع ، يتناول المحصن وغير المحصن. قلت : الزانية والزاني يدلان على الجنسين المنافيين لجنسى العفيف والعفيفة دلالة مطلقة والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعا ، فأيهما قصد المتكلم فلا عليه ، كما يفعل بالاسم المشترك. وقرئ : ولا يأخذكم ، بالياء. ورأفة ، بفتح الهمزة. ورآفة على فعالة. والمعنى : أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجدّ والمتانة فيه ، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده. وكفى برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة في ذلك حيث قال «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها (٣)» وقوله (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه وقيل لا تترحموا عليهما حتى لا تعطلوا الحدود أو حتى لا توجعوهما ضربا. وفي الحديث «يؤتى بوال

__________________

ـ فِيها أَنْهارٌ ...) الآية ووجه التمثيل أنه صدر الكلام بقوله (مَثَلُ الْجَنَّةِ) ولا يستقيم جزما أن يكون قوله (فِيها أَنْهارٌ) خبره ، فتعين تقدير خبره محذوفا. وأصله : فيما نقص عليكم مثل الجنة ، ثم لما كان هذا إجمالا لذكر المثل فصل بقوله (فِيها أَنْهارٌ) إلى آخرها ، فكذلك هاهنا ، كأنه قال : وفيما فرض عليكم شأن الزانية والزاني ، ثم فصل هذا المجمل بما ذكر من أحكام الجلد ، ويناسب هذا ترجمة الفقهاء في كتبهم حيث يقولون مثلا : الصلاة ، الزكاة ، السرقة. ثم يذكرون في كل باب أحكامه ، يريدون مما يصنف فيه ويبوب عليه : الصلاة ، وكذلك غيرها ، فهذا بيان المقتضى عند سيبويه ، لاختيار حذف الخبر من حيث الصناعة اللفظية. وأما من حيث المعنى فهو أن المعنى أتم وأكمل على حذف الخبر ، لأن يكون قد ذكر حكم الزانية والزاني مجملا حيث قال : الزانية والزاني وأراد : وفيما فرض عليكم حكم الزانية والزاني ، فلما تشوف السامع إلى تفصيل هذا المجمل ذكر حكمهما مفصلا ، فهو أوقع في النفس من ذكره أول وهلة ، والله أعلم.

(١) متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما

(٢) أخرجه إسحاق والدارقطني تفرد برفعه إسحاق. قلت : قال إسحاق في مسنده أن شيخه حدثه به مرة أخرى موقوفا.

(٣) متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.

٢٠٩

نقص من الحدّ سوطا ، فيقول : رحمة لعبادك ، فيقال له : أأنت أرحم بهم منى ، فيؤمر به إلى النار. ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار (١)» وعن أبى هريرة : إقامة حدّ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة (٢). وعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلا عالما بصيرا يعقل كيف يضرب. والرجل يجلد قائما على مجرّده (٣) ليس عليه إلا إزاره ، ضربا وسطا لا مبرحا ولا هينا ، مفرّقا على الأعضاء كلها لا يستثنى منها إلا ثلاثة : الوجه ، والرأس ، والفرج. وفي لفظ الجلد : إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم. والمرأة تجلد قاعدة ، ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو ، وبهذه الآية استشهد أبو حنيفة على أن الجلد حدّ غير المحصن بلا تغريب. وما احتج به الشافعي على وجوب التغريب من قوله صلى الله عليه وسلم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام (٤)» وما يروى عن الصحابة : أنهم جلدوا ونفوا (٥) : منسوخ عنده وعند أصحابه بالآية. أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقول الشافعي في تغريب الحرّ واحد ، وله في العبد ثلاثة أقاويل : يغرب سنة كالحرّ ، ويغرب نصف سنة كما يجلد خمسين جلدة ، ولا يغرب كما قال أبو حنيفة. وبهذه الآية نسخ الحبس الأذى في قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) ، وقوله تعالى (فَآذُوهُما). قيل : تسميته عذابا دليل على أنه عقوبة. ويجوز أن يسمى عذابا ، لأنه يمنع من المعاودة كما سمى نكالا.

الطائفة : الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة ، وأقلها ثلاثة أو أربعة ، وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء. وعن ابن عباس في تفسيرها : أربعة إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله. وعن الحسن : عشرة. وعن قتادة : ثلاثة فصاعدا. وعن عكرمة : رجلان فصاعدا. وعن مجاهد : الواحد فما فوقه. وفضل قول ابن عباس ، لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها هذا الحد والصحيح أن هذه الكبيرة من أمّهات الكبائر ، ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله

__________________

(١) لم أجده بهذا اللفظ وعند أبى يعلى من رواية عمرو بن ضرار عن حذيفة مرفوعا «يؤتى بالذي ضرب فوق الحد فيقول له الله تعالى : عبدى ، لم ضربته فوق الحد؟ فيقول غضبا لك. فيقول : أكان غضبك أشد من غضبي. ويؤتى بالذي قصر فيقول عبدى لم قصرت؟ فيقول : رحمته. فيقول أكانت رحمتك أشد من رحمتي. ثم يؤمر بهما جميعا إلى النار»

(٢) أخرجه النسائي من طريق أبى زرعة عنه موقوفا وأخرجه النسائي أيضا وابن حبان وأحمد وابن ماجة والطبرانى من هذا الوجه مرفوعا. وقال «أربعين صباحا» ولأحمد «ثلاثين أو أربعين صباحا» وفي الباب عن ابن عمر ، أخرجه ابن ماجة بلفظ «إقامة حد من حدود الله تعالى خير من مطر أربعين ليلة»

(٣) قوله «على مجرده» في الصحاح : فلان حسن المجرد ، أى : المعرى اه ، أى : المكشوف عن الثياب. (ع)

(٤) أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث عبادة بن الصامت في أثناء حديث

(٥) أخرجه الترمذي والحاكم من حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب ، وأن أبا بكر ضرب وغرب ، وأن عمر ضرب وغرب.

٢١٠

(وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) ، وقال : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) وعن النبي صلى الله عليه وسلم «يا معشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا ، وثلاث في الآخرة. فأما اللاتي في الدنيا : فيذهب البهاء ؛ ويورث الفقر ، وينقص العمر. وأما اللاتي في الآخرة : فيوجب السخطة ، وسوء الحساب ، والخلود في النار» (١) ولذلك وفي الله فيه عقد المائة بكماله ، بخلاف حد القذف وشرب الخمر. وشرع فيه القتلة الهولة وهي الرجم ، ونهى المؤمنين عن الرأفة على المجلود فيه ، وأمر بشهادة الطائفة للتشهير ، فوجب أن تكون طائفة يحصل بها التشهير ، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة ، واختصاصه المؤمنين لأن ذلك أفضح ، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل. ويشهد له قول ابن عباس رضى الله عنهما : إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله.

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٣)

الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والتقحب ، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء واللاتي على خلاف صفته ، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله ، أو في مشركة. والفاسقة الخبيثة المسافحة. كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها ، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين. ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنى : محرّم عليه محظور ؛ لما فيه من التشبه بالفساق ، وحضور موقع التهمة ، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد. ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرّض لاقتراف الآثام ، فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب ، وقد نبه على ذلك بقوله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) وقيل : كان بالمدينة موسرات من بغايا المشركين ، فرغب فقراء المهاجرين في نكاحهنّ ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت. وعن عائشة رضى الله عنها أن الرجل إذا زنى بامرأة ، ليس له أن يتزوجها

__________________

(١) أخرجه البيهقي في الشعب في السابع والثلاثين وابن مردويه وابن أبى حاتم وأبو نعيم في الحلية في ترجمة أبى وائل عن حذيفة ، بلفظ «يا معشر الناس» وفي آخره : ثم تلا (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) قال أبو نعيم : تفرد به مسلمة بن على الحسنى عن أبى عبد الرحمن الكوفي عن الأعمش وهو ضعيف ، وقال البيهقي : مسلمة متروك. وعبد الرحمن مجهول ، وأخرجه الثعلبي من رواية معاوية بن يحيى عن الأعمش فيحتمل أن يكون هو أبو عبد الرحمن المذكور. وفي الباب عن أنس أخرجه الخطيب وابن الجوزي من طريقه وفي إسناده كعب بن عمرو بن جعفر وهو غير ثقة. ورواه الواحدي في الوسيط غالبا من طريق أبى الدنيا الأشج عن على مرفوعا والأشج ادعى أنه سمع من على بعد الثلاثمائة فسمع منه أبو بكر المفيد وغيره وأخباره معروفة.

٢١١

لهذه الآية ، وإذا باشرها كان زانيا. وقد أجازه ابن عباس رضى الله عنهما وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك؟ فقال : أوله سفاح وآخره نكاح. والحرام لا يحرم الحلال. وقيل : المراد بالنكاح الوطء ، وليس بقول لأمرين ، أحدهما : أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم ترد إلا في معنى العقد. والثاني : فساد المعنى وأداؤه إلى قولك : الزاني لا يزنى إلا بزانية والزانية لا يزنى بها إلا زان. وقيل : كان نكاح الزانية محرّما في أول الإسلام ثم نسخ ، والناسخ قوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ). وقيل الإجماع ، وروى ذلك عن سعيد بن المسيب رضى الله عنه. فإن قلت : أى فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت : معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر. ومعنى الثانية : صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة ، وهما معنيان مختلفان (١). فإن قلت : كيف قدمت الزانية على الزاني أولا ، ثم قدم عليها ثانيا؟ قلت : سيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا ، والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية ؛ لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن ، فلما كانت أصلا وأولا في ذلك بدأ بذكرها. وأمّا الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه ، لأنه هو الراغب والخاطب ،

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت أى فرق بين الجملتين في المعنى؟ قلت : معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ، ولكن في الفواجر ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان» قال أحمد : وليس فيما ذكره إيضاح إطباق الجملتين. ونحن نوضحه فنقول : الأقسام أربعة : الزاني لا يرغب إلا في زانية. الزانية لا ترغب إلا في زان. العفيف لا يرغب إلا في عفيفة. العفيفة لا ترغب إلا في عفيف. وهذه الأقسام الأربعة مختلفة المعاني ، وحاصرة للقسمة فنقول : اختصرت الآية من هذه الأربعة قسمين ، واقتصرت على قسمين أحرى من المسكوت عنهما ، فجاءت مختصرة جامعة ، فالقسم الأول صريح في القسم الأول ويفهم الثالث ، والقسم الثاني صريح في القسم الثاني ويفهم الرابع ، والقسم الثالث والرابع متلازمان ، من حيث أن المقتضى لانحصار رغبة العفيف في العفيفة هو اجتماعهما في العفة ، وذلك بعينه مقتض لانحصار رغبتها فيه ، ثم يقصر التعبير عن وصف الزناة والأعفاء بما لا يقل عن ذكر الزناة وجودا وسلبا ، فان معنى الأول الزانية لا ينكحها عفيف ، ومعنى الثاني : العفيفة لا ينكحها زان. والسر في ذلك أن الكلام في أحكامهم ، فذكر الأعفاء بسلب نقائصهم ، حتى لا يخرج بالكلام عما هو المقصود منه ، ثم بينه في إسناد النكاح في هذين القسمين المذكور دون الإناث ، بخلاف قوله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) فانه جعل لكل واحد منهما ثم استقلالا ، وقدم الزانية على الزاني. والسبب فيه أن الكلام الأول في حكم الزنا ، والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الايماض والاطماع ، والكلام الثاني في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة ، والأصل في النكاح الذكور وهم المبتدءون بالخطبة ، فلم يسند إلا لهم لهذا ـ وإن كان الغرض من الآية تنفير الأعفاء من الذكور والإناث من مناكحة الزناة ذكورا وإناثا ، زجرا لهم عن الفاحشة ـ ولذلك قرن الزنا والشرك. ومن ثم كره مالك رحمه الله مناكحة المشهورين بالفاحشة ، وقد نقل بعض أصحابه الإجماع في المذهب على أن للمرأة أو لمن قام من أوليائها فسخ نكاح الفاسق. ومالك أبعد الناس من اعتبار الكفاءة إلا في الدين. وأما في النسب ، فقد بلغه أنهم فرقوا بين عربية ومولى فاستعظمه وتلا (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

٢١٢

ومنه يبدأ الطلب. وعن عمرو بن عبيد رضى الله عنه : لا ينكح ، بالجزم على النهى. والمرفوع فيه أيضا معنى النهى ، ولكن أبلغ وآكد ، كما أن «رحمك الله ، ويرحمك» أبلغ من «ليرحمك» ويجوز أن يكون خبرا محضا على معنى : أن عادتهم جارية على ذلك ، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصوّن عنها. وقرئ : وحرم ، بفتح الحاء(١).

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

القذف يكون بالزنى وبغيره ، والذي دل على أن المراد قذفهن بالزنى شيئان ، أحدهما : ذكر المحصنات عقيب الزواني. والثاني : اشتراط أربعة شهداء ، لأنّ القذف بغير الزنى يكفى فيه شاهدان ، والقذف بالزنى أن يقول الحرّ العاقل البالغ لمحصنة : يا زانية ، أو لمحصن : يا زانى ، يا ابن الزاني ، يا ابن الزانية ، يا ولد الزنا ، لست لأبيك ، لست لرشدة. والقذف بغير الزنا أن يقول : يا آكل الربا ، يا شارب الخمر ، يا يهودى ، يا مجوسي ، يا فاسق ، يا خبيث ، يا ماص بظر أمّه : فعليه التعزير ، ولا يبلغ به أدنى حد العبيد وهو أربعون ، بل ينقص منه. وقال أبو يوسف : يجوز أن يبلغ به تسعة وسبعون. وقال : للإمام أن يعزر إلى المائة. وشروط إحصان القذف خمسة : الحرية ، والبلوغ ، والعقل ، والإسلام ، والعفة. وقرئ : بأربعة شهداء ، بالتنوين. وشهداء : صفة. فإن قلت : كيف يشهدون مجتمعين أو متفرّقين؟ قلت : الواجب عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم أن يحضروا في مجلس واحد ، وإن جاءوا متفرقين كانوا قذفة. وعند الشافعي رضى الله عنه : يجوز أن يحضروا متفرّقين. فإن قلت : هل يجوز أن يكون زوج المقذوفة واحدا منهم؟ قلت : يجوز عند أبى حنيفة خلافا للشافعي. فإن قلت : كيف يجلد القاذف؟ قلت : كما جلد الزاني ، إلا أنه لا ينزع عنه من ثيابه إلا ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو. والقاذفة أيضا كالزانية ، وأشدّ الضرب ضرب التعزير ، ثم ضرب الزنا ، ثم ضرب شرب الخمر ، ثم ضرب القاذف. قالوا : لأنّ سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب ، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض وردعا عن هتكها. فإن قلت : فإذا لم يكن المقذوف محصنا؟ قلت : يعزر القاذف ولا يحدّ ، إلا أن يكون المقذوف معروفا بما قذف به فلا حدّ ولا تعزير. ردّ شهادة القاذف معلق عند أبى حنيفة رضى الله عنه باستيفاء الحد ، فإذا شهد قبل الحد أو قبل

__________________

(١) قوله «بفتح الحاء» لعله : بفتح الحاء والراء. (ع)

٢١٣

تمام استيفائه قبلت شهادته ، فإذا استوفى لم تقبل شهادته أبدا وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء. وعند الشافعي رضى الله عنه : يتعلق ردّ شهادته بنفس القذف ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه ، عاد مقبول الشهادة. وكلاهما متمسك بالآية ، فأبو حنيفة رضى الله عنه جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي : الجلد ، وردّ الشهادة عقيب الجلد على التأييد ، فكانوا مردودى الشهادة عنده في أبدهم وهو مدة حياتهم ، وجعل قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) كلاما مستأنفا غير داخل في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية. و (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء من الفاسقين. ويدل عليه قوله (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والشافعي رضى الله عنه جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا. غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفا ، وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف وجعل الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية. وحق المستثنى عنده أن يكون مجرورا بدلا من «هم» في «لهم» وحقه عند أبى حنيفة رضى الله عنه أن يكون منصوبا لأنه عن موجب ، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط ، كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردّوا شهادتهم وفسقوهم أى : فاجمعوا لهم الجلد والردّ والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإنّ الله يغفر لهم فينفلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين. فإن قلت. الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع ، والقاذف من المسلمين يتوب عن القذف فلا تقبل شهادته عند أبى حنيفة رضى الله عنه ، كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام؟ قلت : المسلمون لا يعبئون بسب الكفار ، لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل ، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يلحقه بقذف مسلم مثله ، فشدّد على القاذف من المسلمين ردعا وكفا عن إلحاق الشنار (١). فإن قلت : هل للمقذوف أو للإمام أن يعفو عن حدّ القاذف؟ قلت : لهما ذلك قبل أن يشهد الشهود ويثبت الحدّ ، والمقذوف مندوب إلى أن لا يرافع القاذف ولا يطالبه بالحدّ. ويحسن من الإمام أن يحمل المقذوف على كظم الغيظ ويقول له : أعرض عن هذا ودعه لوجه الله قبل ثبات الحدّ : فإذا ثبت لم يكن لواحد منهما أن يعفو لأنه خالص حق الله ، ولهذا لم يصح أن يصالح عنه بمال. فإن قلت : هل يورث الحدّ؟ قلت : عند أبى حنيفة رضى الله عنه لا يورث ، لقوله صلى الله عليه وسلم «الحدّ لا يورث» وعند الشافعي رضى الله عنه يورث ، وإذا تاب القاذف قبل أن يثبت الحدّ سقط. وقيل : نزلت هذه الآية في حسان بن ثابت رضى الله عنه حين تاب مما قال في عائشة رضى الله عنها.

__________________

(١) قوله «الشنار» في الصحاح «الشنار» العيب والعار. (ع)

٢١٤

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٩)

قاذف امرأته إذا كان مسلما حرا بالغا عاقلا ، غير محدود في القذف ، والمرأة بهذه الصفة مع العفة : صح اللعان بينهما ، إذا قذفها بصريح الزنى. وهو أن يقول لها : يا زانية ، أو : زنيت ، أو رأيتك تزنين. وإذا كان الزوج عبدا ، أو محدودا في قذف ، والمرأة محصنة : حدّ كما في قذف الأجنبيات ، وما لم ترافعه إلى الإمام لم يجب اللعان. واللعان : أن يبدأ الرجل فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى ، ويقول في الخامسة : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنى. وتقول المرأة أربع مرات : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى ، ثم تقول في الخامسة : أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رمانى به من الزنى. وعند الشافعي رضى الله عنه : يقام الرجل قائما حتى يشهد والمرأة قاعدة ، وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد ، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه ويقول له : إنى أخاف إن لم تكن صادقا أن تبوء بلعنة الله ، وقال : اللعان بمكة بين المقام والبيت ، وبالمدينة على المنبر ، وبيت المقدس في مسجده ، ولعان المشرك في الكنيسة وحيث يعظم ، وإذا لم يكن له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام ، لقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) ثم يفرق القاضي بينهما ، ولا تقع الفرقة بينهما إلا بتفريقه عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم ، إلا عند زفر ، فإن الفرقة تقع باللعان. وعن عثمان البتى : لا فرقة أصلا. وعند الشافعي رضى الله عنه تقع بلمان الزوج ، وتكون هذه الفرقة في حكم التطليقة البائنة عند أبى حنيفة ومحمد رضى الله عنهما ولا يتأبد حكمها ، فإذا أكذب الرجل نفسه بعد ذلك فحدّ جاز أن يتزوجها. وعند أبى يوسف وزفر والحسن بن زياد والشافعي رضى الله عنهم : هي فرقة بغير طلاق توجب تحريما مؤبدا ، ليس لهما أن يجتمعا بعد ذلك بوجه. وروى أن آية القذف لما نزلت (١) قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فقام

__________________

(١) وفي الخازن : سبب نزول هذه الآية ما روى عن سهل بن سعد الساعدي أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم

٢١٥

عاصم بن عدى الأنصارى رضى الله عنه فقال : جعلني الله فداك ، إن وجد رجل مع امرأته رجلا فأخبر جلد ثمانين وردّت شهادته أبدا وفسق ، وإن ضربه بالسيف قتل ، وإن سكت سكت على غيظ ، وإلى أن يجيء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى : اللهم افتح. وخرج فاستقبله هلال بن أمية أو عويمر فقال : ما وراءك؟ قال شر : وجدت على بطن امرأتى خولة ـ وهي بنت عاصم ـ شريك بن سحماء ، فقال : هذا والله سؤالى ، ما أسرع ما ابتليت به! فرجعا ، فأخبر عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلم خولة فقالت : لا أدرى ، ألغيرة أدركته؟ أم بخلا على الطعام ـ وكان شريك نزيلهم ـ وقال هلال : لقد رأيته على بطنها. فنزلت ، ولا عن بينهما. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند قوله وقولها : أنّ لعنة الله عليه ، إن غضب الله عليها : آمين ، وقال القوم : آمين ، وقال لها : إن كنت ألممت بذنب فاعترفى به ، فالرجم أهون عليك من غضب الله ، إن غضبه هو النار. وقال : تحينوا بها الولادة فإن جاءت به أصيهب أثيبج (١) يضرب إلى السواد فهو لشريك ، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به» قال ابن عباس رضى الله عنهما : فجاءت بأشبه خلق الله لشريك. فقال صلى الله عليه وسلم : «لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن». وقرئ : ولم تكن ، بالتاء ، لأنّ الشهداء جماعة. أو لأنهم في معنى الأنفس التي هي بدل. ووجه من قرأ أربع أن ينتصب ، لأنه في حكم المصدر والعامل فيه المصدر الذي هو (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) وهي مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فواجب شهادة أحدهم أربع شهادات بالله. وقرئ أن لعنة الله ، وأن غضب الله :

على تخفيف أن ورفع ما بعدها. وقرئ : أن غضب الله ، على فعل الغضب. وقرئ : بنصب الخامستين (٢) ، على معنى : وتشهد الخامسة. فإن قلت : لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله؟ قلت : تغليظا عليها ، لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخلابتها (٣) وإطماعها ،

__________________

ـ ابن عدى فقال لعاصم أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أيضا عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البينة أو حدّ في ظهرك ، فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : البينة أو حد في ظهرك فنزل جبريل بقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) ـ الآية.

(١) قوله «فان جاءت به أصيهب أثيبج» في الصحاح «الصهبة» الشقرة في شعر الرأس والرجل أصهب. وفيه : ثبج كل شيء وسطه. والأثبج : العريض الثبج ويقال الناتئ الثبج اه وما في الحديث تصغيرهما. وفيه أيضا «الخدلجة» بتشديد اللام المرأة الممتلئة الذراعين والساقين. (ع)

(٢) قوله «وقرئ بنصب الخامستين» في النسفي : أنه لا خلاف في رفع الخامسة الأولى على المشهور. (ع)

(٣) قوله «بخلابتها» في الصحاح «الخلابة» الخديعة باللسان. (ع)

٢١٦

ولذلك كانت مقدّمة في آية الجلد. ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم لخولة «فالرجم أهون عليك من غضب الله».

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)(١٠)

الفضل : التفضل ، وجواب «لو لا» متروك ، وتركه دال على أمر عظيم لا يكتنه ، ورب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به.

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١)

الإفك : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك. وأصله : الأفك ، وهو القلب ، لأنه قول مأفوك عن وجهه. والمراد : ما أفك به على عائشة رضى الله عنها. والعصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، وكذلك العصابة. واعصوصبوا : اجتمعوا ، وهم عبد الله بن أبىّ رأس النفاق ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح ابن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ، ومن ساعدهم. وقرئ : كبره بالضم والكسر ، وهو عظمه (١). والذي تولاه عبد الله ، لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانتهازه الفرص ، وطلبه سبيلا إلى الغميزة.

أى يصيب كل خائض في حديث الإفك من تلك العصبة نصيبه من الإثم على مقدار خوضه. والعذاب العظيم لعبد الله ، لأنّ معظم الشرّ كان منه. يحكى أن صفوان رضى الله عنه مرّ بهودجها عليه وهو في ملأ من قومه فقال : من هذه؟ فقالوا : عائشة رضى الله عنها ، فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها. والخطاب في قوله (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لمن ساءه ذلك من المؤمنين ، وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبى بكر ، وعائشة ، وصفوان بن المعطل رضى الله عنهم. ومعنى كونه خيرا لهم : أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم ، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة ، وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية له ، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها ، وتطهير لأهل البيت ، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو

__________________

(١) قوله «وهو عظمه» في الصحاح : عظم الشيء : أكثره ومعظمه. (ع)

٢١٧

سمع به فلم تمجه أذناه ، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة ، وفوائد دينية ، وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ)(١٢)

(بِأَنْفُسِهِمْ) أى بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات ، كقوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) (١) وذلك نحو ما يروى أن أبا أيوب الأنصارى قال لأم أيوب : ألا ترين ما يقال؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا؟ قال : لا. قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة رضى الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعائشة خير منى ، وصفوان خير منك (٢). فإن قلت : هلا قيل : لو لا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم؟ ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت : ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، وليصرح بلفظ الإيمان ، دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول غائب ولا طاعن. وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه ، أن يبنى الأمر فيها على الظنّ لا على الشك. وأن يقول بملء فيه بناء على ظنه بالمؤمن الخير : (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته. كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له ، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بأخوات.

(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ)(١٣)

__________________

(١) قال محمود : «معناه ظنوا بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات ، كقوله تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم» قال أحمد : والسر في هذا التعبير : تعطيف المؤمن على أخيه وتوبيخه على أن يذكره بسوء ، وتصوير ذلك بصورة من أخذ يقذف نفسه ويرميها بما ليس فيها من الفاحشة ، ولا شيء أشنع من ذلك ، والله أعلم.

(٢) عاد كلامه. قال : ونقل أن أبا أيوب الأنصارى قال لامرأته : ألا ترين مقالة الناس؟ قالت له : لو كنت بدل صفوان أكنت تخون في حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا؟ قال : لا. قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنته ، وصفوان خير منك وعائشة خير منى» قال أحمد : ولقد ألهمت بنور الايمان إلى هذا السر الذي انطوى عليه التعبير عن الغير من المؤمنين بالنفس ، فإنها نزلت زوجها منزلة صفوان ، ونفسها منزلة عائشة ، ثم أثبتت لنفسها ولزوجها البراءة والأمانة ، حتى أثبتتها لصفوان وعائشة بطريق الأولى رضى الله عنها. ويحتمل والله أعلم خلاف ما قاله الزمخشري : وهو أن يكون التعبير بالأنفس حقيقة ، والمقصود إلزام سيئ الظن بنفسه ، لأنه لم يعتد بوازع الايمان في حق غيره ، وألغاه واعتبره في حق نفسه ، وادعى لها البراءة قبل معرفته بحكم الهوى لا بحكم الهدى ، والله أعلم.

٢١٨

جعل الله التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب : ثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفاءها ، والذين رموا عائشة رضى الله عنها لم تكن لهم بينة على قولهم ، فقامت عليهم الحجة وكانوا (عِنْدَ اللهِ) أى في حكمه وشريعته كاذبين. وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره ، واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع : من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة ، والتنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين ، فكيف بأمّ المؤمنين الصدّيقة بنت الصدّيق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبة حبيب الله؟

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)(١٥)

لو لا الأولى للتحضيض ، وهذه لامتناع الشيء لوجود غيره. والمعنى : ولو لا أنى قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة ، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة ، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. يقال : أفاض في الحديث ، واندفع ، وهضب ، وخاض (إِذْ) ظرف لمسكم ، أو لأفضتم (تَلَقَّوْنَهُ) يأخذه بعضكم من بعض. يقال : تلقى القول وتلقنه وتلقفه. ومنه قوله تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) وقرئ على الأصل : تتلقونه. وإذ تلقونه ، بإدغام الذال في التاء (١). وتلقونه ، من لقيه بمعنى لقفه. وتلقونه ، من إلقائه بعضهم على بعض. وتلقونه وتألقونه ، من الولق والألق : وهو الكذب. وتلقونه : محكية عن عائشة رضى الله عنها ، وعن سفيان : سمعت أمى تقرأ : إذ تثقفونه (٢) ، وكان أبوها يقرأ بحرف عبد الله بن مسعود رضى الله عنه. فإن قلت : ما معنى قوله (بِأَفْواهِكُمْ) والقول لا يكون إلا بالفم؟ قلت : معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه اللسان (٣). وهذا الإفك ليس إلا قولا يجرى على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب ، كقوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ،

__________________

(١) قوله «وإذ تلقونه» لعل رسمه هكذا «واتلقونه» إلا أن يعتبر ما قبل الإدغام. (ع)

(٢) قوله «سمعت أمى تقرأ إذا تثقفونه» وفي نسخة تنقفونه ، بمعنى تتبعونه ، وكلا النسختين قراءة. (ع)

(٣) قال محمود : «إن قلت القول لا يكون إلا بالأفواه ، فما فائدة ذكرها؟ قلت : المراد أن هذا القول لم يكن عبارة عن علم قام بالقلب ، وإنما هو مجرد قول اللسان» قال أحمد : ويحتمل أن يكون المراد المبالغة ، أو تعريضا بأنه ربما يتمشدق ويقضى تمشدق جازم عالم ، وهذا أشد وأقطع ، وهو السر الذي أنبا عنه قوله تعالى (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) والله أعلم.

٢١٩

أى : تحسبونه صغيرة وهو عند الله كبيرة موجبة (١). وعن بعضهم أنه جزع عند الموت ، فقيل له ، فقال : أخاف ذنبا لم يكن منى على بال وهو عند الله عظيم. وفي كلام بعضهم : لا تقولنّ لشيء من سيئاتك حقير ، فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها ، أحدها : تلقى الإفك بألسنتهم ، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول له : ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع وانتشر ؛ فلم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه. والثاني : التكلم مما لا علم لهم به. والثالث : استصغارهم لذلك و «وعظيمة من العظائم.

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ)(١٦)

فإن قلت : كيف جاز الفصل بين لو لا وقلتم؟ قلت : للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها وأنها لا تنفك عنها ، فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها. فإن قلت : فأىّ فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلا؟ قلت : الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أوّل ما سمعوا بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت أهمّ وجب التقديم. فإن قلت : فما معنى يكون ، والكلام بدونه متلئب (٢) لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا؟ قلت : معناه معنى : ينبغي ، ويصح أى : ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا. وما يصح لنا. ونحوه : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. و (سُبْحانَكَ) للتعجب من عظم الأمر (٣). فإن قلت : ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت : الأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه ، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه أو لتنزيه الله تعالى من أن تكون حرمة نبيه عليه السلام فاجرة. فإن قلت : كيف جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ قلت : لأنّ الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويستعطفوهم ،

__________________

(١) قوله «وهو عند الله كبيرة موجبة» لعله موجبة للعقاب. (ع)

(٢) قوله «والكلام بدونه متلئب» لعله : محرف ، وأصله مستتب. وفي الصحاح : استتب الأمر : تهيأ واستقام. (ع)

(٣) قال محمود : «معناه التعجب من عظم الأمر ، وأصله أن الإنسان إذا رأى عجيبا من صنائع الله تعالى سبحه ، ثم كثر حتى استعمل عند كل متعجب منه ، ثم أوردها هنا سؤالا على توبيخهم على ترك التعجب فقال: إن قلت : لم جاز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة ، ولم يكن كفرها متعجبا منه وفجورها متعجب منه؟ قلت : لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويتزلفوا إليهم ، وكفر الزوجة غير مانع ولا منفر بخلاف الكشخنة» قال أحمد : وما أورد عليه أبرد من هذا السؤال ، كأن أحدا يشكل عليه أن ينسب الفاحشة إلى مثل عائشة ، مما ينكره كل عاقل ويتعجب منه كل لبيب ، والله الموفق ،

٢٢٠