الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

إنما يقوله ما دام حيا ، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ، ويأتينا رافضا له منفردا عنه غير قائل له ، أو لا ننسى قوله هذا ولا نلغيه ، بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به (وَيَأْتِينا) على فقره ومسكنته (فَرْداً) من المال والولد ، لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه ، فيجتمع عليه الخطبان : تبعة قوله ووباله ، وفقد المطموع فيه. فردا على الوجه الأول: حال مقدرة نحو (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) لأنه وغيره سواء في إتيانه فردا حين يأتى ، ثم يتفاوتون بعد ذلك.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)(٨٢)

أى ليتعززوا بآلهتهم حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصارا ينقذونهم من العذاب (كَلَّا) ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة. وقرأ ابن نهيك (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) أى سيجحدون كلا سيكفرون بعبادتهم ، كقولك : زيدا مررت بغلامه. وفي محتسب ابن جنى : كلا بفتح الكاف والتنوين ، وزعم أن معناه كل هذا الرأى والاعتقاد كلا. ولقائل أن يقول : إن صحت هذه الرواية فهي كلا التي هي للردع ، قلب الواقف عليها ألفها نونا كما في قواريرا. والضمير في (سَيَكْفُرُونَ) للآلهة ، أى : سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون : والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون. قال الله تعالى (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أو للمشركين : أى ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا قد عبدوها. قال الله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)(عَلَيْهِمْ ضِدًّا) في مقابلة (لَهُمْ عِزًّا) والمراد ضدّ العز وهو الذل والهوان ، أى : يكونون عليهم ضدا لما قصدوه وأرادوه ، كأنه قيل : ويكونون عليهم ذلا ، لا لهم عزا أو يكونون عليهم عونا ، والضدّ : العون. يقال من أضدادكم : أى أعوانكم وكأن العون سمى ضدا لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه. فإن قلت : لم وحد؟ قلت : وحد توحيده قوله عليه السلام : «وهم يد على من سواهم (١)» لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامهم وتوافقهم ومعنى كون الآلهة عونا عليهم : أنهم وقود النار وحصب جهنم ، ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها

__________________

(١) هذا طرف من حديث لعلى رضى الله عنه ، أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وإسحاق والحاكم من طريق قيس بن عباد عن على رضى الله عنه «أنه أخرج من قراب سيفه كتابا عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه ـ وذكره. وفيه هذا» وروى ابن ماجة من حديث ابن عباس رفعه قال «المسلمون تتكافأ دماؤهم. وهم يد على من سواهم ـ الحديث» وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أخرجه أبو داود وابن ماجة وأحمد والبزار والطبراني من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه ، وعن عبد الله بن عمر ، أخرجه ابن حبان. وعن معقل ابن يسار أخرجه ابن ماجة.

٤١

وإن رجعت الواو في سيكفرون ويكونون إلى المشركين ، فإن المعنى : ويكونون عليهم ـ أى أعداءهم ـ ضدا ، أى : كفرة بهم ، بعد أن كانوا يعبدونها.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)(٨٣)

الأز ، والهزّ ، والاستفزاز : أخوات ، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج ، أى : تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات. والمعنى : خلينا بينهم وبينهم (١) ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم قسرا. والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار ، وأقاويلهم ، وملاحتهم ، ومعاندتهم للرسل ، واستهزاؤهم بالدين : من تماديهم في الغىّ وإفراطهم في العناد ، وتصميمهم على الكفر ، واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشكّ عنه ، وإنهما كهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوّل لهم ،

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا)(٨٤)

عجلت عليه بكذا : إذا استعجلته منه ، أى : لا تعجل عليهم بأن يهلكوا ويبيدوا ، حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم ، وتطهر الأرض بقطع دابرهم ، فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة ، كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لو عدت. ونحوه قوله تعالى (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) ، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) وعن ابن عباس رضى الله عنه : أنه كان إذا قرأها بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك ، آخر العدد فراق أهلك ، آخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها ، فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد ، فما أسرع ما تنفد.

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً)(٨٥)

نصب (يَوْمَ) بمضمر ، أى يوم (نَحْشُرُ) ونسوق : نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. أو اذكر يوم نحشر. ويجوز أن ينتصب بلا يملكون. ذكر المتقون بلفظ التبجيل ، وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وخصهم برضوانه وكرامته ، كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عندهم. وعن علىّ رضى الله عنه : ما يحشرون والله على أرجلهم ، ولكنهم على نوق رحالها ذهب ، وعلى نجائب سروجها ياقوت (٢).

__________________

(١) قوله «والمعنى خلينا بينهم وبينهم» هذا هو الموافق لمذهب المعتزلة ، من أنه تعالى لا يفعل الشر. أما على مذهب أهل السنة من أنه تعالى يفعل الشر كالخير ، فالمناسب : سلطناهم عليهم. (ع)

(٢) أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند ، والطبري وابن أبى حاتم من رواية عبد الرحمن ـ

٤٢

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً)(٨٦)

وذكر الكافرون بأنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورود : العطاش لأنّ من يرد الماء لا يرده إلا لعطش وحقيقة الورد : المسير إلى الماء ، قال :

ردى ردى ورد قطاة صمّا

كدريّة أعجبها برد الما (١)

فسمى به الواردون. وقرأ الحسن : يحشر المتقون ، ويساق المجرمون.

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)(٨٧)

الواو في (لا يَمْلِكُونَ) إن جعل ضميرا (٢) فهو للعباد ، ودل عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة. ويجوز أن تكون علامة للجمع ، كالتي في «أكلونى البراغيث» والفاعل (مَنِ اتَّخَذَ) لأنه في معنى الجمع ، ومحل (مَنِ اتَّخَذَ) رفع على البدل ، أو على الفاعلية. ويجوز أن ينتصب على تقدير حذف المضاف ، أى : إلا شفاعة من اتخذ. والمراد : لا يملكون أن يشفع لهم ، واتخاذ العهد : الاستظهار بالإيمان والعمل. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم : «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا» قالوا : وكيف ذلك؟ قال : «يقول كل صباح ومساء : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إنى أعهد إليك بأنى أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا

__________________

ـ ابن إسحاق بن النعمان بن سعد بن على نحوه ، وأخرجه ابن أبى داود في كتاب البعث من هذا الوجه مرفوعا. ورواه ابن عدى من حديث ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعا أيضا.

(١) يخاطب ناقته. وردى : أمر من الورود ، وتكريره للتوكيد. والورد : اسم مصدر منه أيضا ، أو اسم للماء المورود ، أى : ردى الماء كورود قطاء صماء لا تسمع صوت القانص فلا تنفر عن الماء : والكدر ـ بالضم ـ نوع من القطار مادى اللون ، والكدرية : نسبة إليه ، من نسبة الجزئى إلى كليه ، وهذه الياء هي الفارقة بين اسم الجنس وواحده ، كروم ورومي. وفيه تشبيه ناقته ضمنا بالقطاة في الخفة والسرعة. وصما والما : بالقصر ، فان رويا بالمد والسكون على أن الشعر من مشطور المنسرح الموقوف ، فمحله حرف الألف.

(٢) قال محمود : «يحتمل أن تكون الواو في لا يملكون ضميرا ... الخ» قال أحمد : وفي هذا الوجه تعسف من حيث أنه إذا جعله علامة لمن فقد كشف معناها وأفصح بأنها متناولة جمعا ، ثم أعاد على لفظها بالافراد ضمير اتخذ ، ففيه الاعادة على لفظها بعد الاعادة على معناها بما يخالف ذلك ، وهو مستنكر عندهم لأنه إجمال بعد إيضاح ، وذلك تعكيس في طريق البلاغة ، وإنما محجتها الواضحة الإيضاح بعد الإجمال. والواو على إعرابه ، وإن لم تكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد له ، فتنبه لهذا العقد ، فانه أروج من النقد :

وفي عنق الحسناء يستحسن العقد

٤٣

عبدك ورسولك ، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقرّبنى من الشر وتباعدني من الخير ، وأنى لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الرحمن عهد ، فيدخلون الجنة ، (١) وقيل : كلمة الشهادة. أو يكون من «عهد الأمير إلى فلان بكذا» إذا أمره به ، أى لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) ، (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) ، (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً).

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً)(٩١)

قرئ (إِدًّا) بالكسر والفتح. قال ابن خالويه : الإدّ والأدّ : العجب. وقيل : العظيم المنكر. والإدّة : الشدّة. وأدنى الأمر وآدنى : أثقلنى وعظم علىّ إدّا (تَكادُ) قراءة الكسائي ونافع بالياء. وقرئ «ينفطرن» (٢) الانفطار من فطره إذا شقه. والتفطر ، من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه. وقرأ ابن مسعود : ينصدعن ، أى تهد هدّا ، أو مهدودة ، أو مفعول له ، أى : لأنها تهدّ. فإن قلت : ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن الله سبحانه يقول : كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض (٣) والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا منى على من

__________________

(١) أخرجه الثعلبي قال : روى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود ـ فذكره بتمامه ، وروى ابن مردويه في تفسير الأحزاب من طريق عوف بن عبد الله عن رجل من بنى سليم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العهد أن تقول : اللهم فاطر السموات والأرض ـ الحديث أصغر مما ذكر» ورواه الحاكم من وجه آخر عن عون عن ابن ماجة عن الأسود عن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال الله تعالى يقول يوم القيامة : من كان له عندي عهد فليقم ، قال فقلنا : فعلمنا يا أبا عبد الرحمن قال : فاقرؤا : اللهم فاطر السموات والأرض ـ فذكره مختصرا ، وفي الباب عن أبى بكر رضى الله عنه ، أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر في السادس والسبعين بعد المائة.

(٢) قوله «وقرئ ينفطرن» يفيد أن القراءة المشهورة «يتفطرن» بالتاء. (ع)

(٣) قال محمود : «معناه : كدت أهدّ السموات وأفطر الأرض ... الخ» قال أحمد : ويظهر لي وراءها معنى آخر والله أعلم ، وذلك أن الله تعالى قد استعار لدلالتها على وجوده عز وجل موصوفا بصفات الكمال الواجبة له ، أن جعلها تسبح بحمده. قال تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها : أن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه :

٤٤

تفوّه بها ، لو لا حلى ووقارى ، وأنى لا أعجل بالعقوبة كما قال (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً). والثاني: أن يكون استعظاما للكلمة ، وتهويلا من فظاعتها ، وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده ، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات : أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخرّ. وفي قوله (لَقَدْ جِئْتُمْ) وما فيه من المخاطبة بعد الغيبة ، وهو الذي يسمى الالتفات في علم البلاغة زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله ، والتعرّض لسخطه ، وتنبيه على عظم ما قالوا. في (أَنْ دَعَوْا) ثلاثة أوجه : أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في منه ، كقوله :

على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم (١)

ومنصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل ، أى : هذا لأن دعوا ، علل الخرور بالهدّ ، والهدّ بدعاء الولد للرحمن. ومرفوعا بأنه فاعل هذا ، أى هدها دعاء الولد للرحمن. وفي اختصاص الرحمن وتكريره مرات من الفائدة أنه هو الرحمن وحده ، لا يستحق هذا الاسم غيره ، من قبل أنّ أصول النعم وفروعها منه : خلق العالمين ، وخلق لهم جميع ما معهم ، كما قال بعضهم : فلينكشف عن بصرك غطاؤه ، فأنت وجميع ما عندك عطاؤه. فمن أضاف إليه ولدا فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن. هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين ، فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني ، طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعى له ولدا. أو من دعا بمعنى نسب ، الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام «من ادعى إلى غير مواليه (٢)» وقول الشاعر :

إنّا بنى نهشل لا ندّعى لأب (٣)

أى لا ننتسب إليه.

__________________

 ـ وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

فالمعتقد نسبة الولد إلى الله تعالى قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه الله وتقديسه ، فاستعير لابطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها ، إبطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق «فسبحان من قسم عباده ، فجعل العباد ، تستلذ فتسبح بتسبيح داود ، يكاد ينهد لمقاله من هو عن باب التوفيق مطرود مردود.

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٤٣٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) لم أره بلفظ «من ادعي» وإنما هو عند مسلم بلفظ «انتمى» أخرجه من حديث على بن أبى طالب رفعه «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه ـ الحديث»

(٣) إنا بنى نهشل لا ندعى لأب

عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

يكفيه إن نحن متنا أن يسر بنا

وهو إذا ذكر الآباء يكفينا

لبشامة بن حزن النهشلي ، ويقال : ادعى فلان في بنى هاشم ولهم وإليهم ، أى : انتسب إليهم وادعى عنهم إذا انتسب لغيرهم. وعدل عنهم يقول : إنا لا ننتسب لأب غير نهشل ، وبنى نهشل : نصب على الاختصاص يفيد المدح ولا هو يشرينا ، أى يبيعنا ويستبدلنا بأبناء غيرنا ، ثم قال : يكفيه منا سروره بنا إن متنا ولحقناه ، حيث أوجبنا له ـ

٤٥

(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً)(٩٢)

انبغى : مطاوع «بغى» إذا طلب ، أى : ما يتأتى له اتخاذ الولد وما ينطلب لو طلب مثلا ، لأنه محال غير داخل تحت الصحة. أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها. وأما التبني فلا يكون إلا فيما هو من جنس المتبنى ، وليس للقديم سبحانه جنس ، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)(٩٥)

(مَنْ) موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة ، وقوعها بعد رب في قوله :

ربّ من أنضجت غيظا صدره (١)

وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة (آتِي الرَّحْمنِ) على أصله قبل الإضافة. الإحصاء الحصر والضبط يعنى : حصرهم بعلمه وأحاط بهم (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) الذين اعتقدوا في الملائكة وعيسى وعزير

__________________

ـ ولنا الثناء الجميل من شجاعتنا وحسن خصالنا. و «إن» بمعنى «إذا» لأن الموت لا شك فيه. ويروى «أن يسب» بباء ، ولعل معناه : لا مسبة له غير موتنا في القتال ، يعنى : إن كان ذلك مسبة وليس كذلك ، ويمكن أن تعبيره بالكفاية ليفيد أنه مستغن عن المدح من جهة أبنائه عند التفاخر. وعند عد مآثر الآباء لا نحتاج لغيره ، فننتسب له لنشرف بشرفه.

(١) رب من أنضجت غيظا قلبه

قد تمنى لي موتا لم يطع

ويرانى كالشجا في حلقه

عسرا مخرجه ما ينتزع

لم يضرني غير أن يحسدني

فهو يزقو مثل ما يزقو الضوع

ويحيينى إذا لاقيته

وإذا يخلو له لحمى رتع

لسويد بن أبى كاهل اليشكري ، ويتعين أن «من» نكرة موصوفة ، لأن رب لا تجر إلا النكرة ، ونضج اللحم والعنب ونحوهما نضجا فهو نضيج وناضج : أدرك وبلغ أوانه واستوى ، أى : رب شخص طبخت قلبه من حر غيظه منى ولم يطع ، أى لا يستطاع تحمل سببه. والشجا : ما نشب في الحلق من عظم ونحوه. وعسرا الخ : حال منه. ومخرجه أى خروجه مرفوع بالوصف ، لم يضرني شيئا من الضرر غير الحسد ، من ضاره يضيره ضيرا إذا ضره ، فهو يزقو أى يصيح مثل صياح الضوع : وهو ذكر اليوم ، وكثر تشبيه العرض المطعون فيه باللحم المأكول على طريق التصريحية ، ثم شبهه الشاعر بالمرعى المخصب ترتع فيه البهائم. أو شبه المغتاب بهيمة في المرعي على طريق المكنية والرتع تخبيل. ويحتمل استعارته للأكل الملائم للحم ، ثم للطعن الملائم للعرض على طريق التصريح ، أى : إذا يخلو له عرضي اغتاب كما يريد.

٤٦

أنهم أولاد الله ، كانوا بين كفرين ، أحدهما : القول بأن الرحمن يصح أن يكون والدا. والثاني: إشراك الذين زعموهم لله أولادا في عبادته ، كما يخدم الناس أبناء الملوك خدمتهم لآبائهم ، فهدم الله الكفر الأول فيما تقدم من الآيات ، ثم عقبه بهدم الكفر الآخر. والمعنى : ما من معبود لهم في السموات والأرض من الملائكة ومن الناس إلا وهو يأتى الرحمن ، أى : يأوى إليه ويلتجئ إلى ربوبيته عبدا منقادا مطيعا خاشعا خاشيا راجيا ، كما يفعل العبيد وكما يجب عليهم ، لا يدعى لنفسه ما يدعيه له هؤلاء الضلال. ونحوه قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) وكلهم متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره وهو مهيمن عليهم محيط بهم وبحمل أمورهم وتفاصيلها وكيفيتهم وكميتهم ، لا يفوته شيء من أحوالهم ، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردا ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم برآء منهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا)(٩٦)

قرأ جناح بن حبيش (وُدًّا) بالكسر : والمعنى : سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودّد منهم ولا تعرّض للأسباب التي توجب الود ويكتسب بها الناس مودات القلوب ، من قرابة أو صداقة أو اصطناع بمبرة أو غير ذلك ، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصا منه لأوليائه بكرامة خاصة ، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم. والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا دجا الإسلام. وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم. وروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى رضى الله عنه : «يا علىّ قل اللهم اجعل لي عندك عهدا ، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة (١)» فأنزل الله هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : يعنى يحبهم الله ويحبهم إلى خلقه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يا جبريل قد أحببت فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادى في أهل السماء : إنّ الله قد أحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يضع له المحبة في أهل الأرض (٢)» وعن قتادة : ما أقبل العبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه.

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والطبراني في مسند حمزة الزيات ، وابن مردويه من حديث البراء بن عازب رضى الله عنهما وفيه إسحاق بن بشر عن خالد بن زيد ، وهما متروكان.

(٢) متفق عليه من حديث أبى هريرة بمعناه.

٤٧

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)(٩٨)

هذه خاتمة السورة ومقطعها ، فكأنه قال : بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر ، فإنما أنزلناه (بِلِسانِكَ) أى بلغتك وهو اللسان العربي المبين ، وسهلناه وفصلناه (لِتُبَشِّرَ بِهِ) وتنذر. واللدّ : الشداد الخصومة بالباطل ، الآخذون في كل لديد ، أى في كل شق من المراء والجدال لفرط لجاجهم ، يريد أهل مكة.

وقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنا) تخويف لهم وإنذار. وقرئ (تُحِسُ) من حسه إذا شعر به. ومنه الحواس والمحسوسات. وقرأ حنظلة (تَسْمَعُ) مضارع أسمعت. والركز : الصوت الخفي.

ومنه : ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. والركاز : المال المدفون. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة مريم أعطى عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به ، ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهرون وإسماعيل وإدريس ، وعشر حسنات بعدد من دعا الله في الدنيا وبعدد من لم يدع الله» (١).

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبىّ.

٤٨

سورة طه

مكية [إلا آيتي ١٣٠ و ١٣١ فمدنيتان] وهي ١٣٥ آية [نزلت بعد مريم]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى)(٤)

(طه) أبو عمرو فخم الطاء لاستعلائها. وأمال الهاء وفخمها ابن كثير وابن عامر على الأصل ، والباقون أمالوهما. وعن الحسن رضى الله عنه : طه ، وفسر بأنه أمر بالوطء ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه (١) معا ، وأن الأصل طأ ، فقلبت همزته هاء ، أو قلبت ألفا في يطأ فيمن قال :

لا هناك المرتع (٢)

ثم بنى عليه الأمر ، والهاء للسكت. ويجوز أن يكتفى بشطرى الاسمين وهما الدالان بلفظهما

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد في تفسيره قال : حدثنا هاشم بن القاسم بن أبى جعفر عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم قام على رجل ورفع الأخرى ، فأنزل الله طه يعنى طأ الأرض» وروى ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن قطر بن خليفة عن منذر الثوري عن محمد بن الحنفية عن على «لما نزل يا أيها المزمل قام الليل كله حتى ورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع الأخرى فهبط عليه جبريل ، فقال «طه طأ الأرض بقدميك يا محمد» وأخرجه البزار من وجه آخر عن على «كان النبي صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» ومن طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى (طه) قال «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قرأ القرآن إذا صلى ، فقام على رجل واحدة ، فأنزل الله طأها برجليك» وأخرجه البيهقي في الشعب الرابع عشر من وجه آخر عن ميمون بن مهران عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أنزل عليه الوحى كان يقوم على صدور قدميه إذا صلى. فأنزل الله (طه).

(٢) نزع ابن بشر وابن عمرو قبله

وأخو هراة لمثلها يتوقع

راحت بمسلمة البغال عشية

فارعى فزارة لا هناك المرتع

للفرزدق ، يهجو عمرو بن زهرة الفزاري ، وقد ولى العراق بعد عبد الملك بن بشر بن مروان ، وكان على البصرة ومحمد ابن عمرو بن الوليد بن عقبة ، وكان على الكوفة. يقول : ذهب ابن بشر وابن عمرو ، وأخو هراة أى صاحبها وواليها. وهراة من بلاد العراق أيضا. يتوقع : أى يترقب وينتظر مثل حاله من قبله. راحت ، وروى : مضت ، أى ذهبت البغال بمسلمة بن عبد الملك كما يفيد شرح المراح ، وكان يمنع بنى فزارة من الرعي في أرض العراق ، ففر إلى الشام وترك الملك ، فارعى يا فزارة ما شئت يخاطب القبيلة بذلك ، وإشارة إلى أنه كان محرما عليهم ، فأبيح بعد مسلمة. وأرعى : بفتح العين وسكون الياء ؛ لأن مضارعه مفتوح العين. ولا هناك المرتع : دعا عليهم. يقال : هناك الطعام ومراك ، بتخفيف الهمز : انهضم في بطنك وأراحك ونفعك ، فإذا انفرد الثاني قلت : أمراك الطعام ، وتخفيف الهمزة بقبلها ألفا : صرفه كما هنا شاذ ، وقياس تخفيفها في مثل هذا جعلها بين بين لعدم سكون ما قبلها.

٤٩

على المسميين ، والله أعلم بصحة ما يقال : إن «طاها» في لغة عك (١) في معنى يا رجل ، ولعل عكا تصرفوا في «يا هذا» كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء ، فقالوا في «يا» : «طا» ، واختصروا هذا فاقتصروا على ها ، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به :

إنّ السّفاهة طاها في خلائقكم

لا قدّس الله أخلاق الملاعين (٢)

والأقوال الثلاثة في الفواتح : أعنى التي قدمتها في أول الكاشف عن حقائق التنزيل ، هي التي يعوّل عليها الألباء المتقنون (ما أَنْزَلْنا) إن جعلت (طه) تعديدا لأسماء الحروف على الوجه السابق ذكره فهو ابتداء كلام. وإن جعلتها اسما للسورة احتملت أن تكون خبرا عنها وهي في موضع المبتدأ ، و (الْقُرْآنَ) ظاهر أوقع موقع الضمير لأنها قرآن ، وأن يكون جوابا لها وهي قسم. وقرئ : ما نزل عليك القرآن (لِتَشْقى) لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) والشقاء يجيء في معنى التعب. ومنه المثل : أشقى من رائض مهر ، أى ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة ، بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة. وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحرث قالا له : إنك شقى لأنك تركت دين آبائك ، فأريد ردّ ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز ، والسبب في درك كل سعادة ، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وروى أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمعدت (٣) قدماه ، فقال له جبريل عليه السلام : أبق على نفسك فإن لها عليك حقا (٤). أى : ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة الفادحة ، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة ، وكل واحد من (لِتَشْقى) و (تَذْكِرَةً) علة للفعل ، إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية ، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. فإن قلت : أما يجوز أن تقول : ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى ، كقوله تعالى (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ)؟ قلت : بلى ولكنها نصبة طارئة ،

__________________

(١) قوله «في لغة عك» في الصحاح عك بن عدنان أخو معد وهو اليوم في اليمن. (ع)

(٢) السفاهة : الجهل والحمق والخفة. و «طه» في لغة عك ، معناه يا هذا ، فكأنهم قلبوا الياء طاء وحذفوا ذا. قال الزمخشري : ولا يخفى التصنع في البيت. والخلائق : الطبائع ، ودعا عليهم بأن الله لا يطهر أرواحهم ، ووضع المظهر موضع المضمر لزيادة الذم والتشنيع. وقيل : للدلالة على سبب الدعاء ، أى : فإنهم ملعونون ، ولعل معناه : فإنهم مستحقين للعن وفاعلون سببه.

(٣) قوله «حتى اسمغدت» بالغين المعجمة ، أى : تورمت. أفاده الصحاح. (ع)

(٤) لم أره هكذا. وفي الدعوات الكبير للبيهقي عن عائشة قالت «لما كانت ليلة النصف من شعبان ـ فذكر حديثا طويلا ـ وفيه : فما زال يصلى قائما وقاعدا حتى أصب ح وحتى اسمغدت قدماه. فقمت أغمزها ـ الحديث ـ وليس فيه كلام جبريل.

٥٠

كالنصبة في (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) وأما النصبة في تذكره فهي كالتي في ضربت زيدا ، لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها. فإن قلت : هل يجوز أن يكون (تَذْكِرَةً) بدلا من محل (لِتَشْقى)؟ قلت : لا ، لاختلاف الجنسين ، ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي «إلا» فيه بمعنى «لكن» ويحتمل أن يكون المعنى : إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل (١) متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوّة ، وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون تذكرة حالا ومفعولا له (لِمَنْ يَخْشى) لمن يؤول أمره إلى الخشية ، ولمن يعلم الله منه أنه يبدل بالكفر إيمانا وبالقسوة خشية. في نصب (تَنْزِيلاً) وجوه : أن يكون بدلا من تذكرة إذا جعل حالا ، لا إذا كان مفعولا له ؛ لأن الشيء لا يعلل بنفسه ، وأن ينصب بنزل مضمرا ، وأن ينصب بأنزلنا ، لأن معنى : ما أنزلناه إلا تذكرة : أنزلناه تذكرة ، وأن ينصب على المدح والاختصاص وأن ينصب بيخشى مفعولا به ، أى : أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله ، وهو معنى حسن وإعراب بين. وقرىّ : تنزيل ، بالرفع على خبر مبتدأ محذوف. ما بعد (تَنْزِيلاً) إلى قوله (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تعظيم وتفخيم لشأن المنزل ، لنسبته إلى من هذه أفعاله وصفاته. ولا يخلو من أن يكون متعلقه إما (تَنْزِيلاً) نفسه فيقع صلة له ، وإما محذوفا فيقع صفة له. فإن قلت : ما فائدة النقلة من لفظ المتكلم إلى لفظ الغائب؟ قلت : غير واحدة منها عادة الافتنان في الكلام وما يعطيه من الحسن والروعة. ومنها أنّ هذه الصفات إنما تسردت مع لفظ الغيبة. ومنها أنه قال أولا (أَنْزَلْنا) ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع. ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فضوعفت الفخامة من طريقين : ويجوز أن يكون (أَنْزَلْنا) حكاية لكلام جبريل والملائكة النازلين معه. وصف السموات بالعلى : دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها.

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى)(٦)

قرئ (الرَّحْمنُ) مجرورا صفة لمن خلق والرفع أحسن ، لأنه إما أن يكون رفعا على المدح على تقدير : هو الرحمن. وإما أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق. فإن قلت : الجملة التي هي

__________________

(١) قال محمود : «ويحتمل أن يكون المعنى إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل ... الخ» قال أحمد : وفي هذا الوجه الثاني بعد ، فان فيه إثبات كون الشقاء سببا في نزوله عكس الأول وإن لم تكن اللام سببية فكانت للصيرورة مثلا ولم يكن فيه ما جرت عادة الله تعالى به مع نبيه صلى الله عليه وسلم من نهيه عن الشقاء والحزن عليهم وضيق الصدر بهم ، وكان مضمون هذه الآية متباينا عن قوله تعالى (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) ، (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) و (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) وأمثاله كثيرة فالظاهر والله أعلم هو التأويل الأول

٥١

(عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ما محلها ـ إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح؟ قلت : إذا جررت فهي خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن تكون كذلك وأن تكون مع الرحمن خبرين للمبتدإ. لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك ، جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة ، وقالوه أيضا لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤدّاه وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر. ونحوه قولك : يد فلان مبسوطة ، ويد فلان مغلولة ، بمعنى أنه جواد أو بخيل ، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت ، حتى أنّ من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم : هو جواد. ومنه قول الله عز وجل (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أى هو بخيل ، (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) أى هو جواد ، من غير تصوّر يد ولا غل ولا بسط ، والتفسير بالنعمة والتمحل للتثنية من ضيق العطن والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام (وَما تَحْتَ الثَّرى) ما تحت سبع الأرضين : عن محمد بن كعب وعن السدى : هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة.

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(٨)

أى يعلم ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك ، وهو ما أخطرته ببالك ، أو ما أسررته في نفسك (وَأَخْفى) منه وهو ما ستسره فيها. وعن بعضهم : أن أخفى فعل (١) يعنى أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه ، هو كقوله تعالى (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) وليس بذاك. فإن قلت كيف طابق الجزاء الشرط؟ قلت : معناه وإن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غنى عن جهرك ، فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) وإما تعليما للعباد أنّ الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر (الْحُسْنى) تأنيث الأحسن ، وصفت بها الأسماء لأنّ حكمها حكم المؤنث

__________________

(١) قال محمود : «هو أفعل التفضيل ، ومنهم من قال إن أخفى فعل ماض ... الخ» قال أحمد : لا يخفى أن جعله فعلا قاصر لفظا ومعنى : أما لفظا فانه يلزم منه عطف الجملة الفعلية على الاسمية إن كان المعطوف عليه الجملة الكبرى ، أو عطف الماضي على المضارع إن كان المعطوف عليه الصغرى ، وكلاهما دون الأحسن. وأما معنى ، فان المقصود الحض على ترك الجهر بإسقاط فائدته من حيث أن الله تعالى يعلم السر وما هو أخفى منه ، فكيف يبقى للجهر فائدة وكلاهما على هذا التأويل مناسب لترك الجهر. وأما إذا جعل فعلا فيخرج عن مقصود السياق وإن اشتمل على فائدة أخرى ، وليس هذا كقوله تعالى (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) لأن بين السياقين اختلافا ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٥٢

كقولك : الجماعة الحسنى ، ومثلها (مَآرِبُ أُخْرى) ، و (مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى). والذي فضلت به أسماؤه في الحسن سائر الأسماء : دلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية ، والأفعال التي هي النهاية في الحسن.

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً)(١٠)

قفاه بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوّة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ، حتى ينال عند الله الفوز والمقام المحمود. يجوز أن ينتصب (إِذْ) ظرفا للحديث ، لأنه حدث. أو لمضمر ، أى : حين (رَأى ناراً) كان كيت وكيت. أو مفعولا لا ذكر استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الخروج إلى أمه وخرج بأهله ، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة ، وقد ضلّ الطريق وتفرّقت ماشيته ولا ماء عنده ، وقدح فصلد زنده (١) فرأى النار عند ذلك. قيل : كانت ليلة جمعة. (امْكُثُوا) أقيموا في مكانكم. الإيناس : الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء ، والإنس : لظهورهم ، كما قيل الجنّ لاستتارهم وقيل هو إبصار ما يؤنس به. لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعا متيقنا ، حققه لهم بكلمة «إنّ» ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين ، بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع وقال (لَعَلِّي) ولم يقطع فيقول : إنى (آتِيكُمْ) لئلا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به. القبس : النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما. ومنه قيل : المقبسة ، لما يقتبس فيه من سعفة أو نحوها (هُدىً) أى قوما يهدوننى الطريق أو ينفعوننى بهداهم في أبواب الدين ، عن مجاهد وقتادة ، وذلك لأنّ أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية في جميع أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل. والمعنى : ذوى هدى. أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. ومعنى الاستعلاء في (عَلَى النَّارِ) أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها ، كما قال سيبويه في مررت بزيد : أنه لصوق بمكان يقرب من زيد. أو لأنّ المصطلين بها والمستمتعين بها إذا تكنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها. ومنه قول الأعشى :

وبات على النّار النّدى والمحلّق (٢)

__________________

(١) قوله «فصلد زنده» في الصحاح «صلد الزند» إذا صوت ولم يخرج نارا. (ع)

(٢) لعمري لقد لا حت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في يفاع يخرق

تشب لمقرورين يصطليانها

وبات على النار الندى والمحلق

رضيعي لبان ثدي أم تقاسما

بأسحم داج عوض لا تتفرق

للأعشى يمدح المحلق ـ بكسر اللام ـ سمى بذلك لأن بعيره عضه في وجهه فبقى أثر العضة مثل الحلقة ، وهو من نبى

٥٣

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(١٤)

قرأ أبو عمرو وابن كثير (إِنِّي) بالفتح ، أى : نودي بأنى (أَنَا رَبُّكَ) وكسر الباقون ، أى : نودي فقيل يا موسى. أو لأنّ النداء ضرب من القول فعومل معاملته. تكرير الضمير في (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. روى أنه لما نودي (يا مُوسى) قال : من المتكلم؟ فقال له الله عز وجل : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ، وأن إبليس وسوس إليه فقال : لعلك تسمع كلام شيطان. فقال : أنا عرفت أنه كلام الله بأنى أسمعه من جميع جهاتى الست ، وأسمعه بجميع أعضائى. وروى أنه حين انتهى رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد (١) ، وسمع تسبيح الملائكة ، ورأى نورا عظيما فخاف وبهت ، فألقيت عليه السكينة ثم نودي ، وكانت الشجرة عوسجة. وروى : كلما دنا أو بعد لم يختلف ما كان يسمع من الصوت. وعن ابن إسحاق : لما دنا استأخرت عنه ، فلما رأى ذلك رجع وأوجس في نفسه خيفة ، فلما أراد الرجعة دنت منه ، ثم كلم. قيل : أمر بخلع النعلين لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير

__________________

ـ عكاظ ، كان فقيرا وله عشر بنات لا يرغب فيهن أحد لفقرهن ، فانعزل بهن إلى بعض المهامة فنزل به الأعشى فنحر له ناقته ولم يكن عنده غيرها وأحسن قراه. فعظم عند الأعشى ، فلما أصبح واستوى على راحلته قال له : ألك حاجة؟ قال : نعم ، أن تسير بذكرى في بنى عكاظ ، لعل أحدا يرغب في بناتي فقد مسهن العنس. فمدحه في عكاظ فلم يلبث حتى خطبت بناته. ولاحت : لمحت وتشوفت ، واليفاع : المشرف من الأرض. يخرق : أى يخترق ذلك الضوء وينتشر في الأرض. ويروى : تحرق ، بالحاء المهملة ، والضمير للنار. وتشب. منى للمجهول ، يقال : شبيت النار أشبها شبا وشبوبا : أو قدتها. والمقروران : اللذان أصابهما القر أي البرد ، وأراد بهما الندى والمحلق ، يعنى أنه هو وكرمه ملازمان لنار القرى ملازمة المقرور لنار التدفؤ ، وبين ذلك بقوله : وبات على النار الندى والمحلق. ويجوز أن الأعشى أراد نفسه والمحلق ، لكل الأول أوقع في المدح. ومعنى كونهما عليها : أنهما على جانبيها ولأن المتدفئ يكون أعلى منها بحيث يمد يده فوقها. وعطف المحلق على الندى دلالة على أنهما متلازمان متقارنان ، وبين ذلك بقوله : رضيعي لبان ، وهو حال منهما ، شبههما بالتوأمين دلالة على غاية التلازم حتى في الرحم بل وقبله. واللبان : لبن المرأة خاصة ، وهو مضاف إلى ثدي أم ، وتنوينها للافراد وإضافته له ؛ لأنه منه. ويجوز تنوينه. فثدى : بدل منه. والأسحم : الأسود الداجي المظلم ، أى تحالفا كما هو رواية أيضا في ليل مظلم. أو في الرحم المظلم. وعوض : ظرف مستقبل ، نصب بما بعده. لا نتفرق : جواب التحالف ، وكى بذلك كله عن شدة التلازم بينه وبين الكرم.

(١) قوله «كأنها نار بيضاء تتقد ... الخ» عبارة الخازن «أطافت بها نار ... الخ» وعبارة النسفي بدل قوله «رأى شجرة ... الخ» : «وجد نارا بيضاء تتوقد في شجرة خضراء من أعلاها إلى أسفلها وكانت شجرة العناب أو العوسج» (ع)

٥٤

مدبوغ (١) عن السدى وقتادة. وقيل : ليباشر الوادي بقدميه متبركا به. وقيل : لأن الحفوة تواضع لله ، ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين ، ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه ، وكان إذا ندر منه الدخول منتعلا تصدق ، والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها وتشريف لقدسها. وروى أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي (طُوىً) بالضم والكسر منصرف وغير منصرف بتأويل المكان والبقعة. وقيل : مرتين ، نحو ثنى (٢) ، أى نودي نداءين أو قدس الوادي كرة بعد كرة (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) اصطفيتك للنبوة. وقرأ حمزة : وإنا اخترناك. (لِما يُوحى) للذي يوحى. أو للوحى. تعلق اللام باستمع ، أو باخترتك (لِذِكْرِي) لتذكرني فإن ذكرى أن أعبد ويصلى لي. أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد. أو : لأنى ذكرتها في الكتب وأمرت بها. أو لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق. أو لذكرى خاصة لا تشوبه بذكر غيرى أو لإخلاص ذكرى وطلب وجهى لا ترائى بها ولا تقصد بها غرضا آخر. أو لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به ، كما قال (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ). أو لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة ، كقوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) واللام مثلها في قولك : جئتك لوقت كذا ، وكان ذلك لست ليال خلون. وقوله تعالى (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قوله عليه السلام «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها (٣)» وكان حق العبارة أن يقال : لذكرها ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ذكرها» ومن يتمحل له يقول : إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله. أو بتقدير حذف المضاف ، أى : لذكر صلاتي. أو لأن الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : للذكرى.

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (١٥)

__________________

(١) لم أره هكذا وفي الترمذي والحاكم عن عبد الله بن مسعود رفعه «يوم كلم الله موسى كان عليه جبة صوف ونعلان من جلد حمار ميت غير ذكى».

(٢) قوله «وقيل مرتين نحو ثنى» في الصحاح : وقال يعنى بعضهم في قوله تعالى (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) طوى مرتين ، أى قدس. وفيه أيضا «الثني» مقصور : الأمر يعاد مرتين اه ، فلعل أصل عبارته أيضا : وقيل طوى مرتين يعنى قدس وطهر مرتين. وظاهر العبارة أن طوى مثل ثنى بمعنى مرتين ، أى : نودي موسى مرتين ، أو قدس الوادي مرتين فهو منصوب بنودى أو بالمقدس. (ع)

(٣) متفق عليه من حديث أبى هريرة في قصة النوم عن الصلاة. وفي آخره : من نسى صلاة فليصلها إذا اذكرها فان الله تعالى قال (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) وفي رواية «لذكرى» وهو أيضا متفق عليه من حديث أنس مرفوعا بلفظ «من نسى صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها» زاد البخاري في رواية «أقم الصلاة لذكرى».

٥٥

أى أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية (١) لفرط إرادتى إخفاءها ؛ ولو لا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وقيل : معناه أكاد أخفيها من نفسي ، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف ، ومحذوف لا دليل عليه مطرح. والذي غرهم منه أن في مصحف أبى : أكاد أخفيها من نفسي. وفي بعض المصاحف : أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها وعن أبى الدرداء وسعيد بن جبير : أخفيها بالفتح ، من خفاه إذا أظهره ، أى : قرب إظهارها كقوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وقد جاء في بعض اللغات : أخفاه بمعنى خفاه. وبه فسر بيت امرئ القيس :

فإن تدفنوا الدّاء لا نخفه

وإن تبعثوا الحرب لا نقعد (٢)

فأكاد أخفيها محتمل للمعنيين (لِتُجْزى) متعلق بآية (بِما تَسْعى) بسعيها.

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى)(١٦)

أى : لا يصدنك عن تصديقها والضمير للقيامة. ويجوز أن يكون للصلاة. فإن قلت : العبارة لنهى من لا يؤمن عن صدّ موسى ، والمقصود نهى موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق فكيف صلحت هذه العبارة لأداء هذا المقصود؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب. فذكر السبب ليدل على المسبب. والثاني أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته ، فذكر المسبب ليدل على السبب ، كقولهم : لا أرينك هاهنا ، المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته ، وذلك سبب رؤيته إياه. فكان ذكر المسبب دليلا على السبب ، كأنه قيل : فكن شديد الشكيمة صليب المعجم (٣) ، حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه ، يعنى : أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير

__________________

(١) قال محمود : «معناه قاربت أن لا أقول هي آتية ... الخ» قال أحمد : ولا يقنع في رد هذا التأويل بالهوينا ، فانه بين الفساد ، وذلك أن خفاءها عن الله تعالى محال عقلا ، فكيف يوصف المحال العقلي بقرب الوقوع. وأحسن ما في محامل الآية ما ذكره الأستاذ أبو على حيث قال : المراد أكاد أزيل خفاءها ، أى : أظهرها ، إذ الخفاء الغطاء ، وهو أيضا ما تجعله المرأة فوق ثيابها يسترها ، ثم تقول العرب : أخفيته ، إذا أزلت خفاءه ، كما تقول أشكيته وأعتبته ، إذا أزلت شكايته وعتبه ، وحينئذ يلتئم القراءتان : أعنى فتح الهمزة وضمها ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(٢) يقال : خفاه ، إذا كتمه. وخفاه أيضا : أظهره ، وماهنا منه. والمعنى : إن تكتموا الضغائن التي بيننا نكتمها نحن أيضا ولا نظهرها. شبه الضغينة والعداوة بالداء بجامع نشأة الضرر عن كل على طريق التصريحية. وشبه الحرب بحيوان على طريق المكنية ، والبعث تخييل. أو استعمل البعث في التسبب مجازا مرسلا أو استعارة تصريحية. والمعنى : وإن تظهروا البغضاء وتوقدوا الهيجاء نغلبكم كما تعلمون منا.

(٣) قوله «صليب المعجم» في الصحاح عجمت العود : إذا عضضته لتعلم صلابته من خوره. ورجل صلب المعجم : إذا كان عزيز النفس. (ع)

٥٦

إذ لا شيء أطم على الكفرة ولا هم أشد له نكيرا من البعث ، فلا يهولنك وفور دهمائهم ولا عظم سوادهم ، ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك ، واعلم أنهم وإن كثروا تلك الكثرة فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه ، لا البرهان وتدبره. وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل ، وزجر بليغ عن التقليد ، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله.

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى)(١٨)

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) كقوله تعالى (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) في انتصاب الحال بمعنى الإشارة : ويجوز أن تكون (تِلْكَ) اسما موصولا صلته (بِيَمِينِكَ) إنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وعلا في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة (١) وليقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه ، وينبهه على قدرته الباهرة. ونظيره أن يريك الزرّاد زبرة من حديد ويقول لك : ما هي؟ فتقول : زبرة حديد ، ثم يريك بعد أيام لبوسا مسردا فيقول لك : هي تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة وأنيق السرد. قرأ ابن أبى إسحاق : عصىّ ، على لغة هذيل. ومثله (يا بُشْرى) أرادوا كسر ما قبل ياء المتكلم فلم يقدروا عليه ، فقلبوا الألف إلى أخت الكسرة وقرأ الحسن (عَصايَ) بكسر الياء لالتقاء الساكنين ، وهو مثل قراءة حمزة (بِمُصْرِخِيَ) وعن ابن أبى إسحاق : سكون الياء (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة (٢). هش الورق : خبطه ، أى : أخبطه على رؤس غنمي تأكله. وعن لقمان ابن عاد : أكلت حقا وابن لبون وجذع. وهشة نخب وسيلا دفع ، والحمد لله من غير شبع ، سمعته من غير واحد من العرب. ونخب : واد قريب من الطائف كثير السدر. وفي قراءة النخعي : أهش ، وكلاهما من هش الخبز يهش : إذا كان ينكسر لهشاشته. وعن عكرمة : أهس بالسين ، أى : أنحى عليها زاجرا لها. والهس : زجر الغنم. ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا ، كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال : ما هي إلا عصا لا تنفع إلا منافع بنات جنسها وكما تنفع العيدان ، ليكون جوابه مطابقا للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه. ويجوز أن يريد عزّ وجلّ أن يعدّد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ، ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة ، كأنه يقول له : أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتدّ بها وتحتفل

__________________

(١) قوله «حية نضناضة» أى تحرك لسانها في فمها. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قوله «الطفرة» أى الوثبة. (ع)

٥٧

بشأنها ، وقالوا : إنما سأله ليبسط منه ويقلل هيبته. وقالوا : إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه ، وقالوا : انقطع لسانه بالهيبة فأجمل ، وقالوا : اسم العصا نبعة. وقيل في المآرب : كانت ذات شعبتين ومحجن ، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين (١) على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظلّ وإذا قصر رشاؤه وصله بها ، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقى بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا ، وتكونان شمعتين بالليل ، وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ، ويركزها فينبع الماء ، فإذا رفعها نضب ، وكانت تقيه الهوام.

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى)(٢٠)

السعى : المشي بسرعة وخفة حركة. فإن قلت : كيف ذكرت بألفاظ مختلفة : بالحية ، والجان ، والثعبان؟ قلت : أمّا الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير. وأمّا الثعبان والجان فبينهما تناف ، لأنّ الثعبان العظيم من الحيات ، والجان الدقيق. وفي ذلك وجهان : أحدهما أنها كانت وقت انقلابها حيه تنقلب حية صفراء دقيقة ، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى تصير ثعبانا ، فأريد يا لجان أوّل حالها ، وبالثعبان مآلها. الثاني : أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان. والدليل عليه قوله تعالى : فلما رآها تهترّ كأنها جانّ. وقيل كان لها عرف كعرف الفرس. وقيل كان بين لحييها أربعون ذراعا.

(قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى)(٢١)

لما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفاز ما يملك البشر عند الأهوال والمخاوف. وعن ابن عباس : انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر ، فلما رآه يبتلع كل شيء خاف ونفر. وعن بعضهم : إنما خافها لأنه عرف ما لفي آدم منها. وقيل : لما قال له ربه (لا تَخَفْ) بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيها. السيرة من السير : كالركبة من الركوب. يقال : سار فلان سيرة حسنة ، ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. وقيل : سير الأوّلين ، فيجوز أن ينتصب على الظرف ، أى : سنعيدها في طريقتها الأولى ، أى : في حال ما كانت عصا ، وأن يكون. أعاد» منقولا من «عاده» بمعنى عاد

__________________

(١) قوله «عرض الزندين» في الصحاح «الزند» العود الذي بقدح به النار وهو الأعلى والزند السفلى فيها ثقب وهي الأنثى فإذا اجتمعا قيل زندان ولم يقل زندتان ، والجمع زناد وأزند وأزناد. ح

٥٨

إليه. ومنه بيت زهير :

وعادك أن تلاقيها عداء (١)

فيتعدى إلى مفعولين. ووجه ثالث حسن : وهو أن يكون (سَنُعِيدُها) مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها ، بمعنى أنها أنشئت أوّل ما أنشئت عصا ، ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية ، فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أوّلا. ونصب سيرتها بفعل مضمر ، أى : تسير سيرتها الأولى : يعنى سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها.

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى)(٢٣)

قيل لكل ناحيتين : جناحان ، كجناحى العسكر لمجنبتيه ، وجناحا الإنسان : جنباه ، والأصل المستعار منه جناحا الطائر. سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران. والمراد إلى جنبك تحت العضد ، دل على ذلك قوله (تَخْرُجْ). السوء : الرداءة والقبح في كل شيء ، فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة ، وكان جذيمة صاحب الزباء (٢) أبرص فكنوا عنه بالأبرش (٣) والبرص أبغض شيء إلى العرب ، وبهم عنه نفرة عظيمة ، وأسماعهم لاسمه مجاجة ، فكان جديرا بأن يكنى عنه ، ولا نرى أحسن ولا ألطف ولا أحز للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. يروى أنه كان آدم فأخرج يده من مدرعته بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يعشى البصر. (بَيْضاءَ) و (آيَةً) حالان معا. و (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من صلة لبيضاء ، كما تقول ابيضت من غير سوء ، وفي نصب (آيَةً) وجه آخر ، وهو أن يكون بإضمار نحو : خذ ، ودونك ، وما أشبه

__________________

(١) فصرم حبلها إذ صرمته

وعادك أن تلاقيها عداء

لزهير. أى : اقطع مودتها حيث قطعت مودتك ، شبه المودة بالحبل على طريق الاستعارة التصريحية ، والتصريم ترشيح وتقوية للتشبيه. وعادك : يحتمل أنه من عاد إذا رجع ، فالمعنى : رجعك وردك ، يحتمل أنه مقلوب من عداه إذا صرفه ، كما في «ناء» مقلوب «نأى» فالمعنى صرفك. قال أبو عمير : وعادك بمعنى شغلك. وقال الأصمعى : بمعنى : عاد إليك ، وبمعنى صرفك. ومن المعلوم أن الفعل إذا كان لازما تعدى بالهمزة إلى المفعول قياسا ، وإذا تعدى بنفسه إلى مفعول واحد تعدى بدخول الهمزة عليه إلى مفعولين. واختلف هل هو قياس أو سماعي؟ وأعاد منه ، فيجري فيه ما ذكر. وأما تعديته إلى أن تلاقيها أيضا فهو بإسقاط الخافض توسعا. والعداء : الشغل أو البعد : ويطلق على الجور ، من عدا عليه. قال الجوهري : العداء ـ بالفتح ـ الظلم ، ويجوز كسره بمعنى المانع ، لأن العداء هو ما يعدى به أى يصرف به. كاللواذ لما يلاذ به. والرباط لما يربط به. والمعنى : اقطع مودتها حيث قطعت مودتك. وصرفك عن ملاقاتها صارف عظيم ، ونسبة الصرف إليه مجاز عقلى من قبيل الاسناد إلى السبب أو الآلة. ويحتمل أن أصله «عدا» بالكسر والقصر جمع عدو. فمد للضرورة ، أى : منعك الأعداء عن لقائها فالاسناد حقيقى

(٢) قوله «وكان جذيمة صاحب الزباء» جذيمة ملك الحيرة والزباء ملكة الجزيرة كذا في الصحاح. (ع)

(٣) قوله «فكنوا عنه بالأبرش» في الصحاح البرش في الفرس نقط صغار تخالف سائر لونه والفرس أبرش. (ع)

٥٩

ذلك ، حذف لدلالة الكلام ، وقد تعلق بهذا المحذوف (لِنُرِيَكَ) أى خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصاحية لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى. أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا. أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي)(٢٨)

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً)(٣٣)

(وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥))

لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي لعنه الله عرف أنه كلف أمرا عظيما وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش (١) رابط وصدر فسيح ، فاستوهب ربه أن يشرح صدره ويفسح قلبه ، ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات ، وأن يسهل عليه في الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة معاظم الشؤون ومقاساة جلائل الخطوب. فإن قلت : (لِي) في قوله (اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) ما جدواه (٢) والكلام بدونه مستتب (٣)؟ قلت : قد أبهم الكلام أولا فقيل : اشرح لي ويسر لي ، فعلم أن ثم مشروحا وميسرا ، ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما ، فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره ، من أن يقول : اشرح صدري ويسر أمرى على الإيضاح الساذج ، لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقى الإجمال

__________________

(١) قوله «ذو جأش» في الصحاح يقال فلان رابط الجأش أى يربط نفسه عن الفرار لشجاعته. (ع)

(٢) قال محمود : «إن قلت ما فائدة لي والكلام مستتب بدونها .. الخ ، قال أحمد : ويحتمل عندي والله أعلم أن تكون فائدتها الاعتراف بأن منفعة شرح الصدر راجعة إليه وعائدة عليه ، فان الله عز وجل لا ينتفع بإرساله ولا يستعين بشرح صدره ، تعالى وتقدس ، على خلاف رسول الملك إذا طلب منه أن يريح عليه فإنما يطلب منه ما يعود نفعه على مرسله ، ويحصل له غرضه من رسالته ، والله أعلم.

(٣) قوله «مستتب» في الصحاح : استتب الأمر تهيأ واستقام. (ع)

٦٠