الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

قرئ : والبحر ، بالنصب عطفا على اسم إنّ ، وبالرفع عطفا على محل إن ، ومعمولها على. ولو ثبت (١) كون الأشجار أقلاما ، وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر. أو على الابتداء والواو للحال ، على معنى. ولو أنّ الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدودا ، وفي قراءة ابن مسعود : وبحر يمدّه على التنكير ، ويجب أن يحمل هذا على الوجه الأوّل. وقرئ : يمدّه ، ويمدّه. وبالتاء والياء. فإن قلت : كان مقتضى الكلام أن يقال : ولو أنّ الشجر أقلام ، والبحر مداد. قلت : أغنى عن ذكر المداد قوله : يمدّه ، لأنه من قولك : مدّ الدواة وأمدّها ، جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا ، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع. والمعنى : ولو أنّ أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر. وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد ، كقوله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي). فإن قلت : زعمت أنّ قوله (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ) حال في أحد وجهى الرفع ، وليس فيه ضمير راجع إلى ذى الحال. قلت : هو كقوله :

وقد اغتدى والطّير في وكناتها (٢)

و : جئت والجيش مصطف ، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. ويجوز أن يكون المعنى : وبحرها ، والضمير للأرض. فإن قلت : لم قيل (مِنْ شَجَرَةٍ) على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت : أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة ، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلاما. فإن قلت : الكلمات جمع قلة ، والموضع موضع التكثير لا التقليل. فهلا قيل : كلم الله؟ قلت : معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار ، فكيف بكلمة؟ وعن ابن عباس رضى الله عنهما : أنها نزلت جوابا لليهود لما قالوا «قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة» وقيل : إن المشركين قالوا : إنّ هذا يعنون الوحى ـ كلام سينفد ، فأعلم الله أن كلامه لا ينفد. وهذه الآية عند بعضهم مدنية ، وأنها نزلت بعد الهجرة ، وقيل هي مكية ، وإنما أمر اليهود وقد قريش أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست تتلو فيما أنزل عليك : أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء (حَكِيمٌ) لا يخرج من علمه وحكمته شيء ، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه.

__________________

(١) قوله «ومعمولها على : ولو ثبت» لعله : على معنى ولو ... الخ. (ع)

(٢) وقد اغتدى والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

لامرئ القيس من معلقته. وقد : للتكثير. والوكنات : جمع وكنة بضمتين ، وبتثليث أوله وسكون ثانيه : موضع الطير الذي يبيت فيه ، والباء للملابسة ، والمجرد : دقيق الشعر قصيره. أو سريع الجري. وشبه الفرس بالقيد تشبيها بليغا : أى : لا تنفك منه الأوابد : وهي الوحوش ، ولا تفوته هيكل : عظيم الجسم.

٥٠١

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(٢٨)

(إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) إلا كخلقها وبعثها ، أى : سواء في قدرته القليل والكثير ، والواحد والجمع ، لا يتفاوت ، وذلك أنه إنما كانت تفاوت النفس الواحدة والنفوس الكثيرة العدد : أن لو شغله شأن عن شأن وفعل عن فعل ، وقد تعالى عن ذلك (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يسمع كل صوت ويبصر كل مبصر في حالة واحدة ، لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض ، فكذلك الخلق والبعث.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٣٠)

كل واحد من الشمس والقمر يجرى في فلكه ، ويقطعه إلى وقت معلوم : الشمس إلى آخر السنة ، والقمر إلى آخر الشهر. وعن الحسن : الأجل المسمى : يوم القيامة. لأنه لا ينقطع جريهما إلا حينئذ. دلّ أيضا بالليل والنهار وتعاقبهما وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما كل ذلك على تقدير وحساب ، وبإحاطته بجميع أعمال الخلق : على عظم قدرته وحكمته. فإن قلت : يجرى لأجل مسمى ، ويجرى إلى أجل مسمى : أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت : كلا ، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن (١). ولكن المعنيين. أعنى الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض ؛ لأنّ قولك يجرى إلى أجل مسمى : معناه يبلغه وينتهى كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض ، لأنّ قولك يجرى إلى أجل مسمى : معناه يبلغه وينتهى إليه. وقولك : يجرى لأجل مسمى : تريد يجرى لإدراك أجل مسمى ، تجعل الجري مختصا بإدراك أجل مسمى. ألا ترى أن جرى الشمس مختص بآخر السنة ، وجرى القمر مختص بآخر الشهر ، فكلا المعنيين غير ناب به موضعه (ذلِكَ) الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون. فكيف بالجماد الذي تدعونه من دون الله ، إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت إلهيته. وأنّ من دونه باطل الإلهية (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) الشأن (الْكَبِيرُ) السلطان. أو ذلك الذي أوحى إليك من هذه الآيات بسبب بيان أنّ الله هو الحق ، وأنّ إلها غيره باطل ، وأنّ الله هو العلىّ الكبير عن أن يشرك به.

__________________

(١) قوله «إلا بليد الطبع ضيق العطن» في الصحاح : أنه مبرك الإبل عند الماء ، لتشرب عللا بعد نهل. (ع)

٥٠٢

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(٣١)

قرئ : الفلك ، بضم اللام. وكل فعل : يجوز فيه فعل ، كما يجوز في كل فعل فعل ، على مذهب التعويض. وبنعمات الله : بسكون العين. وعين فعلات يجوز فيها الفتح والكسر والسكون (بِنِعْمَتِ اللهِ) بإحسانه ورحمته (صَبَّارٍ) على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه ، وهما صفتا المؤمن ، فكأنه قال : إنّ في ذلك لآيات لكل مؤمن.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)(٣٢)

يرتفع الموج ويتراكب ، فيعود مثل الظلل ، والظلة : كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما وقرئ : كالظلال ، جمع ظلة ، كقلة وقلال (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) متوسط في الكفر والظلم ، خفض من غلوائه ، وانزجر بعض الانزجار. أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر ، يعنى أنّ ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف ، لا يبقى لأحد قط ، والمقتصد قليل نادر. وقيل : مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر : أشدّ الغدر. ومنه قولهم : إنك لا تمدّ لنا شبرا من غدر إلا مددنا لك باعا من ختر ، قال :

وإنّك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر (١)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)(٣٣)

(لا يَجْزِي) لا يقضى عنه شيئا. ومنه قيل للمتقاضى : المتجازى. وفي الحديث في جذعة

__________________

(١) الغدر : أشد الختر. وروى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا عد بأصابع يده اليمنى : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، وبأصابع اليسرى : اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ملأت يديك خيرا ، شبه المعقول بالمحسوس على سبيل المكنية. وملء اليدين : تخييل ، وذكرهما لأن الرجل عد بهما ، فضربه الشاعر مثلا لحال أبى عمير ومن يراه على سبيل الاستعارة التمثيلية التهكمية ، فان من رآه وعد معايبه ، كأنه ملأ يديه شرا لا خيرا ، وحذف العد إشارة إلى أنه بمجرد الرؤية يحصل ذلك.

٥٠٣

ابن نيار : تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك (١). وقرئ : لا يجزئ : لا يغنى (٢). يقال : أجزأت عنك مجزأ فلان. والمعنى : لا يجزى فيه ، فحذف (الْغَرُورُ) الشيطان. وقيل : الدنيا وقيل : تمنيكم في المعصية المغفرة. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه : الغرّة بالله : أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على الله المغفرة. وقيل : ذكرك لحسناتك ونسيانك لسيئاتك غرّة. وقرئ بضم الغين وهو مصدر غره غرورا ، وجعل الغرور غارّا ، كما قيل : جدّ جدّه ، أو أريد زينة الدنيا لأنها غرور. فإن قلت : قوله (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف (٣) عليه. قلت : الأمر كذلك ، لأنّ الجملة الاسمية آكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله (هُوَ) وقوله (مَوْلُودٌ) والسبب في مجيئه على هذا السنن : أنّ الخطاب للمؤمنين وعليتهم (٤) : قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلى ، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم : أن ينفعوا آباءهم في الآخرة ، وأن يشفعوا لهم ، وأن يغنوا عنهم من الله شيئا ، فلذلك جيء به على الطريق الآكد. ومعنى التوكيد في لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه ، لم تقبل شفاعته ، فضلا أن يشفع لمن فوقه من أجداده ، لأنّ الولد يقع على الولد وولد الولد ، بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٣٤)

روى أنّ رجلا من محارب وهو الحرث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أخبرنى عن الساعة متى قيامها ، وإنى قد ألقيت حباتى في الأرض وقد

__________________

(١) تقدم في أوائل البقرة.

(٢) قوله «وقرئ لا يجزئ لا يغنى» لعله : أى لا يغنى. (ع)

(٣) قال محمود : «إن قلت : لم أكد الجملة الثانية دون الأولى؟ قلت : لأن أكثر المسلمين كان آباؤهم قد ماتوا على الكفر ، فلما كان إغناء الكافر عن المسلم بعيدا لم يحتج تأكيدا ، ولما كان إغناء المسلم عن الكافر قد يقع في الأوهام أكد نفيه» قال أحمد : وهذا الجواب تتوقف صحته على أن هذا الخطاب كان خاصا بالموجودين حينئذ ، والصحيح أنه عام لهم ولكل من ينطلق عليه اسم الناس ، فالجواب المعتبر ـ والله أعلم ـ أن الله تعالى لما أكد الوصية على الآباء ، وقرن شكرهم بوجوب شكره عز وجل ، وأوجب على الولد أن يكتفى والده ما يسوءه بحسب نهاية إمكانه قطع هاهنا وهم الوالد في ان يكون الولد في القيامة مجزيه بحقه عليه ، ويكفيه ما يلقاه من أهوال القيامة كما أوجب الله عليه في الدنيا ذلك في حقه ، فلما كان إجزاء الولد عن الوالد مظنون الوقوع ـ لأن الله حضه عليه في الدنيا ـ كان جديرا بتأكيد النفي لازالة هذا الوهم ، ولا كذلك العكس ، فهذا جواب كاف شاف للعليل ، إن شاء الله تعالى.

(٤) قوله «وعليتهم» أى أشرافهم وعظماؤهم. (ع)

٥٠٤

أبطأت عنا السماء ، فمتى تمطر؟ وأخبرنى عن امرأتى فقد اشتملت ما في بطنها ، أذكر أم أنثى؟ وإنى علمت ما علمت أمس ، فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته ، فأين أموت (١)؟ فنزلت وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «مفاتح الغيب خمس» (٢) وتلا هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب ، إياكم والكهانة فإن الكهانة تدعو إلى الشرك والشرك وأهله في النار. وعن المنصور أنه أهمه معرفة مدّة عمره ، فرأى في منامه كأن خيالا أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس ، فاستفتى العلماء في ذلك ، فتأوّلوها بخمس سنين ، وبخمسة أشهر ، وبغير ذلك ، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله : تأويلها أنّ مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أيان مرساها (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في إبانه من غير تقديم ولا تأخير ، وفي بلد لا يتجاوزه به (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر أم أنثى ، أتام أم ناقص ، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) برّة أو فاجرة (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، وربما كانت عازمة على خير فعملت شرا ، وعازمة على شر فعملت خيرا (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) أين تموت ، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت : لا أبرحها وأقبر فيها ، فترمى بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها ، ولا حدّثتها به ظنونها. وروى أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه ، فقال الرجل من هذا؟ قال : ملك الموت ، فقال : كأنه يريدني. وسأل سليمان أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ، ففعل ، ثم قال ملك الموت لسليمان كان دوام نظري إليه تعجبا منه ، لأنى أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك (٣). وجعل العلم لله والدراية للعبد ، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة. والمعنى : أنها لا تعرف ـ وإن أعملت حيلها ـ ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها ، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته ، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما ، كان من معرفة ما عداهما أبعد. وقرئ : بأية أرض. وشبه سيبويه تأنيث «أىّ» بتأنيث «كل» في قولهم : كلتهنّ.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا يوم القيامة وأعطى من الحسنات عشرا عشرا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر (٤).

__________________

(١) هكذا ذكره الواحدي والثعلبي بغير سند. وأخرجه الطبري وابن أبى حاتم من طريق ابن أبى نجيح عن مجاهد ، قال «جاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد إن امرأتى حبلى فأخبرنى متى تلد؟ فذكره»

(٢) أخرجه البخاري من حديث ابن عمر

(٣) موقوف. رواه أحمد في الزهد وابن أبى شيبة قالا حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن خيثمة عن شهر بن حوشب قال «دخل ملك الموت ، فذكره»

(٤) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم عن أبى بن كعب.

٥٠٥

سورة السجدة

مكية [إلا من آية ١٦ إلى غاية آية ٢٠ فمدنية]

وآياتها ٣٠ وقيل ٢٩ [نزلت بعد المؤمنون]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)(٣)

(الم) على أنها اسم السورة مبتدأ خبره (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) وإن جعلتها تعديدا للحروف ارتفع (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) بأنه خبر مبتدإ محذوف : أو هو مبتدأ خبره (لا رَيْبَ فِيهِ) والوجه أن يرتفع بالابتداء ، وخبره (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) و (لا رَيْبَ فِيهِ) : اعتراض لا محل له. والضمير في (فِيهِ) راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أى في كونه منزلا من رب العالمين ويشهد لوجاهته قوله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) لأنّ قولهم : هذا مفترى ، إنكار لأن يكون من رب العالمين ، وكذلك قوله (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وما فيه من تقدير أنه من الله ، وهذا أسلوب صحيح محكم : أثبت أوّلا أن تنزيله من رب العالمين ، وأن ذلك ما لا ريب فيه ، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) لأن «أم» هي المنقطعة الكائنة بمعنى : بل والهمزة ، إنكارا لقولهم وتعجيبا منه لظهور أمره : في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه ، ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ونظيره أن يعلل العالم في المسألة بعلة صحيحة جامعة ، قد احترز فيها أنواع الاحتراز ، كقول المتكلمين : النظر أوّل الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف ، ثم يعترض عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه ، فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك ، ثم يعود إلى تقرير كلامه وتمشيته. فإن قلت : كيف نفى أن يرتاب في أنه من الله ، وقد أثبت ما هو أطم من الريب ، وهو قولهم (افْتَراهُ)؟ قلت : معنى (لا رَيْبَ فِيهِ) أن لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله ، لأن نافى الريب ومميطه معه لا ينفك عنه وهو كونه معجزا

٥٠٦

للبشر ، ومثله أبعد شيء من الريب. وأما قولهم (افْتَراهُ) فإما قول متعنت مع علمه أنه من الله لظهور الإعجاز له ، أو جاهل يقوله قبل التأمل والنظر لأنه سمع الناس يقولونه (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) كقوله : ما أنذر آباؤهم ، وذلك أن قريشا لم يبعث الله إليهم رسولا (١) قبل محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة. قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا ، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم ، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) فيه وجهان : أن يكون على الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) على الترجي من موسى وهرون عليهما السلام ، وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)(٤)

فإن قلت : ما معنى قوله (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ)؟ قلت : هو على معنيين ، أحدهما : أنكم إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليا ، أى : ناصرا ينصركم ولا شفيعا يشفع لكم. والثاني : أن الله وليكم الذي يتولى مصالحكم ، وشفيعكم أى ناصركم على سبيل المجاز ، لأن الشفيع ينصر المشفوع له ، فهو كقوله تعالى (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) فإذا خذلكم لم يبق لكم ولىّ ولا نصير.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(٥)

(الْأَمْرَ) المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصا كما يريده ويرتضيه إلا في مدة متطاولة ، لقلة عمال الله والخلص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة ، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص

__________________

(١) قال محمود : «يعنى قريشا لأنها لم يبعث لها نبى قط. فان قلت : إن لم يتقدم بعث نبى إليهم فيما قامت عليهم الحجة. قلت : قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل لا سبيل إليه. وأما قيامها بمعرفة الله تعالى وتوحيده وحكمته فنعم ، لأن أدلة العقل معهم في كل زمان» قال أحمد : مذهب أهل السنة : أنه لا يدرك علم شيء من أحكام الله تعالى التكليفية إلا بالشرع وما ذكره الزمخشري تفريع على قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل ، وقد مجها السمع فلم يبح بها القلم ، فأعرض عنه حتى يخوض في حديث غيره. وإنما قامت الحجة على العرب يمن تقدم من الرسل إليهم كأبيهم إسماعيل وغيره ، والمراد بقوله تعالى (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) يعنى ذرية العرب في زمانه عليه الصلاة والسلام ، إذ لم يبعث إليهم نذير معاصر ، فلطف الله تعالى بهم وبعث فيهم رسولا منهم.

٥٠٧

ودل عليه قوله على أثره (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض : لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة ، كما قال (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ، (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أى يصير إليه ، ويثبت عنده ، وبكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدّة : ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها ، ثم يدبر أيضا ليوم آخر ، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة. وقيل : ينزل الوحى مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض ، ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحى أو ردّه مع جبريل ، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة ، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود ، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل ، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد. وقيل : يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله ، أى يصير إليه ليحكم فيه (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) وهو يوم القيامة. وقرأ ابن أبى عبلة : يعرج ، على البناء للمفعول. وقرئ : يعدون ، بالتاء والياء.

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)(٩)

(أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) حسنه ، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة ، فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن ، كما قال (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) وقيل : علم كيف يخلقه من قوله : قيمة المرء ما يحسن. وحقيقته ، يحسن معرفته أى يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان. وقرئ : خلقه : على البدل ، أى : أحسن ، فقد خلق كل شيء (١) وخلقه : على الوصف ، أى : كل شيء خلقه فقد أحسنه. سميت الذرية نسلا ؛ لأنها تنسل منه ، أى : تنفصل منه وتخرج من صلبه (٢) ونحوه قولهم للولد : سليل ونجل ، و (سَوَّاهُ) قوّمه ،

__________________

(١) قوله «أى أحسن فقد خلق كل شيء» لعل لفظ «فقد» مزيدة من قلم الناسخ. وعبارة النسفي : على البدل ، أى : أحسن خلق كل شيء ويمكن أنه ليس مزيدا ، بل هذا حاصل المعنى على البدل ، كما أن عكسه الآتي هو حاصل المعنى على الوصف. (ع)

(٢) قوله «وتخرج من صلبه» لعل قبله سقطا تقديره : كما سميت النطفة سلالة ، لأنها تسل منه. وفي الصحاح «النجل» : النسل. ونجله أبوه ، أى : ولده. (ع)

٥٠٨

كقوله تعالى (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ودل بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو ، كقوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...) الآية كأنه قال : ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبمعرفته.

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(١١)

(وَقالُوا) قيل القائل أبى بن خلف ، ولرضاهم بقوله أسند إليهم جميعا. وقرئ : أئنا. وأنا ، على الاستفهام وتركه (ضَلَلْنا) صرنا ترابا ، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض ، لا نتميز منه ، كما يضل الماء في اللبن أو غبنا (فِي الْأَرْضِ) بالدفن فيها ، من قوله :

وآب مضلّوه بعين جليّة (١)

وقرأ على وابن عباس رضى الله عنهما : ضللنا ، بكسر اللام. يقال : ضل يضل وضل يضل. وقرأ الحسن رضى الله عنه : صللنا ، من صلّ اللحم وأصلّ : إذا أنتن. وقيل : صرنا من جنس الصلة وهي الأرض. فإن قلت : بم انتصب الظرف في (أَإِذا ضَلَلْنا)؟ قلت : بما يدل عليه (إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو نبعث. أو يجدد خلقنا. لقاء ربهم : هو الوصول إلى العاقبة ، من تلقى ملك الموت وما وراءه ، فلما ذكر كفرهم بالإنشاء ، أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة ، لا بالإنشاء وحده : ألا ترى كيف خوطبوا بتوفي ملك الموت وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء ، وهذا معنى لقاء الله على ما ذكرنا والتوفي : استيفاء النفس وهي الروح. قال الله تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) وقال : أخرجوا أنفسكم ، وهو أن يقبض كلها لا يترك منها شيء. من قولك : توفيت حقي من فلان ، واستوفينه إذا أخذته وافيا كاملا من غير نقصان. والتفعل والاستفعال : يلتقيان في مواضع : منها : تقصيته واستقصيته ، وتعجلته واستعجلته. وعن مجاهد رضى الله عنه : حويت لملك الموت الأرض ، وجعلت له مثل الطست ، يتناول منها حيث يشاء. وعن قتادة : يتوفاهم ومعه أعوان من الملائكة. وقيل : ملك الموت : يدعو الأرواح فتجيبه ، ثم يأمر أعوانه بقبضها.

__________________

(١) وآب مضلوه بعين جلية

وغودر بالجولان حزم ونائل

يرثى ميتا. والإياب : الرجوع. والإضلال : الدفق والتغيب. وجولان : جبل بالشام. والنائل : العطاء يعنى : بترك ذلك الموصوف بالحزم والكرم ، فقد ترك الوصفات هناك.

٥٠٩

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٤)

(وَلَوْ تَرى) يجوز أن يكون خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه وجهان : أن يراد به التمني ، كأنه قال : وليتك ترى ، كقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة : «لو نظرت إليها» (١) والتمني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان الترجي له في (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم ، فجعل الله له تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم ، وأن تكون لو الامتناعية قد حذف جوابها ، وهو : لرأيت أمرا فظيعا. أو : لرأيت أسوأ حال ترى. ويجوز : أن يخاطب به كل أحد ، كما تقول : فلان لئيم ، إن أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه أساء إليك ، فلا تريد به مخاطبا بعينه ، فكأنك قلت : إن أكرم وإن أحسن إليه ، ولو وإذ : كلاهما للمضى ، وإنما جاز ذلك ، لأن المترقب من الله بمنزلة الموجود المقطوع به في تحققه ، ولا يقدر لترى ما يتناوله ، كأنه قيل : ولو تكون منك الرؤية ، وإذ ظرف له. يستغيثون بقولهم (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) فلا يغاثون ، يعنى : أبصرنا صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك. أو كنا عميا وصما فأبصرنا وسمعنا (فَارْجِعْنا) هي الرجعة إلى الدنيا (لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) على طريق الإلجاء والقسر ، ولكننا بنينا الأمر على الاختيار (٢) دون الاضطرار ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون البصراء. ألا ترى إلى ما عقبه به من قوله (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ) فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم : من نسيان العاقبة ،

__________________

(١) هذا طرف من حديث أخرجه الترمذي ، والنسائي وابن ماجة وابن أبى شيبة وابن حبان. والحاكم. وأحمد والبزار. وغيرهم من حديث المغيرة «أنه خطب امرأة فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم انظر إليها فانه أحرى أن يؤدم بينكما» ورواه أبو عبيد في الغريب بلفظ أنه قال للمغيرة وقد خطب امرأة «لو نظرت إليها» الحديث.

(٢) قوله «ولكننا بنينا الأمر على الاختيار» لما أوجب المعتزلة على الله الصلاح قالوا : إنه قد شاء الهدى للكل ، ولكن مشيئة تخيير ، لا مشيئة إجبار ، فلذا لم يهتد الكل بل البعض ، ولو شاء مشيئة قسر لاهتدى الكل. وأهل السنة لم يوجبوا على الله شيئا ، وقالوا : كل ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، خيرا كان أو شرا. واستلزام الارادة لوقوع المراد لا يستلزم القسر والإجبار للعباد ، لما لهم من الكسب في أفعالهم ، وإن كانت في الحقيقة مخلوقة لله تعالى ، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)

٥١٠

وقلة الفكر فيها ، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان : خلاف التذكر ، يعنى : أن الانهماك في الشهوات أذهلكم وألهاكم عن تذكر العاقبة وسلط عليكم نسيانها ، ثم قال (إِنَّا نَسِيناكُمْ) على المقابلة ، أى : جازيناكم جزاء نسيانكم. وقيل : هو بمعنى الترك ، أى : تركتم الفكر في العاقبة ، فتركناكم من الرحمة. وفي استئناف قوله إنا نسيناكم وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم والمعنى فذوقوا هذا أى ما أنتم فيه من نكس الرءوس والخزي والغم بسبب نسيان اللقاء ، وذوقوا العذاب المخلد في جهنم بسبب ما عملتم (١) من المعاصي والكبائر الموبقة (٢).

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٧)

(إِذا ذُكِّرُوا بِها) أى وعظوا : سجدوا تواضعا لله وخشوعا ، وشكرا على ما رزقهم من الإسلام (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ونزهوا الله من نسبة القبائح إليه ، وأثنوا عليه حامدين له (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) كما يفعل من يصر مستكبرا كأن لم يسمعها ، ومثله قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا): (تَتَجافى) ترتفع وتتنحى (عَنِ الْمَضاجِعِ) عن الفرش ومواضع النوم ، داعين ربهم عابدين له ، لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته ، وهم المتهجدون. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها «قيام العبد من الليل» (٣) وعن الحسن رضى الله عنه : أنه التهجد. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادى بصوت يسمع الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم. ثم يرجع فينادى : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، فيقومون وهم قليل. ثم يرجع فينادى : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء

__________________

(١) قال محمود : «معناه بما كنتم تعملون من الكفر والكبائر الموبقة» قال أحمد : قد تمهد من مذاهب أهل السنة أن المقتضى لاستحقاق الخلود في العذاب هو الكفر خاصة. وأما ما دونه من الكبائر فلا يوجب خلودا ، والمسألة سمعية ، وأدلتها من الكتاب والسنة قطعية ، خلافا للقدرية.

(٢) قوله «والكبائر الموبقة» أى : المهلكة. (ع)

(٣) أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وإسحاق والحاكم من رواية أبى وائل عن معاذ في أثناء حديث مرفوع قال «وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ : تتجافى جنوبهم عن المضاجع»

٥١١

والضراء ، فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعا إلى الجنة. ثم يحاسب سائر الناس» (١). وعن أنس بن مالك رضى الله عنه : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة ، فنزلت فيهم (٢). وقيل : هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) على البناء للمفعول. ما أخفى لهم على البناء للفاعل ، وهو الله سبحانه. وما أخفى لهم. وما نخفى لهم. وما أخفيت لهم : الثلاثة للمتكلم ، وهو الله سبحانه. وما : بمعنى الذي ، أو بمعنى أى (٣). وقرئ : من قرّة أعين. وقرات أعين. والمعنى : لا تعلم النفوس ـ كلهنّ ولا نفس واحدة منهنّ لا ملك مقرب ولا نبىّ مرسل ـ أىّ نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه ، لا يعلمه إلا هو مما تقر به عيونهم ، ولا مزيد على هذه العدة ولا مطمح وراءها ، ثم قال (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فحسم أطماع المتمنين (٤) : وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين (٥) ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ،

__________________

(١) أخرجه إسحاق وأبو يعلى من رواية شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مطولا وهو عند الحاكم باختصار

(٢) أخرجه ابن مردويه من رواية الحرث بن رحبة عن مالك بن دينار «سألت أنس بن مالك عن قوله تعالى (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ـ) الآية فقال : كان ناس ـ فذكره» ورواه أبو داود من حديث سعيد عن قتادة عن أنس نحوه ، قال : وكان الحسن يقول «هو قيام الليل» والبزار من طريق زيد بن أسلم عن أبيه. قال قال بلال «كنا نجلس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء فنزلت هذه الآية» قال : ولا نعلم له طريقا إلا هذه. ولا روى أسلم عن بلال غيره

(٣) قوله «أو بمعنى أى» لعله : أى شيء (ع)

(٤) قال محمود : «هذا حسم لأطماع المتمنين» قال أحمد : يشير إلى أهل السنة لاعتقادهم أن المؤمن العاصي موعود بالجنة ، ولا بد من دخوله إياها وفاء بالوعد الصادق ، وأن أحدا لا يستحق على الله بعمله شيئا ، فلما وجد قوله تعالى (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) اغتنم الفرصة في الاستشهاد على معتقد القدرية في أن الأعمال أسباب موجبة للجزاء ، ولا دليل في ذلك لمعتقدهم مع قوله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ، قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» فهذا الحديث يوجب حمل الآية على وجه يجمع بينها وبينه ، وذلك إما أن تحمل الآية على أن المراد منها قسمة المنازل بينهم في الجنة فانه على حسب الأعمال ، وليس بذاك فان المذكور في الآية مجرد دخول الجنة لا اقتسام درجاتها. وإما أن تحمل ـ وهو الظاهر ، والله أعلم ـ على أن الله تعالى لما وعد المؤمن جنته ـ ووعده يجب أن يكون حقا وصدقا ، تعالى وتقدس ـ صارت الأعمال بالوعد كأنها أسباب موجبات ، فعوملت في هذه العبارة معاملتها ، والمقصود من ذلك : تأكيد صدق الوعد في النفوس ، وتصوره بصورة المستحق بالعمل ، كالأجرة المستحقة شاهدا على العمل من باب مجاز التشبيه ، والله أعلم. وذكر الزمخشري الحديث المشهور وهو «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين» وكان جدي رحمه الله يستحسن أن تقرأ الآية تلو الحديث المذكور بسكون الياء من أخفى ، ورده إلى المتكلم ، وهي من القراآت المستفيضة. والسبب في اختيار ذلك مطابقة صدر الحديث وهو : أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ليكون الكل راجعا إلى الله تعالى ، مسندا إلى ضمير اسمه عز وجل صريحا ، والله الموفق.

(٥) متفق عليه من طريق أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه.

٥١٢

بله (١) ما أطلعتهم عليه ، اقرؤا إن شئتم : فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين» وعن الحسن رضى الله عنه : أخفى القوم أعمالا في الدنيا ، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٢١)

(كانَ مُؤْمِناً) و (كانَ فاسِقاً) محمولان على لفظ من ، و (لا يَسْتَوُونَ) محمول على المعنى ، بدليل قوله تعالى (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) ونحوه قوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ). و (جَنَّاتُ الْمَأْوى) نوع من الجنان : قال الله تعالى (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) سميت بذلك لما روى عن ابن عباس رضى الله عنه قال : تأوى إليها أرواح الشهداء. وقيل : هي عن يمين العرش. وقرئ : جنة المأوى ، على التوحيد (نُزُلاً) عطاء بأعمالهم. والنزل : عطاء النازل ، ثم صار عاما (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أى ملجؤهم ومنزلهم. ويجوز أن يراد : فجنة مأواهم النار ، أى النار لهم ، مكان جنة المأوى للمؤمنين : كقوله (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، (الْعَذابِ الْأَدْنى) عذاب الدنيا من القتل والأسر ، وما محنوا به من السنة (٢) سبع سنين. وعن مجاهد رضى الله عنه : عذاب القبر. و (الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) عذاب الآخرة ، أى : نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أى يتوبون (٣) عن الكفر ، أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه ، كقوله تعالى

__________________

(١) قوله «بله ما أطلعتهم عليه» في الصحاح «بله» : كلمة مبنية على الفتح مثل كيف ، ومعناها : دع ، كما أجازه ، الأخفش في قول كعب بن مالك :

تذر الجماجم ضاحيا هاماتها

بله الأكف كأنها لم تخلق

ويقال : معناها سوى. وفي الحديث : «أعددت لعبادي ... الخ». (ع)

(٢) قوله «وما محنوا به من السنة» أى المجدية. أو المراد بها الجدب ، كما يؤخذ من الصحاح. (ع)

(٣) قال محمود : «معناه لعلهم يتوبون. فان قلت : من أبن صح تفسير الرجوع بالتوبة ولعل من الله إرادة ، وإذا أراد الله شيئا كان ، وتوبتهم مما لا يكون ، لأنهم لو تابوا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر. قلت : إرادة الله تعالى تتعلق بأفعاله وأفعال عباده فإذا أراد شيئا من أفعاله كان ولم يمتنع ، للاقتدار وخلوص الداعي. وأما أفعال عباده فاما أن يريدها وهم مختارون لها ، أو مضطرون إليها بقسره ، فان أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم ـ

٥١٣

(فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) وسميت إرادة الرجوع رجوعا ، كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ويدل عليه قراءة من قرأ : يرجعون ، على البناء للمفعول. فإن قلت : من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ و «لعل» من الله إرادة ، وإذا أراد الله شيئا كان ولم يمتنع ، وتوبتهم مما لا يكون ، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت : إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده ، فإذا أراد شيئا من أفعاله كان ولم يمتنع ، للاقتدار وخلوص الداعي. وأما أفعال عباده : فإما أن يريدها وهم مختارون لها ، أو مضطرون إليها بقسره وإلجائه ، فإن أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم أفعاله ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره (١) ، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك وهو لا يختارها ، لأنّ اختياره لا يتعلق بقدرتك ، وإذا لم يتعلق بقدرتك لم يكن فقده دالا على عجزك. وروى في نزولها : أنه شجر بين على بن أبى طالب رضى الله عنه والوليد بن عقبة بن أبى معيط يوم بدر كلام ، فقال له الوليد : اسكت فإنك صبىّ : أنا أشبّ منك شبابا ، وأجلد منك جلدا ، وأذرب منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا ، وأشجع منك جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكتيبة. فقال له على رضى الله عنه : اسكت ، فإنك فاسق (٢) ، فنزلت عامّة للمؤمنين والفاسقين ، فتناولتهما وكل من كان في مثل حالهما (٣). وعن الحسن بن على رضى

__________________

ـ أفعاله ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره ، كما لا يقدح في اقتدارك : إرادتك أن يختار عبدك الطاعة لك وهو لا يختارها ، لأن اختيارها لا يتعلق بقدرتك فلا يكون فقده عجزا منك» قال أحمد : هذا الفصل ردىء جدا مفرع على الإشراك الجلى لا على الاشراك الخفي ، فاعتصم بدليل الوحدانية على رده واجتنابه من أصله ، والله المستعان. وإنما جره في تفسير لعل إلى الارادة ، والحق في تفسيرها أنها لترجى المخاطبين امتناع الترجي على الله تعالى ، كذا فسرها سيبويه فيما تقدم ، والله أعلم.

(١) قوله «لم يقدح ذلك في اقتداره» أى عدم وقوعها وعدم اختيارهم إياها ، فهذا على مذهب المعتزلة : من أنه قد يريد الشيء ولا يكون ، ومذهب أهل السنة : أن كل ما أراده الله كان. (ع)

(٢) أخرجه ابن مردويه والواحدي من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال الوليد بن عقبة بن أبى معيط لعلى : أنا أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ منك للكتيبة. فقال له على : اسكت يا فاسق ، فإنما أنت فاسق. فنزلت» وله طريق أخرى عند ابن مردويه من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما «تنبيه» قوله : أن ذلك شجر بينهما يوم بدر ، غلط فاحش. فما كان الوليد حينئذ رجلا

(٣) قال محمود : «سبب نزولها أنه شجر بين على بن أبى طالب كرم الله وجهه والوليد ابن عقبة يوم بدر كلام فقال له الوليد اسكت فإنك صبى أنا أشب منك شبابا وأجلد جلدا وأذرب لسانا وأحد منك سنانا وأشجع جنانا وأملأ حشوا في الكتيبة ، فقال له على : اسكت فإنك فاسق. قال الزمخشري : فنزلت عامة للمؤمنين والكافرين تتناولهما معا» قال أحمد : ذكر للسبب المحقق : لأن المراد بالفاسق وبالذين فسقوا : الذين كفروا ، لأنها نزلت في الوليد وهو كافر حينئذ ، ثم أدرج فيه المؤمن تعصبا لمذهبه في وجوب خلود فساق المؤمنين كفساق الكافرين. فلم يزل يورد هذه العقائد الفواسد ، ولقد اتسع الخرق على الراقع.

٥١٤

الله عنهما : أنه قال للوليد : كيف تشتم عليا وقد سماه الله مؤمنا في عشر آيات ، وسماك فاسقا؟

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)(٢٢)

ثم في قوله (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) للاستبعاد. والمعنى : أنّ الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل ، كما تقول لصاحبك : وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها استبعادا لتركه الانتهاز. ومنه ثم في بيت الحماسة :

لا يكشف الغمّاء إلا ابن حرّة

يرى غمرات الموت ثمّ يزورها (١)

استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدّتها. فإن قلت : هلا قيل : إنا منه منتقمون؟ قلت : لما جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام ، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٢٥)

__________________

(١) ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة

يرى غمرات الموت ثم يزورها

نقاسمهم أسيافنا شر قسمة

ففينا غواشيها وفيهم صدورها

لجعفر بن علبة الحارثي ، شبه الداهية الغماء بأمر محسوس يغشى الناس ويغطيهم على طريق المكنية ، والكشف تخييل وقال «ابن حرة» أى كريم ، ليكون تهييجا للسامع وبعثا له على الهيجاء. والغمرة : الشدة. وغمرات الموت : شدائده وأهواله ، كأحوال المعركة الشديدة. وقوله «ثم يزورها» أى يلاقيها برغبة ، كلقاء المحبوب ، وعطفه بثم ، لأن بين رؤية الأهوال المفزعة ، وبين الانحدار إليها برغبة بون بعيد في العادة والتعقل. وشبه السيوف ممتدة متوسطة بينهم بشيء تجرى فيه المقاسمة ، وتقاسمهم تخييل لذلك ، ثم فرع على تلك المقاسمة أن لهم غواشيها ، أى ما يغشاهم منها وهي مقابضها. أو لأنها زائدة على النصل فهي غاشية له ولأعدائه «صدورها» أى أطرافها المتقدمة منها. وصدر كل شيء : مقدمه. وعبر بفي دون اللام ، لأن «في» تفيد مجرد اشتمال الأعداء على الصدور لدخولها في أجسامهم ، واللام تفيد التملك وليس مرادا ، وإن كان مقتضى القسمة ، فلعله دفع توهمه بالعدول إلى «في» وذكرها أولا تمهيدا للثانية.

٥١٥

(الْكِتابَ) للجنس والضمير في (لِقائِهِ) له. ومعناه : إنا آتينا موسى عليه السلام مثل ما آتيناك من الكتاب ، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحى ، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ولقيت نظيره كقوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) ونحو قوله (مِنْ لِقائِهِ) قوله (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) وقوله (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً). وجعلنا الكتاب المنزل على موسى عليه السلام (هُدىً) لقومه (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه ، لصبرهم وإيقانهم بالآيات. وكذلك لنجعلنّ الكتاب المنزل إليك هدى ونورا ، ولنجعلنّ من أمّتك أثمة يهدون مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصرة الدين وثبتوا عليه من اليقين. وقيل : من لقائك موسى عليه السلام ليلة الإسراء أو يوم القيامة وقيل : من لقاء موسى عليه السلام الكتاب ، أى : من تلقيه له بالرضا والقبول. وقرئ : لما صبروا ، ولما صبروا ، أى لصبرهم. وعن الحسن رضى الله عنه : صبروا عن الدنيا. وقيل : إنما جعل الله التوراة هدى لبنى إسرائيل خاصة ، ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل عليه السلام (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) يقضى ، فيميز المحق في دينه من المبطل.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ)(٢٦)

الواو في (أَوَلَمْ يَهْدِ) للعطف على معطوف عليه منوي من جنس المعطوف ، والضمير في (لَهُمْ) لأهل مكة. وقرئ بالنون والياء ، والفاعل ما دلّ عليه (كَمْ أَهْلَكْنا) لأنّ كم لا تقع فاعلة ، لا يقال : جاءني كم رجل ، تقديره : أو لم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون. أو هذا الكلام كما هو بمضمونه ومعناه ، كقولك : يعصم لا إله إلا الله الدماء والأموال. ويجوز أن يكون فيه ضمير الله بدلالة القراءة بالنون. و (الْقُرُونِ) عاد وثمود وقوم لوط (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) يعنى أهل مكة ، يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم. وقرئ : يمشون : بالتشديد.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)(٢٧)

(الْجُرُزِ) الأرض التي جرز نباتها أى قطع ، إمّا لعدم الماء ، وإمّا لأنه رعى وأزيل ، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ : جرز. ويدل عليه قوله (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) وعن ابن عباس

٥١٦

رضى الله عنه : إنها أرض اليمن. وعن مجاهد رضى الله عنه : هي أبين (١). (بِهِ) بالماء (تَأْكُلُ) من الزرع (أَنْعامُهُمْ) من عصفه (وَأَنْفُسُهُمْ) من حبه. وقرئ : يأكل ، بالياء.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)(٣٠)

الفتح : النصر ، أو الفصل بالحكومة ، من قوله (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا) وكان المسلمون يقولون إنّ الله سيفتح لنا على المشركين. ويفتح بيننا وبينهم ، فإذا سمع المشركون قالوا (مَتى هذَا الْفَتْحُ) أى في أىّ وقت يكون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنه كائن. و (يَوْمَ الْفَتْحِ) يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ، ويوم نصرهم عليهم. وقيل : هو يوم بدر. وعن مجاهد والحسن رضى الله عنهما : يوم فتح مكة. فإن قلت : قد سألوا عن وقت الفتح ، فكيف ينطبق هذا الكلام جوابا على سؤالهم. قلت : كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح ، استعجالا منهم عن وجه التكذيب والاستهزاء ، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا ، فكأنى بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم ، وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا. فإن قلت : فمن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان ، وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناسا يوم بدر. قلت : المراد أنّ المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق (وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم وهلاكهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الغلبة عليكم وهلاككم ، كقوله تعالى (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) وقرأ ابن السميقع رحمه الله : منتظرون ، بفتح الظاء. ومعناه : وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم ، يعنى أنهم هالكون لا محالة. أو وانتظر ذلك ، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ الم تنزيل وتبارك الذي بيده الملك ، أعطى من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر (٢)» وقال : «من قرأ الم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» (٣).

__________________

(١) قوله «هي أبين» في الصحاح «أبين» : اسم رجل نسب إليه عدن ، فيقال : عدن أبين. اه فتدبر. (ع)

(٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي عن أبى وله طريق أخرى عند الثعلبي من رواية أبى عصمة عن زيد العمي عن أبى بصرة عن ابن عباس عن أبى. وعند ابن مردويه مزوجه آخر عن نافع عن ابن عمر. وفي إسناده داود بن معاذ : وهو ساقط.

(٣) لم أجده.

٥١٧

سورة الأحزاب

مدنية ، وهي ثلاث وسبعون آية

[نزلت بعد آل عمران]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٣)

عن زرّ قال : قال لي أبىّ بن كعب رضى الله عنه : كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت : ثلاثا وسبعين آية. قال : فو الذي يحلف به أبىّ بن كعب ، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول. ولقد قرأنا منها آية الرجم : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم (١). أراد أبىّ رضى الله عنه أنّ ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأمّا ما يحكى : أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضى الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض (٢). جعل نداءه بالنبىّ والرسول في قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ)(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ). (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وترك نداءه باسمه كما قال : يا آدم. يا موسى ، يا عيسى. يا داود : كرامة له وتشريفا ، وربئا بمحله وتنويها بفضله. فإن قلت : إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الإخبار في قوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ، (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ). قلت : ذاك لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به ، فلا تفاوت بين النداء والإخبار ،

__________________

(١) أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم والطبراني في الأوسط وابن مردويه كلهم من هذا الوجه.

(٢) قلت : بل راويها ثقة غير متهم. قال إبراهيم الحربي في الغريب : حدثنا هرون بن عبد الله أن الرجم أنزل في سورة الأحزاب مكتوبا في خوصة في بيت عائشة. فأكلتها شاتها» وروى أبو يعلى والدارقطني والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي في المعرفة ، كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبى بكر عن عائشة وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة انتهى. وكأن المصنف فهم أن ثبوت هذه الزيادة يقتضى ما تدعيه الروافض : أن القرآن ذهب منه أشياء. وليس ذلك بلازم ، بل هذا مما نسخت تلاوته وبقي حكمه. وأكل الدواجن لها وقع بعد النسخ

٥١٨

ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ، (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِ) ، (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) ، (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِ). اتق الله : واظب على ما أنت عليه من التقوى ، واثبت عليه ، وازدد منه ، وذلك لأن التقوى باب لا يبلغ آخره (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) لا تساعدهم على شيء. ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة ، وجانبهم واحترس منهم ، فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين ، لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة. وروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود قريظة والنضير وبنى قينقاع وقد بايعه ناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم. وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه ، وكان يسمع منهم (١) فنزلت. وروى أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السلمى قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم ، وقام معهم عبد الله بن أبىّ ومعتب بن قشير والجد بن قيس ، فقالوا للنبىّ صلى الله عليه وسلم : ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تشفع وتنفع وندعك وربك ، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهموا بقتلهم (٢) ، فنزلت : أى اتق الله في نقض العهد ونبذ الموادعة ، ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك. وروى أنّ أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم ، وأن يزوجه شيبة بن ربيعة بنته ، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع. فنزلت (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالصواب من الخطإ ، والمصلحة من المفسدة (حَكِيماً) لا يفعل شيئا ولا يأمر به إلا بداعي الحكمة (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك (إِنَّ اللهَ) الذي يوحى إليك خبير (بِما تَعْمَلُونَ) فموح إليك ما يصلح به أعمالكم ، فلا حاجة بكم إلى الاستماع من الكفرة. وقرئ : يعملون ، بالياء ، أى : بما يعمل المنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وأسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره (وَكِيلاً) حافظا موكولا إليه كل أمر.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ

__________________

(١) لم أجده.

(٢) هكذا ذكره الثعلبي والواحدي بغير سند.

٥١٩

فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥)

ما جمع الله قلبين في جوف ، ولا زوجية وأمومة في امرأة ، ولا بنوّة ودعوة في رجل. والمعنى : أن الله سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين ـ لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليها ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بدأك ، فذلك يؤدى إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها. عالما ظانا ، موقنا شاكا في حالة واحدة ـ لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له ، لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل ، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة وهما حالتان متنافيتان ، وأن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنا له ؛ لأنّ النبوّة. أصالة في النسب وعراقة فيه ، والدعوة : إلصاق عارض بالتسمية (١) لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل ، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبى صغيرا ، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون. فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له ، وطلبه أبوه وعمه ، فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعتقه ، وكانوا يقولون : زيد بن محمد (٢) ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية ، وقوله (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) وقيل : كان أبو معمر رجلا من أحفظ العرب وأرواهم ، فقيل له : ذو القلبين. وقيل : هو جميل بن أسد الفهري ، وكان يقول : إن لي قلبين ، أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد ، فروى أنه انهزم يوم بدر ، فمرّ بأبى سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله ، فقال له : ما فعل الناس؟ فقال : هم ما بين مقتول وهارب ، فقال له : ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال : ما ظننت إلا أنهما

__________________

(١) قال محمود : «أسد ما ذكر فيه من التأويلات أنهم كانوا يدعون لابن خطل قلبين ، فنفى الله صحة ذلك وقرنه بما كانوا يقولونه من الأقاويل المتناقضة ، كجعل الأدعياء أبناء والزوجات أمهات. قال : وهذه الأمور الثلاثة متنافية : أما الأول فلأنه يلزم من اجتماع القلبين قيام أحد المعنيين بأحدهما وضده في الآخر ، وذلك كالعلم والجهل والأمن والخوف وغير ذلك. وأما الثاني فلأن الزوجة في مقام الامتهان والأم في محل الإكرام ، فنافى أن تكون الزوجة أما. وأما الثالث فلأن النبوة أصالة وعراقة ، والدعوة لاصقة عارضة ، فهما متنافيان ، وذكر الجوف ليصور به صورة اجتماع القلبين فيه حتى يبادره السامع بالإنكار.

(٢) هكذا ذكره ابن إسحاق وابن أبى خيثمة من طريقه. وزاد في آخره «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر منه بعشر سنين فتبناه» وعن سالم عن أبيه قال «ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى أنزل الله (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) انتهى. وهذه الزيادة في الصحيحين عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه «ما كنا ندعو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ـ) الآية

٥٢٠