الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

وأنت الشّهير بخفض الجناح

فلا تك في رفعه أجدلا (١)

ينهاه عن التكبر بعد التواضع. فإن قلت : المتبعون للرسول هم المؤمنون ، والمؤمنون هم المتبعون للرسول ، فما قوله (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؟ قلت : فيه وجهان : أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك ، وأن يريد بالمؤمنين المصدّقين بألسنتهم ، وهم صنفان : صنف صدّق واتبع رسول الله فيما جاء به ، وصنف ما وجد منه إلا التصديق فحسب ، ثم إمّا أن يكونوا منافقين أو فاسقين ، والمنافق والفاسق لا يخفض لهما الجناح. والمعنى : من المؤمنين من عشيرتك وغيرهم ، يعنى : أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك ، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٢٢٠)

(وَتَوَكَّلْ) على الله يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم. والتوكل : تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره. وقالوا : المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله ، فعلى هذا إذا وقع الإنسان في محنة ثم سأل غيره خلاصه ، لم يخرج من حد التوكل ، لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله. وفي مصاحف أهل المدينة والشام : فتوكل ، وبه قرأ نافع وابن عامر ، وله محملان في العطف : أن يعطف على (فَقُلْ). أو (فَلا تَدْعُ). (عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته. ثم أتبع كونه رحيما على رسوله ما هو من أسباب الرحمة : وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد ، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون ، ويستبطن سر أمرهم ، وكيف يعبدون الله ، وكيف يعملون لآخرتهم ، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل ، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات ، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع منها من دندنتهم بذكر الله والتلاوة. والمراد بالساجدين : المصلون. وقيل : معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة. وتقلبه في الساجدين : تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه

__________________

(١) شبه بطائر يرق لأفراخه ويخفض إليها جناحه رحمة لها ، فاستعار خفض الجناح لذلك على سبيل التمثيل ، ورشحه بقوله : «فلا تك في رفعه أجدلا» أى شبيها بالأجدل ، وهو الصقر في القسوة والجفوة. أو في التكبر والترفع ويجوز أن خفض الجناح : كناية عما يلزمه من الرقة والرحمة واللين ، ورفعه : كناية عن القسوة والجفوة ، وبين الخفض والرفع طباق التضاد.

٣٤١

وسجوده وقعوده إذا أمّهم. وعن مقاتل : أنه سأل أبا حنيفة رحمه الله ، هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فقال : لا يحضرني ، فتلا له هذه الآية. ويحتمل أنه : لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقوله (الْعَلِيمُ) بما تنويه وتعمله. وقيل : هو تقلب بصره فيمن يصلى خلفه ، من قوله صلى الله عليه وسلم : «أتموا الركوع والسجود ، فو الله إنى لأراكم من خلف ظهري إذا ركعتم وسجدتم (١)». وقرئ : ويقلبك.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ)(٢٢٣)

(كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) هم الكهنة والمتنبئة ، كشقّ ، وسطيح ، ومسيلمة ، وطليحة (يُلْقُونَ السَّمْعَ) هم الشياطين ، كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يسمعون إلى الملإ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب ، ثم يوحون به إلى أوليائهم من أولئك (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) فيما يوحون به إليهم ، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وقيل : يلقون إلى أوليائهم السمع أى المسموع من الملائكة. وقيل : الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم. أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس ، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم ، وترى أكثر ما يحكمون به باطلا وزورا. وفي الحديث : «الكلمة يتخطفها الجنىّ فيقرّها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» (٢) والقرّ : الصبّ. فإن قلت : كيف دخل حرف الجرّ على «من» المتضمنة لمعنى الاستفهام والاستفهام له صدر الكلام؟ ألا ترى إلى قولك : أعلى زيد مررت؟ ولا تقول : على أزيد مررت؟ قلت : ليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا : معنى الاسم ، ومعنى الحرف ، وإنما معناه : أن الأصل أمن ، فحذف حرف الاستفهام واستمرّ الاستعمال على حذفه ، كما حذف من «هل» والأصل : أهل. قال :

أهل رأونا بسفح القاع ذى الأكم (٣)

__________________

(١) متفق عليه من حديث قتادة عن أنس بمعناه. واللفظ المذكور عند النسائي واتفقا عليه من حديث أبى هريرة بلفظ «هل ترون قبلتي هاهنا : فو الله ما يخفى على ركوعكم ولا سجودكم ، وإنى لأراكم من وراء ظهري».

(٢) متفق عليه من حديث عائشة أتم منه.

(٣) سائل فوارس يربوع بشدتنا

أهل رأونا بسفح القاع ذى الأكم

لزيد الخيل الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير ، وسائل : فعل أمر بمعنى اسألهم وراجعهم في السؤال ، لتتلقن حقيقة الحال ، ويربوع : أبو حى ، والباء بمعنى عن ، أى : سلهم عن قوتنا ، ويروى : ـ

٣٤٢

فإذا أدخلت حرف الجرّ على «من» فقدّر الهمزة قبل حرف الجرّ في ضميرك ، كأنك تقول : أعلى من تنزّل الشياطين ، كقولك : أعلى زيد مررت. فإن قلت : (يُلْقُونَ) ما محله؟ قلت :يجوز أن يكون في محل النصب على الحال ، أى : تنزل ملقين السمع ، وفي محل الجرّ صفة لكل أفاك ، لأنه في معنى الجمع ، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف ، كأن قائلا قال : لم تنزل على الأفاكين؟ فقيل : يفعلون كيت وكيت. فإن قلت : كيف قيل (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك؟ قلت : الأفاكون هم الذين يكثرون الإفك ، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك ، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكى عن الجنى ، وأكثرهم مفتر عليه. فإن قلت : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) ، (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) لم فرق بينهنّ وهنّ أخوات؟ قلت : أريد التفريق بينهنّ بآيات ليست في معناهنّ ، ليرجع إلى المجيء بهنّ وتطرية ذكر ما فيهنّ كرّة بعد كرّة : فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت كراهة الله لخلافها. ومثاله : أن يحدّث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية ، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ)(٢٢٦)

(وَالشُّعَراءُ) مبتدأ. و (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) خبره : ومعناه : أنه لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب ، والنسيب بالحرم والغزل (١) والابتهار ، ومدح من لا يستحق المدح ، ولا يستحسن ذلك منهم ولا يطرب على قولهم ـ إلا الغاوون والسفهاء والشطار. وقيل : الغاوون : الراوون. وقيل : الشياطين ،

__________________

ـ بشدتنا ، بفتح الشين. يقال : شد على قرنه في الحرب : حمل عليه ، أى سلهم عن صولتنا عليهم ، وجعل البصريون الباء بعد السؤال للسببية ، لا بمعنى عن ، والأصل في الاستفهام الهمزة ، ولذلك كان لها تمام التصدير في الكلام ، وأصل «هل» بمعنى «قد» ، «ومن» لمن يفعل ، «وما» لما لا يفعل. «ومتى» للزمان ، وهكذا بقية الأدوات موضوعة لمعان غير الاستفهام ، فليست عريقة فيه ، بل الهمزة مقدرة قبلها ، ولذلك تظهر في بعض الأحيان كما في البيت ، ويدخل عليها حروف الجر ، ويضاف إليها غيرها : لكن لكثرة الاستعمال فيه صارت الهمزة نسيا منسيا في حيز الإهمال ، والاستفهام هنا للتقرير ، «وهل» بمعنى «قد» ، وأنكر ذلك ابن هشام. ونقل عن السيرافي أن الرواية : أم هل ، فأم بمعنى «بل» «وهل» للاستفهام : قال : وعلى صحة الأولى فهل مؤكدة للهمزة شذوذا اه ويروى : فهل رأونا. ويجوز أن معناه : سلهم فقد رأونا. والسفح : السطح أو أصل الجبل المنسطح. والقاع المستوى من الأرض. والأكم ـ بالفتح ـ : واحده أكمة ، وجمعه أكم بالضم ، وهي التلول المرتفعة.

(١) قوله «والنسيب بالحرم والغزل» النسيب : أى التشبيب. والغزل : محادثة النساء ومراودتهن. والابتهار : ادعاء الشيء كذبا ، كذا في الصحاح في مواضع. (ع)

٣٤٣

وقيل : هم شعراء قريش : عبد الله بن الزبعرى ، وهبيرة بن أبى وهب المخزومي ، ومسافع بن عبد مناف ، وأبو عزة الجمحىّ. ومن ثقيف : أمية ابن أبى الصلت. قالوا : نحن نقول مثل قول محمد ـ وكانوا يهجونه ، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم ـ وقرأ عيسى بن عمر : والشعراء ، بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر. قال أبو عبيد : كان الغالب عليه حبّ النصب. قرأ : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) ، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) و (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) (١) وقرئ : يتبعهم ، على التخفيف. ويتبعهم ، بسكون العين تشبيها «لبعه بعضد».

ذكر الوادي والهيوم : فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلق في المنطق ومجاوزة حدّ القصد فيه ، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة ، وأشحهم على حاتم ، وأن يبهتوا البرىّ (٢) ، ويفسقوا التقى. وعن الفرزدق : أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله :

فبتن بجانبىّ مصرّعات

وبت أفض أغلاق الختام (٣)

فقال : قد وجب عليك الحدّ ، فقال : يا أمير المؤمنين قد درأ الله عنى الحدّ بقوله : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ).

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(٢٢٧)

استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن ، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر ، وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والثناء عليه ، والحكمة والموعظة ، والزهد والآداب الحسنة ، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وصلحاء الأمة،

__________________

(١) قوله «وسورة أنزلناها» لعل بعدها سقطا تقديره : بالنصب. (ع)

(٢) قوله «وأن يبهتوا البرى» أى يتهموا. (ع)

(٣) خرجن إلى لم يطمئن قبلي

وهن أصح من بيض النعام

فبتن بجانبي مصرعات

وبت أفض أغلاق الختام

للفرزدق ، يقول : خرج النسوة إلى من خدورهن حال كونهن لم يطمئن ، أى لم يزل بكارتهن أحد قبلي ، وأكد ذلك بقوله : وهن أصح من بيض النعام الذي يصان عادة عن الكسر ، لئلا تذهب زينته ، فبتن مطروحات عن يمينى وشمالي ، وبت أفض : أفتح وأزيل بكارتهن الشبيهة بأغلاق الختام لسدها الفروج ، والأغلاق جمع غلق كسبب ، بمعنى الأقفال. والختام : ما يسد به فم الزجاجة ونحوها ، فاضافتها إليه بيانية. أو من إضافة المسميات إلى الاسم كأعواد السواك. ويجوز أن الختام بمعنى المختوم وهو الفرج ، ويمكن أن يراد بالأغلاق : جوانب البكارة المشتبكة بالفرج وشبه البكارات أو جوانبها بالأغلاق على طريق التصريح ، ولما سمع سليمان بن عبد الملك ذلك ، قال : قد وجب عليك الحمد ، فقال : قد درأه الله عنى بقوله : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فخلى سبيله.

٣٤٤

وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ولا يتلبسون بشائنة ولا منقصة ، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم. قال الله تعالى (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) وذلك من غير اعتداء ولا زيادة على ما هو جواب لقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) وعن عمرو بن عبيد : أن رجلا من العلوية قال له : إن صدري ليجيش بالشعر ، فقال : فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه : أن الشعر باب من الكلام ، فحسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيح الكلام. وقيل : المراد بالمستثنين : عبد الله بن رواحة ، وحسان ابن ثابت ، والكعبان : كعب بن مالك ، وكعب بن زهير ، والذين كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هجاة قريش. وعن كعب بن مالك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له : «اهجهم ، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من النبل» (١) وكان يقول لحسان : «قل وروح القدس معك» (٢). ختم السورة بآية ناطقة بما لا شيء أهيب منه وأهول ، ولا أنكى لقلوب المتأمّلين ولا أصدع لأكباد المتدبرين ، وذلك قوله (وَسَيَعْلَمُ) وما فيه من الوعيد البليغ ، وقوله (الَّذِينَ ظَلَمُوا) وإطلاقه. وقوله (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) وإبهامه ، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضى الله عنهما حين عهد إليه (٣) : وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدّتها. وتفسير الظلم بالكفر تعليل (٤) ، ولأن تخاف فتبلغ الأمن : خير من أن تأمن فتبلغ الخوف. وقرأ ابن عباس : أى منفلت ينفلتون. ومعناها : إن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن ملك عن أبيه قال «لما نزلت (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، ما ذا ترى في الشعر؟ فقال : إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفس محمد بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل» قلت : وأخرجه من هذا الوجه وقال ابن سعد في الطبقات : أخبرنا عبد الوهاب أخبرنا ابن عوف عن ابن سيرين «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك : هيه : فأنشده. فقال : «لهو أشد عليهم من وقع النبل» ولمسلم عن عائشة مرفوعا «اهجوا قريشا فانه أشد عليها من رشق النبل» وللترمذي والنسائي من حديث ثابت عن أنس في أثناء حديث : فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «خل عنهم يا عمر ، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل».

(٢) متفق عليه من حديث البزار. ولفظ النسائي : قال لحسان : اهج المشركين ، فان روح القدس معك» وللحاكم وابن مردويه من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال يوم الأحزاب : «من يحمى أعراض المسلمين؟ فقال حسان : أنا. قال : فقم اهجهم ، فان روح القدس سيعينك».

(٣) أخرجه ابن أبى حاتم من طريق محمد بن عبد الرحمن بن المحسر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت «كتب أبى وصية فذكرها وفي آخرها : وإن تجر وتظلم فانى لا أعلم الغيب. وسيعلم الذين ظلموا ـ الآية» ورواه ابن سعد في الطبقات في ترجمة أبى بكر عن الواقدي بأسانيد متعددة مطولا.

(٤) قوله «وتفسير الظلم بالكفر تعليل» لعله من علله بالشيء ، أى : لهاء به ، كما يعلل الصبى بشيء من الطعام يجتزأ به عن اللبن ، كما في الصحاح. (ع)

٣٤٥

الله ، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة : اللهم اجعلنا ممن جعل هذه الآية بين عينيه فلم يغفل عنها ، وعلم أن من عمل سيئة فهو من الذين ظلموا ، والله أعلم بالصواب.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمد عليهم الصلاة والسلام» (١)

سورة النمل

مكية ، وهي ثلاث وتسعون آية ، وقيل أربع وتسعون

[نزلت بعد الشعراء]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(٣)

(طس) قرئ بالتفخيم والإمالة ، و (تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين : إما اللوح ، وإبانته : أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه إبانة. وإما السورة. وإما القرآن ، وإبانتهما : أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع ، وأنّ إعجازهما ظاهر مكشوف ، وإضافة الآيات إلى القرآن والكتاب المبين : على سبيل التفخيم لها والتعظيم ، لأنّ المضاف إلى العظيم يعظم بالإضافة إليه. فإن قلت : لم نكر الكتاب المبين؟ قلت : ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له ، كقوله تعالى (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ). فإن قلت : ما وجه عطفه على القرآن إذا أريد به القرآن؟ قلت : كما يعطف إحدى الصفتين على الأخرى في نحو قولك : هذا فعل السخي والجواد الكريم ، لأنّ القرآن هو المنزل المبارك المصدّق لما بين يديه ، فكان حكمه حكم الصفات المستقلة بالمدح ، فكأنه قيل : تلك الآيات آيات المنزل المبارك آي

__________________

(١) رواه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب.

٣٤٦

كتاب مبين. وقرأ ابن أبى عبلة : وكتاب مبين بالرفع على تقدير : وآيات كتاب مبين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فإن قلت : ما الفرق بين هذا وبين قوله : الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين؟ قلت : لا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقدّم والتأخر ، وذلك على ضربين : ضرب جار مجرى التثنية لا يترجح فيه جانب على جانب ، وضرب فيه ترجح ، فالأول نحو قوله تعالى (وَقُولُوا حِطَّةٌ) ، (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) ومنه ما نحن بصدده. والثاني : نحو قوله تعالى (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) ، (هُدىً وَبُشْرى) في محل النصب أو الرفع ، فالنصب على الحال ، أى : هادية ومبشرة ، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ، والرفع على ثلاثة أوجه ، على : هي هدى وبشرى ، وعلى البدل من الآيات ، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر ، أى : جمعت أنها آيات ، وأنها هدى وبشرى. والمعنى في كونها هدى للمؤمنين : أنها زائدة في هداهم. قال الله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً). فإن قلت (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) كيف يتصل بما قبله؟ قلت : يحتمل أن يكون من جملة صلة الموصول ، ويحتمل أن تتم الصلة عنده ويكون جملة اعتراضية ، كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة : هم الموقنون بالآخرة ، وهو الوجه. ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرّر فيها المبتدأ الذي هو (هُمْ) حتى صار معناها : وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأنّ خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق (١).

__________________

(١) قال محمود : «كرر الضمير حتى صار معنى الكلام : ولا يوقن بالاخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الايمان والعمل الصالح ، لأن خوف الآخرة يحملهم على تحمل المشاق» قال أحمد : قد تقدم في غير موضع اعتقاد أن إيقاع الضمير مبتدأ يفيد الحصر ، كما مر له في قوله تعالى (هُمْ يُنْشِرُونَ) أن معناه : لا ينشر إلا هم ، وعد الضمير من آلات الحصر كما مر ليس ببين ، وقد بينا لمجيء الضمير في سورة اقترب وجها سوى الحصر. وأما وجه تكراره هاهنا ـ والله أعلم ـ فهو أنه لما كان أصل الكلام : وهم يوقنون بالآخرة ، ثم قدم المجرور على عامله عناية به فوقع فاصلا بين المبتدإ والخبر ، فأريد أن يلي المبتدأ خبره وقد حال المجرور بينهما ، فطري ذكره ليليه الخبر ، ولم يفت مقصود العناية بالمجرور. حيث بقي على حاله مقدما ، ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها بعد ما يوجب التظرية ، فأقرب منها أن الشاعر قال :

سل ذو عجل ذا وألحقنا بذا ال

الشحم إنا قد مللناه بخل

والأصل : وألحقنا بذا الشحم ، فوقع منتصف الرجز أو منتهاه ، على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل عند اللام وبنى الشاعر على أنه لا بد عند المنتصف أو المنتهى من وقيفة ما ، فقدر بتلك الوقفة بعد أن بين المعرف وآلة التعريف فطراها ثانية ، فهذه النظرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرر ولا كلمة واحدة ، سوى تقديره وقفة لطيفة لا غير ، فتأمل هذا الفصل فانه جدير بالتأمل ، والله أعلم.

٣٤٧

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)(٥)

فإن قلت : كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته ، وقد أسنده إلى الشيطان في قوله (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ)؟ قلت : بين الإسنادين فرق ، وذلك أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة ، وإسناده إلى الله عز وجل (١) مجاز ، وله طريقان في علم البيان. أحدهما : أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة. والثاني : أن يكون من المجاز الحكمىّ ، فالطريق الأوّل : أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق ، وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الروح والترفه ، ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة ، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم. وإليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) والطريق الثاني : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين ، فأسند إليه لأن المجاز الحكمىّ يصححه بعض الملابسات. وقيل : هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها : زينها لهم الله فعمهوا عنها وضلوا ، ويعزى إلى الحسن. والعمه : التحير والتردّد ، كما يكون حال الضال عن الطريق. وعن بعض الأعراب : أنه دخل السوق وما أبصرها قط ، فقال : رأيت الناس عمهين ، أراد : متردّدين في أعمالهم وأشغالهم (سُوءُ الْعَذابِ) القتل والأسر يوم بدر. و (الْأَخْسَرُونَ) أشدّ الناس خسرانا ، لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم ، فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله.

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦)

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت كيف أسند التزيين إلى ذاته وقد أسنده إلى الشيطان في قوله (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) قلت : إن بين الاسنادين فرقا ، فالاسناد إلى الله مجاز ، وإلى الشيطان حقيقة. وقد روى عن الحسن أن المراد زينا لهم أعمال البر فعمهوا عنها ولم يهتدوا إلى العمل بها» قال أحمد : وهذا الجواب مبنى على القاعدة الفاسدة في إيجاب رعاية الصلاح والأصلح ، وامتناع أن يخلق الله تعالى للعبد إلا ما هو مصلحة ، فمن ثم جعل إسناد التزيين إلى الله تعالى مجازا ، وإلى الشيطان حقيقة ، ولو عكس الجواب لفاز بالصواب ، وتأمل ميله إلى التأويل الآخر : من أن المراد أعمال البر على بعده ، لأنه لا يعرض لقاعدته بالنقض ، وأتى لهم ذلك وقد اتى الله بنيانهم من القواعد ، على أن التزيين قد ورد في الخير في قوله تعالى (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) على أن غالب وروده في غير البر ، كقوله (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) ، (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) ، (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ومما يبعد حمله على أعمال البر : إضافة الأعمال إليهم في قوله (أَعْمالَهُمْ) وأعمال البر ليست مضافة إليهم ، لأنهم لم يعملوها قط ، فظاهر الاضافة يعطى ذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) وقوله (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) فأطلق الايمان في المكانين عن إضافته إليهم ؛ لأنه لم يصدر منهم ، وأضاف الإسلام الظاهر إليهم ، لأنه صدر منهم ، والله أعلم.

٣٤٨

(لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) لتؤتاه وتلقنه (مِنْ) عند أىّ (حَكِيمٍ) وأىّ (عَلِيمٍ) وهذا معنى مجيئهما نكرتين. وهذه الآية بساط وتمهيد ، لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه.

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٧)

(إِذْ) منصوب بمضمر ، وهو : اذكر ، كأنه قال على أثر ذلك : خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى. ويجوز أن ينتصب بعليم. وروى أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته ، وقد كنى الله عنها بالأهل ، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع ، وهو قوله (امْكُثُوا). الشهاب : الشعلة. والقبس : النار المقبوسة ، وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبسا وغير قبس. ومن قرأ بالتنوين : جعل القبس بدلا ، أو صفة لما فيه من معنى القبس. والخبر : ما يخبر به عن حال الطريق ، لأنه كان قد ضله. فإن قلت : سآتيكم منها بخبر ، ولعلى آتيكم منها بخبر : كالمتدافعين : لأنّ أحدهما ترجّ والآخر تيقن. قلت : قد يقول الراجي إذا قوى رجاؤه : سأفعل كذا ، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة. فإن قلت : كيف جاء بسين التسويف؟ قلت : عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ ، أو كانت المسافة بعيدة. فإن قلت : فلم جاء بأو دون الواو؟ قلت : بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم واحدة منهما : إمّا هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده ، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعا ، وهما العزّان : عز الدنيا ، وعز الآخرة.

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨)

(أَنْ) هي المفسرة : لأنّ النداء فيه معنى القول. والمعنى : قيل له بورك. فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة وتقديره : نودي بأنه بورك. والضمير ضمير الشأن؟ قلت : لا ، لأنه لا بدّ من «قد». فإن قلت : فعلى إضمارها؟ قلت : لا يصح ، لأنها علامة لا تحذف. ومعنى (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) بورك من في مكان النار ، ومن حول مكانها. ومكانها : البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) وتدل عليه قراءة أبىّ. تباركت الأرض ومن حولها. وعنه : بوركت النار ، والذي بوركت له البقعة ، وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر دينى فيها : وهو تكليم

٣٤٩

الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه ، وربّ خير يتجدّد في بعض البقاع ، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها ، ويبث آثار يمنه في أباعدها ، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة. وقيل : المراد بالمبارك فيهم : موسى والملائكة الحاضرون. والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام ، ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) وحقت أن تكون كذلك ، فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ومهبط الوحى إليهم وكفاتهم أحياء وأمواتا. فإن قلت : فما معنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه؟ قلت : هي بشارة له بأنه قد قضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تعجيب لموسى عليه السلام من ذلك ، وإيذان بأنّ ذلك الأمر مريده ومكوّنه رب العالمين ، تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون.

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٩)

الهاء في (إِنَّهُ) يجوز أن يكون ضمير الشأن ، والشأن (أَنَا اللهُ) مبتدأ وخبر. و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان للخبر. وأن يكون راجعا إلى ما دل عليه ما قبله ، يعنى : أنّ مكلمك أنا ، والله بيان لأنا. والعزيز الحكيم : صفتان للمبين ، وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة ، يريد : أنا القوىّ القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصاحية ، الفاعل كل ما أفعله تحكمة وتدبير.

(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١)

فإن قلت : علام عطف قوله (وَأَلْقِ عَصاكَ)؟ قلت : على بورك ، لأن المعنى : نودي أن بورك من في النار ، وأن ألق عصاك : كلاهما تفسير لنؤدي. والمعنى : قيل له بورك من في النار ، وقيل له : ألق عصاك. والدليل على ذلك قوله تعالى (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) بعد قوله (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) على تكرير حرف التفسير ، كما تقول : كتبت إليك أن حج وأن اعتمر ، وإن شئت أن حج واعتمر. وقرأ الحسن : جأنّ على لغة من يجدّ في الهرب من التقاء الساكنين ، فيقول : شأبّة ودأبّة. ومنها قراءة عمرو بن عبيد : ولا الضألين (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع ، يقال : عقب المقاتل ، إذا كرّ بعد الفرار. قال :

٣٥٠

فما عقّبوا إذ قيل هل من معقّب

ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا (١)

وإنما رعب لظنه أن ذلك لأمر أريد به ، ويدل عليه (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) و (إِلَّا) بمعنى «لكن» لأنه لما أطلق نفى الخوف عن الرسل ، كان ذلك مظنة لطروّ الشبهة ، فاستدرك ذلك. والمعنى : ولكن من ظلم منهم أى فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء ، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى بوكزة القبطي ، ويوشك أن يقصد بهذا التعريض بما وجد من موسى ، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها. وسماه ظلما ، كما قال موسى (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) والحسن ، والسوء : حسن التوبة ، وقبح الذنب. وقرئ : ألا من ظلم ، بحرف التنبيه. وعن أبى عمرو في رواية عصمة : حسنا.

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)(١٢)

و (فِي تِسْعِ آياتٍ) كلام مستأنف ، وحرف الجرّ فيه يتعلق بمحذوف. والمعنى : اذهب في تسع آيات (إِلى فِرْعَوْنَ) ونحوه :

فقلت إلى الطّعام فقال منهم

فريق نحسد الإنس الطّعاما (٢)

ويجوز أن يكون المعنى : وألق عصاك ، وأدخل يدك : في تسع آيات ، أى : في جملة تسع آيات وعدادهنّ. ولقائل أن يقول : كانت الآيات إحدى عشرة : ثنتان منها اليد والعصا ، والتسع : الفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، والجدب في بواديهم ، والنقصان في مزارعهم.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(١٣)

المبصرة : الظاهرة البينة. جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمّليها ، لأنهم لابسوها وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها. ويجوز أن يراد بحقيقة الإبصار : كل ناظر فيها من كافة أولى العقل ، وأن يراد إبصار فرعون وملئه ، لقوله (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أو جعلت كأنها تبصر فتهدى ، لأنّ العمى لا تقدر على الاهتداء ، فضلا أن تهدى غيرها. ومنه قولهم : كلمة عيناء ،

__________________

(١) يصف قوما بالجبن ، وإنهم إن قيل : هل من معقب وراجع على عقبه للحرب فما رجعوا إليها ، ولا نزلوا يوم الحرب منزلا من منازلها ، أى : لم يقدموا مرة على العدو. وروى : إذ قيل ، أى : حين ذلك.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٣٥١

وكلمة عوراء ، لأن الكلمة الحسنة ترشد ، والسيئة تغوى. ونحوه قوله تعالى (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) فوصفها بالبصارة ، كما وصفها بالإبصار. وقرأ علىّ بن الحسين رضى الله عنهما وقتادة : مبصرة ، وهي نحو : مجبنة ومبخلة ومجفرة (١) ، أى : مكانا يكثر فيه التبصر.

(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(١٤)

الواو في (وَاسْتَيْقَنَتْها) واو الحال ، وقد بعدها مضمرة ، والعلو : الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى ، كقوله تعالى (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) وقرئ : عليا ، وعليا بالضم والكسر ، كما قرئ عتيا ، وعتيا. وفائدة ذكر الأنفس : أنهم جحدوها بألسنتهم ، واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم. والاستيقان أبلغ من الإيقان ، وقد قوبل بين المبصرة والمبين ، وأى ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله ، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٥)

(عِلْماً) طائفة من العلم (٢) أو علما سنيا غزيرا. فإن قلت : أليس هذا موضع الفاء دون الواو ، كقولك : أعطيته فشكر ، ومنعته فصبر؟ قلت : بلى ، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه ، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد ، كأنه قال : ولقد آتيناهما علما فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه (٣) والفضيلة (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ

__________________

(١) قوله «ومجفرة» في الصحاح «جفر الفحل عن الضراب» : إذا انقطع عنه. ومنه قيل : الصوم مجفرة ، أى قاطع للنكاح. (ع)

(٢) قال محمود : «معناه طائفة من العلم» قال أحمد : التبعيض والتقليل من التنكير ، وكما يرد للتقليل من شأن المنكر ، فكذلك يرد للتعظيم من شأنه كما مر آنفا في قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) ولم يقبل الحكيم العليم. والغرض من التنكير التفخيم ، كأنه قال : من لدن حكيم عليم ، فظاهر قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) في سياق الامتنان تعظيم العلم الذي أوتياه ، كأنه قال : علما أى علم ، وهو كذلك ، فان علمهما كان مما يستعظم ويستغرب ، ومن ذلك علم منطق الطير وسائر الحيوانات الذي خصهما الله تعالى به وكل علم بالاضافة إلى علم الله تعالى قليل ضئيل ، والله أعلم.

(٣) قال محمود : «بجلا نعمة الله عليهما من حيث قولهما (فَضَّلَنا) وتواضعا بقولهما (عَلى كَثِيرٍ) ولم يقولا : على عباده ، اعترافا بأن غيرهما يفضلهما ، حذرا من الترفع.

٣٥٢

الَّذِي فَضَّلَنا). والكثير المفضل عليه : من لم يؤت علما. أو من لم يؤت مثل علمهما. وفيه:أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم. وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلا على كثير من عباد الله ، كما قال (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ورثة الأنبياء (١)» إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة ، لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله. وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم ، منها : أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم. وفيها التذكير بالتواضع ، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر : كل الناس أفقه من عمر (٢).

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ)(١٦)

ورث منه النبوّة والملك دون سائر بنيه ـ وكانوا تسعة عشر ـ وكان داود أكثر تعبدا ، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ) تشهيرا لنعمة الله ، وتنويها بها ، واعترافا بمكانها ، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير ، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور. والمنطق : كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف ، المفيد وغير المفيد. وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق ، وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم ، وقالت العرب : نطقت الحمامة ، وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته ، والذي علمه سليمان من منطق الطير : هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه (٣) وأغراضه. ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول؟ قالوا : الله ونبيه أعلم : قال يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا. وصاح طاوس ، فقال يقول : كما تدين تدان. وصاح هدهد ، فقال يقول : استغفروا الله يا مذنبين.

__________________

(١) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان من حديث أبى الدرداء ، من حديث رواه «من سلك طريقا يلتمس فيه علما وفيه : إن العلماء ورثة الأنبياء» وله طرق عند الطبراني. وفي الباب عن البراء وابن عمرو ابن العاص أخرجهما أبو نعيم في كتاب فضل العالم العفيف على الجاهل الشريف. وعن ابن مسعود أخرجه ابن حمزة السهمي في تاريخ جرجان. وعن جابر أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة أحمد بن محمد الثلجى. وفي إسناده الضحاك بن حجزة. وهو متهم بوضع الحديث

(٢) تقدم في سورة النساء

(٣) قوله «هو ما يفهم بعضه من بعض معانيه» عبارة النسفي : والمنطق : كل ما يصوت من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد ، وكان سليمان عليه السلام يفهم منها كما يفهم بعضها من بعض اه (ع)

٣٥٣

وصاح طيطوى ، فقال يقول : كل حىّ ميت ، وكل جديد بال. وصاح خطاف فقال يقول: قدّموا خيرا تجدوه. وصاحت رخمة ، فقال تقول : سبحان ربى الأعلى ملء سمائه وأرضه. وصاح قمرى ، فأخبر أنه يقول : سبحان ربى الأعلى. وقال : الحدأ يقول : كل شيء هالك إلا الله. والقطاة تقول : من سكت سلم. والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه : والديك يقول: اذكروا الله يا غافلين. والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس. والضفدع يقول : سبحان ربى القدوس. وأراد بقوله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) كثرة ما أوتى ، كما تقول : فلان يقصده كل أحد ، ويعلم كل شيء ، تريد : كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه. ومثله قوله (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر (١)» أى : أقول هذا القول شكرا ولا أقوله فخرا. فإن قلت : كيف قال علمنا وأوتينا وهو من كلام المتكبرين؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يريد نفسه وأباه. والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع ـ وكان ملكا مطاعا ـ فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها ، وليس التكبر من لوازم ذلك ، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه وإظهار آيينه (٢) وسياسته مصالح ، فيعود تكلف ذلك واجبا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل نحوا من ذلك إذا وفد عليه وفد أو احتاج أن يرجح في عين عدوّ. ألا ترى كيف أمر العباس رضى الله عنه بأن يحبس أبا سفيان حتى تمرّ عليه الكتائب (٣).

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)(١٧)

روى أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة : خمسة وعشرون للجنّ ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة منكوحة. وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب ، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس ،

__________________

(١) تقدم في سورة يوسف

(٢) قوله «وإظهار آيينه» قيل : مراتبه وبهاؤه. وفي نسخة : أبهته ، فليحرر. (ع)

(٣) أخرجه البخاري من رواية هشام بن عروة عن أبيه في قصة الفتح قال فأسلم أبو سفيان. فلما سار قال للعباس احبس أبا سفيان عند حطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين ، فحبسه العباس ، فجعلت الكتائب تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة بعد كتيبة» وأخرجه البيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.

٣٥٤

وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر. ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ، ويأمر الرخاء تسيره ، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إنى قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك ، فيحكى أنه مر بحرّاث فقال : لقد أوتى آل داود ملكا عظيما ، فألقته الريح في أذنه ، فنزل ومشى إلى الحرّاث وقال : إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ، ثم قال : لتسبيحة واحدة يقبلها الله ، خير مما أوتى آل داود (يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم ، أى : توقف سلاف العسكر (١) حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد ، وذلك للكثرة العظيمة.

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٨)

قيل : هو واد بالشام كثير النمل. فان قلت : لم عدّى (أَتَوْا) بعلى؟ قلت : يتوجه على معنيين أحدهما ؛ أن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء ، كما قال أبو الطيب :

ولشدّ ما قربت عليك الأنجم (٢)

لما كان قربا من فوق. والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره ، من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم ، وقرئ نملة يا أيها النمل ، بضم الميم وبضم النون والميم ، وكان الأصل : النمل ، بوزن الرجل ، والنمل الذي عليه الاستعمال : تخفيف عنه ، كقولهم «السبع» في السبع. قيل : كانت تمشى وهي عرجاء تتكاوس (٣) ، فنادت : يا أيها النمل : الآية ، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وقيل : كان اسمها طاخية. وعن قتادة أنه دخل الكوفة

__________________

(١) قوله «سلاف العسكر» أى متقدموهم. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) فلشد ما جاوزت قدرك صاعدا

ولشد ما قربت عليك الأنجم

لأبى الطيب المتنبي ، طلب منه رجل المدح ، فأبى وقال ذلك ، واللام للتأكيد ، وشد على صورة المبنى للمجهول للتعجب ، وأصله شدد كحسن ، فنقل ضم الدال إلى الشين وأدغم ، كما هو قياس بناء التعجب ، أى : ما أشد مجاوزتك لقدرك ، يعنى : كثرت مجاوزتك لمقدارك ، حال كونك صاعدا فيما ليس لك من الرفعة ، وقال : عليك ، دون : إليك ، لأن قرب الأنجم من جهة العلو ، أى : كثر عندك قرب النجوم إليك من فوق ، ثم يحتمل أن النجوم حقيقة فقد بنى على الصعود المعنوي ما ينبنى على الصعود الحسى ، للمبالغة في تشبيه الأول بالثاني. ويحتمل أنها مستعارة لشعره الذي هو النجوم في الحسن ، وعزة الوصول إليه على طريق التصريحية ، ففيه شبه التورية.

(٣) قوله «تتكاوس» في الصحاح : كوسته على رأسه تكويسا ، أى : قلبته ، وكاس هو يكوس : إذا فعل ذلك. وكاس البعير : إذا مشى على ثلاث قوائم وهو معرقب. (ع)

٣٥٥

فالتف عليه الناس ، فقال : سلوا عما شئتم ، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضرا ـ وهو غلام حدث ـ. فقال : سلوه عن نملة سليمان ، أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له : من أين عرفت؟ قال : من كتاب الله ، وهو قوله (قالَتْ نَمْلَةٌ) ولو كانت ذكرا لقال : قال نملة ، (١) وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر ، وحمامه أنثى ، وهو وهي. وقرئ : مسكنكم ولا يحطمنكم ، بتخفيف النون ، وقرئ لا يحطمنكم بفتح الحاء وكسرها. وأصله : يحتطمنكم. ولما جعلها قائلة والنمل مقولا لهم كما يكون في أولى العقل : أجرى خطابهم مجرى خطابهم. فإن قلت : لا يحطمنكم ما هو؟ قلت : يحتمل أن يكون جوابا للأمر ، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر ، والذي جوّز أن يكون بدلا منه : أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم ، على طريقة : لا أرينك هاهنا ، أراد : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ ، ونحوه : عجبت من نفسي ومن إشفاقها.

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)(١٩)

ومعنى (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) تبسم شارعا في الضحك وآخذا فيه ، يعنى أنه قد تجاوز حدّ التبسم إلى الضحك ، وكذلك ضحك الأنبياء عليهم السلام. وأما ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه (٢) فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك

__________________

(١) قال محمود «لما دخل قتادة الكوفة التفت عليه الناس ، فقال : سلوا عما شئتم ، فقال أبو حنيفة ـ وكان شابا ـ : سلوه عن النملة التي كلمت سليمان ، أذكر كانت أم أنثى؟ فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى فقيل : كيف لك ذلك؟ قال : لأن الله عز وجل قال (قالَتْ نَمْلَةٌ) ، ولو كانت ذكرا لقال : قال نملة» قال أحمد : لا أدرى العجب منه أم من أبى حنيفة أن يثبت ذلك عنه ، وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس ، يقال : نملة ذكر ونملة أنثى ، كما يقولون حمامة ذكر وحمامة أنثى ، وشاة ذكر وشاة أنثى ، فلفظها مؤنث. ومعناه محتمل ، فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها ، وإن كانت واقعة على ذكر. بل هذا هو الفصيح المستعمل. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تضحى بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء» كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعنى الإناث من الأنعام خاصة ، فحينئذ قوله تعالى (قالَتْ نَمْلَةٌ) روعي فيه تأنيث اللفظ. وأما المعنى فيحتمل على حد سواء ، وإنما أطلت في هذا وإن كان لا يتمشى عليه حكم ، لأنه نسبه إلى الامام أبى حنيفة على بصيرته باللغة ، ثم جعل هذا الجواب معجبا لنعمان على غزارة علمه وتبصره بالمنقولات ، ثم قرر الكلام على ما هو عليه مصونا له ، فيا للعجب العجاب ، والله الموفق للصواب.

(٢) وقعت في هذه الجملة عدة أحاديث. منها حديث ابن مسعود «جاء رجل من اليهود. فقال : يا محمد ، إن الله يمسك السماوات على أصبع الحديث. وفيه فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» متفق

٣٥٦

النبوي ، وإلا فبدوّ النواجذ على الحقيقة إنما يكون عند الاستغراب ، وقرأ ابن السميقع : ضحكا ، فان قلت : ما أضحكه من قولها؟ قلت : شيئان ، إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم ، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى ، وذلك قولها (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) تعنى أنهم لو شعروا لم يفعلوا. وسروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا : من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحكل (١) الذي هو مثل في الصغر والقلة ، ومن إحاطته بمعناه ، ولذلك اشتمل دعاؤه على استيزاع الله شكر ما أنعم به عليه من ذلك ، وعلى استيفاقه (٢) لزيادة العمل الصالح والتقوى. وحقيقة (أَوْزِعْنِي) اجعلنى أزع شكر نعمتك عندي ، وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عنى ، حتى لا أنفك شاكرا لك. وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين ، خصوصا النعمة الراجعة إلى الدين ، فإنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له ، وقالوا : رضى الله عنك وعن والديك. وروى

__________________

ـ عليه. ومنها حديثه مرفوعا «إنى لأعلم آخر أهل النار خروجا منها ـ الحديث. وفيه : قول الرجل : أتسخر بى وأنت الملك؟ قال : ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه» متفق عليه أيضا. ومنها حديث أبى ذر رضى الله عنه «يؤتى برجل يوم القيامة. فيقال اعرض عليه صغار ذنوبه ـ الحديث. وفيه : فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره» أخرجه مسلم. ومنها حديث أبى سعيد ـ رفعه ـ «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة ـ الحديث. وفيه : فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه» متفق عليه ومنها حديث جابر «دخل أبو بكر والقوم جلوس على الباب ـ فذكر الحديث وفيه : فقال عمر : لو رأيت بنت خارجة وهي تسألنى النفقة فقمت فوجأت عنقها. قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» أخرجه مسلم. ومنها حديث ابن عمر رضى الله عنهما «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصاب الناس مخمصة ـ الحديث. وفيه : فلم يبق في الجيش وعاء إلا مليء وبقي مقله. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» أخرجه ابن حبان والحاكم. ومنها حديث سلمة بن الأكوع «قدمنا الحديبية ـ الحديث. وفيه : قلت يا رسول الله ، خلنى أنتخب من القوم مائة رجل ، فأتبع القوم ، فلا أبقى منهم أحدا إلا قتلته ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» وهو حديث طويل. وفيه هذه اللفظة في موضع آخر أخرجه مسلم. ومنها حديث زيد بن أرقم «أتى على رضى الله عنه ـ وهو باليمن ـ بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد ـ الحديث. وفيه : فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه» أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم. ومنها حديث أم أيمن «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، فبال في فخارة. فقمت وأنا عطشانة فشربته وأنا لا أشعر فلما أصبح أمرنى أن أهريقها فقلت : إنى شربتها ، فضحك حتى بدت نواجذه» أخرجه الحاكم. ومنها حديث صهيب في أكلة التمر وهو أرمد. فقال «إنما آكله من شق عينى الصحيحة. قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» أخرجه البزار بتمامه. وبعضه لابن ماجة والحاكم. ومنها حديث ابن عباس «كان عبد الله ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته. فقام إلى جارية له فوقع عليها ـ الحديث. وفيه : الشعر. وقول المرأة :آمنت بالله وكذبت البصر. قال : فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فضحك حتى بدت نواجذه» أخرجه البزار وإسناده ضعيف.

(١) قوله «ما همس به بعض الحكل» في الصحاح «الحكل» : ما لا يسمع له صوت. (ع)

(٢) قوله «وعلى استيفاقه لزيادة العمل» في الصحاح «استوفقت الله» : سألته التوفيق. (ع)

٣٥٧

أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء ، فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهنّ ، ثم دعا بالدعوة. ومعنى (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) واجعلنى من أهل الجنة.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(٢١)

(أَمْ) هي المنقطعة : نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره ، فقال (ما لِيَ لا أَرَى) على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. ونحوه قولهم : إنها لإبل أم شاء ، وذكر من قصة الهدهد أنّ سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشره (١) ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء ، وكان يقرّب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة ، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا ، فوافى صنعاء وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها ، فنزل ليتغدّى ويصلى فلم يجدوا الماء ، وكان الهدهد قناقنه (٢) ، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء ، فتفقده لذلك ، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا واقعا ، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس ، وأنّ تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر ، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب : علىّ به ، فارتفعت فنظرت ، فإذا هو مقبل فقصدته ، فناشدها الله وقال : بحق الذي قوّاك وأقدرك علىّ إلا رحمتينى ، فتركته وقالت : ثكلتك أمك ، إنّ نبى الله قد حلف ليعذبنك ، قال : وما استثنى؟ قالت : بلى قال : أو ليأتينى بعذر مبين ، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها علىّ الأرض تواضعا له ، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه ، فقال : يا نبى الله ، اذكر وقوفك بين يدي الله ، فارتعد سليمان وعفا عنه ، ثم سأله. تعذيبه : أن يؤدّب

__________________

(١) قوله «تجهز للحج بحشره» في الصحاح : حشرت الناس أحشرهم حشرا : جمعتهم. ومنه : يوم الحشر. (ع)

(٢) قوله «وكان الهدهد قناقنه» القناقن ـ بالضم ـ : الدليل الهادي والبصير بالماء في حفر القنى. والقنى : جمع قناة. أفاده الصحاح في موضعين. (ع)

٣٥٨

بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه. وقيل : كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه. وقيل : أن يطلى بالقطران ويشمس. وقيل : أن يلقى للنمل تأكله. وقيل : إيداعه القفص. وقيل : التفريق بينه وبين إلفه. وقيل : لألزمنه صحبة الأضداد. وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد. وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه. فإن قلت : من أين حل له تعذيب الهدهد؟ قلت : يجوز أن يبيح له الله ذلك. لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة ، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع : وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة : جاز أن يباح له ما يستصلح به. وقرئ : ليأتينى. وليأتينن. والسلطان : الحجة والعذر. فإن قلت : قد حلف على أحد ثلاثة أشياء : فحلفه على فعليه لا مقال فيه ، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتى بسلطان ، حتى يقول والله ليأتينى بسلطان؟ قلت : لما نظم الثلاثة «بأو» في الحكم الذي هو الحلف : آل كلامه إلى قولك : ليكونن أحد الأمور ، يعنى : إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإن لم يكن كان أحدهما ، وليس في هذا ادّعاء دراية ، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحى من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين ، فثلث بقوله (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) عن دراية وإيقان.

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)(٢٢)

(فَمَكَثَ) قرئ بفتح الكاف وضمها (غَيْرَ بَعِيدٍ) غير زمان بعيد ، كقوله : عن قريب. ووصف مكثه بقصر المدّة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان ، وليعلم كيف كان الطير مسخرا له ، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوّته وعلى قدرة الله تعالى (أَحَطْتُ) بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق : ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتى من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ، وتنبيها على أنّ في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة ، والإحاطة بالشيء علما : أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم. قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إنّ الإمام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. سبأ : قرئ بالصرف ومنعه. وقد روى بسكون الباء. وعن ابن كثير في رواية : سبا ، بالألف كقولهم : ذهبوا أيدى سبا. وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف ، ومن جعله اسما للحىّ أو الأب الأكبر صرف. قال :

٣٥٩

من سبإ الحاضرين مأرب إذ

يبنون من دون سيله العرما (١)

وقال :

الواردون وتيم في ذرى سباء

قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس (٢)

ثم سميت مدينة مأرب بسبإ ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ، كما سميت معافر بمعافر بن أدّ. ويحتمل أن يراد المدينة والقوم. والنبأ : الخبر الذي له شأن. وقوله (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) من جنس الكلام الذي سماه المحدّثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق (٣) باللفظ ، بشرط أن يجيء مطبوعا. أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده ، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى. ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبإ بخبر ، لكان المعنى صحيحا ، وهو كما جاء أصح ، لما في النبإ ، من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ)(٢٣)

المرأة بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ، وقد ولده أربعون ملكا ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت على الملك ، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس. والضمير في (تَمْلِكُهُمْ) راجع إلى سبإ ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر ، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها. وقيل في وصف عرشها : كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمكه ثمانين. وقيل ثلاثين مكان ثمانين ، وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر ، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق. فإن قلت : كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان ، فاستعظم لها ذلك العرش. ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء ، كما يكون لبعض

__________________

(١) يمدح رجلا بأنه من قبيلة سبأ ، وهو في الأصل اسم لابن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ثم سميت به القبيلة ومأرب : مدينتها. وقيل : قصر لملكهم ، وهو مفعول الحاضرين ممنوع من الصرف. وإذ ظرف. ومن دون بمعنى أمام. والعرم : السد العظيم ، يحبس السيل عن المدينة.

(٢) أى الواردون هم ، وتيم : اسم قبيلة في أعالى أرض سبأ. والمراد بجلد الجواميس : الحبال المفتولة منه لتغسل بها الأسرى في أعناقهم ، فشبهت ما يصح منه العض لصلابتها على طريق المكنية ، والعض تخييل ، ويصح استعارته للقرص على طريق التصريحية ، وسبأ ـ في الأصل ـ : لقب رجل من قحطان اسمه عبد شمس ، لأنه أول من سبى كان له عشرة أولاد ، فذهب ستة إلى اليمن : حمير ، وكندة ، والأسد ، وأشعر ، وقشعم ، وبجيلة. وذهب أربعة إلى الشام : لخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان. وبها سميت قبائلهم المشهورة.

(٣) قوله «الذي يتعلق» لعله : التي تتعلق. (ع)

٣٦٠