التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

الإعراب :

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) بدل من (إِذْ) في قوله : (إِذْ يَعِدُكُمُ). (بِأَلْفٍ) منصوب بممدكم. وقرئ «بآلاف» جمع ألف ؛ لأن فعلا يجمع على أفعل ، نحو فلس وأفلس ، وكلب وأكلب ، ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى : (بِخَمْسَةِ آلافٍ) [آل عمران ٣ / ١٢٥] وآلف : جمع ألف لما دون العشرة ، ويقع على خمسة آلاف من الملائكة صفة للألف. (مُرْدِفِينَ) بالكسر : وصف لألف ، على أنهم أردفوا غيرهم ، أي أردف كل ملك ملكا. (مُرْدِفِينَ) بالفتح مع التخفيف : إما منصوب على الحال من الكاف والميم في (مُمِدُّكُمْ) وإما في موضع جر ؛ لأنه صفة لألف ، أي متبعين بألف. وقرئ مردفين.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) بدل ثان من (إِذْ يَعِدُكُمُ) أو منصوب بكلمة (النَّصْرُ) أو بإضمار : اذكر. والفاعل هو الله عزوجل ، و (النُّعاسَ) : مفعول به و (أَمَنَةً) مفعول لأجله ، والمعنى إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا أي لأمنكم. و (أَمَنَةً) صفة لكلمة (أَمَنَةً) أي أمنة حاصلة لكم من الله عزوجل.

(إِذْ يُوحِي) بدل ثالث من : (إِذْ يَعِدُكُمُ) ، ويجوز أن ينتصب بيثبت. و (أَنِّي مَعَكُمْ) : مفعول يوحي.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ ذلِكَ) : مبتدأ ، أو خبر مبتدأ. وتقديره : ذلك الأمر ، أو الأمر ذلك.

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) خبر مبتدأ مقدر ، تقديره : والأمر ذلكم. (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) عطف على (ذلِكُمْ) وتقديره : والأمر أن للكافرين عذاب النار.

البلاغة :

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) أتى بصيغة المضارع عن الماضي لاستحضار الصورة في الذهن.

(وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) تقديم الجار والمجرور على المفعول به ، للاهتمام بالمقدم ، والتشويق إلى المؤخر.

المفردات اللغوية :

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) تطلبون منه الغوث بالنصر عليهم. (أَنِّي) بأني. (مُمِدُّكُمْ) معينكم. (مُرْدِفِينَ) متتابعين ، يردف بعضهم بعضا ، مأخوذ من الإرداف : وهو الركوب وراءه ، وعدهم أولا (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) ، ثم صارت ثلاثة ، ثم خمسة ، كما ذكر في آل عمران [١٢٤ ، ١٢٥].

٢٦١

(وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي الإمداد. (وَلِتَطْمَئِنَ) تسكن بعد ذلك الاضطراب والخوف الذي عرض لكم إجمالا. (عَزِيزٌ) غالب على أمره. (حَكِيمٌ) يضع الشيء في موضعه.

(يُغَشِّيكُمُ) يجعله عليكم كالغطاء ، من حيث اشتماله عليكم. (النُّعاسَ) فتور في الحواس والأعصاب يعقبه النوم ، فهو مقدمة له ، وهو يضعف الإدارك ، والنوم يزيله. (أَمَنَةً) أمنا مما حصل لكم من الخوف. (أَمَنَةً) من الله تعالى.

(لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من الأحداث والجنابات. (رِجْزَ الشَّيْطانِ) وسوسته لكم بأنكم لو كنتم على الحق ما كنتم ظمأى محدثين ، والمشركون على الماء. (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) يحبس ، أي ليثبت القلوب ويحملها على الصبر واليقين. (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) أن تسوخ في الرمل.

(فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) بالإعانة والتبشير. (الرُّعْبَ) الخوف الشديد. (فَوْقَ الْأَعْناقِ) أي الرؤوس. (كُلَّ بَنانٍ) أي أطراف الأصابع من اليدين والرجلين. (ذلِكَ) العذاب الواقع بهم. (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا) خالفوا وعادوا ، وسميت العداوة مشاقة ؛ لأنها تجعل كل طرف في شق أو جانب غير الآخر. (ذلِكُمْ) العذاب. (فَذُوقُوهُ) أيها الكافرون في الدنيا. (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) في الآخرة.

سبب النزول :

روى أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه ، وهم ثلاثمائة ونيف أو (وبضعة عشر رجلا) ، ونظر إلى المشركين ، فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام ، فلا تعبد في الأرض أبدا» قال : فما زال يستغيث ربه ويدعوه ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه فرداه (أو فألقاه على منكبيه) ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عزوجل : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).

فلما كان يومئذ ، التقوا ، فهزم الله المشركين ، فقتل منهم سبعون رجلا ،

٢٦٢

وأسر منهم سبعون رجلا (١).

وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر : «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده ، فقال : حسبك ، فخرج وهو يقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر ٥٤ / ٤٥].

فعلى هذا كانت الاستغاثة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو المشهور. ولما اصطف القوم ، قال أبو جهل : «اللهم ، أولانا بالحق فانصره» ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور.

وهناك قول ثان أن الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين ؛ لأن خوفهم كان أشد من خوف الرسول.

والأقرب أنه دعا عليه الصلاة والسّلام وتضرع ، على ما روي ، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه ، تابعين له في الدعاء في أنفسهم ، فنقل دعاء الرسول ولم ينقل دعاء القوم.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنه يحق الحق ويبطل الباطل ، بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة.

التفسير والبيان :

اذكروا أيها المؤمنون وقت استغاثتكم ربكم ، لما علمتم أنه لا بد من القتال ، داعين : «إي ربنا انصرنا على عدوك ، يا غياث المستغيثين أغثنا». والمراد تذكيرهم بنعمة الله عليهم الذي أجاب دعاءهم ، ليشكروا ، وليعلموا مدى فضل الله عليهم ، ورحمته بهم.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ١٣٩ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٨٩.

٢٦٣

فاستجاب لكم ، أي فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من أعيان الملائكة ، مردفين أي يردف بعضهم بعضا ويتبعه ، فيتقدم بعضهم ويعقبه الآخر ، وهكذا تتابع الملائكة ، وهذه هي الطليعة ، ثم تبعها آخرون ، فصاروا ثلاثة آلاف ، ثم خمسة آلاف ، كما قال تعالى في سورة آل عمران : (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) [١٢٤] ثم قال : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا ، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [١٢٥].

وما جعل الله إرسال الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى لكم بأنكم منصورون ، ولتسكن به قلوبكم من الاضطراب الذي عرض لكم ، وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم.

وليس النصر الحقيقي في الحروب إلا من عند الله ، دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب الظاهرية ، إن الله عزيز لا يغلب ، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه ، كما قال تعالى : (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) [محمد ٤٧ / ٤].

وهل قاتلت الملائكة بالفعل يوم بدر؟ يرى بعضهم أن الملائكة لم يقاتلوا ، وإنما كان لهم تقوية معنوية؟ فكانوا يكثرون السواد ، ويثبّتون المؤمنين ، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم ، فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط ، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة. وقد أخذ بهذا الرأي الشيخ محمد عبده ومدرسته.

وقال جمهور العلماء : نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة ، وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة ، وفيها علي بن أبي طالب في صور الرجال ، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض ، وقد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت.

٢٦٤

وهذا هو المشهور ، المروي عن ابن عباس قال : وأمد الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنّبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنّبة.

وهذا هو الراجح المؤيد في السنة النبوية بالروايات الصحيحة ، روى ابن جرير ومسلم عن ابن عباس عن عمر الحديث المتقدم. ورويت أحاديث أخرى. ولو لا الأحاديث لكان للرأي الأول اعتبار واضح.

وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود : من أين كان الصوت الذي كنا نسمع ، ولا نرى شخصا؟ قال : هو من الملائكة ، فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم.

ومن المتفق عليه أن الملائكة لم يقاتلوا يوم أحد ؛ لأن الله وعدهم بالنصر وعدا معلقا على الصبر والتقوى ، فلم يحققوا هذا الشرط.

وقتال الملائكة مع المؤمنين لا يقلل من أهمية قيام المؤمنين بواجبهم في القتال على أتم وجه وأكمله ، فإنهم قاتلوا قتالا مستميتا استحقوا به كل تقدير ، جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمر ـ لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة : «إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم».

وكان وقع المعركة على قريش شديدا جدا بسبب ما لا قوة من قتل زعمائهم بأسياف المسلمين ورماحهم وعلى يد شبانهم ، مع أنهم الفرسان المشاهير ، فكان هذا هو عقاب كفرهم وعنادهم ، والله تعالى يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم الأمم المكذبة ، كما أهلك قوم نوح بالطوفان ، وعادا الأولى بالدبور (الريح الصرصر العاتية) ، وثمود بالصيحة (الصوت الشديد المهلك) وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل (من جهنم) وقوم شعيب بيوم الظلة ، وفرعون وقومه بالغرق في اليم.

٢٦٥

فالنعمة الأولى التي يذكّر الله بها المسلمين يوم بدر : إمدادهم بالملائكة ، ثم ذكّرهم بنعمتين أخريين هما إلقاء النعاس وإنزال المطر ، فقال : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ ..) أي اذكروا ما أنعم الله عليكم من إلقاء النعاس عليكم حتى غشيكم كالغطاء ، أمانا أمّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من رؤية كثرة عدوهم وقلة عددهم ، وأراحهم من عناء السير ، فمن غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف ، ويرتاح ويجدد نشاطه وقوته ، روى البيهقي في الدلائل عن علي رضي‌الله‌عنه قال : «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي تحت شجرة ، حتى أصبح».

وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها ، فكان النوم للجمع العظيم في الخوف الشديد دفعة واحدة عجيبا وفي حكم المعجز الخارق للعادة ، مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهمّ ، ولكن الله ربط جأشهم.

قال الماوردي : وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان :

أحدهما ـ أن قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.

الثاني ـ أن أمّنهم بزوال الرعب من قلوبهم ؛ كما يقال : الأمن منيم ، والخوف مسهر.

وكذلك فعل الله تعالى بهم فألقى النعاس عليهم يوم أحد ، كما قال تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً ، يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) [آل عمران ٣ / ١٥٤].

وأنزل الله عليكم أيضا مطرا من السماء ليطهركم به من الحدث والجنابة ، ويذهب عنكم وسوسة الشيطان إليكم وتخويفكم من العطش ، وقيل : يذهب عنكم الجنابة التي أصابت بعضكم ؛ لأنها من تخييله ، (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) ، أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء ، وهو شجاعة الباطن ، و (يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) ، وهو

٢٦٦

شجاعة الظاهر ، أي أن إنزال المطر حقق أربع فوائد : التطهير الحسي بالنظافة والشرعي بالغسل من الجنابة والوضوء ، وإذهاب وسوسة الشيطان ، والربط على القلوب أي توطين النفس على الصبر ، وتثبيت الأقدام به على الرمال.

وظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر ، وهي ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان. وقال مجاهد وابن أبي نجيح : كان المطر قبل النعاس.

والسبب في إنزال المطر : ما روى ابن المنذر من طريق ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه : أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء ، فظمئ المسلمون ، وصلوا مجنبين محدثين ، وكان بينهم رمال ، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن ، وقال : أتزعمون أن فيكم نبيا ، وأنكم أولياء ، وتصلّون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء ، فسال عليهم الوادي ماء ، فشرب المسلمون ، وتطهروا ، وثبتت أقدامهم (على الرمل المتلبد) وذهبت وسوسته. والضمير في (بِهِ) للماء أو المطر.

وسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء المتجمع من ماء المطر ، فنزلوا عليه ، وصنعوا الحياض ، ثم غوّروا ما عداها من المياه ، وبني لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عريش على تلّ مشرف على المعركة.

هذا ما دل عليه الخبر وهو أن المشركين سبقوا إلى التجمع على الماء يوم بدر ، والمعروف كما ذكر ابن إسحاق في سيرته وتبعه ابن هشام في سيرته : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سار إلى بدر ، نزل على أدنى ماء هناك ، أي أول ماء وجده ، فتقدم إليه الحباب بن المنذر ، فقال : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلا أنزلكه الله ، ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال : بل هو الحرب والرأي والمكيدة ، قال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نغوّر ما وراءه من القلب

٢٦٧

(الآبار غير المبنية) ثم نبني عليها حوضا ، فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد أشرت بالرأي ، وفعلوا ذلك.

قال ابن كثير : وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه‌الله عن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء ، وكان الوادي دهسا (١) ، فأصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ما لبّد لهم الأرض ، ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه.

وأرى أن النص القرآني يوافق هذه الرواية التي استحسنها ابن كثير وسار عليها جمهور المفسرين كالطبري والزمخشري والرازي وغيرهم. وذكر البيضاوي رواية تؤيد ذلك فقال : روي أنهم نزلوا في كثيب أعفر تسوخ في الأقدام على غير ماء ، وناموا ، فاحتلم أكثرهم ، وقد غلب المشركون على الماء ، فوسوس إليهم الشيطان ، وقال : كيف تنصرون ، وقد غلبتم على الماء ، وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله ، وفيكم رسوله؟ فأشفقوا ، فأنزل الله المطر ، فمطروا ليلا ، حتى جرى الوادي ، واتخذوا الحياض على عدوته (جانبه) وسقوا الرّكاب ، واغتسلوا وتوضؤوا ، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو ، حتى ثبتت عليه الأقدام ، وزالت الوسوسة. ثم ذكر البيضاوي معنى قوله : (لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي بالوثوق بلطف الله بهم ، و (يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل ، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة.

والأصح الذي ذكره القرطبي عن ابن إسحاق في سيرته وغيره ، وهو الذي يوفق به بين الروايات : أن الأحوال التي صاحبت نزول المطر كانت قبل وصولهم إلى بدر (٢).

__________________

(١) الدهس : الرمل الذي تسوخ فيه الأرجل.

(٢) تفسير القرطبي : ٧ / ٣٧٣.

٢٦٨

ومن النعم المذكورة أيضا على المؤمنين في بدر نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهي إلهام الله الملائكة أنه معهم معية إعانة ونصر وتأييد ، فقال : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ ...) أي اذكروا إذ يوحي الله تعالى إلى الملائكة بأنه معهم حينما أرسلهم ردءا للمسلمين ، أو يوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم ، قال الرازي : وهذا الثاني أولى ؛ لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف ، والملائكة ما كانوا يخافون الكفار ، وإنما الخائف هم المسلمون (١).

والمراد بالمعية : معية الإعانة والنصر والتأييد في مواقف القتال الشديدة.

فثبتوا قلوب المؤمنين ، وقووا عزائمهم ، وذكّروهم وعد الله أنه ناصر رسوله والمؤمنين ، والله لا يخلف الميعاد.

وقيل : إن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارف المؤمنين ، وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر. أخرج البيهقي في الدلائل : أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه ، فيقول : أبشروا ، فإنهم ليسوا بشيء ، والله معكم ، كرّوا عليهم.

وقيل بوجه ثالث في معنى التثبيت وهو منقول عن الزجاج : للملك قوة إلقاء الخير ، وهو الإلهام ، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ، وهو الوسوسة.

ثم ذكر الله تعالى المراد بقوله : (أَنِّي مَعَكُمْ) : وهو أني معكم في إعانتكم بإلقاء الرعب في قلوب الكفار ، فمن أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين زرع الخوف والرعب في نفوس الكفار.

فاضربوا رؤوسهم التي هي فوق الأعناق واقطعوها ، واحتزوا الرقاب وقطّعوها ، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم ذات البنان. والبنان :

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ١٣٥

٢٦٩

الأصابع ، والمراد الأطراف. والمعنى أن الله أمرهم أن يضربوا المقاتل وغير المقاتل ، ويجمعوا عليهم النوعين معا.

ثم بيّن الله تعالى سبب تأييده ونصره المؤمنين ، فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا ...) أي أن ذلك المذكور من النصر والتأييد للنبي والمؤمنين بسبب أن المشركين شاقوا الله ورسوله ، أي عادوهما وخالفوهما ، فساروا في شق أو جانب وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق آخر.

(وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، أي ومن يخالف أمر الله ورسوله ويعاديهما فإن له عدا الهزيمة والخزي في الدنيا العذاب الشديد في الآخرة.

ذلكم العقاب الذي عجلته لكم أيها الكافرون المشاقون الله ورسوله في الدنيا من خزي وذل وهزيمة ونكال وما تبع ذلك من قتل وأسر ، فذوقوه عاجلا ، ولكم في الآخرة عذاب جهنم إن أصررتم على الكفر.

وعبر بالذوق الذي هو تعرف طعم اليسير لمعرفة حال الكثير عن تعجيل ما حصل لهم من الآلام في الدنيا ، فكان المعجل كالذوق القليل بالنسبة إلى الأمر العظيم المعدّ لهم في الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أمور ثلاثة : تعداد النعم ، تعليم كيفية القتل ، عقاب مشاقة الله والرسول أي معاداتهما.

أما النعم المذكورة التي أراد الله التذكير بها في معركة بدر فهي سبع :

الأولى ـ النصر عند الاستغاثة ، وذلك بإمدادهم بأعيان الملائكة للمساعدة في القتال. ولا تعارض في تعداد الملائكة بين هذه السورة التي ذكر فيها ألف من الملائكة ، وسورة آل عمران التي ذكر فيها ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف ؛ لأنه تعالى

٢٧٠

جعل الإمداد متتابعا بقوله (مُرْدِفِينَ) فأمدهم أولا بألف ثم بثلاثة آلاف ، ثم بخمسة حينما تذرعوا بالصبر والتقوى.

الثانية ـ إلقاء النعاس أي النوم عليهم ليلة اليوم الذي حدث فيه القتال.

الثالثة ـ إنزال المطر من السماء لتحقيق الطهارة الحسية بالنظافة والوضوء والغسل من الجنابة ، والطهارة المعنوية بإذهاب وساوس الشيطان.

الرابعة ـ الربط على القلوب أي تقويتها وإزالة الخوف والفزع عنهم ، وإفراغ الصبر عليهم وشد أزرهم لمجالدة الأعداء وقتالهم.

الخامسة ـ تثبيت الأقدام على الرمال التي تلبدت بالمطر. ودل هذا بدلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك.

السادسة ـ الإيحاء إلى الملائكة (أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ، فانصروهم وثبتوهم.

السابعة ـ إلقاء الرعب والخوف في قلوب الكافرين. وهذا من النعم الجليلة التي أنعم الله بها على المؤمنين.

وأما تعليم كيفية القتل : فهو أنه تعالى أمر المؤمنين بقتل الكفار في المقاتل بضرب الهامات والرؤوس التي هي محمولة فوق الأعناق ، وبضربهم في غير المقاتل بتقطيع الأيدي والأرجل ذات البنان ؛ لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة ، فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة.

وأما عقاب مشاقة الله والرسول فهو الخزي والنكال والهزيمة في الدنيا ، والعذاب الشديد في نار جهنم في القيامة. والمقصود من إيراد هذا العقاب الزجر عن الكفر والتهديد عليه وتوبيخ الكافرين ، فالعقاب على ذلك نوعان : عاجل في الدنيا ، ومؤجل في الآخرة.

وأما فضل أهل بدر فليس لذواتهم وإنما لأفعالهم ، قال مالك : بلغني أن

٢٧١

جبريل عليه‌السلام قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أهل بدر فيكم؟ قال : خيارنا ، فقال : إنهم كذلك فينا. وذلك لجهادهم ، وأفضل الجهاد يوم بدر ؛ لأن بناء الإسلام كان عليه.

وأوجب الإسلام دفن جثث القتلى ولو كانوا من الأعداء ، فقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدفن قتلى المشركين السبعين في بدر في القليب وهي البئر العادية القديمة الكائنة في البراري.

روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ، ثم قام عليهم فناداهم فقال : «يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» فسمع عمر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف يسمعون وأني يجيبون وقد جيّفوا (١)؟ قال : «والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا».

ثم أمر بهم ، فسحبوا فألقوا في القليب ، قليب بدر.

قال القرطبي : وفي هذا ما يدل على أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف ، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة بينهما ، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه : إنه ليسمع قرع نعالهم» الحديث ، أخرجه الصحيح (٢).

__________________

(١) جيفوا : أنتنوا ، فصاروا جيفا. وقول عمر : «يسمعون» استبعاد على ما جرت به العادة ، فأجابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنهم يسمعون كسمع الأحياء.

(٢) تفسير القرطبي : ٧ / ٣٧٧.

٢٧٢

الفرار من الزحف والنصر من عند الله

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩))

الإعراب :

(زَحْفاً) منصوب على الحال أي متزاحفين ، ويجوز أن يكون حالا للكفار.

(إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) حال من فاعل : (يُوَلِّهِمْ) والاستثناء مفرغ ، أو منصوب على الاستثناء أي ومن يولهم إلا رجلا متحرفا.

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ ذلِكُمْ) : خبر مبتدأ مقدر ، تقديره : والأمر (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ) عطف على (ذلِكُمْ) ، وتقديره : والأمر أن الله موهن.

(وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على ذلكم ، وتقديره : والأمر (أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ). ومن قرأ «وإن» بالكسر فعلى الابتداء والاستئناف.

البلاغة :

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) الخطاب للمشركين على التهكم مثل : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ٤٤ / ٤٩].

٢٧٣

المفردات اللغوية :

(زَحْفاً) أي مجتمعين ، كأنهم لكثرتهم يزحفون ؛ لأن الكل كجسم واحد متصل ، فيظن أنه بطيء وهو في الواقع سريع ، والمراد : جيشا زاحفين نحوكم لقتالكم. (الْأَدْبارَ) جمع دبر وهو الخلف ، ويقابله القبل ، ويكنى بهما عن السوأتين ، والمراد من قوله : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) الهرب منهزمين. (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) أي يوم لقائهم (مُتَحَرِّفاً) منحرفا أو منعطفا إلى جانب آخر مظهرا الانهزام خدعة ثم يكر ، بأن يريهم الفرار مكيدة ، وهو يريد الكرة (مُتَحَيِّزاً) منحازا أو منضما إلى جماعة أخرى ليقاتل العدو معها ، والفئة : الجماعة من المسلمين التي يستنجد بها. وأصل الفئة : الطائفة من الناس (باءَ) رجع متلبسا به (وَمَأْواهُ) المأوى : الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان أو الحيوان (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المرجع هي.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) ببدر بقوتكم (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بنصره إياكم (وَما رَمَيْتَ) يا محمد أعين القوم (إِذْ رَمَيْتَ) بالحصى ؛ لأن كفا من الحصى لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) بإيصال ذلك إليهم ، ليقهر الكافرين.

(لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً) ليختبر المؤمنين منه اختبارا حسنا بالغنيمة ، والاختبار يكون بالنقم لمعرفة الصبر ، وبالنعم لمعرفة الشكر ، والمراد هنا الاختبار بالنعم (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بأحوالهم.

(ذلِكُمْ) الإبلاء حق (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ) مضعف (كَيْدِ الْكافِرِينَ) تدبيرهم الذي يقصد به غير ظاهره (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) تطلبوا أيها الكفار الفتح والنصر في الحرب أي الفصل والقضاء في الأمر ، حيث قال أبو جهل : «اللهم أينا كان أقطع للرحم ، وأتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة» أي أهلكه (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) القضاء بهلاك من هو كذلك ، وهو أبو جهل ومن قتل معه. (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن الكفر والحرب (وَإِنْ تَعُودُوا) لقتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (نَعُدْ) لنصره عليكم (وَلَنْ تُغْنِيَ) تدفع (فِئَتُكُمْ) جماعتكم.

سبب النزول :

نزول الآية (١٧) :

(وَما رَمَيْتَ) : المشهور عند أكثر المفسرين أن هذه الآية نزلت في رمي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر القبضة من حصباء الوادي ، حين قال للمشركين : شاهت الوجوه ، ورماهم بتلك القبضة ، فلم يبق عين مشرك إلا دخلها منه شيء.

٢٧٤

روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم والطبراني عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر ، سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الأرض ، كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلك الحصباء ، فانهزمنا ، فذلك قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

نزول الآية (١٩) :

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) : روى الحاكم عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير قال : كان المستفتح أبو جهل ، فإنه قال حين التقى القوم : أيّنا كان أقطع للرحم ، وأتى بما لا يعرف ، فأحنه (أهلكه) الغداة ، وكان ذلك استفتاحا ، فأنزل الله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) إلى قوله : (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية قال : قال أبو جهل : اللهم انصر أعز الفئتين ، وأكرم الفرقتين ، فنزلت.

وقال السدي والكلبي : كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال عكرمة : قال المشركون : اللهم لا نعرف ما جاء به محمد ، فافتح بيننا وبينه بالحق ، فأنزل الله تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) الآية.

المناسبة :

الآيات مرتبطة بما قبلها في تعليم المؤمنين قواعد القتال ، بمناسبة قصة بدر ، ففي الآية السابقة أمرهم بضرب الهامات والرؤوس ، وتقطيع الأيدي والأرجل ، وهنا ذكر الله حكما عاما أيضا في الحروب ، وهو تحريم الفرار من الزحف في مواجهة الأعداء إلا لمصلحة حربية ، مثل التحرف لقتال (إظهار الانهزام والفرار خدعة ثم الكرّ) والتحيز إلى فئة (الانضمام إليها لمقاتلة العدو معها).

٢٧٥

التفسير والبيان :

يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله ، إذا اقتربتم من عدوكم ودنوتم منهم حال كونهم جيشا زاحفين نحوكم لقتالكم ، فلا تفرّوا منهم ، مهما كثر عددهم ، وأنتم قلة ، ولكن اثبتوا لهم وقاتلوهم ، فالله معكم عليهم.

وهذا الانهزام أمامهم محرم إلا في حالتين :

إحداهما ـ أن يكون المقاتل متحرفا لقتال ، أي مظهرا أنه منهزم ، ثم ينعطف عليه ، ويكر عليه ليقتله. وهو أحد مكايد الحرب وخدعها.

والثانية ـ أن يكون متحيزا إلى فئة أي منضما إلى جماعة أخرى من المسلمين لمقاتلة العدو معها ، يعاونهم ويعاونونه. فيجوز له ذلك في هاتين الحالتين.

أما فيما عداهما ، فمن فرّ أو انهزم وجبن عن القتال ، فقد رجع متلبسا بغضب من الله ، ومأواه الذي يلجأ إليه في الآخرة جهنم ، وبئس المصير هي ، وبئس المصير مصيره. قال البيضاوي : هذا إذا لم يزد العدو على الضعف ، لقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) [الأنفال ٨ / ٦٦] وقال ابن عباس : من فرّ من ثلاثة لم يفر ، ومن فرّ من اثنين فقد فرّ.

والآية تدل على تحريم الفرار من الزحف ، وأنه من كبائر المعاصي ، بدليل ما روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا : «اجتنبوا السبع الموبقات ـ المهلكات ـ قالوا : يا رسول الله ، وما هن؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولّي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».

ثم علل الله تعالى ضرورة الثبات والصبر أمام العدو بنصره على الأعداء ، فقال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي إن افتخرتم بقتلهم ، فأنتم لم تقتلوهم بقوتكم وعدتكم ،

٢٧٦

وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بأيديكم ؛ لأنه هو الذي أنزل الملائكة ، وألقى الرعب في قلوبهم ، وشاء النصر والظفر ، وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع ، كما قال تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ، وَيُخْزِهِمْ ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة ٩ / ١٤].

وذلك أن المسلمين لما كسروا أهل مكة ، وقتلوا ، وأسروا ، أقبلوا على التفاخر ، فكان القائل يقول : قتلت ، وأسرت. ولما طلعت قريش ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها ، يكذبون رسولك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : خذ قبضة من تراب ، فارمهم بها ، فقال لما التقى الجمعان لعلي رضي‌الله‌عنه : أعطني قبضة من حصباء الوادي ، فرمى بها في وجوههم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه ، فانهزموا ، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم. فقيل لهم : إن افتخرتم بقتلهم ، فأنتم لم تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم ، بتثبيته قلوبكم ، وإلقائه الرعب في قلوبهم. وما رميت أيها الرسول إذ رميت المشركين في الظاهر بالقبضة من الحصباء التي رميتها ، فأنت ما رميتها في الحقيقة ؛ لأن رميك لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه سائر البشر في العادة ، ولكن الله رماها ، حيث أوصل ذلك التراب إلى عيونهم ، فصورة الرمي صدرت من الرسول عليه الصلاة والسّلام ، وأثره إنما صدر من الله ، والعبرة بإحداث الأثر فعلا ، فالله هو الذي بلّغ أثر ذلك الرمي إليهم ، وكبتهم بها ، لا أنت.

وقد تكرر فعل الرمي من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم حنين.

ويكون الفرق بين فعله تعالى في القتل وبين فعل النبي والمؤمنين : أن الله هو المؤثر الحقيقي الفعال في تحقيق النتائج ، وأما فعل البشر فهو القيام بالأسباب الظاهرة المقدورة لهم التي كلفهم بها ربهم ، كما هو الحال في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية ، من كونها لا تستقل في تحقيق غاياتها إلا بفعل الله وتأثيره.

٢٧٧

فعل الله ذلك كله ليكبت المشركين ، (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي ليعرّف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم ، مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ، ليعرفوا حقه ، ويشكروا بذلك نعمته ، فهو منه تعالى اختبار للمؤمنين بالنصر والغنيمة وذيوع الصيت وحسن السمعة بين العرب.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لكل قول ومنه دعاؤهم واستغاثة الرسول والمؤمنين ربهم قبل القتال ، عليم بأحوالهم ونياتهم وبمن يستحق النصر والغنيمة.

ثم أتى ببشارة أخرى مع ما حصل لهم من النصر ، وهي أنه تعالى أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين في المستقبل ، محبط مكرهم ، مصغّر أمرهم ، جاعل كل ما لهم في تبار ودمار.

ثم خاطب الله أهل مكة على سبيل التهكم قائلا لهم : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) ، أي إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما ، وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين ، فقد جاءكم ما سألتم ، وتم النصر للأعلى والأهدى ، وحدث الهلاك والذلة للأدنى والأضل.

ثم أنذرهم الله ، وحذرهم بقوله : إن تنتهوا عن الكفر والتكذيب بالله ولرسوله ، وعداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو خير لكم في الدنيا والآخرة وأجدى من الحرب التي جربتموها وما أحدثت من قتل وأسر ؛ وإن تعودوا لمحاربته وقتاله ، وإلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة ، نعد إلى نصره وهزيمتكم ، كما قال تعالى لبني إسرائيل : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) [الإسراء ١٧ / ٨] والخطاب هنا للكفار ، وهو الظاهر من السياق ، وقيل : الخطاب للمؤمنين ؛ لأن قوله : (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) لا يليق إلا بالمؤمنين ، أما لو حملنا الفتح على البيان والحكم والقضاء ، لم يمتنع أن يراد به الكفار.

ولن تفيدكم جماعتكم (شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) ، إذ ليست الكثرة دائما من وسائل

٢٧٨

النصر أمام القلة ، فقد يحدث العكس إذا اقترن فعل القلة بالصبر والثبات والإيمان والثقة بالله تعالى.

(وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر والتأييد والتوفيق إلى النجاح ، فلو جمعتم ما قدرتم من الجموع ، فإن من كان الله معه ، فلا غالب له ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٧٣] وقال : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) [المائدة ٥ / ٥٦] وقال : (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المجادلة ٥٨ / ١٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات الأحكام التالية :

١ ـ تحريم الفرار من القتال أمام العدو إلا في حالتين : التحرف لقتال ، أو التحيز إلى فئة. ولكن هذا الحكم مقيد عند الجمهور بألا يزيد عدد الأعداء عن ضعف المسلمين ، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين ، فالفرض ألا يفروا أمامهم ، فمن فر من اثنين فهو فارّ من الزحف ، ومن فرّ من ثلاثة فليس بفارّ من الزحف ، ولا وعيد عليه ، لقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال ٨ / ٦٦] فالمسلم مطالب بالثبات أمام اثنين من الأعداء ، وهذا ما استقر عليه التشريع.

والفرار معصية كبيرة موبقة ، بظاهر القرآن وإجماع أكثر الأئمة للحديث المتقدم عن السبع الموبقات ، التي منها «التولي يوم الزحف».

أما الهرب من الزحف إذا زاد عدد الأعداء عن ضعف المسلمين فهو مباح ؛ لما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحاص الناس حيصة ،

٢٧٩

فكنت فيمن حاص ـ أي هرب ـ ، فقلنا : كيف نصنع ، وقد فررنا من الزحف ، وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة ، ثم بتنا ، ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ، فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : «من القوم؟» فقلنا : نحن الفرارون ، فقال : «لا ، بل أنتم العكّارون ـ الكرارون العطافون ـ أنا فئتكم ، وأنا فئة المسلمين».

وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ـ فيما رواه محمد بن سيرين ـ في أبي عبيدة ، لما قتل على الجسر ، بأرض فارس ، لكثرة الجيش ، من ناحية المجوس ، فقال عمر : لو تحيّز إليّ لكنت له فئة» وقال مجاهد : قال عمر : «أنا فئة كل مسلم».

لكن وإن جاز الانهزام ، فالصبر أحسن ، بدليل أن جيش مؤتة ، وهم ثلاثة آلاف ، وقف في مقابلة مائتي ألف ، منهم مائة ألف من الروم ، ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام.

ووقع في تاريخ الأندلس : أن طارقا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس ، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة ؛ فالتقى وملك الأندلس : لذريق ، وكان في سبعين ألف عنان ـ فرس ـ فزحف إليه طارق ، وصبر له ، فهزم الله الطاغية لذريق ، وكان الفتح.

قال ابن وهب : سمعت مالكا يسأل عن القوم يلقون العدو ، أو يكونون في محرس يحرسون ، فيأتيهم العدو وهم يسير ، أيقاتلون أو ينصرفون ، فيؤذنون أصحابهم؟ قال : إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم ، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فآذنوهم.

وحكم الفرار من الزحف ليس مختصا بمن كان انهزم يوم بدر ، كما يرى بعض الصحابة والتابعين (أبي سعيد الخدري ، والحسن البصري وقتادة والضحاك) وإنما

٢٨٠