مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

__________________

يوماً وليلة ، يا أبا الحسن ولا تصح في وجوههما فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين ، فإنّهما بالأمس فقدا جدّهما واليوم يفقدان أمّهما ، فالويل لأمّة تقتلهما وتبغضهما ».

ثمّ أنشأت تقول :

ابكني إن بكيت يا خير هادي

واسبل الدمع فهو يوم الفراق

يا قرين البتول أوصيك بالنسل

فقد أصبحا حليف اشتياق

ابكني وابك لليتامى ولا تنس

قتيل العدى بطفّ العراق

فارقوا فاصبحوا يتامى حيارى

يحلف الله فهو يوم الفراق

قالت : فقال لها علي عليه‌السلام : « من أين لك يا بنت رسول الله هذا الخبر ، والوحي قد انقطع عنّا » ؟ فقالت : « يا أبا الحسن ، رقدت الساعة فرايت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قصر من الدّر الأبيض ، فلما رآني : هلمّي إلَيّ يا بُنيّة فإنّي إليك مشتاق. فقلت : والله إني لأشدّ شوقاً منك إلى لقائك. فقالت : أنت الليلة عندي. وهو صادق لما وعد ، والموفي لما عاهد.

فإذا أنت قرأت يس فاعلم أنّي قد قضيت نحبي ، فغسّلني ولا تكشف عنّي ، فإنّي طاهرة مطهرة ، وليصلّ عليّ معك من أهلي الأدنى فالأدنى ، ومن رزق أجري ، وادفنّي ليلاً في قبري ، بهذا أخبرني حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ».

فقال علي : « والله لقد أخذت في أمرها ، وغسّلتها في قميصها ولم اكشفه عنها ، فوالله لقد كانت ميمونة طاهرة مطهّرة ، ثم حنّطتها من فضل حنوط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكفّنتها وأدرجتها في أكفانها ، فلمّا هممت أن أعقد الرداء ناديت : « يا أمّ كلثوم ، يا زينب ، يا سكينة ! يا فضّة ، يا حسن ، يا حسين ، هلمّوا تزوّدوا من أمّكم ، فهذا الفراق واللقاء في الجنّة ».

فأقبل الحسن والحسين عليهما‌السلام وهما يناديان : « وا حسرتا ، لا تنطفئ أبداً من فقد جدّنا محمّد المصطفى وأمّنا فاطمة الزهرا ، يا أمّ الحسن يا أمّ الحسين إذا لقيت جدّنا محمّد المصطفى فاقرئيه منّا السلام وقولي له : إنا قد بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا ».

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّي أشهد الله أنّها قد حنّت وأنّت ومدّت يديها وضمّتهما إلى صدرها مليّاً ، وإذا هاتف من السماء ينادي : يا أبا الحسن ارفعهما عنها ، فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات ، فقد اشتاق الحبيب إلى المحبوب ».

قال : فرفعتهما عن صدرها وجعلت أعقد الرداء وأنا أنشد بهذه الأبيات :

فراقك أعظم الأشياء عندي

وفقدك فاطم أدهى الثكول

سأبكي حسرة وأنوح شجواً

على خلّ مضى أسنى سبيل

٤١

فيا لها مصائب ينسى عندها يوسف يعقوب ، ونوائب يذهل ضرّه لديها أيّوب ، وفوادح صدّعت صفاة الإيمان ، وفوادح أورت نيران الصبابة في قلوب أنبياء الرحمان ، وكدّرت على أرباب الصفا موارد البشر والهنا.

وروي أنّها صلوات الله عليها لما جرى لها مع أبي بكر ما جرى من الاحتجاج ـ كما في الاحتجاج ـ انكفأت إلى منزلها مكسورة القلب ، باكية العين ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام يتوقّع رجوعها ويتطلّع طلوعها ، فلمّا استقرّت بها الدار قالت لأمير المؤمنين عليه‌السلام : « يا ابن أبي طالب ، عليك منّي السلام ورحمة الله وبركاته ، اشتملت شلمة الجنين ، وقعدت حُجرة الظنين (١) ، نقضت قادمة الأجدل فخانك ريش الأعزل (٢) ، هذا ابن أبي قحافة يبتزّ نحلة أبي وبلغة (٣) بنيّ ، لقد أجهد

__________________

ألا يا عين جودي واسعديني

فحزني دائم أبكي خليلي

ثمّ حملها على يده وأقبل بها إلى قبر أبيها ونادى : « السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا حبيب الله ، السلام عليك يا نور الله ، السلام عليك يا صفوة الله ، منّي السلام عليك ، والتحية واصلة منّي إليك ولديك ، ومن ابنتك النازلة عليك بفنائك ، وإنّ الوديعة قد استردّت ، والرهينة قد أخذت ، فوا حزناه على الرسول ، ثمّ من بعده على البتول ، ولقد اسودّت عليّ الغبراء ، وبعدت عنّي الخضراء ، فوا حزناه ثمّ وا أسفاه ».

ثمّ عدل بها على الروضة فصلّى عليه في أهله وأصحابه ومواليه وأحبّائه وطائفة من المهاجرين والأنصار ، فلمّا واراها وألحدها في لحدها أنشأ بهذا الأبيات يقول :

أرى علل الدنيا علَيّ كثيرة

وصاحبها حتّى الممات عليل

لكلّ اجتماع من خليلين فرقة

وإنّ بقائي عندكم لقليل

وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمد

دليل على أن لا يدوم خليل

(١) الظنين : المتّهم ، أي : اختفيت عن النّاس كالجنين ، وقعدت عن طلب الحقّ ، ونزلت منزلة الخائف المتّهم.

(٢) الأجدل : الصقر ، وقادمة الأجدل : مقاديم ريشه. قال الجوهري في صحاح اللغة : ١ : ٢٤٨ : خات البازي واختات : أي انقضّ على الصيد ليأخذه. على هذا فالأظهر أنّه كان في الأصل « خاتك » بالتاء المثناة الفوقانية كما في مناقب ابن شهر آشوب ، فصحّف.

(٣) بزّ ثيابه : سلبه ، والبلغة ـ بالضمّ ـ : الكفاية ، وهو ما يكتفى به في العيش. ( مجمع البحرين ).

٤٢

في خصامي ، وألفيته ألدّ في كلامي ، حتّى حبستني قيلة (١) نصرها ، والمهاجرة وصلها ، وغضّت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خرجت كاظمة ، وعدت راغمة ، أضرعت خدّكَ ، يومَ أضعت جدّك ، افترست الذئاب ، وافترشت التراب ، ما كففت قائلاً ، ولا أغنيتَ عائلاً ، لا خيار لي ، ليتني متّ قبل هنيئتي ودون ذلّتي ، عذيري الله منك عادياً ، وفيك (٢) حامياً ، ويلاي في كلّ شارق ، ويلاي في كلّ غارب ، مات العمد ووهى (٣) العضد ، شكواي إلى أبي ، وعَدواي إلى ربّي ، اللهمّ إنّك أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً ».

تشجّعه وهي العليمة أنّه

أخو السيف في ملمومة الدفعات

فقال لها أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا ويل لك ، بل الويل لشانئك ، نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة ، وبقيّة النبوّة ، فما ونيت في ديني ، ولا أخطأت مقدوري ، فإن كنت تريدين البلغة ، فرزقك مضمون ، وكفيلك موجود ، وما أعدّ لك أفضل ممّا قطع عنك ، فاحتسبي الله ».

فقالت : « حسبي الله ونعم الوكيل » (٤).

اليوم شقّق جيب الدين وانتهبت

بنات أحمد نهب الروم والصين

اليوم قام بأعلى الطف نادبهم

يقول مَن ليتيم أو لمسكين

اليوم خرّت نجوم الفخر من مضر

على معاطس تذليل وتوهين

__________________

(١) قليلة ـ بالفتح ـ بنت كاهل ، أمّ قبيلة الأوس من الأنصار. وفي النسخة : « القبيلة ».

(٢) في المصدر : « ومنك ».

(٣) في المصدر : « ووهن ».

(٤) رواه الشيخ الطوسي في أماليه : المجلس ٣٨ الحديث ٨ ، وعنه المجلسي في البحار : ٢٩ : ٣٢٣ ح ٩.

وأورده ابن شهر آشوب في المناقب : ٢ : ٢٣٧ في ظلامة أهل البيت عليهم‌السلام مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٣ : ١٤٨.

ورواه الطبرسي في الاحتجاج : ١ : ٢٨٠ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

٤٣

اليوم اطفئى نور الله متّقدا

وجرّرت لمم التقوى على الطين

اليوم تهتك أسرار الهدى مزقاً

وبرقعت غرة الإسلام بالهون

اليوم زعزع قدس من جوانبه

وهاج بالخيل سادات الميامين

اليوم شقّ على الزهرا كِلَّتها

وساوروها بتنكيب وتوهين

اليوم نالت بنو حرب طلائبهم

ممّا صلوه ببدرٍ ثمّ صفّين

اليوم جدّل سبط المصطفى شرقاً

من نفسه بنجيع غير مسنون

نالوا أزمّة دنياهم ببغيهم

فليتهم سمحوا منها بماعون

يا عين لا تدّعي شيئاً لغادية

تهمى ولا تدعي دمعا لمحزون

وروي أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام دخل يوماً على فاطمة عليها‌السلام فرآها قد عجنت عجيناً للخبز ووضعت طيناً في الماء لتغسل به رؤوس أولادها ، فتعجّب أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال : « يا بنت رسول الله ، ما عهدتك تشتغلين بعملين من الدنيا في يوم واحد ، وما أظنّه إلاّ من سبب » !

فبكت فاطمة عليها‌السلام وتحدّرت عبراتها على وجناتها وقالت : « يا أمير المؤمنين ، هذا فراق بيني وبينك ، اعلم أنّي رأيت البارحة في منامي أبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو واقف في مكان مرتفع يلتفت يميناً وشمالاً كأنّه ينتظر أحداً ، فقلت له : يا أبتاه ، مضيت عنّي وتركتني وحيدة فريدة أبكي عليك ليلي ونهاري وعشيّتي وأبكاري ، لا ألتذّ بطعام ولا أتهنّى بمنام. فقال لي : يا فاطمة ، إني واقف هنا للانتظار. قلت : فلمَن تنتظر يا أبتاه ؟ قال : أنتظرك يا فاطمة ، فإنّ مدّة الفراق قد تجاوزت ، وليالي الهموم والأشواق قد تصرّمت ، وقرب وقت الارتحال ، لنفوز بالملاقاة والوصال ، وتقلعي أطناب خيمة بدنك من المضائق السفلية ، وتنصبيها في فضاء العوالم العلوية ، وتفرّي من مطمورة الدنيا ، وتسكني معمورة العقبى ، يا فاطمة ، عجّلي فإنّي في انتظارك ، ولا أبرح من مكاني حتّى تأتيني فأسرِعي ، وسأخبرك يا بنتي أنّ وقت وصولك إليّ في الليلة القابلة.

٤٤

فلمّا رأيت الرؤيا أيقنت أنّي راحلة عنك في عشية الليلة المقبلة ، وهذا العجين أخبزه في هذا اليوم ، والطين أغسل به رؤوس أولادي ، لأنّك في غداة غد مشغول بتجهيزي وغسلي ، وأخاف أن تجوع أولادي وتبقى رؤوسهم مغبرّة وثيابهم دكنة (١) ، فعملت هذين العملين في هذا اليوم ».

وجعلت تغسل قميص ولدها وتمشط رأسيهما وهي تقول : « ليتني أعلم بالذي يقع عليكم من بعدي من القتل والسمّ ».

ثم التفتت إلى عليّ عليه‌السلام وقالت : « يا ابن العمّ ، لي عندك أربع وصايا : الأولى : إن كان وقع منّي تقصير لجنابك فاعف عنّي واسمح لي ».

فقال عليه‌السلام : « حاشاك يا سيّدة النساء والتقصير ، بل كنت في كمال المحبّة ونهاية المودة والشفقة عَليّ والرضا والقناعة بما يأتيك منّي ».

ثم قالت : « وأما الوصية الثانية : فإني أوصيك يابن العم إذا تزوّجت بامرأة فاجعل لها يوماً ولولديّ يوماً ، يا أبا الحسن بلّغهما آمالهما ولا تنهرهما ولا تصح في وجههما ، فإنّما يصبحان غريبين يتيمين منكسرين ، لأنّهما بالأمس فقدا جدهما واليوم أمّهما ».

فجلس عليّ عليه‌السلام عند رأسها ، وأمرت أسماء بنت عميس أن تصنع للحسن والحسين طعاما فيأكلان ويذهبان ، فبينما هي كذلك إذا أقبلا ، فوضعت لهما حصيراً وقدّمت لهما الطعام ، فقالا : « يا أسماء ، ما فعلت أمنّا ؟ وهل رأيت أيّنا نأكل بغير أمّنا » ؟

فقالت أسماء : يا ابني رسول الله ، إنّ أمّكما عندها بعض التصديع.

قال : فقاما ودخلا عليها ، فوجداها متّكئة على فراشها وعليّ عند رأسها ، فلمّا رأتهما قالت : « يا أبا الحسن ، امض بولديك إلى قبر جدّهما ». وكان مرادها عدم حضورهما عند وفاتها لئلا تنزعج قلوبهما ، فخرج بهما عليّ عليه‌السلام.

قال الراوي : فلمّا كان اليوم الأربعون أقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام يريد المنزل ،

__________________

(١) دكن دكناً ودكنة : مال إلى الصواب ، والثوب اتّسح واغبرّ لونه. ( المعجم الوسيط ).

٤٥

فاستقبلته الجوار [ ي ] وهنّ باكيات ، فقال عليه‌السلام لهنّ : « ما الخبر » ؟ فقلن : سيّدنا ، أدرك ابنة عمّك. فأقبل مسرعاً حتّى دخل عليها فإذا هي ملقاة على فراشها وهي تقبض يميناً وتمدّ شمالاً ، فألقى عن عاتقه الرداء ، ونزع العمامة عن رأسه وحلّ إزاره ، وأخذ رأسها في حجره وناداها : « يا زهرا ». فلم تكلّمه فنادى ثانية : « يا بنت محمّد المصطفى ، يا ابنة من حمل الزكاة بأطراف الرداء ». فلم تكلّمه ، فنادتها : « يا فاطمة ، أنا ابن عمك ». ففتحت عينها في وجهه وبكت وبكى ، ثمّ قال لها : « ما الّذي تجدين » ؟ قالت : « هو الموت الّذي لابدّ منه ولا محيص عنه ».

قال : ثمّ إنّ الحسن والحسين رجعا ودخلا عليها ، فوجداها متّكئة على فراشها تجود بنفسها الشريفة ، فجعلا يقبّلان يديها ورجليها ويقولان : « يا أمّاه ، افتحي عينك وانظري إلى يتيميك ». فلمّا سمعت صوتهما فتحت عينها فرأتهما وضمّتهما إلى صدرها وقالت : « ليتني أدري بما يقع عليكما من بعدي ». ثمّ أمرت بإحضار بناتها زينب وأم كلثوم وأوصت الحسن والحسين بهما.

وتوفّيت صلوات الله عليها في اليوم الثامن من شهر ربيع الثاني على أحد الأقوال سنة عشر من الهجرة.

فيا دموعي السواكب سيلي سيل الجداول ، ويا نيران وجدي اللواهب كنّى حنايا الضلوع النواحل ، ويا فؤادي الذاهب اتّخذ عن السلوة المعازل ، أو لا تكونون يا إخواني الأطائب وخلاني الأفاضل كمن رشقته سهام هذه المصيبة الصوائب فأصابت منه المقاتل ، وتجرّع كأس هذه الداهية العاطب ورشف أقداح الخطب الشامل ، فرثاهم بما سنح له من المراثي والنوادب ، ولله درّه من ثاكل.

٤٦

المصرع الثالث

وهو مصرع أمير المؤمنين عليه‌السلام

إخواني ، قرّطوا آذان الإيمان بفكّ أقفالها ، وشنّفوا مسامع الإذعان بحلّ أغلالها ، وخفّفوا ظهور الإيقان بحطّ أثقالها ، وتيقّنوا أنّ الحكيم الأكمل لم يخلق الخلق بلا فائدة ، وتصوّروا أنّ الحاكم الأعدل لا يظلم في الأحكام النافذة ، واعلموا أنّ الغنيّ الجواد لا يرغب إلى رفد سواه ، وتحققوا أنّ الكريم المتفضّل لا يرجع فيما أسداه ، والطبع السليم أوجب شكر المنعم ، والعقل المستقيم حتّم حمد الرازق المتكرّم ، والشكر على جسيم الفواضل ضروريّ الوجوب ، والحمد لربّ الفضائل أمر مندوب.

فأعظم منن الله على العباد إرشادهم إلى طريق الرشاد ، وأجسم مواهب الملك الجواد إيصال عبده إلى جادة السداد ، ليفيض عليه نوالَيه ، حيث قد منحه بأصغَرَيه ، وكشف عن محجّبات عقله حجاب المتشكّكين ، وناداه بعد فتح باب المعرفة : ( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ) (١).

وعلّة هذه النعمة وأصلها ومعناها وصورتها هي الولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبها يصل العبد إلى غاية المرام ، وذلك لأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أخو النبي ووصيّه ، ونائب الحق تعالى ووليّه ، وأسد الله وعليّه ، ومختاره ورضيّه ، الّذي واسى النبي وساواه ، وبمهجته في الملّمات وقاه ، وأجابه حين دعاه ولبّاه ، وشيّد الدين بعزمه وبناه ، وكان بيت النبوّة مرباه ومنشاه ، وشمس الرسالة عرشه ومرتقاه ، وغُصنَي الجلالة ولداه ، فكم نصر الرسول وحماه ، وغسّل النبي وواراه ، وقام بدَينه

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ : ٤٦.

٤٧

وقضاه ، ولد الحرم وفتاه ، ربيب الكرم ومنشاه ، من أباد جميع الشرك وأفناه.

فعليّ نفس محمّد ووصيّه

وأمينه وسواه مأمون فلا

وشقيق بنعته وخير من اقتفى

منهاجه وبه اقتدى وله تلا

مولىً به قبل المهيمن آدماً

لمّا دعا وبه توسّل أوّلا

وبه استقرّ الفُلك من طوفانه

لمّا دعا نوح به وتوسّلا

وبه خبت نار الخليل فأصبحت

بَرداً وقد أذكت ضراماً مُشعلا

وبه دعا يعقوب حين أصابه

من فقد يوسف ما شجاه وأذهلا

وبه دعا الصدّيق يوسف إذ هوى

في هُوّة وأقام أسفل أسفلا

وبه أماط الله ضُرّ نبيه

أيّوب وهو المستكين المبتلا

وبه دعا موسى فأوضحت العصا

طُرقاً ولُجّة بَحرها طام ملا

وبه دعا عيسى فأحيا ميّتاً

من قبره وانشقّ عنه الجَندلا

وبه دعا داود حين غشاهم

جالوت مقتحماً يقود الجَحفلا

لقّاه دامغة فغادر شلوه

ملقىً وولّى جَمعُه مُستجفلا

العالم العلمَ الرضيّ المرتضى

نور الهدي سيف العليّ أخو العُلى

روى أبو مخنف (١) بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي‌الله‌عنه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مولد علي عليه‌السلام ، قال : « يا جابر ، سألت عجيباً عن خير مولود ، اعلم أنّ الله لما أراد أن يخلقني ويخلق عليّاً قبل كلّ شيء ، خلق دُرّة عظيمة أكبر من الدنيا عشر مرات ، ثمّ إن الله تعالى استودعنا في تلك الدرّة ، فمكثنا فيها مئة ألف عام ، نسبّح الله تعالى ونقدّسه ، فلمّا أراد إيجاد الموجودات نظر إلى الدرّة بعين التكوين فذابت وانفجرت نصفين ، فجعلني ربّي في النصف الّذي احتوى على النبوة ، وجعل عليّاً في النصف الّذي احتوى على الإمامة.

__________________

(١) ما عثرت على كتاب أبي مخنف ، وما وجدت الحديث في مقتله ، ولأبي مخنف كتب كثيرة لم تصل إلينا ، انظر رجال النجاشي ورجال الشيخ.

٤٨

ثمّ إنّ الله تعالى خلق القلم وقال : اكتب. قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب : لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله ، علي وليّ الله.

فلمّا فرغ القلم من كتابة الأسماء قال : يا ربّ ، من هؤلاء الّذين قرنت اسمهما باسمك ؟

قال الله تعالى : يا قلم ، محمّد نبيّي وخاتم الأنبياء ، وعليّ وليّي وخليفتي في عبادي ، لولاهما ما خلقت خلقي ، فمن أحبّهما أحببته ، ومن أبغضهما أبغضته » (١).

فلا غرو ولا عجب من ارتقائه مفارق الجلال ، وحلوله في قمم الكمال ، فهو الاسم الأعظم الّذي تنفعل به الكائنات ، والحاكم المتصرّف في سائر الموجودات ، وهو الأوّل بالأنوار ، الظاهر بالأدوار ، الباطن بالأسرار ، الآخر بالآثار ، وذلك مقام الربّ العليّ.

نطقت فيه كلمته ، وظهرت عنه مشيئته ، فهو كهو بوجوب الطاعة وامتثال الأمر والرفعة على الموجودات والحكم على البريّات ، وليس هو هو بالذات المقدّسة المنزّهة عن الأشباه والأمثال المتعالية عن الصور والمثال ، اللهمّ لا فرق بينك وبينه إلاّ أنّه عبدك وخلقك.

سرّ الإله الّذي ما زال يظهر بال‍

آيات مع أنبياء الأعصر الاُول

شمس الهدى علّة الدنيا الّتي صدر

الوجود من أجلها من علّة العلل

الجوهر النبوي الأحمدي أبو

الأئمّة السادات الهادين للسبل

صنو النبيّ حبيب الله أشرف من

يمشي على الأرض من حاف ومنتعل

به يجاب دُعا الداعي وتقبل أعمال

العباد ويستشفى من العلل

__________________

(١) رواه المحدّث البحراني في مدينة المعاجز : ٢ : ٣٦٧ برقم ٦١٠ مع إضافات كثيرة عن أبي مخنف.

٤٩

فاقدحوا يا ذوي البصائر زند متواريات الأحزان بين الجوانح ، واستشبّوا متّقدات الأشجان في رؤوس رواسي الجوارح ، واتركوا متموّجات الأجفان في رياض الخدود سوافح ، واقطعوا جرثومات السلوان بباترات هذه الفوادح ، واسقوا ايكات الإطمئنان بمنهمر هذه القوادح ، وصوّحوا روضات الافتتان بسمائم الوجد اللوافح ، وتذكّروا ما وقع على علّة الإمكان من الأرزاء الجوائح وما لاقاه من الخطوب الّتي يحقّ لسماع ذكرها أن تسكن النفوس الضرائح.

روي في كتاب المناقب مرفوعاً إلى فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين عليه‌السلام قالت : لمّا دخلت الكعبة شرّفها لله تعالى انسدّ الباب وإذا أنا بخمس نسوة كأنّهنّ الأقمار وعليهنّ ثياب الحرير والإستبرق ، فسلّمن عليّ وجلسن إلى جنبي ، فلمّا وضعت بولدي أمير المؤمنين عليه‌السلام خرّ ساجدا لله يتضرّع إلى ربّه ، ثم رفع رأسه الشريف وأذّن وأقام وشهد لله بالوحدانية ولرسول الله بالنبوّة والرسالة ، ولنفسه بالخلافة والولاية ، فبينما أنا كذلك وإذا برسول الله قد دخل ، فلمّا بصر به ولدي قال : « السلام عليك يا رسول الله ، ورحمة الله وبركاته ». فقال النبي : « وعليك السلام يا أخي وشقيقي ومن أقرّ الله به عيني ».

فقال : « يا نبي الله ، أتأذن لي أن أقرأ » ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اقرأ ». فابتدأ بصحف آدم فقرأها حتّى لو حضر شيث لأقرّ أنه أعلم بها منه ، ثمّ تلى صحف نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والزبور ، ثم تلا : ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) (١). فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قد أفلح المؤمنون بك ، أنت أميرهم ، تميرهم من علمك ، الحمد لله الذي جمع بيننا ». فنطق الإمام بلسان فصيح وقال : « مدّ يدك يا رسول الله ، فإنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّك محمّد عبده ورسوله ، بك تختم النبوّة ، وبي تختم الولاية » (٢).

__________________

(١) المؤمنون : ٢٣ : ١ ـ ٢.

(٢) ورواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص ٧٥ مختصراً.

٥٠

وكان مولده عليه‌السلام ليلة الجمعة ثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل (١).

وروي في كتاب الأربعين عن أنس بن مالك قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : « يا علي ، يا ولي ، يا ديان ، يا هادي ، يا سيّد ، يا صدّيق ، يا زاهد ، يا فتى ، يا طيّب ، يا طاهر ، مرّ أنت وشيعتك إلى الجنّة بغير حساب » (٢).

وروى صاحب كتاب النخب (٣) قال : تشاجر رجال في إمامة علي بن أبي طالب ، فجاءوا إلى شريك (٤) فسألوه ، فقال لهم : حدثني سليمان الأعمش ، عن حذيفة بن اليمان ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « إنّ الله تبارك وتعالى خلق عليّاً قضيباً في الجنة ، فمن تمسّك به فهو من أهلها ».

فاستعظم الرجال ذلك ، فجاءوا إلى ابن دراج (٥) فأخبروه ، فقال : لا تعجبوا ، حدثني الأعمش ، عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إنّ الله خلق قضيباً من نور في بطنان عرشه ، لا يناله إلاّ عليّ ومن تولاه ».

__________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد : ١ : ٥.

(٢) ورواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص ٤٧ و ٦٨ ، وابن شاذان في مئة منقبة : ص ١٣٨ في المنقبة ٨٣ ، والخوارزمي في مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام : ص ٣١٩ في الفصل ١٩ ح ٣٢٣ مع اختلاف قليل.

(٣) أي نخب المناقب لآل أبي طالب ، منتخب من مناقب آل أبي طالب تصنيف محمّد بن علي ابن شهر آشوب ، والناخب هو أبو عبد الله الحسين بن جبير تلميذ نجيب الدين علي بن فرج الّذي كان تلميذ ابن شهر آشوب. ( الذريعة : ج ٢٤ ص ٨٨ رقم ٤٦٢ ).

(٤) هو شريك بن عبد الله بن الحارث النخعي الكوفي ، استقضاه المنصور على الكوفة سنة ١٥٣ ، وتوفّي بها في سنة ١٧٧.

(٥) هو أبو محمّد نوح بن درّاج النخعي القاضي من أصحاب أبي حنيفة ، كان أبوه حائكاً من النبط ، ولي نوح القضاء بالكوفة وأصيبت عيناه فكان يقضي واستمرّ ثلاث لا يعلم أحد بعماه ، توفي سنة ١٨٢.

٥١

فقال الرجال : هذا من ذاك ! نمضي إلى وكيع (١) ، فجاؤه وأعلموه ، فقال : لا تعجبوا ، حدثني الأعمش ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أركان العرش لا ينالها إلاّ عليّ وشيعته ».

فاعترفوا أولئك الرجال بفضل علي (٢).

ومن كتاب المناقب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن لله عموداً من نور يضيء لأهل الجنّة كالشمس لأهل الدنيا ، لا يناله إلاّ علي وشيعته ، وإنّ حلقة باب الجنة لمن ياقوتة حمراء طولها خمسون عاماً ، إذا نقرت طنّت وقالت في طنينها : يا علي » (٣).

ولله درّ من قال من الرجال الأبدال :

وإذا علت شرفاً ومجداً هاشم

كان الوصي لها المعم المخولا

لا جدّة تيم بن مرّة لا ولا

أبواه من نسل النفيل تنسّلا

ومكسّر الأصنام لم يسجد لها

متعفّراً فوق الثرى متذلّلا

لكن له سجدت مخافة بأسه

لما على كتف النبيّ عليّ علا

تلك الفضيلة لم يفز شرفاً بها

إلا الخليل أبوه في عصر خلا

إذ كسّر الأصنام حين خلا بها

سرّاً وولّى خائفاً مستعجلا

فتميّز العلمين بينهما وقس

تجد الوصيّ بها الشجاع الأفضلا

وانظر ترى أزكى البريّة مولداً

والفعل متّبع ! أباه الأوّلا

وهو القؤول وقوله الصدق الّذي

لا عيب فيه لمن وعى وتأمّلا

__________________

(١) هو أبو سفيان وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي ، ولد بالكوفة سنة ١٢٩ وتوفّي سنة ١٩٧.

(٢) ورواه القاضي النعمان في شرح الأخبار : ٢ : ٢٦٩ رقم ٥٧٧ ، والبرسي في مشارق أنوار اليقين ٤٧ و ٦٨ ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٣ : ٢٣٣ في محبّته عليه‌السلام ، وعنه المجلسي في البحار : ٣٩ : ٢٥٩ في باب أنّ حبّه إيمان وبغضه كفر.

(٣) رواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ٤٨ و ٦٨ ، والديلمي في إرشاد القلوب : ٢ : ٢٥٩ في فضائله عليه‌السلام.

٥٢

والله لو أنّ الوسادة اُثنيت

لي في الذي حضر العليّ وحلّلا

لحكمت في قوم الكليم بمقتضى

توراتهم حكماً بليغاً فيصلا

فيا من أسدلت عليه ستورها الفضائح ، وتوّجت هامته القبائح ، إلى كم أنت عن مركز الهداية نازح ، وحتّى متى تدّعي معرفة الناسخ ، ومن أين لك علم التناسخ ، وقدمك في طريق الحقّ غير راسخ ، أما علمت أنّ اسم الله الأعظم ينزل في كلّ تركيب ، وكلمة الله تظهر في كلّ صورة وتفعل كلّ عجيب ، فما لك لا تشكّ في قول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنا الفاتح الخاتم » ؟ وترتاب في قول عليّ : « أنا البصير العالم » ؟ أليس هما قسيمي النور وواحدي الذات في عالم الظهور ؟!

روي في كتاب المجالس (١) علي ، عن أبيه ، عن جدّه علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : « كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه الّذي توفّي فيه وكان رأسه في حجري والعبّاس يذبّ عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأغمي عليه إغماءةً ثمّ فتح عينيه فقال : يا عبّاس ، يا عمّ رسول الله ، اقبل وصيّتي واضمن دَيني وعدَتي.

فقال له العبّاس : يا نبي الله ، أنا شيخ ذو عيال كثير غير ذي مال ممدود ، وأنت أجود من السحاب الهاطل والريح المرسلة ، فاصرف عنّي ذلك إلى من أطوق منّي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمّا أنّي سأعطيها لمن يأخذ بحقّها ومن لا يقول مثل ما تقول ، يا علي ، هاكها لا يخالطك فيها أحد ، يا علي ، اقبل وصيّتي وانجز مواعيدي ، يا علي ، اخلفني في أهلي وبلّغ عنّي من بعدي ».

__________________

(١) رواه الشيخ الطوسي في أماليه : المجلس ٢٧ الحديث ١ ، وفي المجلس ٢٢ الحديث ١٢.

وروى نحوه الشيخ الصدوق في باب ١٣١ « العلّة التي من أجلها أوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّ عليه‌السلام دون غيره » من علل الشرائع : ص ١٦٦ ح ١ وفي ص ١٦٨ ح ٣ بسندين عن زيد بن علي.

انظر ترتيب الأمالي : ج ٢ ص ٥٦٠ ح ١٠٥١ و ١٠٥٢.

ولاحظ المناقب لابن شهر آشوب : ١ : ٢٩٣ عنوان : « فصل في وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ».

٥٣

فقال علي عليه‌السلام : « فلمّا نعى إليّ نفسه وجف فؤادي وألقى عَليّ بقوله البكاء فلم أقدر أن أجيبه بشيء ، ثمّ عاد لقوله فقال : يا عليّ ، أو تقبل وصيّتي » ؟

قال : « وقلت ـ وقد خنقتني العبرة ولم أكد أن أبِن ـ : نعم يا رسول الله.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا بلال ، آتني بسوادي ، آتني بذي الفقار ودرعي ذا الفضول ، آتني بمغفري ذات الجبين ورايتي العقاب ، وآتني بالفترة والممشوق. فأتى بذلك إلاّ درعةً كانت يومئذ مرتهنة.

ثمّ قال : آتني بالمرتجز والعضباء ، وآتني باليعفور والذلول. فأتى بها وأوقفها بالباب.

ثمّ قال : آتني بالأتحميّة والسحاب. فأتاه بهما ، فلم يزل يدعو بشيء شيء ، فافتقد عصابة كان يشدّ بها بطنه ، فطلبها فأتي بها إليه والبيت غاص يومئذ بمَن فيه.

ثم قال : يا عليّ ، قُم فاقبض هذا في حياة منّي وشهادة من البيت كيلا ينازعك أحد من بعدي. فقمت وما كدت أمشي على قدم حتّى استودعت ذلك جميعاً منزلي.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي ، أجلسني. فأجلسته وسنّدته إلى صدري وإنّ رأسه ليثقل ضعفاً وهو يقول : يسمع أقصى أهل بيتي وأدناهم : إن أخي ووصيّي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب ، يقضي دَيني وينجز موعدي.

يا بني هاشم ويا بني عبد المطلب ، لا تبغضوه ولا تخالفوا عن أمره فتضلوا ، ولا ترغبوا عنه فتكفروا ، اضجعني يا علي. فأضجعته.

فقال : يا بلال ، آتني بولدي الحسن والحسين. فانطلق فجاء بهما ، فأسندهما الى صدره فجعل يشمّهما حتّى ظننت أنّهما غمّاه وتأهّبت لآخذهما عنه ، فقال : دعهما يا علي أشمّهما ويشمّاني ، ويتزوّدان منّي وأتزوّد منهما ، فسيلقيان من بعدي زلزالاً وأموراً عضالاً ، فلعن الله من يجفيهما ، اللهمّ إني أستودعكهما وصالح المؤمنين ».

٥٤

وروي في كتاب المشارق (١) الإسناد إلى سعيد بن المسيب ، عن عبد الرحمان بن سمرة قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرض الموت فقلت : بأبي أنت وأمّي (٢) يا رسول الله أرشدني إلى النجاة.

قال : فقال لي : « إذا اختلفت الأهواء ، وافترقت الآراء ، فعليك بعلي بن أبي طالب ، فإنّه إمام أمّتي وخليفتي عليهم بعدي ، والفاروق بين الحقّ والباطل ، من سأله أجابه ومن استهداه (٣) أرشده ، ومن طلب الحقّ عنده وجده ، ومن التمس الهدى لديه صادفه ، ومن لجأ إليه آمنه ، ومن تمسّك به نجاه ، ومن اقتدى به هداه.

يابن سمرة ، سلم من سلّم له ووالاه ، وهلك من ردّ عليه وعاداه.

يابن سمرة ، إنّ عليّاً مني وأنا منه ، روحه روحي وطينته طينتي ، وهو أخي وأنا أخوه ، وزوجته سيدّة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، وإبناه (٤) سيّدا شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ، وتسعة من ولد الحسين هم أسباط النبيّين ، تاسعهم قائمهم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ».

ولله درّ من قال من الرجال على الآل :

من معشر عدلوا عن عهد حيدرة

وقابلوه بعُدوان وما قبلوا

وبدّلوا قوله يوم الغدير لهم

غدراً وما عدلوا في الحكم بل عدلوا

وذاك إذ فيهم الهادي البشير قضى

وما تهيّا له لحد ٧ ولا غسل

مالوا إليها سراعاً والوصيّ برُزء

المصطفى عنهم لاهٍ ومعتزل

__________________

(١) مشارق أنوار اليقين : ص ٥٦.

رواه الشيخ الصدوق في أماليه : المجلس ٧ الحديث ٣ ، وفي كمال الدين : ص ٢٥٧ باب ٢٤ ح ١ ، وعنه البحار : ٣٦ : ٢٢٦ باب ٤١ ح ٢.

(٢) من قوله : « دخلت » إلى هنا غير موجود في المصدر.

(٣) في المصدر : « استرشده ».

(٤) في المصدر : « وابناؤه ».

٥٥

وقلّدوها عتيقاً لا أباً لهم

أنّى تسود أسود الغابة الهمل

وخاطبوه أمير المؤمنين وقد

تيقّنوا أنه في ذاك منتحل

واجمعوا الأمر فيما بينهم وعزت

لهم أمانيهم والجهل والأمل

أن يحرقوا منزل الزهراء فاطمة

فيا له حادث مستصعب جلل

بيت لمن كان جبرائيل سادسهم

من غير ما سبب بالنار يشتعل

واُخرج المرتضى من عقر منزله

بين الأراذل محتفّاً به وُكل

يا للرجال لدين قلّ ناصره

ودولة ملكت ملاّكها السفل

فهذه الفادحة الّتي زعزعت ركون بيت الرسالة ، والجائحة الّتي صوّحت منابت العلم والدلالة ، والصاعقة الّتي أبادت أرباب الإيمان ، والبائقة الّتي أرغمت معاطس حملة القرآن ، والنائبة الّتي جلبت سحائب البلا على الأكرمين الفضلاء ، والصائبة الّتي هدّت رواسي الشرف بكربلاء ، فأقسم بربّ الأرباب ، ومن عنده علم الكتاب ، لولا اعتراض ابن الخطاب ، على النبيّ الأوّاب ، في كتابة الكتاب ، والدلالة على الصواب ، لما ذلّت من المسلمين الرقاب ، ولا كرع الحسين من مواضي الحراب كؤس الأوصاب ، ولا هتكت النصاب أستار الصون والاحتجاب عن مخدّرات أبي تراب ، ولا علت صهوات الركّاب من غير أحلاس ولا أقتاب ، ولا شهّرت في الرحاب من غير سجف ولا حجاب ، فإنّا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

روي في كتاب الإكمال عن محمّد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه قال : لمّا ضرب ابن ملجم أبي طالب عليه‌السلام على قرنه قال : « احملوني إلى موضع مصلاّي من منزلي ». فحملناه وهو مدنف ، والناس من خلفه قد أشرفوا على الهلاك من كثرة البكاء ، فالتفت إليه ابنه الحسين عليه‌السلام وهو يبكي ، فقال له : « يا أبتاه من لَنا بعدك ؟ يا أبتاه ، إنّ يومك كيوم مات فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من أجلك تعلّمت البكاء ، فعزيز عَليّ أن أراك هكذا ».

٥٦

فناداه وقال : « ادن منّي يا بُنيّ ». فدنا منه وقد قرحت عيناهما بالبكاء ، فمسح دموع الحسين بيده الشريفة ووضع يده على فؤاده وقال : « ربط الله على قلبك بالصبر ، وأجزل لك ولإخوانك عظيم الأجر ، فسكّن يا بُنيّ روعتك واهدأ من البكاء ، فإنّ الله قد آجرك على عظيم مصابك ».

ثم أمر بإدخاله إلى حجرته ، فأدخل إليها فجلس في محرابه ، فأقلبت إليه زينب وأم كلثوم حتّى جلستا إلى جانبه على فراشه وهما يندبانه ويقولان : « مَن للصغير حتّى يكبر يا أبتاه ؟ ومَن للكبير بين الملأ يا أبتاه ؟ ومن للضعيف حامياً ومجيراً يا أبتاه ؟ حزننا عليك طويل المدى يا أبتاه ، وعبرتنا عليك لا ترقأ (١) يا أبتاه ».

فضجّ الناس بالبكاء والعويل ، ففاضت دموع أمير المؤمنين عليه‌السلام عند ذلك وجعل يقلّب طرفه في أهل بيته وأولاده (٢).

وفي الكتاب المذكور عن الأصبغ بن نباتة قال : لمّا ضرب أمير المؤمنين عليه‌السلام غدونا نفراً من أصحابنا نريد الإذن عليه ، فقعدنا على الباب ، فسمعنا البكاء من داخل البيت فبكينا ، فخرج إلينا الحسن عليه‌السلام وقال : « يقول لكم أبي : انصرفوا إلى منازلكم ».

فانصرف القوم غيري ، فاشتدّ البكاء من منزله عليه‌السلام ، فبكيت ، فخرج الحسن عليه‌السلام وقال : « ألم أقل لكم : انصرفوا » ؟ فقلت : والله يا ابن رسول الله إنّ رجلي لا تتابعني ونفسي لا تطاوعني على أن أنصرف حتّى أرى أمير المؤمنين.

فدخل الحسن فلم يلبث إذ خرج وقال لي « ادخل ». فدخلت عليه فإذا هو مسنّد معصّب الرأس بعمامة صفراء قد نزف واصفرّ لونه ، ما أدري وجهه أصفر أم العمامة أصفر ! فانكببت على قدميه أقبّلهما وبكيت ، فقال لي : « لا تبك يا أصبغ ،

__________________

(١) رقأ الدمع : جفّ وانقطع.

(٢) رواه المجلسي في البحار : ٤٢ : ٢٨٨ ح ٥٨ عن بعض الكتب القديمة مع اختلاف في بعض الألفاظ.

٥٧

فوالله إنّها الجنّة ».

فقلت : والله يا أمير المؤمنين جعلت فداك إنّي أعلم أنّك تصير إلى الجنّة وإنّما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين (١).

وروي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : كنت عند أمير المؤمنين ليلة إحدى وعشرين من أوّل الليل إلى آخره أريد أن أسأله عن سبعين مسألة ، فرأيته قد ثقل حاله فلم أسأله عن شيء ، فابتدأني وقال : « يا ابن عبّاس عندك سبعون مسألة تريد أن تسأل عنها ، فلِمَ لا تذكرها » ؟

فقلت : اشفاقاً عليك يا مولاي.

فقال عليه‌السلام : إنّ شرح المسألة الفلانيّة كذا ، وشرح المسألة الفلانيّة كذا ، ولم يزل يذكرها إلى آخرها ، ولم أذكر له شيئاً منها ، وأوصانا بالأحكام الّتي أوصاه بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا ونحن ننظر إلى عينيه قد غارتا في أمّ رأسه من شدة السمّ ، فعظم ذلك علينا ، فدعا بالحسن والحسين عليهما‌السلام وجميع أولاده وأهل بيته وودّعهم وقال : « يا أبا محمّد ، ويا أبا عبد الله ، كأنّي بكما وقد خرجت عليكما الفتن من هاهنا وهاهنا من بعدي ، فاصبرا حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين ».

ثمّ أغمي عليه وأفاق وقال : « هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمّي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّهم يقولون : عجّل قدومك علينا ، فإنّا إليك مشتاقون ».

ثمّ أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال : « أستودعكم الله جميعاً ، سدّدكم الله جميعاً ، الله خليفتي عليكم ، وكفى به خليفة ».

__________________

(١) ورواه المفيد في أماليه : المجلس ٤٢ ح ٣ ، وعنه الشيخ الطوسي في أماليه : المجلس ٥ الحديث ٤ مع إضافات في آخره.

وانظر ترتيب الأمالي للشيخ محمّد جواد المحمودي : ٤ : ٦١٤.

ورواه عنهما المجلسي في البحار : ٤٢ : ٢٠٤ ح ٨.

٥٨

ثمّ قال : « وعليكم السلام يا رسل ربّي ». ثمّ قال : « ( لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) (١) ، ( إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) (٢) ».

وهناك عرق جبينه فمسحه بيده الشريفة ، فقال له الحسن عليه‌السلام : « ما لي أراك يا أبت تمسح جبينك » ؟ فقال عليه‌السلام : « نعم يا بُنيّ ، إنّ المؤمن إذا نزل به الموت عرق جبينه وقلّ أنينه ». ثم قرأ : ( إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (٣) ، وقال : « أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ». وما زال يذكر الله حتّى قضى نحبه ، صلوات الله وسلامه عليه.

وكان ذلك ليلة الجمعة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان المكرّم أربعين من الهجرة (٤).

ولله درّ من قال :

وليت شعري إذ يقتلون عليّاً

وهو للمحل فيهم قتّال

ويسرّون بغضه وهو لا

تقبل إلاّ بحبّه الأعمال

وتحال الأخبار والله يدري

كيف كانت يوم الغدير الحال

وبسبطين تابعيه فمسموم

عليه ثرى البقيع يهال

درسوا قبره ليخفى على الزوّا

ر هيهات كيف يخفى الهلال

وشهيد بالطفّ أبكى السماوات

وكادت له تزول الجبال

يا غليلي له وقد حرّم الماء

عليه وهو الشراب الحلال

قطعت وصلة النبيّ بأن

تقطع من أهل بيته الأوصال

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ : ٦١.

(٢) سورة النحل : ١٦ : ١٢٨.

(٣) سورة يونس : ١٠ : ٤٩.

(٤) كما في إرشاد المفيد : ١ : ٩ باب ١.

وقال أبو الفرج في مقاتل الطالبيّين : ص ٥٤ : سنة أربعين في ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلة مضت من شهر رمضان.

٥٩

لهف نفسي يا آل طه عليكم

لهفة كسبها جوىً وخبال

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أمر تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً ، فعلى مثل هذا الإمام الأروع ، والهمام السّميدع ، فلتهجر لذّات الصفا ، ويكدر موارد البشر الأصفى ، أو لا تكونون يا أرباب الوفا ، وشركائي في الحزن والأسى ، كمن لبس لهذه الأرزا ، لباس المحنة والعزا ، وهجر خرائد المسرّة والهنا ، فأنشد وأنشأ ، ولله درّه من منشد في الورى.

٦٠