مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فقال : « هيهات ، لو ترك القطا لنام ».

فتصارخن النساء ، فسكتهنّ (١) ، ثمّ خرج ونادى : « قرّبن إلَيّ فرسي واسردنّ علَيّ سلاحي ». فقرّبن إليه فرسه فركب ووقف قبالة القوم وسيفه مصلت في يده آيساً من الحياة عازماً على الموت وهو يقول :

أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشم

كفاني بهذا مفخراً حين أفخر

وجدّي رسول الله أكرم من مشى

ونحن سراج الله في الأرض نزهر

وفاطم أمّي من سلالة أحمد

وعمّي يدعى ذو الجناحين جعفر

وفينا كتاب الله أنزل صادقاً

وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر

ونحن أمان الله للخلق كلّهم

نسّر بهذا في الأنام ونجهر

ونحن ولاة الحوض نسقي محبّنا

بكأس رسول الله ما ليس ينكر

وشيعتنا في الناس أكرم شيعة

ومبغضنا يوم القيامة يخسر

قال : ثم إنّه عليه‌السلام دعا الناس الى البراز ، فلم يزل يَقتل كلّ من دنا منه من عيون الرجال حتّى قتل منهم مقتلة عظيمة ، ثمّ حمل على الميمنة وهو يقول :

الموت خير من ركوب العار

والعار أولى (٢) من دخول النّار

فقتل منهم ما شاء الله ، ثمّ حمل على الميسرة وهو ينشد ويقول :

أنا الحسين بن علي

آليت أن لا أنثني

أحمي عيالات أبي

أمضي على دين النبي (٣)

قال الراوي : واشتدّ العطش بالحسين ، فركب المسناة (٤) يريد الفرات وأخوه

__________________

(١) إلى هنا رواه المجلسي في البحار : ٤٥ : ٤٧ عن بعض الكتب ولم يذكر اسمه.

(٢) في الهامش عن نسخة : « خير ».

(٣) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٣٢ و ٣٣ ، والإربلي في كشف الغمة : ٢ : ٢٣١ مع اختلافات لفظية ، والمجلسي في البحار : ٤٥ : ٤٨ ـ ٤٩ بدون اسناد إلى كتاب معين مع اختلافات في الألفاظ.

(٤) المسناه : تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية. ( تاج العروس : ١٠ : ١٨٥ « سنى » ).

١٤١

العبّاس معه ، فاعترضه خيل ابن سعد لعنه الله واقتطعوا عنه أخاه العبّاس ، فكمن له زيد بن ورقاء وحكيم بن الطفيل فقتلاه ، فلمّا قتل العباس بكى الحسين بكاءاً شديداً ونادى : « الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي » (١).

وفي ذلك يقول الشاعر :

اليوم آل إلى التفرّق جمعنا

اليوم حلّ من البنود نظامها

اليوم سار عن الكتائب كبشها

اليوم بان عن اليمين حسامها

اليوم نامت أعين بك لم تنم

وتسهّدت أخرى فعزّ منامها

أشقيق روحي هل تراك علمت إذ

غودرت وانثالت عليك لئامها

إن خلت طبقت السماء على الثرى

أو دكدكت فوق الربى أعلامها

لكن أهان الخطب عندي أنّني

بك لاحق أمر قضى علاّمها

قال حميد بن مسلم : فو الله ما رأيت مكثوراً قطّ قد قتل ولده وأنصاره وأصحابه أربط جأشاً منه ، وإنّه كانت الرجال تشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان صلوات الله عليه يحمل فيهم فينهزمون من بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : « لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم » (٢).

__________________

(١) رواه ابن طاوس في الملهوف : ص ١٧٠.

ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ١٠٩.

(٢) رواه ابن طاوس في الملهوف : ص ١٧٠.

١٤٢

ثمّ إنّه لم يزل يقاتلهم حتّى حالوا بينه وبين رحله ، فصاح بهم : « ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون ».

قال : فناداه الشمر لعنه الله : ما تقول يا ابن فاطمة ؟

فقال عليه‌السلام : « أقول أنا الّذي أقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً ».

فقال له الشمر : لك ذلك يا ابن فاطمة. ثمّ صاح شمر : اليكم عن حرم الرجل واقصدوه في نفسه ، فلعمري لهو كفؤ كريم.

قال : فقصدوه القوم فجعل يحمل فيهم وهو مع ذلك يطلب شربة من الماء فلا يجدها ، فلمّا اشتدّ به العطش حمل بفرسه على الفرات ، وكان عليه عمرو بن الحجّاج والأعور السلمي مع أربعة آلاف رجل ، فكشفهم عن الفرات ، واقتحم الفرس المورد (١).

فلمّا أحسّ الفرس ببرد الماء أولغ برأسه ليشرب فناداها الحسين عليه‌السلام : « أنت عطشان وأنا عطشان ، والله لا ذقت الماء حتّى تشرب ». فلمّا سمع الفرس كلام الحسين رفع رأسه ولم يشرب كأنّه فهم الكلام ، فقال له الحسين عليه‌السلام : « إشرب فأنّا أشرب ». فمدّ الحسين عليه‌السلام يده وغرف غرفة من الماء فناداه فارس من القوم : يا أبا عبد الله ، تتلذّذ بشرب الماء وقد هتك حرمك ؟! فنفض الماء من يده وحمل على القوم وكشفهم عن الخيمة ، فإذا هي سالمة (٢).

قال : فجعل الحسين عليه‌السلام يطلب الماء والشمر لعنه الله يقول : لا تذوقه أو ترد

__________________

ورواه أبو مخنف في وقعة الطف : ص ٢٥٢ ، والمفيد في الإرشاد : ٢ : ١١.

(١) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٣٣ ، وابن طاوس في الملهوف : ١٧١ ، وأبو مخنف في وقعة الطف : ٢٥٢.

(٢) ورواه ابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٦٥ « في آياته بعد وفاته » عن أبي مخنف ، عن الجلودي.

١٤٣

النّار !

فقال له رجل منهم : إلاّ ترى يا حسين إلى ماء الفرات يلوح كأنّه بطون الحيّات ، والله لا تذوق منه قطرة أو تموت عطشاً !

فقال الحسين عليه‌السلام : « اللّهم أمته عطشاً ».

قال : والله لقد كان ذلك الرجل يقول : اسقوني ماء فيؤتى له بعسّ من الماء لو شرب منه خمسة لكفاهم ، فيشرب حتّى يثغر (١) ثمّ يقول : اسقوني قتلني العطش ! فلم يزل كذلك حتّى مات لا رحمه الله (٢).

قال : ثمّ رماه حرملة بن كاهل فوقع السهم في جبهته ، فسالت الدماء على وجهه ولحيته ، فانتزع السهم وهو يقول : « اللهمّ إنك ترى ما يصنع بي هؤلاء العصاة ، اللهمّ فاحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبداً ».

ثمّ حمل عليهم في أمرّ ساعة من ساعات الدنيا فجعل لا يلحق بأحد منهم إلاّ اختطف رأسه بسيفه عن جسده ، والسهام تأخذه من كلّ مكان ، وهو يلتقيها بصدره ونحره ويقول : « يا أمّة السوء ، بئسما خلفتم محمّداً في عترته ، أما إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله بل يهون عليكم قتلكم إيّاي ذلك ، وأيم الله إنّي لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة ».

قال : ثمّ إنّه لم يزل يقاتل حتّى أصابه ـ كما نقل ـ ألف وتسع مئة جراحة ، وكانت السهام في جلده كالشوك في جلد القنفذ ، وروي أنّها كانت كلّها في مقدّمه ، فوقف يستريح إذ أتاه حجر فوقع في جبهته ، فأخذ الثوب ليمسح عن وجهه فأتاه سهم محدود مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره ، وقيل : في قلبه ، فقال عليه‌السلام : « بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ». ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال : « إلهي ، إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيّ

__________________

(١) الثغرة : الثلمة. وفي مقاتل الطالبيين : « حتّى خرج من فيه ».

(٢) ورواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص ١١٧ مع اختلاف.

١٤٤

غيره ».

ثمّ أخذ السهم فأخرجه من قفاه ، فانبعث الدم كأنّه ميزاب ، فوضع يده على الجرح ، فلما امتلأت رمى به إلى السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة ، وما عرفت الحمرة في السماء حتّى رمى الحسين عليه‌السلام بدمه ، ثمّ وضع يده ثانية فلّما امتلأت لطخ بها رأسه ولحيته وقال : « هكذا ألقى الله وأنا مخضب بدمي مغصوب علَيّ حقي وأقول : يا جدّاه ، قتلني فلان وفلان ».

ثمّ ضعف عن القتال ، وكلّما أتاه رجل انصرف عنه كراهية أن يلقى الله بدمه حتّى أتاه رجل من كنده يقال له « مالك بن النسر » لعنه الله ، فشتم الحسين عليه‌السلام وضربه بالسيف على رأسه الشريف فقطع البرنس ووصل السيف إلى فرقه فامتلأ البرنس دماً ، فقال له الحسين عليه‌السلام : « لا أكلت بها ولا شربت ، وحشرك الله مع الظالمين ». ثمّ رمى البرنس عن رأسه واستدعا بخرقة وشدّ بها رأسه ، ولبس قلنسوة واعتمّ عليها (١).

قال : ثمّ انهم لبثوا هنيئة ثمّ داروا عليه وأحاطوا به ، فخرج عبد الله بن الحسن عليه‌السلام وهو غلام لم يراهق ، فخرج من عند النساء يشتدّ حتّى وقف إلى جنب الحسين عليه‌السلام ، فلحقته زينب لتحبسه ، فقال الحسين عليه‌السلام لها : « احبسيه يا أختاه ». فأبى وامتنع امتناعاً شديداً وقال : لا والله لا أفارق عمّي الحسين. فأهوى أبجر بن كعب ـ وقيل : حرملة الأسدي ـ إلى الحسين بالسيف فاتّقاها الغلام وقال : ويلك يا ابن الخبيثة ، أتقتل عمّي ؟ وتلقّى السيف بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلّقة ، فنادى الغلام : يا عمّاه. فأخذه الحسين عليه‌السلام وضمّه إلى صدره وقال : « يا ابن أخي ، اصبر على ما نزل بك ، فإنه بعين عناية الله ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين ».

__________________

(١) رواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٣٤ ـ ٣٥ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

وروى قسماً منه السيّد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٧٢.

١٤٥

قيل : ورماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه في حِجر عمّه (١).

ثمّ إنّ الشمر لعنه الله حمل على فسطاط الحسين عليه‌السلام فطعنه بالرمح ثمّ قال : عليَّ بالنار لأحرقه على مَن فيه.

فقال له الحسين عليه‌السلام : « أنت الداعي بالنار لتحرق بيتي على أهلي ، أحرقك الله بالنار ». فجاء شبث بن ربعي فوبّخه ، فاستحيى وانصرف (٢).

قال : فنادى الحسين عليه‌السلام وقال : « ابعثوا لي ثوباً لا يرغب فيه أحد أجعله تحت ثيابي لئلا أجرّد منه ». فأتي له بثوب فردّها وقال : « ذلك لباس من ضربت عليه الذلّة ». ثمّ إنّه أخذ ثوباً خلقاً فجعله تحت ثيابه ، فلمّا قتل جرّدوه منه.

ثم استدعى بسراويل من حبرة فمزّقها لئلا يسلبونها ، فلمّا قتل جرّدوه منها (٣).

قال : فأعيا عن القتال وكفّ عن الجدال ، فنادى شمر لعنه الله : ما وقوفكم ؟ وما تنتظرون بالرجل ؟ احملوا عليه ثكلتكم أمّهاتكم.

فرماه الحصين بن تميم في فيه ، وأبو أيوب الغنوي في حلقه ، وطعنه صالح بن وهب المزني في خاصرته طعنة سقط بها عن فرسه على خدّه الأيمن ، ثمّ قام صلوات الله عليه (٤).

قال الراوي : فلمّا سقط الحسين عليه‌السلام خرجت زينب بنت عليّ عليه‌السلام من الفسطاط وهي تنادي : « وا أخاه ، وا سيّداه ، ليت الموت أعدمني الحياة ، وليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل ، يا عمر بن سعد ، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه » ؟!

__________________

(١) ورواه السيّد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٧٣.

(٢) ورواه السيّد ابن طاوس في الملهوف : ٣ : ١٧٣.

(٣) ورواه السيّد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٧٤.

(٤) ورواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٣٥ ، والسيد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٧٤ ـ ١٧٥.

١٤٦

قال : ودموع عمر تسيل على خدّيه ولحيته وهو يصرف وجهه عنها (١).

قال حميد بن مسلم : كأنّي أنظر إلى الحسين عليه‌السلام وهو قائم وعليه جبّة خزّ وقد تحاماه النّاس ، فنادى شمر : ويلكم ، اقتلوه ، ثكلتكم أمّهاتكم ».

فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى فأهوى إليه الحسين بسيفه فبرا حبل عاتقة وخرّ صريعاً ، فأومأ إليه آخر بسيف وضربه على كتفه الشريف ضربة كبا منها على وجهه ، فطعنه سنان النخعي في ترقوته ثمّ انتزع الرمح وطعنه ثانية في فؤاده ورماه بسهم في نحره فسقط وجلس قاعداً.

فقال عمر بن سعد لعنه الله لرجل عن يمينه : ويحك ، انزل إلى الحسين فأرِحه ، فقد قطع نياط قلوبنا بأنينه.

فابتدر خوليّ ليحتزّ رأسه فأرعد. قيل : فجاء سنان والشمر لعنه الله والحسين بآخر رمق يلوك لسانه من شدّة الظمأ ، فرفسه الشمر لعنه الله برجله وقال : يا ابن أبي تراب ، ألست تزعم أن أباك على حوض النبي يسقي مَن أحبّه ، فاصبر حتّى تأخذ الماء من يده.

وروى هلال بن نافع قال : كنت حاضراً يوم الطف إذ صرخ صارخ : أبشر أيّها الأمير ، فهذا الشمر قد قتل الحسين.

قال هلال : فخرجت لأنظر إليه فوقفت عليه وهو يجود بنفسه ، فوالله ما رأيت قتيلاً مضمّخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً ، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيبته عن الفكرة في قتلته ، فسمعته في تلك الحالة يستسقي ماء ، فقال له رجل : لا تذوق الماء أو ترد الحامية فتشرب من حميمها ! فسمعته يقول : « أنا أرد الحامية ؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، بل أرد على جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأشرب من كأسه من ماء غير آسن ، وأشكو إليه ما صنعتموه بي وما ارتكبتموه منّي ».

قال : فغضبوا حتّى كأنّ الله لم يجعل في قلوبهم من الرحمة شيئاً.

__________________

(١) ورواه الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٣٥ مع اختلافات لفظية.

وروى قسم الأوّل منه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٧٥.

١٤٧

قال : فجلس الشمر على صدره وما زال يضرب بالسيف في نحره حتّى احتزّ رأسه المكرم (١).

وكان ذلك باليوم العاشر من شهر المحرم سنة إحدى وستّين من الهجرة بكربلاء.

ولله درّ من قال :

حتّى إذا قرب المدى وبه

طاف الردى وتقاصر العمر

أردوه منعفراً يمجّ دما

منه الضبا والذبل السمر

تطأ الخيول إهابه ولها

منه إذا هي أعرضت طمر

ظام يبلّ أوام غلّته

ريا بفيض نجيعه النحر

بأبي القتيل ومن بمصرعه

ضعف الهدى وتضاعف الكفر

بأبي الذي أكفانه نسجت

من عثير وحنوطه عفر

ومغسّل بدم الوريد فلا

ماء أعدّ له ولا سدر

بدر هوى من أوجه فبكى

لخمود نور ضيائه البدر

هوت النسور عليه عاكفة

وبكاه عند طلوعه النسر

وبكت ملائكة السماء له

حزناً ووجه الأرض مغبّر

فعلى الأطائب من آل بيت محمّد فليبك الباكون ، وإيّاهم فليندب النادبون ، وليضجّ الضاجّون ، أين الحسن وأين الحسين ؟ وأين أبناء الحسين ؟ صالح بعد صالح ، وإمام بعد إمام ، أين الخيرة بعد الخيرة ؟ أين الشموس الطالعة ؟ أين الأقمار المضيئة ؟ أين الشهب الواضحة ؟ أين الأعلام اللائحة؟ (٢) أو لا تكونون يا إخواني كمن أورت هذه المصائب الفادحة في فؤاده نيران الأحزان الجائحة فأرسل شآبيب دموعه ، وطلّق أبكار نومه وهجوعه ، ورثاه بما صوّره الخاطر

__________________

(١) ورواه السيّد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٧٦ ـ ١٧٧ مع اختلافات لفظية.

(٢) من قوله : « فعلى الأطائب » إلى هنا اقتباس من دعاء الندبة.

١٤٨

وأسكب عليه دمعه القاطر ، ولله درّه فيما حبّر وحرّر ، وصلّى الله على محمّد وآله الغرر.

١٤٩

المصرع الحادي عشر

وهو مصرع الإمام الهمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما‌السلام

اعلموا يا أهل العقول الصافية ، وذوي الآذان الواعية ، إنّ الله خلق ألف صنف من الخلق وكرّم بني آدم على سائر من خلق ، وأخدمهم الملائكة ، وسخّر لهم السماوات والأرض ، وفضّل الرجال على النساء (١) وأكرمهم بالإسلام ، وفضّل الإسلام على سائر الأديان ، وشرّفه بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفضّل محمّداً على جميع الأنبياء بوصيّه علي ، وفضّله على سائر الأوصياء بعترته ، وجعل حبّهم كمال الدين وعين اليقين.

ثمّ إنّه جعل الخلائق عشرة أجزاء ، منهم جزء واحد الإنس وتسعة شياطين ومردة ، وجعل الإنس خمسة وعشرين صنفاً (٢) ، فمن ذلك الروم والصقالبة والعبس والزنج والترك والعرعر والكتمان ، والكلّ كفّار ، وبقي جزء الإسلام وهو صنف واحد ، وقد افترق على ثلاث وسبعين فرقة اثنان وسبعون منها هالكة وهم أهل البدع والضلال ، وفرقة واحدة ناجية وهم أهل الصلاح ، وهي الفرقة الّتي اتّبعت منهج نبيّها بعده ، وهو المنهج الذي سلكه أهل بيته وعترته ، ولا شكّ أنّكم هم ، فأنتم الطيّبون ، والشيعة الأنجبون ، وأنتم الصالحون ، لأنّكم اتّبعتم طريق نبيّكم الواضح ، واهتديتم بعلم عترته اللائح ، فأبشروا فهم أدلاّئكم على الخير

__________________

(١) هذا حسب فهم المصنف ، قال الله تعالى : ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ ) : ٣٢ / النساء : ٤ ، فالتفضيل هو بحسب متطلّبات حاجة الخلق ، ولا يترتّب عليه فضل عند الله ، بل كلّ نفسٍ بما كسبت رهينة ، وأن ليس للإنسان ما سعى ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) : ١٢٤ / النساء : ٤.

(٢) وهذا التصنيف أيضاً غير صحيح ويأباه القرآن والرسول وأهل بيته.

١٥٠

والسعادة ، وسبب وصولكم إلى محال القرب والسيادة ، وهم العروة الوثقى الّتي لا انفصام لها ، والكعبة الآمنة الّتي لا يخاف من دخلها ، ولله درّ من قال من الرجال الأبدال على الآل شعراً ، ولقد أجاد :

بني الوحي يتلى والمناقب يجتلى

وعزّ المساعي أوّلاً بعد أوّل

من البيض مستامون في كلّ معرك

من البيض مفتول الفراعين ممتلي

بني المصطفى الهادي وحسبك نسبة

تفرّع من أسمى نبيّ ومرسل

لهم كلّ مجد شامل كلّ رفعة

لها كلّ حمد شاغل كلّ محفل

سحائب إفضال بدور فضائل

كواكب إجلال بحور تفضّل

غيوث ليوث يَوْمَي السلم والوغى

حياة ممات للعدوّ وللولي

فأكنافهم خضر الربى يوم فاقة

وأسيافهم حمر الشبا يوم معضل

روى محمّد بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول : « نحن جنب الله وصفوته خيرته ، ونحن مستودع مواريث الأنبياء ، نحن أمناء الله ، ونحن وجه الله وراية الهدى والعروة الوثقى ، وبنا فتح الله وبنا ختم ، ونحن الأوّلون ، ونحن الآخرون ، ونحن أحبار الدهر ونواميس العصر وسادة العباد وساسة البلاد والنهج القويم والصراط المستقيم ، ونحن عين الوجود وحجّة المعبود ، لا يقبل الله عمل عامل جهل حقّنا.

نحن قناديل النبوة ومصابيح الرسالة ، ونحن نور الأنوار وكلمة الجبّار ، وراية

١٥١

الحق التي من تبعها نجى ومن تأخّر عنها هوى ، نحن أئمّة الدين وقادة الغر المحجّلين.

نحن معدن النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، والسراج لمن استضاء ، والسبيل لمن اهتدى ، والقادة إلى الجنّة.

نحن الجسور والقناطر ، والسنام الأعظم ، بنا ينزل الغيث غيث الرحمة ويندفع عذاب النقمة.

نحن عين الوجود ، وترجمان وحي المعبود ، وميزان قسطع ، وقسطاس عدله.

نحن مصباح المشكاة التي فيها نور النور ، ونحن الكلمة الباقية إلى يوم الحشر المأخوذ لها الميثاق والولاية من الذرّ » (١).

وروي في كتاب الأمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ملك يقال له المحمود له أربعة وعشرون ألف جناح ، وأربعة وعشرون ألف وجه ، فقال : يا محمّد ، بعثني ربّ العزة إليك وهو يأمرك أن تزوّج النور من النور.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن مِن مَن ؟

قال : فاطمة من علي.

قال : فلما ولّى الملك وإذا بين يديه : « لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، عليّ ولي الله.

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : منذ كم كُتِب هذا الخط ؟

قال : من قبل خلق آدم بثمانية وعشرين ألف عام » (٢).

__________________

(١) رواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص ٥٠ مع اختلافات لفظية ، وعنه المجلسي في البحار : ٢٦ : ٢٥٩ ح ٣٦.

(٢) ما عثرت على الحديث في أمالي الصدوق والمفيد والطوسي ، وفي الباب حديث الإمام الحسين عليه‌السلام ، رواه الخوارزمي في المناقب : ص ٣٤٠ فصل ٢٠ ح ٣٦٠ ، وابن شاذان في مئة

١٥٢

وروي في الكتاب المذكور مرفوعاً إلى رسول الله [ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] أنّه قال : « ما بال قوم إذا ذكر إبراهيم وآل إبراهيم استبشروا ، وإذا ذكروا أهل بيتي وآلي اشمأزّت نفوسهم ؟! فوالّذي نفس محمّد بيده ، لو جاء أحدكم بأعمال الثقلين ولم يأت بولاية أهل بيتي لأدخله الله النّار صاغراً وحشره في جهنّم خاسراً » (١).

والحديث طويل اقتصرنا منه على ما زبر ، ولله در من قال :

يا لقومي لعصبةٍ عصت الله

واضحى لها هواها إلها

عجبت من فعالها الكفر ليت

الدّين يوماً بكفرها أبقاها

ودعاها إلى شقاها يزيد

ويلها ما أضلّها عن هداها

__________________

منقبة : ٥٨ منقبة ١٥ ، والإربلي في كشف الغمة : ١ : ٣٦١ في تزويجه فاطمة عليها‌السلام.

وحديث الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، رواه الكليني في الكافي : ١ : ٤٦٠ ح ٨ من باب مولد الزهراء عليها‌السلام ، والصدوق في أماليه : م ٨٦ ح ١٩ ، وفي معاني الأخبار : ص ١٠٣ باب معنى تزويج النور من النور : ح ١ ، وفي الخصال : ص ٦٤٠ ح ١٧ ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٣ : ٣٩٨ ، والفتال في روضة الواعظين : ص ١٤٦ في عنوان مجلس تزويج فاطمة عليها‌السلام.

وحديث أنس ، رواه ابن حمزة في الثاقب في المناقب : ص ٢٨٨ باب ٤ فصل ٢ ، وابن المغازلي في المناقب : ص ٣٤٤ ح ٣٩٦.

(١) رواه المفيد في أماليه : م ١٣ ح ٨ عن الصادق عليه‌السلام ، والطوسي في أماليه : م ٥ ح ٤٣ عن علي بن الحسين عليهما‌السلام ، وفي المجلس ١١ ح ٦٦ عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع اختلافات.

ورواه القاضي النعمان في شرح الأخبار : ٢ : ٤٩٥ ح ٨٨٠ ، والطبري في المسترشد : ص ٤١٥ ح ٢٨٠ ، والعماد الطبري في بشارة المصطفى : ص ٨١ عن ابن الشيخ ، عن أبيه ، وفي ص ١٣٣ عن الشيخ الطوسي ، والمجلسي في بحار الأنوار : ٢٣ : ٢٢١ ح ٢٣ من الباب ١١ من كتاب الإمامة عن كنز جامع الفوائد ، والاسترآبادي في تفسير الآية ٣٣ من سورة آل عمران من تأويل الآيات ، كلّهم عن الباقر عليه‌السلام.

١٥٣

ثمّ مع ذاك ترتجى أنّها منه

فيا للرجال ما أعماها

يا ابن من شرّف البراق وفاق

الكلّ والسبعة الطباق طواها

ورقى حيث لا مقرّب يرقى

لا ولا مرسل هنالك فاها

قاب قوسين ذق معنى فيا

لله معنى مقام أو أدناها

إن تمنّى العدى لك النقص بالقتل

فقد كان فيه عكس مُناها

حاولت نيلها علاك فأعياها

وأنّى من الثريّا ثراها

فأتاحت لك السيوف فجاءت

لك تُهدى من العلا أعلاها

أين من مجدك المنيع الأعادي

وبك الله في العباءة باها

مجدك الفاخر الذي شيّدته

آل عمرانها وأخت سباها

روي في كتاب محمّد بن جرير الطبري أنّه لمّا ورد سبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بن الخطاب بيع النساء وأن يجعل الرجال عبيداً ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ رسول الله قال : « أكرموا كريم كلّ قوم ».

فقال عمر وأنا سمعته يقول : « إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وإن خالفكم ».

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ هؤلاء قد ألقو إليكم السلم ورغبوا في

١٥٤

الإسلام ، ولابد أن يكون لهم فيه ذريّة (١) ، وأنا أشهد الله وأشهدكم أنّي أعتقت نصيبي منهم لوجه الله تعالى ».

فقال جميع بني هاشم : قد وهبنا حقّنا لك يا أمير المؤمنين.

فقال عليه‌السلام : « اللهمّ اشهد أنّي قد وهبت ما وهب لي لوجه الله تعالى ».

فقال المهاجرون والأنصار : نحن قد وهبنا حقّنا لك يا أخا رسول الله.

فقال : « اللّهم اشهد أنّهم قد وهبوا لي حقّهم ، وأنا أشهدك أنّي أعتقتهم لوجهك ».

فقال له عمر : لِمَ نقضتَ عَلَيّ عزمي في الأعاجم ؟ وما الّذي رغّبك عنّي فيهم ؟ فأعاد عليه ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في إكرام الكرماء.

فقال عمر : قد وهبت لله ولك يا أبا الحسن ما يخصّني وسائر الّذي لم يهبوه لك.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « اللهمّ اشهد على ما قاله وعلى عتقي إيّاهم ».

فرغب جماعة من قريش في استنكاح النساء ، فقال أمير المؤمنين : « هنّ لا يكرهن في ذلك ، ولكن يخترن ، فما اخترنه عمل به ».

فأشار جماعة إلى شهربانو بنت كسرى ، فخيّرت وخوطبت من وراء الحجاب والجمع حضور ، قيل لها : من تختارين من خطّابك ؟ وهل أنت ممّن تريدين بعلاً ؟ فسكتت.

فقال عليه‌السلام : « قد أرادت وبقي الاختيار ».

فقال عمر : وما أعلمك بإرادتها البعل.

فقال أمير المؤمنين : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا أتته كريمة قوم لا وليّ لها وقد خطبت ، يأمر أن يقال لها : أنت راضية بالبعل فإن استحيت وسكتت جعل صمتها إذنها وأمر بتزويجها ، وإن قالت لا ، لم تكره على ما تختاره ».

وإنّ شهربانو اُريت الخطاب فأومت بيدها واختارت الحسين بن علي ، فأعيد القول عليها في التخيير ثانية ، فأشارت بيدها إليه فقال : « هذا إن كنت مخيّرة » ،

__________________

(١) في المصدر : « ولابد أن يكون لي منهم ذريّة ».

١٥٥

وجعلت أمير المؤمنين عليه‌السلام وليّها ، فزوّجها من الحسين (١).

__________________

(١) رواه الطبري الصغير في دلائل الإمامة : ص ١٩٤ ح ١١١ / ١ في عنوان : « خبر أمّه والسبب في تزويجها » قال : أخبرني أبو الحسين محمّد بن هارون بن موسى قال : حدثني أبي قال : حدثنا أبو الحسين محمّد بن أحمد بن محمّد بن مخزوم المقرئ مولى بني هاشم قال : حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد العامري التمّار بالكوفة قال : حدثنا يحيى بن الحسن بن الفرات قال : حدثنا عمرو بن أبي المقدام ، عن سلمة بن كهيل ، عن المسيّب بن نجبة قال : لمّا ورد سبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بن الخطاب بيع النساء ، وأن يجعل الرجال عبيداً للعرب ، وأن يرسم عليهم أن يحملوا العليل والضعيف والشيخ الكبير في الطواف على ظهورهم حول الكعبة ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أكرموا كريم كلّ قوم ».

فقال عمر : قد سمعته يقول : « إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وإن خالفكم ».

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فمن أين لك أن تفعل بقوم كرماء ما ذكرت ؟ إنّ هؤلاء قوم قد ألقوا إليكم السلم ورغبوا في الإسلام والسلام ، ولابدّ من أن يكون لي منهم ذريّة ، وأنا أشهد الله وأشهدكم أنّي قداعتقت نصيبي منهم لوجه الله ».

فقال جمع بني هاشم : قد وهبنا حقّنا أيضاً لك. فقال : « اللهم اشهد أنّي قد أعتقت جميع ما وهبونيه من نصيبهم لوجه الله ».

فقال المهاجرون والأنصار : قد وهبنا حقّنا لك يا أخا رسول الله. فقال : « اللهم اشهد أنّهم قد وهبوا حقّهم وقبلته ، واشهد لي بأنّي قد اعتقتهم لوجهك ».

فقال عمر : لِمَ نقضتَ عليّ عزمي في الأعاجم ؟ وما الّذي رغّبك عن رأيي فيهم ؟

فأعاد عليه ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في إكرام الكرماء ، وما هم عليه من الرغبة في الإسلام ، فقال عمر : قد وهبت لله ولك يا أبا الحسن ما يخصّني وسائر ما لم يوهب لك.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « اللهم اشهد على ما قالوه وعلى عتقي إيّاهم ، فرغبت جماعة من قريش في أن يستنكحوا النساء ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « هؤلاء لا يكرَهن على ذلك ولكن يخيّرن ، فما اخترنه عمل به ».

فأشار جماعة الناس إلى شهربانوية بنت كسرى ، فخيّرت وخوطبت من وراء حجاب والجمع حضور ، فقيل لها : من تختارين من خطّابك ؟ وهل أنت ممن تريدين بعلاً ؟ فسكتت.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « قد أرادت وبقي الاختيار ».

فقال عمر : وما علمك بإرادتها البعل ؟

١٥٦

فيا إخواني ، ها هنا نكتة غريبة ، وضميمة عجيبة ، وذلك لأنّه جرى في علم الله ربّ الأرباب بأن يخرج منها الأئمّة الأنجاب ، باب الحكمة وفصل الخطاب ، وما ذلك إلاّ لجلالة قدرها وقدم شرفها وفخرها ، فيا لها من مرتبة تقاصرت عنها خواتين الجلال ، وانحسرت عن إدراكها مخدّرات الكمال ، فطوبى لشهربانو فلقد حازت الشرفين ، وفازت بالحسنين ، وسعدت بحمل الغطارفة الميامين ، وما ذاك إلاّ من التوفيق الربّاني ، والفضل السبحاني ، ( ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (١).

وإنّ غلاماً بين كسرى وهاشم

لأكرم من نيطت عليه التمائم

__________________

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا أتته كريمة قوم لا وليّ لها وقد خطبت أمر أن يقال لها : أنت راضية بالبعل ؟ فإن استحيت وسكتت جعل إذنها صُماتها وأمر بتزويجها ، وإن قالت : لا ، لم تكره على ما لا تختاره ».

وإن شهربانوية أريت الخطّاب وأومأت بيدها وأشارت إلى الحسين بن علي ، فأعيد القول عليها في التخيير ، فأشارت بيدها وقالت بلغتها : « هذا إن كنت مخيّرة » ، وجعلت أمير المؤمنين عليه‌السلام وليّها ، وتكلّم حذيفة بالخطبة ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما اسمك » ؟

قالت : شاه زنان.

قال : « نه ، شاه زنان نيست مگر دختر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي سيدة النساء ، أنت شهر بانويه وأختك مرواريد بنت كسرى ».

قالت : آرية.

وروي أنّ شهر بانوية وأختها مرواريد خيّرتا ، فاختارت شهربانوية الحسين عليه‌السلام ، ومرواريد الحسن عليه‌السلام.

ورواه عنه جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي في الدر النظيم : ص ٥٧٩.

ورواه الكليني في الكافي : ١ : ٤٦٦ كتاب الحجّة باب مولد علي بن الحسين عليهما‌السلام ، وعنه علي بن يوسف الحلي في العدد القوية : ص ٥٧.

(١) سورة الحديد : ٥٧ : ٢١ ، والجمعة : ٦٢ : ٤.

١٥٧

هو النور نور الله موضع سرّه

وموضع ينبوع الإمامة عالم

بما كان في التكوين أو هو كائن

من الله قد عدّت إليه المكارم

فلولاه ساخت هذه الأرض بالورى

ولولاه ما قرّت هناك العوالم

روي في كتاب المجالس أنّ مولد الإمام السجّاد كان في يوم الخميس خامس شهر شعبان سنة ثلاث وثلاثين (١).

وجرت له عليه‌السلام بعد مولده معاجز أبهرت عقول أولى الألباب ، وكلّت عن حصرها أقلام الكتاب ، وظهرت له مناقب ملأت الأصقاع ، وطبّقت الفجاج والبقاع ، وكم له مع ربّه حالات انفرد بها ، وكم جرت له مناجاة فاز بفرضها وندبها ، فمن ذلك ما تناقله عنه الرواة وحدّث به جملة من الثقات أنه عليه‌السلام خرج ليلة من الليالي ، وكانت ليلة طخياء اشتدّ ظلامها ، واستوحشت آكامها ، فتعلّق بأستار الكعبة ، وجعل يناجي ربّه :

يا ذا المعالي عليك معتمدي

طوبى لعبد تكون مولاه

طوبى لمن بات خائفاً وجلا

يشكو إلى ذي الجلال بلواه

إذا خلا في الظلام مبتهلاً

أكرمه ربّه ولبّاه

__________________

(١) ورواه الكليني في الكافي : ١ : ٤٦٦ في كتاب الحجة باب مولد علي بن الحسين عليهما‌السلام ، وعلي بن يوسف الحلي في العدد القوية : ص ٥٥ عن كتابي الدر والتذكرة ، وابن الخشاب في مواليد الأئمّة ووفياتهم ( مجموعة نفيسة : ص ١٧٨ ) ، والمفيد في الإرشاد : ٢ : ١٣٧ ، والإربلي في كشف الغمة : ٢ : ٢٨٥.

١٥٨

فإذا بالنداء داخل الكعبة وقائلاً يقول :

لبيّك لبيّك أنت في كنفي

وصوتك اليوم قد سمعناه

صوتك تشتاقه ملائكتي

وعذرك اليوم قد قبلناه

فاسأل بلا دهشة ولا وجل

ولا تخف إنّني أنا الله (١)

وروي في الأمالي أنّه عليه‌السلام إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه وأصابته رعدة ، ولقد انغمر في بحار العبادات حتّى تحدّث بها عنه العبّاد ، وارتمس في لجّ الزهد حتّى استحقرت زهدها لديه الزهّاد ، كما حكى طاووس الفقيه قال : كنت أطوف بالكعبة ليلة من الليالي ، فإذا شابّ ظريف الشمائل ، وعليه ذؤابتان ، وهو متعلّق

__________________

(١) وروى نحوه ابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٧٦ في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام عن عيون المحاسن أنّه ساير أنس بن مالك فأتى قبر خديجة فبكى ، ثمّ قال : « اذهب عنّي » ، قال أنس فاستخفيت عنه ، فلمّا طال وقوفه في الصلاة سمعته قائلاً :

يا ربّ يا ربّ أنت مولاه

فارحم عبيداً إليك ملجاه

يا ذا المعالي عليك معتمدي

طوبى لمن كنت أنت مولاه

طوبى لمن كان خائفاً أرقاً

يشكو إلى ذي الجلال بلواه

وما به علّة ولا سقم

أكثر من حبّه لمولاه

إذا اشتكى بثّه وغصّته

أجابه الله ثمّ لباه

إذا ابتلى بالظلام مبتهلاً

أكرمه الله ثمّ أدناه

فنودي :

لبيّك لبيّك أنت في كنفي

وكلّ ما قلت قد علمناه

صوتك تشتاقه ملائكتي

فحسبك الصوت قد سمعناه

دعاك عندي يجول في حجبه

فحسبك الستر قد سفرناه

لو هبت الريح في جوانبه

خرّ صريعاً لما تغشاه

سلني بلا رغبة ولا رهب

ولا حساب إنّي أنا الله

ورواه عنه البحراني في العوالم : ص ٦٨ في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ، والمجلسي في البحار : ٤٤ : ١٩٣.

١٥٩

بالكعبة وهو يقول : « نامت العيون وغارت النجوم ، وأنت الحيّ القيوم ، وغلّقت الملوك عليها أبوابها ، وطاف عليها حرّاسها ، وأبوابك مفتّحة للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعرصات القيامة ».

ثمّ بكى وقال : « وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكّ ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرّض ، ولكن سوّلت لي نفسي ، وغلبني هواي ، وغرّني سترك المرخى عليّ ، فالآن من عذابك من يستنقذني ، وبحبل من أعتصم إن أنت قطعت حبلك عنّي ؟

فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفّين : جوزوا ، وللمثقلين : حطّوا ، أمع المخفّين أجوز أم مع المثقلين أحطّ ؟

ويلي ، كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب ، أما آن لي أن أستحيي من ربّي » ؟!

ثمّ بكى وأنشأ يقول :

أتحرقني بالنّار يا غاية المنى

فأين رجائي ثمّ أين مخافتي

أتيت بأعمال قباح رديّة

فما في الورى شخص جنى كجنايتي

ثمّ إنّه بكى وقال : « سبحانك تُعصى كأنّك لا ترى ، وتحلم كأنّك لم تعص ، تتودّد إلى خلقك بحسن الصنع كأنّ بك حاجة إليهم ، وأنت يا سيّدي الغنيّ عن ذلك ».

ثمّ خرّ إلى الأرض ساجداً. قال : فدنوت منه ، وشلت رأسه ووضعته في حجري ، وبكيت حتّى جرت دموعي على خدّه عليه‌السلام ، فاستوى جالساً فقال : « من ذا الّذي أشغلني عن ذكر ربّي » ؟

فقلت : أنا طاووس يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما هذا الجزع والفزع ، ونحن

١٦٠