مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون ، أبوك الحسين بن علي ، وأمّك فاطمة الزهراء وجدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال : فالتفت إلَيّ وقال : « هيهات هيهات يا طاووس ، دع عنك حديث أبي وأمّي وجدّي ، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وخلق النّار لمن عصاه ، أما سمعت قوله تعالى : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (١) » (٢).

وكم له من مكارم أخلاق جلبت النفوس إليها ، ومن عبادات ودعوات للملك الخلاّق صغت العقول من ذوي العقول ولوّت أعضادها عليها ، كما روى عن أبي خالد الكابلي قال : لقيني يحيى ابن أمّ طويل رفع الله درجته ، وهو ابن داية زين العابدين عليه‌السلام ، فأخذ بيدي وقال : نمضى إلى سيّدنا عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، فصرت معه إليه ، فلّما دخلنا عليه رأيته في بيت مفروش بالمعصفر مكلّس الحيطان وعليه ثياب مصبّغة ، فلم أطل عنده الجلوس لما رأيت عليه من الثياب ، فلمّا نهضت قال لي عليه‌السلام : « صر إليّ في غد إن شاء الله ».

فخرجت من عنده وقلت ليحيى : أدخلتني على رجل يلبس المصبّغات ؟! وعزمت أن لا أرجع إليه ، ثمّ إنّي فكّرت في أنّ رجوعي إليه لا يضرّ بي ، فصرت إليه في غد فوجدت الباب مفتوحاً ولم أر أحداً ، فهممت بالرجوع فناداني من داخل الدار فظننت أنّه يريد غيري ، فصاح بي : « يا كنكر ادخل ». وهذا اسم كانت أمي سمتني به لا يعرفه غيري وغيرها أحد ، فدخلت عليه فوجدته جالساً في بيت مطيّن على حصير من البردي وعليه قميص من الكرابيس وعنده يحيى ، فقال : « يا أبا خالد ، إني قريب عهد بعروس ، وإنّ الّذي رأيته بالأمس من زيّ المرأة (٣) ولم أرد مخالفتها ».

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ : ١٠١.

(٢) رواه ابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ١٦٣ في زهده عليه‌السلام مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وزاد في آخره بعد ذكر الآية : « والله لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدّمها من عمل صالح ».

(٣) في عيون المعجزات : « من رأي المرأة ».

١٦١

ثمّ قام وأخذ بيدي ويد يحيى ومضى بنا إلى بعض الغدران وقال : ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ) ، ومشى على الماء ونحن ننظر إليه حتّى رأينا كعبه يلوح على الماء فقلت : الله أكبر ، أنت الكلمة الكبرى ، والحجّة العظمى ، صلوات الله عليك.

فالتفت إلينا وقال : « ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم : المدخل فينا مَن ليس منّا ، والمخرج منّا من هو منّا ، والقائل إنّ لهذين الصنفين في الإسلام نصيباً » (١) (٢).

وروي في كتاب المجالس أنّه عليه‌السلام أقبلت إليه ظبية وشكت إليه أنّ الصيّاد أخذ ابنها وهي لم ترضعه ، فدعا عليه‌السلام بالصيّاد وأقسم عليه بردّ ابنها ، فلمّا رأته جمجمت دمعتها وجرت فوق وجنتها وقال : أشهد أنّك من أهل بيت الرحمة ، وأنّ بني أمية من أهل بيت اللعنة والعذاب (٣).

__________________

(١) في عيون المعجزات : والقائل أنّ لهما في الإسلام نصيبا. أعني هذين.

(٢) ورواه الشيخ حسين بن عبد الوهاب في عيون المعجزات : ص ٧٦ ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٦ : ١٠٢ ح ٩٢ من باب مكارم أخلاقه وعلمه عليه‌السلام.

(٣) وقريباً منه رواه الصفار في بصائر الدرجات : ص ٣٥٠ الباب ١٥ من الجزء ٧ ح ١٠ قال : حدثنا الحسين بن علي ومحمّد بن أحمد بن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن علي وعلي بن محمّد الحنّاط ، عن محمّد بن سكن ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر قال : بينا علي بن الحسين مع أصحابه إذ أقبل ظبية من الصحراء حتّى قامت حذاه وصوّتت ، فقال بعض القوم : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما تقول هذه الظبية ؟ قال : « يزعم أنّ فلاناً القرشي أخذ خشفها بالأمس ، وإنّها لم ترضعه من أمس شيئاً ». فبعث إليه علي بن الحسين عليه‌السلام : « أرسل إلَيّ بالخشف » ، فلما رأت صوتت وضربت بيديها ثمّ أرضعته. قال : فوهبه علي بن الحسين عليه‌السلام لها وكلّمها بكلام نحواً من كلامها ، وانطلقت في الخشف معها ، فقالوا : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما الّذي قال ؟ قال : « دعت الله لكم وجزاكم بخير ».

ورواه المفيد في الاختصاص : ص ٢٩٩ في أنّهم يعرفون منطق الحيوانات ، وعنهما المجلسي في البحار : ٤٦ : ٢٤٠ ح ٦ من باب معجزاته ومعالي أموره عليه‌السلام.

ورواه الراوندي في الخرائج والجرئح : ١ : ٢٥٩ ح ٤ من معجزاته عليه‌السلام ، والإربلي في كشف

١٦٢

ولله درّ من قال من الرجال الأبدال :

بأبي بدوراً في المدينة طلّعاً

أمست بأرض الغاضريّة أفّلا

آساد حرب لا يمسّ عفاتها

ضرّ الطوى ونزيلها لن يخذلا

من تلق منهم تلق غيثاً مسبلا

كرماً وإن قابلت ليثاً مشبلا

ومن العجائب أن تقاد أسودها

أسرى وتفترس الكلاب الأشبلا

لهفي لزين العابدين يقاد في

ثقل القيود مقيّداً ومكبّلا

متغلغلاً في قيده متثقّلا

متوجّعاً لمصابه متوجّلا

__________________

الغمة : ٢ : ٣٢١.

ورواه الطبري الصغير في دلائل الإمامة : ص ٢٠٦ ح ١٢٨ / ١٨ عن محمّد بن إبراهيم قال : حدثني بشر بن محمّد ، عن حمران بن أعين قال : كنت قاعداً عند علي بن الحسين عليه‌السلام ومعه جماعة من أصحابه ، فجاءت ظبية فتبصبصت وضربت بذنبها ، فقال : « هل تدرون ما تقول هذه الظبية » ؟ قلنا : ما ندري. فقال : « تزعم أنّ رجلاً اصطاد خشفاً لها وهي تسألني أن أكلّمه أن يردّه عليها ». فقام وقمنا معه حتّى جاء إلى باب الرجل ، فخرج إليه والظبية معنا ، فقال له علي بن الحسين عليه‌السلام : « إنّ هذه الظبية زعمت كذا وكذا ، وأنا أسألك أن تردّ عليها ». فدخل الرجل مسرعاً داره وأخرج إليه الخشف وسيّبه ، فمضت الظبية والخشف معها وأقبلت تحرك ذنبها ، فقال علي بن الحسين عليه‌السلام : « هل تدرون ما تقول » ؟ فقلنا : ما ندري.

فقال : إنّها تقول : « ردّ الله عليكم كلّ حقّ غصبتم عليه ، وكلّ غائب وكلّ سبب ترجونه وغفر لعلي بن الحسين كما ردّ عليّ ولدي ».

ونحوه في ص ٢٠٢ ح ١٢٢ / ١٢.

١٦٣

أفدي الأسير وليت خدّي موطئا

كانت له بين المحامل محملا

فيا إخواني المؤمنين وخلاني الموالين ، أمثل زين العابدين ، وقدوة الساجدين ، يجوز أن تستامه أولاد الكافرين ، الإذلال والتوهين ، وتغلّ منه اليسار واليمين ، وتجعل في عنقه الأغلال ، ويسرى به على بزّل الجمال ؟ فكم صادف يوم الطّف من شدائد تسيخ لها شماريخ الأطواد ، ويذوب من سماعها الصّم الصلاد.

روى المفيد في إرشاده عن الثقات أنّ زين العابدين عليه‌السلام لمّا دخل مع سبايا آل محمّد الكوفة فنظر إلى اجتماع النّاس فبكى ثمّ أومأ إليهم بالسكوت فسكتوا ، فقام قائماً وحمد الله وأثنى عليه وذكر النبيّ فصلّى عليه ثمّ قال :

« أيّها النّاس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي ، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات ، من غير ذحل ولا ترات ، أنا ابن من هتك حريمه ، وذبح فطيمه وسلب نعيمه ، وانتهب ماله ، وسبي عياله ، أنا ابن من قُتل صبراً ، وكفاني بهذا فخراً.

أيّها النّاس ، ناشدتكم الله ، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق وقاتلتموه وقتلتموه ، فتبّاً لما قدّمت أيديكم وسوأة لرأيكم ، بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمّتي ؟

قال : فارتفعت أصوات النّاس بالبكاء وقال بعضهم لبعض : لقد هلكتم وما تعلمون.

ثمّ قال : « رحم الله امرءاً قبل نصيحتي ، وحفظ وصيّتي في الله ورسوله وأهل بيته ، فإنّ لنا برسول الله أسوة حسنة ».

فقالوا كلّهم : نحن كلّنا يا ابن رسول الله سامعون لك ، حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فأمرنا بأمرك يرحمك الله تعالى ، فإنّا حرب لمن حاربك ، وسلم لمن سالمك ، لنأخذ وترك ووترنا ممّن ظلمك وظلمنا.

١٦٤

فقال لهم عليه‌السلام : « هيهات هيهات أيتها الغدرة المكرة ، حيل بينكم وبين شهواتكم ، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي من قبل ؟! كلاّ وربّ الراقصات ، فإنّ الجرح لمّا يندمل ، قتل أبي بالأمس وأهل بيته معه ، ولم ينسنى ثكل رسول الله وثكل أبي وبني أبي ، ووجدهم بين لهاتي ومرارتهم بين حناجري وحلقي ، وغصصهم تجري في فراش صدري ، ومسألتي بأن لا تكونوا لنا ولا علينا ».

ثمّ إنّه عليه‌السلام أنشأ يقول :

لا غرو أن قتل الحسين فشيخه

قد كان خيراً من حسين وأكرما

فلا تفرحوا يا آل كوفان بالّذي

أصاب حسيناً كان ذلك أعظما

قتيل بشاطي النهر روحي فداؤه

وكان جزى المردي هناك جهنّما (١)

وروى ابن طاوس في كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » أنّ عليّ بن الحسين عليهما‌السلام لمّا دخل على يزيد بن معاوية لعنه الله أمر بإحضار خطيب ومنبر ، وأمر الخطيب أن يصعد المنبر ويعلم النّاس بمساوئ الحسين وعليّ عليهما‌السلام وما فعلا ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ أكثر الوقعية في عليّ والحسين عليهما‌السلام ، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد لعنهما الله ، فذكرهما بكل جميل ! فصاح به علي بن الحسين عليهما‌السلام : « ويلك أيّها الخاطب ، اشتريت رضى المخلوق بسخط الخالق ، فتبوء مقعدك من النّار ».

ثمّ قال : « يا يزيد ، أتأذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات لله فيهن

__________________

(١) ما عثرت على الحديث في إرشاد المفيد ، لكنّه موجود في الملهوف لابن طاوس : ص ١٩٩ مع اختلاف قليل في بعض الألفاظ ، وفي آخره بعد الأبيات : ثمّ قال عليه‌السلام : « رضينا منكم رأساً برأس ، فلا يوم لنا ولا علينا ».

١٦٥

رضىً ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجر وثواب » ؟

قال : فأبى يزيد عليه ، فقال النّاس : يا أمير (١) ، ائذن له يصعد المنبر ، فلعلّنا نسمع منه شيئاً.

فقال يزيد : إنه إذا صعد المنبر لا ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان.

فقيل له : يا أمير ، وما قدر ما يُحسن هذا.

فقال يزيد : إنّ هذا من أهل بيت زقّوا العلم زقّاً.

قال : فلم يزالوا به حتّى رضي ، فقام عليه‌السلام وصعد المنبر وخطب خطبة أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب ، ثم قال :

« أيّها النّاس ، أعطينا ستّاً وفضّلنا بسبع ، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين ، وفضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا البضعة ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا سبطا هذه الأمّة.

من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي ونسبي.

أيّها النّاس ، أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الزكاة على أطراف الرداء ، أنا ابن خير من اتّزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجّ ولبّى ، أنا ابن من حُمِل على البراق في الهوى ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنى فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمّد المصطفى.

أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا لا إله إلاّ الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين ، وطعن برمحين (٢) ، وهاجر

__________________

(١) في الأصل : « أمير المفسدين » ، وفي المقتل للخوارزمي : « أمير المؤمنين ».

(٢) المثبت من المقتل للخوارزمي ، وفي الأصل : « بالسيفين ... بالرمحين ».

١٦٦

الهجرتين ، وبايع البيعتين ، [ وصلّى القبلتين ] ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين.

أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبييّن ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل يس ، [ ورسول ربّ العالمين ].

أنا ابن المؤيّد بجبرئيل والمنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن [ حرم ] المسلمين ، [ والمجاهد أعداءه الناصبين ، ] وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من أجاب لله ورسوله من المؤمنين ، أوّل (١) السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان كلمة العابدين ، ناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، وبستان حكمة الله ، وعيبة علمه.

سمح ، سخيّ ، بهيّ ، بهلول ، زكيّ ، مطهّر ، جريّ ، رضيّ ، أبطحيّ ، مقدام (٢) ، همام ، صابر ، صوّام ، مهذّب ، قوّام ، [ شجاع قمقام ].

قاطع الأصلاب ، مفرّق الأحزاب ، أربطهم عناناً ، وأثبتهم جناناً ، [ وأجرأهم لساناً ، ] وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة.

أسد باسل ، وسمّ قاتل ، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأعنّة وقوّمت الأسنّة طحن الرحى ، ويديرهم فيها دوران الريح الهشيم (٣).

كبش العراق ، وليث الحجاز ، [ الإمام بالنص والاستحقاق ] ، مكّي ، مدني ، [ أبطحي ، تهامي ، ] حنفي ، عقبيّ ، بدريّ ، أحدي ، شجري ، مهاجريّ.

من العرب سيّدها ، ومن الوغى ليثها (٤) ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين

__________________

(١) في المقتل : « أقدم ».

(٢) في المقتل للخوارزمي : « زكي ، أبطحي ، رضي ، مرضي ، مقدام ».

(٣) في المقتل للخوارزمي : « ويذروهم ذروا الريح الهشيم ».

(٤) المثبت من المقتل للخوارزمي ، وفي الأصل : « من العرب ليثها ، ومن الوغى سيّدها ».

١٦٧

الحسن والحسين ، [ مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب ، غالب كلّ غالب ، ] ذاك جدّي علي بن أبي طالب ».

ثمّ قال : « أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء ، [ أنا ابن الطهر البتول ، أنا ابن بضعة الرسول ] ».

فلم يزل يقول : « أنا ، أنا » ، حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشى يزيد أن تكون فتنة ، فأمر المؤذن أن يقطع عليه الكلام ، فلمّا قال المؤذن « الله أكبر » ، قال علي عليه‌السلام : « [ كبرت كبيراً لا يقاس ولا يدرك بالحواس ، ] لا شيء أكبر من الله ».

فلمّا قال : « أشهد أن لا إله إلاّ الله » ، قال علي بن الحسين عليهما‌السلام : « شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي [ ومخّي وعظمي ] ».

فلمّا قال المؤذّن : « أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، التفت إلى يزيد وقال : « يا يزيد محمّد [ هذا ] جدّي أم جدّك ؟ فإن قلت (١) إنّه جدّك ، فقد كفرت ، وإن قلت إنّه جدّي ، فلِمَ قتلت عترته وانتهكت حرمته » ؟! (٢).

__________________

(١) في المقتل للخوارزمي : « فإن زعمت ».

(٢) أشار إلى الخطبة السيّد ابن طاوس في الملهوف : ص ٢١٩ ، والمذكور فيه إلى : « ويلك أيّها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوّء مقعدك من النار ».

والخطبة بتمامه رواها الخوارزمي في المقتل : ٢ : ٦٩ مع اختلاف في بعض الألفاظ وإضافات قليلة ، وما بين المعقوفات منه.

وروى الخطبة مختصراً بنحو آخر ابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ١٨٢ عن كتاب الأحمر عن الأوزاعي مع اختلاف في الألفاظ ، وفيه بعد قوله عليه‌السلام : « أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن خديجة الكبرى ، أنا ابن المقتول ظلماً » : « أنا ابن المجزوز الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتّى قضى ، أنا طريح كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا من ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه على السنان يهدى ، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تسبى ، أيّها النّاس إنّ الله تعالى وله الحمد

١٦٨

ولله درّ من قال من الرجال :

معشر منهم رسول الله و

الكاشف الكرب إذا الكرب عرى

صهر الباذل عنه نفسه

وحسام الله في يوم الوغى

أول الناس إلى الداعي الّذي

لم يقدّم غيره لمّا دعى

ثمّ سبطاه الشهيدان فذا

بحسى السمّ وهذا بالضبا

وعليّ وابنه الباقر و

الصادق القول وموسى والرضا

وعلي وأبوه وابنه

والّذي ينتظر القوم غدا

يا جبال المجد عزّاً وعلا

وبدور الأرض نوراً وسنا

جعل الله الّذي نالكم

سبب الوجد طويلاً والبكا

لا أرى حزنكم يُنسى ولا

رزؤكم يُسلى وإن طال المدى

__________________

ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن حيث جعل راية الهدى والعدل والتقى فينا ، وجعل راية الضلال والردى في غيرنا ، فضلنا أهل البيت بست خصال : فضلنا بالعلم والحلم والشجاعة والسماحة والمحبّة والمحلّة في قلوب المؤمنين ، وآتانا ما لم يؤت أحداً من العالمين من قبلنا ، فينا مختلف الملائكة وتنزيل الكتب ».

١٦٩

قد مضى الدهر ونمضي بعدهم

لا الجوى باخ ولا الدمع رقى

أنتم الشافون من داء العمى

وغدا الساقون من حوض الروى

نزل الدين عليكم بينكم

وتخطّى الناس طرّاً وطوى

روي في الكتاب المذكور عن مولىً لزين العابدين عليه‌السلام قال : رأيت سيدي يوماً برز إلى الصحراء ، فتبعته فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت بإزائه فسمعت له شهيقاً وبكاءاً ، فأحصيت عليه أن قال ألف مرة : « لا إله إلاّ الله حقّاً حقّاً ، لا إله إلاّ الله تعبّداً ورقّاً ، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً ».

ثم رفع رأسه من السجود فإذا لحيته ووجهه قد غمّرا بالدموع ، فقلت : يا سيّدي ، أما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقلّ ؟!

فقال لي : « ويحك ، إنّ يعقوب بن إسحاق كان نبياً من الأنبياء ، وكان له اثنا عشر ولداً (١) ، فغيّب الله عنه واحداً منهم (٢) فشاب رأسه من الحزن ، واحْدَودَبَ ظهره من الغمّ ، وذهب بصره من البكاء ، هذا وابنه حيّ (٣) في دار الدنيا ، وأنا قد رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مضرّجين بدمائهم لا مغسّلين ولا ملحّدين ، تسفي عليهم الرياح ، وتكفّنهم الدبور بمورها ، فكيف ينقضي حزني (٤) ويقلّ بكائي عليهم » ؟! (٥)

__________________

(١) في المصدر : « كان نبيّاً ابن نبي ابن نبيٍّ له اثنا عشر ابناً ».

(٢) في المصدر : « فغيّب الله سبحانه واحداً منهم ».

(٣) في المصدر : « وذهب بصره من البكاء وابنه حيّ ».

(٤) في المصدر : « صرعى مقتولين ، فيكف ينقضي حزني ».

(٥) رواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص ٢٣٤ مع مغايرة ذكرناها في الهامش.

١٧٠

فآه آه ، يا لها من مصيبة اشتدّ ضرامها ، واحْلَوْلَكَ قتامها ، واستوحشت آكامها ، وحام منها على أهل الشريعة حمامها ، وجبّ بباترها سنامها ، واستمرّ على أرباب الهداية دوامها ، واستشاط على إشراقها ظلامها ، فلا غرو إن بكاها سيّد العباد وإمامها ، فلقد طوّقها فادحها وسقامها ، وهدّ ركنه كرّها وصدامها ، فلئن فاه بهذا الغرور الدرر ، واستخرجاه من قاموس الفكر ، ونظّم لئالي هذه العقود ، ورصّع فرائد جواهرها بأجياد هذه البنود ، فهو حريّ بذلك ، لسلوكه تلك المسالك.

روي في كتاب فقه الرضا أنّه لمّا دنى أوان أفول البدر المضيء ، وحان زوال الإمام الرضيّ ، من دار التعب والعناء ، ومحلّ الوصب والضنى ، وقرب انتقاله إلى الحضرة العلويّة ، ليشاهد جمال الطلعة القدسيّة ، ويفوز بوصال محبوبه ، وينال غاية مطلوبه ، نصّ على القائم بمقامه ، وأوصى إليه بما أوعز إليه من مبدئه إلى ختامه ، ثمّ قال له : « يا محمّد الباقر ، أنت الإمام بعدي بنصّ الملك القادر ، فاعلم يا بُنيّ ، إنّ الوليد بن عبد الملك سوف يقتلني بالسمّ المهلك ، وإنّي مفارقك عن قريب ، فإذا انغمس بدر أجلي في المغيب ، فلا يلي غسلي غيرك ، فإنّ الإمام لا يغسّله إلاّ إمام مثله.

واعلم يا بُنيّ ، إن أخاك عبد الله سيدعو النّاس إلى نفسه ، فإذا فعل ذلك فامنعه ، فإن امتنع وإلاّ فدعه فإنّ عمره قصير » (١).

__________________

ورواه مختصراً ابن قولويه في كامل الزيارات : ص ٢١٣ باب ٣٥ ح ٣٠٧ / ٢ ، وابن شهرآشوب في المناقب : ٤ : ١٧٩ ، والمجلسي في البحار : ٤٦ : ١١٠ ح ٤ من باب حزنه وبكائه على أبيه عليهما‌السلام عن كامل الزيارات.

(١) ورواه الراوندي في الخرائج ١ : ٢٦٤ ح ٨ وعنه المجلسي في البحار : ٤٦ : ١٦٦ ح ٩ من باب أحواله وأولاده وأزواجه عليه‌السلام.

ورواه الإربلي في كشف الغمة : ٢ : ٣٤٩ في تاريخ الإمام الباقر عليه‌السلام.

هكذا في الخرائج وكشف الغمة ، ولم يثبت في مصدر آخر ادعاء عبد الله بن علي بن الحسين

١٧١

__________________

الإمامة كما أنّه لم يذكر في المصادر المعتمدة أنّ الشيعة افترقت بعد وفاة الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، بل الّذي ادّعى الإمامة بعد شهادة والده ، هو عبد الله بن جعفر الصادق عليه‌السلام الملقّب ب‍ « الأفطح » ، والمنسوبة إليه الفرقة الفطحية.

قال المفيد في الإرشاد : ٢ : ١٦٩ باب ذكر الإمام بعد علي بن الحسين عليه‌السلام ، باب ذكر إخوته وطرف من أخبارهم ، وكان عبد الله بن علي بن الحسين أخو أبي جعفر عليه‌السلام يلي صدقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدقات أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان فاضلاً فقيهاً ، وروى عن آبائه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخباراً كثيرة ، وحدّث الناس عنه وحملوا عنه الآثار.

وفي معجم رجال الحديث للسيد الخوئي رحمه‌الله : ١٠ : ٢٦٤ برقم ٧٠١٢ : قال السيد المرتضى في مقدمة الناصريات : وروى أبو الجارود زياد بن المنذر قال : قيل لأبي جعفر الباقر عليه‌السلام : أيّ إخوتك أحبّ إليك وأفضل ؟ فقال : « أمّا عبد الله فيدي الّتي أبطش بها ، ـ وكان عبد الله أخاه لأبيه وأمّه ـ وأمّا عمر فبصري الّذي أبصر به ، وأما زيد فلساني الّذي أنطق به ، وأمّا الحسين فحليم يمشي على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ».

وأمّا عبد الله الأفطح بن جعفر الصادق عليه‌السلام ، قال الكشي في رجاله : ص ٢٥٤ برقم ٤٧٢ بعد ترجمة عمار بن موسى الساباطي : الفطحية هم القائلون بإمامة عبد الله بن جعفر بن محمّد عليه‌السلام ، وسمّوا بذلك لأنّه قيل أنه كان أفطح الرأس ، وقال بعضهم : إنّه كان أفطح الرجلين ، وقال بعضهم : إنّهم نسبوا إلى رئيس من أهل الكوفة يقال له « عبد الله بن فطيح » ، والّذين قالوا بإمامته عامة مشايخ العصابة وفقهائها مالوا إلى هذه المقالة ، فدخلت عليهم الشبهة لما روي عنهم عليهم‌السلام إنّهم قالوا : « الإمامة في الأكبر من ولد الإمام إذا مضى » ، ثمّ منهم من رجع عن القول بإمامته لما امتحنه بمسائل من الحلال والحرام لم يكن عنده فيها جواب ، ولما ظهر منه من الأشياء التي لا ينبغي أن تظهر من الإمام ، ثمّ إنّ عبد الله مات بعد أبيه بسبعين يوماً ، فرجع الباقون إلاّ شذاذاً منهم عن الخبر الذي روي أن الإمامة لا تكون في الأخوين بعد الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وبقي شذاذ منهم على القول بإمامته ، وبعد أن مات قالوا بإمامة أبي الحسن موسى عليه‌السلام.

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال لموسى : « يا بني ، إنّ أخاك سيجلس مجلساً ويدّعي الإمامة ، فلا تنازعه بكلمة ، فإنّه أوّل أهلي لحوقاً بي ».

وقال أيضاً في ص ٢٨٢ رقم ٥٠٢ في ترجمة هشام بن سالم : جعفر بن محمّد قال : حدثني الحسن بن علي بن النعمان قال : حدثني أبو يحيى ، عن هشام بن سالم قال : كنّا بالمدينة بعد

١٧٢

__________________

وفاة أبي عبد الله عليه‌السلام أنا ومؤمن الطاق أبو جعفر والناس مجتمعون على أنّ عبد الله صاحب الأمر بعد أبيه ، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس مجتمعون عند عبد الله ، وذلك أنهم رووا عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنّ الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة ، فدخلنا نسأله عمّا كنّا نسأل عنه أباه ، فسألناه عن الزكاة في كم تجب ؟ قال : في مئتين خمسة. قلنا ففي مئة. قال : درهمان ونصف درهم ! قلنا له : والله ما تقول المرجئة هذا ! فرفع يده إلى السماء فقال : لا والله ما أدري ما تقول المرجئة. فخرجنا من عنده ضلالاً لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول ، فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى من نقصد وإلى من نتوجه ، نقول : إلى المرجئة ، إلى القدرية ، إلى الزيدية ، إلى المعتزلة ، إلى الخوارج ؟!

قال : فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إلَيّ بيده ، فخفت أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر ، وذلك أنّه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتفق من شيعة جعفر فيضربون عنقه ، فخفت أن يكون منهم ، فقلت لأبي جعفر : تنح فإنّي خائف على نفسي وعليك وإنّما يريدني ليس يريدك فتنحّ عنّي لا تهلك وتعين على نفسك. فتنحى غير بعيد وتبعت الشيخ وذلك إني ظننت أني لا أقدر على التخلّص منه ، فما زلت أتبعه حتّى ورد بي باب أبي الحسن موسى عليه‌السلام ثمّ خلاّني ومضى ، فإذا خادم بالباب فقال لي : ادخل رحمك الله.

قال : فدخلت فإذا أبو الحسن عليه‌السلام ، فقال لي ابتداءاً : « لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية ، ولا إلى الزيدية ، ولا إلى المعتزلة ، ولا إلى الخوارج ، إلَيّ ، إلَيّ ، إلَيّ ».

فقلت له : جعلت فداك ، مضى أبوك ؟ قال : « نعم ».

قال : قلت : جعلت فداك ، مضى في موت ؟ قال : « نعم ».

قلت : جعلت فداك ، فمن لنا بعده ؟ فقال : « إن شاء الله يهديك هداك ».

قلت : جعلت فداك ، إنّ عبد الله يزعم أنه من بعد أبيه ؟! فقال : « يريد عبد الله أن لا يعبد الله ».

قال : قلت : جعلت فداك ، فمن لنا بعده ؟ فقال : « إن شاء الله يهديك هداك أيضاً ».

قلت : جعلت فداك ، أنت هو ؟ قال : « ما أقول ذلك ».

قلت في نفسي : لم أصب طريق المسألة. قال : قلت : جعلت فداك ، عليك إمام ؟ قال : « لا ».

قال : فدخلني شيء لا يعلمه إلاّ الله إعظاماً له وهيبة أكثر ما كان يحلّ بي من أبيه إذا دخلت عليه ، قلت : جعلت فداك ، أسألك عمّا كان يسأل أبوك ؟ قال : « سل تخبر ولا تذع ، فإن أذعت فهو الذبح ». قال : فسألته فإذا هو بحر.

١٧٣

قال الباقر عليه‌السلام : « وكان ذلك في خاطري ، فلمّا كانت الليلة الّتي وعد فيها قال لي : يا بُني ، آتني بوضوء ».

قال أبو جعفر : « فقمت مسرعاً وأتيته بماء في إناء في الوقت الّذي أمر به ، فلمّا وضعته بين يديه إلتفت إلَيّ وقال : لا أبغي هذا. فقلت : ولِمَ يا أبت ؟ فقال : إنّ فيه

__________________

قال : قلت : جعلت فداك ، شيعتك وشيعة أبيك ضلال ، فألقي إيّاهم وأدعوهم إليك ؟ فقد أخذت علّيّ بالكتمان ؟ فقال : « من آنست منهم رشداً فألق عليه وخذ عليهم بالكتمان ، فإن أذاعوا فهو الذبح ». ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ.

قال : فخرجت من عنده فلقيت أبا جعفر ، فقال لي : ما وراك ؟ قال : قلت : الهدى. قال : فحدّثته بالقصة.

قال : ثمّ لقيت المفضل بن عمر وأبا بصير ، قال : فدخلوا عليه وسلّموا وسمعوا كلامه وسألوه ، قال : ثمّ قطعوا عليه.

قال : ثمّ لقينا الناس أفواجاً. قال : فكان كلّ من دخل عليه قطع عليه إلاّ طائفة مثل عمّار وأصحابه ، فبقي عبد الله لا يدخل عليه أحد إلاّ قليلاً من الناس.

قال : فلمّا رأى ذلك وسأل عن حال الناس ، قال : فأخبر أنّ هشام بن سالم صدّ عنه الناس ، قال : فقال هشام : فأقعد لي بالمدينة غير واحد ليضربوني !

ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد : ٢ : ٢٢١ في باب ذكر طرف من دلائل أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، عن جعفر بن محمّد بن قولويه ، عن محمّد بن يعقوب الكليني ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن أبي يحيى الواسطي ، عن هشام بن سالم نحوه إلى قوله : « وبقي عبد الله لا يدخل عليه من الناس إلاّ القليل ».

وقال الشيخ المفيد في الإرشاد : ٢ : ٢١٠ في باب ذكر أولاد أبي عبد الله عليه‌السلام : فصل ، وكان عبد الله بن جعفر أكبر إخوته بعد إسماعيل ولم تكن منزلته عند أبيه كمنزلة غيره من ولده في الإكرام ، وكان متهماً بالخلاف على أبيه في الإعتقاد ، ويقال : إنّه كان يخالط الحشوية ويميل إلى مذهب المرجئة وادّعى بعد أبيه الإمامة واحتجّ بأنّه أكبر إخوته الباقين ، فاتبعه على قوله جماعة من أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ثمّ رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه موسى عليه‌السلام لما تبيّنوا ضعف دعواه وقوّة أمر أبي الحسن عليه‌السلام ودلالة حقّه وبراهين إمامته وأقام نفر يسير منهم على أمرهم ودانوا بإمامة عبد الله بن جعفر وهم الطائفة الملقبة بالفطحية ، وإنّما لزمهم اللقب لقولهم بإمامة عبد الله وكان أفطح الرجلين ، ويقال : لقبوا بذلك لأنّ داعيهم إلى إمامة عبد الله كان يقال له : عبد الله بن الأفطح.

١٧٤

ميتة ».

قال أبو جعفر : « فقمت مسرعاً وأتيت بمصباح ونظرت فيه وإذا فيه فارة ميتة ، فتركته وجئت بغيره ، فأخذه ولم يقل شيئاً ، ثمّ قال لي : يا بُنيّ ، هذه الليلة التي وعدت فيها.

ثمّ طلب شراباً ، فأتيته بماء وقلت له : اشرب ، فنظر فيه ويداه ترتعشان (١) ، ثمّ قال : يا بُنيّ إني سأقبض في ليلتي هذه ، وإنّها الليلة التي قبض فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

ثمّ أغمي عليه ثلاث مرّات ، ثم فتح عينيه وقرأ ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) (٣) و ( إِنَّا فَتَحْنَا ) (٤) ، ثمّ قال : ( الحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ ) الآية (٥) (٦) ، ثمّ إنّه أشرق من وجهه نور ساطع يخطف الأبصار ، ففاضت نفسه المقدّسة الشريفة ».

وكانت وفاته عليه‌السلام ليلة السبت الثامنة والعشرين من صفر سنة خمس وتسعين

__________________

(١) رواه ابن طاوس في فرج المهموم : ٢٢٨ مع اختلاف في الألفاظ ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٦ : ٤٣ ح ٤١ باب معجزاته ومعالي أموره عليه‌السلام.

ورواه الكليني في الكافي : ١ : ٤٦٨ ح ٤ من باب مولد علي بن الحسين عليه‌السلام.

ورواه الشيخ حسن بن سليمان الحلّي في مختصر بصائر الدرجات : ص ٧ مع إضافات ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٦ : ١٤٨ ح ٤ من باب وفاته عليه‌السلام.

(٢) ورواه الراوندي في الخرائج في الجزء ١٠ باب ٩ ح ٧ في ترجمة الإمام الباقر عليه‌السلام مع اختلاف ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٦ : ٢١٣ ح ٦ ، وفي ص ١٤٩ في ترجمة الإمام السجّاد عليه‌السلام ح ٧ من باب وفاته عليه‌السلام.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ : ١.

(٤) سورة الفتح : ٤٨ : ١.

(٥) سورة الزمر : ٣٩ : ٧٤.

(٦) ورواه الكليني في الكافي : ١ : ٤٦٨ ح ٥ من باب مولد علي بن الحسين عليه‌السلام ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٦ : ١٥٢ ح ١٣ من باب وفاته عليه‌السلام.

١٧٥

من الهجرة النبويّة صلوات الله عليه ، ولعنة الله على قاتليه (١) ، ولله درّ من قال :

وزين العباد رهين القيود

ويمناه مغلولة واليسار

يرى رحله مغنماً للعدا

ونسوته ما لهنّ اختفار

وينظر والدَه جثّة

على الترب يسفى عليها الغبار

يروم الوصول لمثوى أبيه

وليس له بالنهوض اقتدار

فلهفي لتلك الوجوه الحسان

عراهنّ بعد البهاء اصفرار

ولهفي لأبدانها الناعمات

يؤلم بالسوط منها القفار

يسقن أسارى كمثل العبيد

يباشر أوجههنّ البشار

تسير بهنّ لأرض الشئام

بحال المذلة عجف عشار

مصاب عظيم له قلّ أن

تمور السما أو تغور البحار

فعلى مثل الإمام السجّاد ، وسيد العباد والزهّاد ، فلتقدّ الضمائر والأكباد ، عوض الجيوب والأبراد ، وتطلّق نواعم البساط والمهاد ، وتتجافى العيون عن

__________________

(١) اعلم أنّ في تاريخ وفاته عليه‌السلام خلاف شديد بين العلماء والمؤرّخين ، والمشهور منها يوم الثاني عشر ، أو يوم الثامن عشر ، أو يوم الخامس والعشرين من المحرّم ، سنة أربع وتسعين ، أو خمس وتسعين ، على خلاف.

١٧٦

السنة والرقاد ، أو لا تكونون أيها الإخوان الأمجاد ، والخلاّن الأنجاد ، كمن قدح هذا الفادح ذو الأنكاد في خبايا ضميره والفؤاد ، ولفح حريق هذا القادح المفاد ، بين حنايا ضلوعه والأكباد ، فأنشأ وأطال الإنشاد ، ولله درّه فقد أجاد.

١٧٧

المصرع الثاني عشر

وهو مصرع الباقر عليه‌السلام

اعلم يا طالب الإذعان والتصديق ، والراغب في الإرشاد إلى سواء الطريق ، أنّه قد فوّق سهم التوفيق ، رامياً للمرمى الدقيق عن قوس التحقيق ، واتّسع المضيق ، وهدر الفتيق (١) ، وأنت راسب في غطمطم الضيق ، مرتطم في يمّ التعويق ، أما أن لك أن تفيق ، فما لي أراك كلّما أراك دليل الإدراك بشراك ، وشراك من اشراك الأشراك ، تقهقرت إلى وراك ، فقد ومن سواك إرداك خبث الإدراك ، وما أدراك فلعلّك علّك نسيم الأزهار وغشاك ، أم غشاك عظيم الأنوار فأعشاك ، فوقعت من هناك في هاوية هواك ، فأين هذا من ذاك ، إنّ طريقك عكس قصدك ، وقَدْحُك ليس من زندك ، يا ويلك أتروم دخول الجنان بغير الإيمان ، وترجو الأمان من النيران بدون شفاعة صفوة آل عدنان ، أم تدّعي الموالاة بغير علامات ، أين بذل المهج في هواهم ، أين صرف الأعمار في عزاهم ، أم تقول ما بلغك مصابهم المهول ، ولا طرقك رزؤهم الثقيل ، بلى والله بلغك وتلاهيت ورأيته وتعاميت ، فما أحراك بما قيل : « من لم يحرّكه الربيع وأزهاره ، والعود وأوتاره فقد فسد مزاجه وامتنع علاجه ، ولم ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع » ، ولله درّ من قال من الرجال الأبدال :

يا نفس لو أدركت حظّاً وافراً

لنهاك عن فعل القبيح نهاك

__________________

(١) الفتيق : الفصيح الحادّ اللسان ، والصُبح المُشرِق. ( المعجم الوسيط ).

١٧٨

وعرفت من أنشأك من عدم إلى

هذا الوجود وصانعاً سوّاك

وشكرت منّته عليك وحسن ما

أولاك من نعمائه مولاك

أولاك حبّ محمّد ووصيّه

خير الأنام فنعم ما أولاك

فهما لعمرك علّماك الدين في

الدنيا وفي الأخرى هما علماك

وهما أمانك يوم بعثك في غدٍ

وهما إذا انقطع الرجاء رجاك

واذا الصحائف في القيامة نشرت

ستروا عيوبك عند كشف غطاك

وإذا وقفت على الصراط تبادرا

وتقدّماك فلم تزل قدماك

روى الشيخ في كتاب المصباح أنّ الباقر عليه‌السلام ولد في يوم الجمعة ثالث صفر سنة السابعة والخمسين (١).

وهو أوّل علويّ تولد من الحسنين ، وذلك لأنّه محمّد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام ، وأمّه فاطمة [ أمّ ] عبد الله بنت الحسن عليه‌السلام كما روي في المناقب إنّه هاشمي تولد من هاشميّين وعلويّ تولد من علويّين وفاطمي تولد من فاطميين (٢).

__________________

(١) ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص ٢٥٩ ، والإربلي في كشف الغمة : ٢ : ٣٢٩.

ورواه الكفعمي في الجدول من المصباح : ص ٥٢٢ إلاّ أنّ فيه : ولد يوم الاثنين.

(٢) ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص ٢٥٩ ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٢٢٥ في معالي أموره عليه‌السلام.

وانظر إرشاد المفيد : ٢ : ١٥٨ ، والدر النظيم لجمال الدين الشامي : ص ٦٠٣.

١٧٩

وروي في كتاب العلل عن جابر بن يزيد الجعفي أنّه سأله عمرو بن يزيد بن شمر فقال له : يا جابر ، لمَ سمّي الباقر باقراً ؟ قال : لأنه بقر العلم بقراً ، أي شقّه شقّاً وأظهره إظهاراً ، لقد حدّثني جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا جابر ، إنّك ستبقى وستلقى (١) ولدي محمّد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف في التوراة بالباقر (٢) ، فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام ».

[ قال جابر : ] فبينما أنا في بعض سكك المدينة إذ لقيت غلاماً لم أر مثله قطّ ، فقلت له : مَن أنت يا غلام ؟

فقال : [ أنا ] محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ».

فقلت له : يا بُنيّ ، أقبل. فأقبل ، ثمّ قلت له : أدبر. فأدبر ، فرأيت شمائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وربّ الكعبة ، فقلت له : يا بُني ، إذا أنت الباقر.

قال : « نعم ».

قلت له : يا مولاي ، إنّ رسول الله يقرؤك السلام.

فقال : « وعلى رسول الله السلام [ ما دامت السماوات والأرض ، ] وعليك يا جابر بما حملت السلامَ السلام » (٣). (٤)

فرجع محمّد بن علي إلى أبيه علي بن الحسين مذعوراً فأخبره الخبر ،

__________________

(١) في المصدر : « ستبقي حتّى تلقى ».

(٢) في المصدر : « ستبقي حتّى تلقى ».

(٣) في المصدر : « بما بلّغت السلام » ، وليس فيه السلام الثاني.

(٤) رواه الصدوق في علل الشرائع : ١ : ٢٣٣ باب ١٦٨ العلّة الّتي من أجلها سمّي أبو جعفر محمّد بن علي عليه‌السلام الباقر ، وزاد بعده : فقال له جابر : يا باقر ، يا باقر أنت الباقر حقّاً ، أنت الّذي تبقر العلم بقراً. ثمّ كان جابر يأتيه فيجلس بين يديه فيعلّمه وربما غلط جابر فيما يحدّث به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيرد عليه ويذكّره فيقبل ذلك منه ويرجع إلى قوله ، وكان يقول : يا باقر ، يا باقر ، يا باقر أشهد بالله أنّك قد أوتيت الحكم صبيّاً.

ورواه أيضاً في كمال الدين وتمام النعمة : ص ٢٥٣ باب ٢٣ ح ٣ ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٦ : ٢٢٥ ح ٤ من باب مناقبه عليه‌السلام.

١٨٠