مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ألين ولا ألذّ ولا أذكى رائحة منه.

ثمّ إنّي نظرت في الكأس فإذا فيه ثلاثة ألوان من الشراب لم تختلط ، فقلت له : جعلت فداك ، ما رأيت كاليوم قطّ ، ولا ظننت أنّ الأمر يبلغ هكذا !

فقال عليه‌السلام لي : « هذا أقلّ ما أعدّه الله لشيعتنا ، إنّ المؤمن إذا توفّي صارت روحه إلى هذا النهر ، فرعت في رياضه ، وشربت من شرابه ، وإنّ عدوّنا إذا مات صارت روحه إلى برهوت فأخلدت في عذابه ، وأطعمت من زقّومه ، وأسقيت من حميمه ، فاستعذ بالله من ذلك الوادي » (١).

__________________

(١) رواه المفيد في الاختصاص : ص ٣٢١ عن الحسن بن أحمد بن سلمة اللؤلؤي ، عن الحسن بن علي بن بقّاح ، عن عبد الله بن جبلة ، عن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحوض ؟ فقال لي : « هو حوض ما بين بصرى إلى صنعاء ، أتحبّ أن تراه » ؟ فقلت له : نعم.

قال : فأخذ بيدي وأخرجني إلى ظهر المدينة ، ثمّ ضرب برجله فنظرت إلى نهر يجري من جانبه ، هذا ماء أبيض من الثلج ومن جانبه هذا لبن أبيض من الثلج ، وفي وسطه خمر أحسن من الياقوت ، فما رأيت شيئاً أحسن من تلك الخمر بين اللبن والماء ، فقلت له : جعلت فداك ، من أين يخرج هذا ، ومن أين مجراه ؟

فقال : « هذه العيون الّتي ذكرها الله في كتابه أنهار في الجنة ، عين من ماء وعين من لبن وعين من خمر ، يجري في هذا النهر ».

ورأيت حافتيه عليهما شجر فيهنّ جوارٍ معلّقات برؤوسهنّ ما رأيت أحسن منهنّ ، وبأيديهنّ آنية ما رأيت أحسن منها ، ليست من آنية الدنيا ، فدنا من إحداهنّ فأومأ إليها بيده لتسقيه ، فنظرت إليها وقد مالت لتغرف من النهر ، فمال الشجر فاغترفت ثمّ ناولته فشربت ، ثمّ ناولها وأومأ إليها ، فمالت الشجرة معها فاغترفت ، ثمّ ناولته فناولني فشربت ، فما رأيت شراباً كان ألين منه ولا ألذّ ، وكانت رائحته رائحة المسك.

ونظر في الكأس فإذا فيه ثلاثة ألوان من الشراب ، فقلت له : جعلت فداك ، ما رأيت كاليوم قطّ ، وما كنت أرى الأمر هكذا !

فقال : « هذا من أقلّ ما أعدّه الله تعالى لشيعتنا ، إنّ المؤمن إذا توفّي صارت روحه إلى هذا النهر ، ورعت في رياضه وشربت من شرابه ، وإنّ عدوّنا إذا توفّي صارت روحه إلى وادي برهوت فأخلدت في عذابه وأطعمت من زقّومه وسقيت من حميمه ، فاستعيذو بالله من ذلك

٢٢١

ولله درّ من قال من الرجال الأبدال ، ولقد أجاد في المقال :

الفريد الّذي مفاتيح علم الواحد

الفرد غيره ما حواها

وهو الجوهر المجرّد منه

كلّ نفس مليكها زكّاها

لم تكن هذه العناصر إلاّ

من هيولاه حيث كان أباها

من يلج في جنان جدوى يديه

يجد الحور من أقل إماها

ما حباه الشفاعة الله إلاّ

لكنوز من جاهه زكّاها

ثق بمعروفه تجده زعيما

بنجاة العصاة يوم لقاها

كيف تظما حشى المحبّين منه

وهو من كوثر الوداد سقاها

شربة أعقبتهم نشوات

رقّ نشوانها وراق انتشاها

ما رأت وجهه الغمامة إلاّ

وأراقت منه حياءً حياها

روي في الكافي عن ظريف بن ناصح قال : لمّا بعث أبو جعفر الدوانيقي إلى أبي عبد الله ليشخصه إليه ، رفع يده إلى السماء وقال : « اللهّم إنّك حفظت الغلامين لصلاح أبويهما ، فاحفظني لصلاح آبائي محمّد وعلي والحسن والحسين وعلي [ بن الحسين ومحمّد بن علي ] عليهم‌السلام ، اللهمّ إنّي أدرأ بك في نحره ، وأعوذ بك من شرّه ».

ثمّ قال عليه‌السلام للجمّال : « سر ( بنا حيث أمرت ) (١) ».

قال : فلمّا ورد الحضرة استقبله الربيع وقال له : يا أبا عبد الله ، لقد تركت باطن هذا الطاغية يتلظّى عليك ويقول : والله لا أترك لأهل هذا البيت نخلاً إلاّ عقرته ولا مالاً إلاّ نهبته ، ولا ذريّة إلاّ سبيتها !

قال : فهمس بشيء خفي وحرّك شفتيه ودخل وسلّم وقعد ، فردّ عليه‌السلام وقال له : أما والله لقد هممت أن لا أترك لك نخلاً إلاّ عقرته ، ولا مالاً إلاّ أخذته.

__________________

الوادي ».

ورواه عنه في البحار : ٤٧ : ٨٨.

ورواه الصفار في بصائر الدرجات : ص ٤٠٣ ج ١٠ ب ١٣.

(١) ما بين القوسين ليس في المصدر.

٢٢٢

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « يا أمير المؤمنين ، إنّ الله ابتلى أيّوب فصبر ، وأعطى داود فشكر ، وقدر يوسف فغفر ، وأنت من ذاك (١) النسل ، ولا يأتى ذلك النسل إلاّ بما يشبهه ».

فقال : صدقت ، قد عفونا عنك.

فقال عليه‌السلام : « والله يا أمير المؤمنين ، إنّه لم ينل منّا [ أهل البيت ] أحد [ دماً ] إلاّ سلبه الله ملكه ».

فغضب لذلك واستشاط ، فقال عليه‌السلام له : « على رسلك يا أمير المؤمنين ، إنّ هذا الملك كان في آل أبي سفيان ، فلمّا قتل يزيد حسيناً سلبه الله ملكه فورثه آل مروان ، فلمّا قتل هشام زيداً سلبه الله ملكه ، [ فورثه مروان بن محمّد ، فلمّا قتل مروان إبراهيم سلبه الله ملكه ] ». فأعطاكموه ».

فقال له : صدقت ، هات ارفع حوائجك.

فقال عليه‌السلام : « ( حاجتي ) (٢) الإذن ».

فقال : هو بيدك. فخرج.

فقال الربيع : قد أمر لك بعشر آلاف درهم.

فقال عليه‌السلام : « لا حاجة لي فيها ».

فقال له الربيع : إذا تغضبه ، خذها فتصدّق بها على الفقراء والمساكين (٣).

__________________

(١) في المصدر : « ذلك ».

(٢) ما بين القوسين ليس في المصدر.

(٣) الكافي : ٢ : ٥٦٢ كتاب الدعاء : ح ٢٢ من باب الدعاء للكرب والهم والحزن والخوف ، وجميع ما بين المعقوفات منه.

ورواه عنه في البحار : ٤٧ : ٢٠٨ ح ٥١ من باب ما جرى بينه وبين المنصور.

والخبر ونحوه رواه يحيى بن الحسين الشجري في أماليه : ١ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، والتنوخي في الفرج بعد الشدة : ص ٧٠ ـ ٧١ ، والكنجي في كفاية الطالب : ص ٤٥٥ ـ ٤٥٦ ، وابن عبد ربّه في العقد الفريد : ٢ : ١٣٠ ـ ١٣١ وج ٣ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، وابن شهر آشوب في

٢٢٣

وروي في كتاب كشف الغمّة مرسلاً عن بعض أصحاب الصادق عليه‌السلام قال : دخلت على سيّدي جعفر بن محمّد وعنده ابنه موسى عليه‌السلام وهو يوصيه بهذه الوصيّة ، فكان ممّا حفظت منها أن قال : « يا بُنيّ ، اقبل وصيّتي واحفظ مقالتي ، فإنّك إن حفظتها تعش سعيداً وتمت حميداً.

يا بُنيّ ، من قنع بما قسم له استغنى ، ومن مَدّ عينه إلى ما في يد غيره مات فقيراً ، ومن لم يرض بما قسم [ الله ] له اتّهم الله في قضائه ، ومن استصغر زلّة غيره استعظم زلّة نفسه ، ومن استصغر زلّة نفسه استعظم زلّة غيره.

يا بُني ، من كشف [ عن ] حجاب غيره انكشفت (١) عورات بيته ، ومن سل سيف البغي قُتِل به ، من احتفر بئراً لأخيه وقع فيه (٢) ، ومن داخل السفهاء حُقِّر ، ومن خالط العلماء وُقِّر ، ومن دخل في مداخل السوء اتُّهم.

إيّاك أن تزري بالرجال فيزرى بك ، وإيّاك والدخول فيما لا يعنيك فتذلّ.

يا بنيّ ، قل الحقّ لك وعليك ، تستشار من بين أقرانك.

يا بُني ، كن لكتاب الله تالياً ، وللسلام (٣) فاشيا ، وبالمعروف آمراً ، وعن المنكر ناهياً ، ولمن قطعك واصلاً ، ولمن سكت عنك مبتدئاً ، ولمن سألك معطياً.

__________________

المناقب : ٤ : ٢٥٢ نقلاً عن كتاب الترهيب والترغيب لأبي القاسم الإصفهاني والعقد الفريد لابن عبد ربّه ، وسبط ابن الجوزي في التذكرة : ص ٣٤٤ ، وابن طاوس في مهج الدعوات : ص ١٨٩ ـ ١٩٦ ، وابن طلحة في مطالب السؤول : ٢ : ٥٨ ـ ٥٩ ، والذهبي في السير : ٦ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ، والإربلي في ترجمة الإمام الصادق عليه‌السلام من كشف الغمة مع زيادات واختلافات ، وعنه في البحار : ٤٧ : ١٨٢.

ورواه الجزري في أسنى المطالب : ص ٩٦ ـ ٩٨ بطريقين ثمّ قال : هذا حديث غريب عزيز ، رواه من الأئمّة المعتمد عليهم الحافظ الكبير إسماعيل التيمي في كتابه الترغيب والترهيب من الطريق الأولى كما رويناه ، والحافظ أبوبكر بن أبي الدنيا من الطريق الثانية كما أخرجناه ، وهو مجرّب في الشدائد.

(١) في المصدر : « تكشّفت ».

(٢) في المصدر : « ومن احتفر لأخيه بئراً سقط فيه ».

(٣) في المصدر : « للإسلام ».

٢٢٤

وإيّاك والنميمة فإنّها تزرع الشحناء في قلوب الرجال ، وإيّاك والتعرض في عيوب الناس ، فمنزلة المتعرّض لعيوب الناس بمنزلة (١) الهدف.

يا بني ، إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه ، فإنّ للجود معادنا وللمعادن أصولاً وللأصول فروعاً [ وللفروع ثمراً ] ، ولا يطيب ثمر إلاّ بفرع ، ولا فرع إلاّ بأصل ، ولا أصل ثابت إلاّ بمعدن طيّب.

يا بني ، إذا زرت فزر الأخيار ، ولا تزر الفجّار فإنهم صخرة لا ينفجر (٢) ماؤها وشجرة لا يخضرّ ورقها وأرض لا يظهر عشبها ».

[ قال علي بن موسى عليهما‌السلام : « فما ترك أبي هذه الوصيّة إلى أن توفّي » ] (٣).

وما زال صلوات الله عليه يذكر ربّه حتّى مات شهيداً ، سمّه المنصور لعنه الله.

وكانت وفاته يوم الاثنين خامس عشر شهر رجب سنة ثمان وأربعين ومئة من الهجرة (٤).

فوا لهف نفسي على تلك المناقب الفاضلة ، والصفات الكاملة ، والمنن الشاملة والغرر الّتي لم تزل على جباء الأيّام سايلة.

وواحزناه على صاحب الأمرة والدعامة ، وعلى مركز دائرة الرسالة والإمامة ، كيف كوّرت شمس حياته أكفّ الجور والعدوان ، وخسفت قمر صفاته أيدي الفجور والطغيان ، ف‍ ( إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) (٥) ، ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) في المصدر : « كمنزلة ».

(٢) في المصدر : « لا يتفجّر ».

(٣) كشف الغمّة للإربلي : ٢ : ٣٩٦ ، ومختصراً في ص ٣٦٩ في فضائل الإمام الصادق عليه‌السلام.

ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء : ٣ : ١٩٥ ، وابن طلحة في مطالب السؤول : ٢ : ٥٧ ، وابن الجوزي في المنتظم : ٨ : ١١١ ، والذهبي في السير : ٦ : ٢٦٣.

(٤) قال بهذا التاريخ الطبرسي في كتاب تاج المواليد : ( مجموعة نفيسة : ص ١٢٥ ) ، وفي إعلام الورى : ص ٢٦٦ ، ولكنّ المعروف أنّه عليه‌السلام توفّي في الخامس والعشرين من شوّال المكرم كما رواه أيضاً الطبرسي في تاج المواليد وإعلام الورى.

(٥) سورة البقرة : ٢ : ١٥٦.

٢٢٥

أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١).

ولله درّ من قال من الرجال الأبدال :

يا ابن الهداة الأكرمين ومن

شرف الكتاب بهم ولا فخر

قسماً بمثواك الشريف وما

ضمّت منى والخيف والحجر

فهم سواء في الحقيقة إذ

بهم التمام يحلّ والقصر

تعنو له الألباب تلبية

ويطوف ظاهره حجر الحجر

ما طائر فقد الفراخ فلا

يأويه بعد فراخه وكر

بأشدّ من حزني عليك ولا

الخنساء جدّد حزنها صخر (٢)

ولقد وددت بأن أراك وقد

قلّ النصير وفاتك النصر

حتّى أكون لك الفداء كما

كرما أباك فداله الحرّ

فتبوّءوُا رفيع المراتب بإسالة المدامع ، وزاحموا أئمّتكم الأطائب في سمّي المقاصر والمجامع ، ونوحوا نوح الحمام النواعب ، ونادوا بالويل والفجائع ، وتصوّروا خلّو تلك المضارب ، وخويّ هاتيك المرابع ، من أرباب النوافل والرواتب ، فلا دافع ولا مانع ، أو لا تكونون يا إخواني كمن أورده رزؤهم الراتب موارد البلاء والفضائح (٣) ، وأحرمه لذيذ المطاعم والمشارب ، ونفى عن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ : ١٥٦.

(٢) الخنساء هي بنت عمرو بن الشريد بن ثعلبة بن عُصية بن خفاف بن امرئ القيس ؛ الشاعرة المشهورة ، قدمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قومها من بني سليم فأسلمت معهم ، فذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يستنشدها ويعجبه شعرها ، وكانت تنشده وهو يقول : « هيه يا خُناس » ، ويؤمي بيده.

قالوا : وكانت الخنساء تقول في أول أمرها البيتين أو الثلاثة ، حتّى قتل أخوها شقيقها معاوية بن عمرو وقتل أخوها لأبيها صخر ؛ وكان أحبّهما إليها ؛ لأنّه كان حليماً جواداً محبوباً في العشيرة ، كان غزا بني أسد فطعنه أبو ثور الأسدي طعنة مرض منها حولاً ثمّ مات ، فلمّا قتل أخواها أكثرت من الشعر. ( الإصابة : ٧ : ٦١٣ رقم ١١١٠٦ ، وأسد الغابة : ٥ : ٤٤١ ).

(٣) الفضيحة : الشهرة بما يُعاب ، والعيب ، والجمع : فضائح. ( المعجم الوسيط ).

٢٢٦

جفنه لذّة النائم الهاجع ، فأقام العزاء والنوادب ، على خمود تلك الأنوار اللوامع ، ولله درّه من راث ونادب.

٢٢٧

المصرع الرابع عشر

وهو مصرع موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام

صفّوا بواطن سرائركم أيّها العارفون ، واجلوا درن مرآة ضمائركم أيّها العاشقون ، وجودوا بنفائس الأعمار أيّها الطالبون ، وروضوا شوامس نفوسكم أيّها السالكون ، ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (١).

استوحشوا من الرقباء إن كنتم عشّاقاً ، وجانبوا الوشاة إن رمتم من المحبوب وفاقاً ، وتذّللوا له تكونوا عنده مكرمين وأطيعوه فيما أمركم تصيروا محترمين ، واعلموا أنّ المحبوب متى عصي جفا ، ومتى خولف قلىٰ.

ما أنت والقوم ترجو نيل سعيهم

وما شربت من الكأس الّذي شربوا

فشمّروا ذيول الجدّ والاجتهاد ، وتجافوا عن ناعم الفراش والمهاد ، وانهجوا ملحوب الرضا ، وسلّموا المحتوم القدر والقضاء ، ووالوا أولياء الله وعادوا أعداءه ، وأحبّوا أحبّاءه وأبغضوا بغضاءه ، واعتقدوا بنيّات صادقة أنّ حبّ محمّد وآله عليهم‌السلام حبّ الله ، ورضاهم اختياره ورضاه ، وهم حجّته ومحجته ، وأعلام الهدى ورايته ، وفضله ورحمته ، وعين اليقين وحقيقته ، وصراط الحقّ وعصمته ، ومبدأ الوجود وغايته ، وقدرة الله ومشيئته ، وأمّ الكتاب وخاتمته ، وفصل الخطاب ودلالته ، وخزنة الوحي وحفظته ، وأمنة الذكر وتراجمته ، ومعدن التنزيل ونهايته.

فهم الكواكب العلوية ، والأنوار العلوية المشرقة من شمس العصمة الفاطمية في سماء العظمة المحمديّة ، والأغصان النبويّة النابتة في الدوحة الأحمدية ، والأسرار

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ : ٩٢.

٢٢٨

الإلهيّة المودعة في الهياكل البشريّة ، والذريّة الزكيّة والعترة الهاشمية المهدية ، أولئك هم خير البرية.

وهم العترة الطاهرون ، والأئمّة المعصومون ، والذريّة الأكرمون ، والخلفاء الراشدون ، والكبراء الصدّيقون ، والأوصياء المنتجبون ، والأسباط المرضيّون ، والهداة المهديّون.

وهم حجّة الله على الأولين والآخرين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، آل طه ويس ، كتب الله أسماءهم على الأحجار ، وعلى أوراق الأشجار ، وعلى أجنحة الأطيار ، وعلى أبواب الجنّة والنّار ، وعلى العرش والأفلاك ، وعلى أجنحة الأملاك ، وعلى حجب الجلال ، وسرادقات العزّ والإجلال ، وباسمهم تسبيح الأطيار ، وتسغفر لشيعتهم الحيتان في لجج البحار ، ولله درّ من قال ، ولقد أجاد في المقال :

سادة لا تريد إلاّ رضى الله

كما لا يريد إلاّ رضاها

خصّها من كماله بالمعالي

وبأعلى أسمائه سمّاها

لم يكونوا للعرش إلاّ كنوزا

خافيات سبحان من أبداها

كم لهم ألسن عن الله تنبئ

هي أقلام حكمة قد براها

فهم الأعين الصحيحات تهدى

كلّ نفس مكفوفة عيناها

علماء أئمّة حكماء

يهتدى النجم باتّباع هواها

قادة علمهم ورأي حجاهم

مسمع كلّ حكمة منظراها

ما أبالي ولو أهليت على الأ

رض السماوات بعد نيلي ولاها

من يباريهم وفي الشمس معنى

مجهد متعب لمن باراها

ورثوا من محمّد سبق أولاها

وحازوا ما لم تحز أخراها

آية الله حكمة الله سيف الله

والرحمة التي أهداها

روى كمال الدين في كتاب مطالب السؤول أنّ مولد الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه‌السلام كان ليلة السابع من شهر صفر سنة ثمان وعشرين ومئة.

وهو الإمام الكبير القدر ، والعظيم الشأن ، والكثير التهجّد ، الجادّ في

٢٢٩

الاجتهاد ، المشهود له بالكرامات ، والمواظب على الطاعات ، يبيت الليل ساجداً وقائماً ، ويقطع النهار متصدّقاً صائماً ، ولفرط حلمه عن المتعدّين عليه دعي كاظماً.

كان يجازي المسيء إليه بإحسانه ، ويقابل الجاني عليه بعفوه وغفرانه ، وقد اشتهر بين الفريقين بالعبد الصالح ، وعرف في العراقين بباب الحوائج والمنائح.

فهذه الكرامات العالية المقدار ، الخارقة للعوائد في كلّ الأعصار ، هي على التحقيق حلية المناقب ، وزينة المزايا والرغائب ، لا يؤتاها إلاّ من أفاضت عليه العناية الربانيّة أنوار التأييد ، وهطلت عليه التوفيقات السبحانية رذاذ التقديس والتسديد ، ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (١). (٢)

وروي في الكافي عن محمّد بن العبّاس بإسناده عن جميل بن درّاج قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أتأذن لي أن أحدّث الناس بحديث جابر ؟ (٣) قال : « لا تحدّث به السفلة فيذيع‍ [ و ] ه ، أما (٤) تقرأ : (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ) ».

قلت : بلى.

قال : « إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأوليّن والآخرين ولانّا الله حساب شيعتنا ، فما كان بينهم وبين الله حكمنا على الله فيه ، فأجاز حكومتنا ، وما كان بينهم وبين النّاس استوهبناه منهم ، فوهبوه لنا ، وما كان بيننا وبينهم فنحن أولى من عفى وصفح » (٥).

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ : ٣٥.

(٢) مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي : ص ٢٨٩ وفي ط : ٢٩٢ الباب السابع ، مع اختلاف في بعض الألفاظ.

(٣) في المصدر : « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أحدّثهم بتفسير جابر » ؟

(٤) في المصدر : « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أحدّثهم بتفسير جابر » ؟

(٥) رواه محمّد بن العباس كما في تأويل الآيات للاسترآبادي : ٢ : ٧٨٨ ح ٧ ، وعنه البحراني في البرهان : ٤ : ٤٥٦ ح ٦ ، والمجلسي في البحار : ٨ : ٥٠ ح ٥٧ من باب الشفاعة من كتاب

٢٣٠

وروى في كتاب مشارق الأنوار عن الأصبغ بن نباتة قال : خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال في خطبته : « أنا أخو رسول الله ، ووارث علمه ، ومعدن حكمه ، وصاحب سرّه ، وما أنزل الله حرفاً في كتاب من كتبه إلاّ وقد صار إليّ ، وزادني علماً منه ، وأعطيت (١) علم الأنساب والأسباب ، وأعطيت ألف مفتاح يفتح كلّ مفتاح ألف باب ، وأمددت (٢) بعلم القدر ، وإنّ ذلك يجري في الأوصياء من بعدي ما جرى الليل والنهار ، حتّى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

أعطينا الصراط ، والميزان ، واللواء ، والكوثر.

نحن المقدّمون على بني آدم يوم القيامة ، نحن المحاسبون للخلق ، نحن منزلوهم منازلهم ، نحن معذّبوا أهل النار » (٣).

وروي في الكتاب المذكور عن نافع ، عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « يا عليّ ، أنت نذير أمّتي و [ أنت ] هاديها ، وأنت صاحب حوضي و [ أنت ] ساقيه ، وأنت يا عليّ ذو قرنيها وصاحب طرفيها (٤) ، ولك الآخرة والأولى ، فأنت يوم القيامة الساقي ، والحسن الذائد ، والحسين الأمين (٥) ، وعلي

__________________

العدل والمعاد وفي ج ٢٤ ص ٢٦٧ ح ٣٤ من باب الآيات الدالّة على رفعة شأنهم.

والفقرة الأخيرة من الحديث ورد نحوها عن الصادق عليه‌السلام ، كما في تفسير فرات الكوفي : ص ٥٥٢ ح ٧٠٧.

ورواه فرات باختصار عن الإمام الكاظم عليه‌السلام في الحديث ٧٠٦ من تفسيره : ص ٥٥١.

(١) في المصدر : « وزاد لي علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، أعطيت ».

(٢) في المصدر : « ومددت ».

(٣) مشارق أنوار اليقين للبرسي : ص ١٦٤ مع اختلاف في بعض الألفاظ وإضافات كثيرة.

ورواه البحراني في معالم الزلفى : ١ : ١٧٨.

(٤) في المصدر : « ذو قرنيها وكلا طرفيها ».

(٥) في المصدر : « الحسين الآمر ».

٢٣١

بن الحسين الفارض ، ومحمّد بن علي الناشر ، وجعفر بن محمّد السابق (١) ، وموسى بن جعفر محصي المحبّين والمنافقين (٢) ، وعلي بن موسى مرتّب المؤمنين ، ومحمّد بن علي منزل أهل الجنّة في منازلهم (٣) ، وعلي بن محمّد خطيب أهل الجنّة ، والحسن بن علي جامعهم [ حيث يأذن الله لمن يشاء ويرضى ] ، والمهدي عجّل الله فرجه شفيعهم يوم القيامة حيث لا يأذن الله إلاّ لمن يشاء ويرضى » (٤).

ولله درّ من قال :

أقرّ الحاسدون لهم بفضل

عوارفه قلائد في الهواد

بهم نال الهداية ذو ضلال

وهم نهج الدراية والرشاد

وهم عصم المرجّى ثم غوث

يفوق الغيث في السنة الجماد

محظتهم المودّة غير وانٍ

وأرجوا الأجر في صدق الوداد

وكم عاندت فيهم من عدوّ

وفيهم لا أخاف من العناد

ومن يك ذا مراد في أمور

فإنّ ولاهُم أقصى مرادي

أرجّيهم لآخرتي وأبغي

بهم نيل المطالب في المعاد

وما قدّمت من زاد سواهم

ونعم الزاد يوم البعث زادي

مناقبهم قد طبقت المشارق والمغارب ، وفضائلهم أعجزت الأعاجم والأعارب ، وفواضلهم غمّرت المتفسكل والذاهب ، ونوائلهم عمّت البعيد والصاحب ، وتناولت الأهل والأجانب.

فكم لهم من أياد هطلت بسيوب الإفضال ، ورشحت على رياض الوجود

__________________

(١) في المصدر : « السائق ».

(٢) في المصدر : « السائق ».

(٣) في المصدر : « السائق ».

(٤) رواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص ١٨٠ ـ ١٨١ وما بين المعقوفين منه ، وعنه المجلسي في البحار : ٢٧ : ٣١٣.

ورواه البحراني في معالم الزلفى : ١ : ١٧٧.

٢٣٢

بودق النوال ، وكم لهم من ألسن تنبئ عن ذي الجلال ، وأقلام حكمة برتها أيدي الكبير المتعال ، وعلوم لم تحط بها قلوب الرجال ، قد استعذب منها الرحيق الزلال ، وفاض منها العذب السلسال.

فهم والله الفيوض السجّال ، وهم علل الوجود في القدم والأزال ، وهم المميّزون بين الحرام والحلال ، صلوات الله وسلامه عليهم على ممرّ الأيّام والليال.

روي في كتاب كشف الغمّة عن علي بن أبي حمزة البطائني قال : خرج أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام في بعض الأيّام [ من المدينة ] إلى ضيعة له خارجة عن المدينة فصحبته وكان عليه‌السلام راكباً على بغلة وأنا على حمار [ لي ] ، فلمّا صرنا في بعض الطريق اعترضنا أسد فأحجمت أنا عنه [ خوفاً ] وأقدم أبو الحسن عليه‌السلام [ غير مكترث به ، فرأيت الأسد يتذلّل لأبي الحسن ويهمهم ، فوقف له أبو الحسن عليه‌السلام ] عليه كالمصغى [ إلى همهمته ] ، فوضع الأسد يده على كفل بغلته ، فرعبت نفسي من ذلك رعباً عظيماً ، فمكثت هنيئة ثمّ تنحّى عن الطريق ، فحوّل أبو الحسن عليه‌السلام وجهه إلى القبلة وجعل يدعو ، فحرّك شفتيه بما لم أفهم ، ثمّ أومأ بيده إلى الأسد أن امض ، فهمهم الأسد همهمة طويلة وأبو الحسن عليه‌السلام يقول : « آمين آمين » ، فانصرف الأسد حتّى غاب عنّا ، ومضى أبو الحسن عليه‌السلام لوجهه ، فلمّا بعدنا عن الموضع قلت له جعلت فداك ، ما شأن هذا الأسد ؟ فقد خفت منه والله عليك ، وعجبت من شأنك معه !

قال أبو الحسن عليه‌السلام : « إنّه خرج يشكو إلَيّ عسر ولادة لبوته (١) وسألني أن أسأل الله [ تعالى ] أن يفرّج عنها ففعلت [ ذلك ] ، فألقى الله في روعي أنّها تلد [ له ] ذكراً فخبّرته بذلك ، فقال لي : امض في حفظ الله ، فلا سلّط الله عليك ولا على ذريّتك ولا على [ أحد من ] شيعتك شيئاً من السباع ، فقلت آمين » (٢).

__________________

(١) في المصدر : « عسر الولادة على لبوته ».

(٢) كشف الغمة : ٣ : ١٧ مع اختلاف في الألفاظ ، وما بين المعقوفات منه.

٢٣٣

وروي في الكتاب المذكور عن محمّد بن عبد الله السكري (١) قال : قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني فقلت : لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى عليه‌السلام فشكوت إليه ، فأتيته [ بنقمى ] (٢) في ضيعته ، فخرج إليّ ومعه غلام بيده منسف فيه قديد مجزّع (٣) ليس معه غيره ، فوضعه فأكل وأكلت معه ، وسألني عن حاجتي فذكرت له قصّتي ، فدخل فلم يقم إلاّ يسيراً حتّى خرج ، ثمّ قال لغلامه : « اذهب » ، ومدّ يده فدفع إلَيّ صُرّة فيها ثلاث مئة دينار ، ثمّ قام وعاد إلى ضيعته ، وقمت وركبت وانصرفت (٤).

وروي في الكتاب المذكور أنّ رجلاً من ولد عمر بن الخطّاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى عليه‌السلام ويسبّه إذا رآه ويشتم عليّاً عليه‌السلام فقال له أصحابه : دعنا نقتل هذا الفاجر ، فنهاهم عن ذلك وزجرهم أشدّ الزجر ، وسأل عن العمري فأخبر أنّه خرج إلى زرع له ، فخرج إليه ودخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمري : لا توطئ زرعنا ، فتوطّاه أبو الحسن عليه‌السلام بالحمار حتّى وصل إليه ، فنزل وجلس وباسطه وضاحكه وقال : « كم غرمت على زرعك هذا » ؟

__________________

ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، والراوندي في الخرائج : ٢ : ٦٤٩ / ١ ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب : ٤٥٦ / ٣٨٤ ، والفتّال في روضة الواعظين : ص ٢١٤ ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٣٢٣ ثم قال : وقد نظم ذلك :

واذكر الليث حين ألقى لديه

فسعى نحوه وزار وزمجر

ثمّ لمّا رأى الإمام أتاه

وتجافى عنه وهاب وأكبر

وهو طاو ثلاث هذا هو الحقّ

وما لم أقله أوفى وأكثر

(١) في بعض نسخ المصدر : « البكري ».

(٢) قال الحموي في مادة « نقم » من معجم البلدان : نَقمى ـ بالتحريك والقصر ـ : موضع من أعراض المدينة كان لأبي طالب.

(٣) مجزع : أي مقطع.

(٤) كشف الغمّة : ٣ : ١٨ وما بين المعقوفين منه.

ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٢٣٣ ، والخطيب في تاريخ بغداد : ١٣ : ٢٨ وعنه المزي في تهذيب الكمال : ٢٩ : ٤٥.

٢٣٤

قال : مئتي دينار.

قال : « فكم ترجو أن تحصل فيه (١) » ؟

قال : لست أعلم الغيب.

قال : « إنما قلت لك : كم ترجو » ؟

قال : أن تجيء فيه مئتي دينار.

فأخرج له أبو الحسن عليه‌السلام صرّة فيها ثلاث مئة دينار وقال : « هذا زرعك على حاله ، والله يرزقك ما ترجوه ».

قال : فقام العمري وقبّل رأس الإمام وسأله أن يصفح عمّا فرط منه ، فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف إلى بيته ، ثمّ خرج إلى المسجد فوجد العمري جالساً هناك ، فلمّا نظر إليه قال : الله أعلم حيث يجعل رسالته.

قال : فوثب إليه أصحابه وقالوا : ما قصّتك ؟ قد كنت تقول غير هذا.

فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو إلى أبي الحسن عليه‌السلام ، فخاصموه ، فلمّا رجع أبو الحسن عليه‌السلام إلى داره قال لأصحابه الّذين أشاروا بقتل العمري : « كيف رأيتم ؟ أصلحت أمره وكفيتكم (٢) شرّه » (٣).

ولله درّ من قال من الرجال الأبدال على الآل :

نوّهت باسمه السماوات والأرض

كما نوّهت بصبح ذكاها

وغدت تنشر الفضائل عنه

كلّ قوم على اختلاف لغاها

__________________

(١) في المصدر : « أن يحصل منه ».

(٢) في المصدر : « وكفيت ».

(٣) كشف الغمة : ٣ : ١٨.

ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٢٣٣ ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبييّن : ٤١٣ ، والخطيب في تاريخ بغداد : ١٣ : ٢٨ وعنه الذهبي في سير أعلام النبلاء : ٦ : ٢٧١ ، والطبري في دلائل الإمامة : ٣١١ ، والفتّال في روضة الواعظين : ٢١٥ ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٣٤٤ ، والطبرسي في إعلام الورى : ٢ : ٢٦.

٢٣٥

وصفوا ذاته بما كان فيها

من صفات كمن رأى مرآها

وتمنّوه بكره وأصيلاً

كلّ نفس مشغوفة بمناها

طربت باسمه الثرى فاستطالت

فوق علويّة السماء سفلاها

ثمّ أثنت عليه إنس وجنّ

وعلى مثله يحقّ ثناها

روي في كتاب كشف الغمّة عن أحمد بن عبد الله (١) بن عمار يرفعه إلى مشايخه قالوا : جعل الرشيد ابنه في حجر جعفر بن محمّد بن الأشعث ، فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك وقال : إن أفضيت إليه الخلافة تزول دولتي ودولة ولدي ، فاحتال على جعفر بن محمّد ـ وكان يقول بالإمامة ـ حتّى داخله [ وأنس به ] وكان يكثر غشيانه في منزله [ فيقف على أمره ] ويرفعه إلى الرشيد ويزيد عليه في ذلك بما يقدح به قلبه ، ثم قال لبعض ثقاته : تعرفون لي رجلاً من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرّفني ما أحتاج إليه ؟ فدُلّ على عليّ بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد ، فحمل إليه يحيى بن خالد مالاً ، وكان موسى عليه‌السلام يأنس بعليّ بن إسماعيل ويصله ويبرّه ، ثمّ أنفذ إليه يحيى بن خالد يرغّبه في قصد الرشيد لعنه الله ويعده بالإحسان إليه ، فعمل على ذلك ، فأحسّ به موسى عليه‌السلام فدعا به فقال : « إلى أين يا ابن أخي » ؟

قال : إلى بغداد.

قال : « وما تصنع ».

قال : عَلَيّ دَين وأنا مملق.

فقال له موسى عليه‌السلام : « أنا أقضي دينك وأفعل بك وأصنع ».

فلم يلتفت إلى ذلك وعمل على الخروج ، فاستدعاه أبو الحسن عليه‌السلام فقال له : « أنت خارج » ؟

قال : نعم ، لابدّ لي من ذلك.

__________________

(١) في المصدر : « عبيد الله ».

٢٣٦

فقال له : « انظر يا ابن أخي واتّق الله ولا تُؤتِم أطفالي (١) ». وأمر له بثلاث مئة دينار وأربعة آلاف درهم.

فلمّا قام من بين يديه ، قال أبو الحسن عليه‌السلام لمن حضره : « والله ليسعينّ في دمي وليؤتمنّ (٢) أولادي » !

فقالوا : جعلنا الله فداك ، وأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله ؟!

قال : « نعم ، حدّثني أبي ، عن آبائه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله ، وإنّي (٣) أردت بذلك أن أصله بعد قطعه حتّى إذا قطعني قطعه الله ».

قالوا : فخرج عليّ بن إسماعيل حتّى أتى يحيى بن خالد ، فتعرّف منه خبر موسى بن جعفر عليه‌السلام ورفعه إلى الرشيد لعنه الله ، فسأله عن عمّه فسعى به إليه وقال : إنّ الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب ، وإنّه اشترى ضيعة سمّاها اليسيرية بثلاثين ألف دينار ، فقال له صاحبها وقد أحضره المال : لا آخذ هذا النقد ولا آخذ إلاّ نقد كذا وكذا ، فأمر بذلك المال فردّ ، وأعطاه ثلاثين ألف دينار من النقد الّذي سأل بعينه.

فسمع ذلك منه الرشيد فأمر له بمئتي ألف درهم تثبّت (٤) على بعض النواحي ، فاختار بعض كور المشرق ، ومضت رسله لقبض المال وأقام ينتظرهم ، فدخل في بعض تلك الأيّام إلى الخلا فزحر زحرة (٥) خرجت منها حشوته كلّها ، فسقطت وجهدوا في ردّها فلم يقدروا ، فوقع لما به وجاءه المال وهو نزع ، فقال : ما أصنع به وأنا في الموت ؟!

__________________

(١) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « أولادي ».

(٢) في المصدر : « ويؤتمنّ أولادي ».

(٣) في المصدر : « إنّني ».

(٤) في المصدر : « تسبّب ».

(٥) زحر : أخرج صوته أو نفسه بأنين من عمل أو شدّة. ( المعجم الوسيط ).

٢٣٧

وخرج الرشيد لعنه الله في تلك السنة إلى الحجّ وبدأ بالمدينة فقبض على أبي الحسن عليه‌السلام (١).

وروي عن محمّد بن الحسن المعروف بالورّاق ، عن محمّد بن أحمد بن السمط قال : حدثني الرواة المذكورون أنّ موسى بن جعفر عليهما‌السلام كان في حبس هارون الرشيد بمسجد المسيّب من الجانب الغربي بباب الكوفة ، لأنّه قد نقل إليه من دار السندي بن شاهك وهي الدار المعروفة بدار ابن عمرويه ، وكان قد فكّر الرشيد في قتله بالسّم ، فدعا بالرطب وأكل منه ، ثمّ أخذ صينيّة ووضع فيها عشرين رطبة وأخذ سلكاً ففركه (٢) بالسمّ وأدخله في سمّ الخياط وأخذ رطبة من تلك الرطب ، وجعل يردّد ذلك السلك المسموم فيها حتّى علم أنّه قد مكن السمّ منها ، واستكثر من ذلك ، ثمّ أخرج السلك منها وقال لخادم له : احمل هذه الصينيّة لموسى بن جعفر وقل له : إنّ أمير المؤمنين أكل من هذا الرطب وتنغّص لك ، وهو يقسم عليك بحقّه لمّا أكلته عن آخر رطبة لأنّي اخترته لك بيدي ، ولا تتركه يبقي منه شيئاً ولا يطعم منه أحداً.

فأتاه الخادم وأبلغه الرسالة ، فقال له موسى : « آتني بخلالة ». فأتاه بها ، وناوله إيّاها ، وقام بإزائه وهو يأكل الرطب ، وكان للرشيد كلبة أعزّ عليه من كلّ ما في مملكته ، فجذبت نفسها وخرجت تجرّ سلاسلها من ذهب وفضة وجواهر منظومة حتّى عادت إلى موسى بن جعفر عليه‌السلام فبادر بالخلالة إلى الرطبة المسمومة فغرزها (٣) ورمى بها إلى الكلبة ، فأكلتها الكلبة فلم تلبث أن ضربت بنفسها الأرض وعوت وتقطّعت قطعاً ، واستوفى موسى باقي الرطب ، وحمل الخادم

__________________

(١) كشف الغمّة : ٣ : ٢٠ في سبب شهادته عليه‌السلام.

ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٢٣٧ ـ ٢٤٣ ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ٤١٤ ـ ٤١٨ ، والشيخ الطوسي في الغيبة : ٢٦ ـ ٣١ ح ٦.

(٢) أخذ سلكاً ففركه : أي أخذ خيطاً فدلكه.

(٣) غرزها : أي فأدخلها.

٢٣٨

الصينيّة وصار بها إلى الرشيد ، فقال له : أكل الرطب عن آخره ؟ قال : نعم. قال : فكيف رأيته ؟ قال : ما أنكرت منه شيئاً.

ثمّ ورد عليه خبر الكلبة وأنّها تهرّت وماتت ، فقلق هارون الرشيد لعنه الله لذلك قلقاً شديداً واستعظمه ، فوقف على الكلبة فوجدها متهرّية بالسم ، فأحضر الخادم ودعا بالسيف وقال : أصدقني عن خبر الرطب وإلاّ قتلتك.

فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي حملت الرطب إلى موسى بن جعفر فأبلغته كلامك وقمت بإزائه ، فطلب خلالة فأعطيته ، فأقبل يغرز رطبة رطبة ويأكلها حتّى مرّت به الكلبة ، فغرز رطبة ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها وأكل هو باقي الرطب وكان ما ترى.

فقال الرشيد لعنه الله : ما ربحنا من موسى إلاّ أن أطعمناه جيّد الرطب وضيّعنا سمّنا وقتل كلبتنا ، ما في موسى في حيلة !

ثمّ إنّ موسى بن جعفر عليه‌السلام بعد ثلاثة أيّام دعا بمسيّب الخادم وكان به موكّلاً ، فقال له : « يا مسيّب ».

فقال : لبيك يا مولاي.

قال : « اعلم أني ظاعن (١) في هذه الليلة إلى المدينة مدينة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأعهد إلى من فيها يعمل بعدي به » (٢).

قال المسيب : قلت : يا مولاي ، كيف تأمرني والحرس معي على الأبواب أن أفتح لك الأبواب وأقفالها ؟!

فقال عليه‌السلام : « يا مسيّب ، أضعفت نفسك في الله عزّ وجل وفينا » (٣).

قال : لا يا سيّدي.

قال : « فمَه ».

__________________

(١) الظعن : السير والسفر.

(٢) الظعن : السير والسفر.

(٣) في المصدر : « يا مسيّب ، ضعف يقينك بالله عزّ وجل وفينا ».

٢٣٩

قال المسيّب : فقلت : متى يا مولاي ؟

فقال عليه‌السلام : « يا مسيّب ، إذا مضى من هذه الليلة المقبلة ثلثاها فقف وانظر ».

قال المسيّب : فحرّمت على نفسي الاضطجاع تلك الليلة ، ولم أزل راكعاً وساجداً ومنتظراً ما وعدني ، فلمّا مضى من الليلة ثلثاها نعست وأنا جالس ، وإذا أنا بمولاي يحرّكني برجله ، ففزعت وقمت قائماً ، فإذا أنا بتلك الجدران المشيّدة والأبنية وما حولها من القصور والحجر قد صارت كلّها أرضاً والدنيا من حواليها فضاء ، وظننت مولاي أنّه قد أخرجني من الحبس الّذي كان فيه ، فقلت : مولاي ، أين أنا من الأرض ؟

قال عليه‌السلام : « في محبسي يا مسيّب ».

فقلت : يا مولاي ، فخذ لي من ظالمي وظالمك.

فقال عليه‌السلام : « أتخاف من القتل ».

فقلت : يا مولاي ، معك لا.

فقال عليه‌السلام : « يا مسيّب ، فاهدأ على جملتك فإني راجع إليك بعد ساعة واحدة ، فإذا ولّيت ذلك فسيعود محبسي إلى بنيانه ».

فقلت : يا مولاي ، فالحديد لا تقطعه ؟!

فقال عليه‌السلام : « يا مسيب ، ويحك ألان الله الحديد لعبده داود عليه‌السلام ، فكيف يتصعّب علينا الحديد » ؟!

قال المسيّب : ثمّ خطا بين يديّ خطوة ، فلم أدر كيف غاب عن بصري ، ثمّ ارتفع البنيان وعادت القصور إلى ما كان عليه ، واشتدّ اهتمامي بنفسي ، وعلمت أنّ وعده الحقّ ، فلم يمض إلاّ ساعة كما حدّ لي حتّى رأيت الجدران قد خرّت إلى الأرض سجوداً وإذا أنا بسيّدي عليه‌السلام قد عاد إلى محبسه في الحبس وعاد الحديد إلى رجله ، فخررت ساجداً لوجهي بين يديه ، فقال : « ارفع رأسك يا مسيّب ، واعلم أنّ سيّدك راحل إلى الله جلّ اسمه ثالث هذا اليوم الماضي ».

قلت له : يا مولاي : وأين سيّدي عليّ الرضا عليه‌السلام ؟

٢٤٠