مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

المصرع الثامن عشر

مصرع حسن العسكري عليه‌السلام

أيّها الطائفون بكعبة الولاية ، والعاكفون في الحرم الهداية ، والساعون في صفا المروّة ، والمهرولون بين صفا الوداد والمروة ، اقتلوا نفوس الابتهاج واصطادوا حمام حرم العزلة للأولاد والأزواج ، وانحروا بمنى الوداد قربان النفوس ، واحلقوا بموسي اللطام مفارق الرؤوس ، وانزعوا ثياب إحرام الدعابة عن الأبدان ، والبسوا مخيط الكآبة والأحزان ، ومسّوا من طيب الإخلاص اذكاه ، واستنشقوا من عطري الخلاص ريّاه ، فقد تُلّ إسماعيل آل محمّد للجبين ، وبات إبراهيم آل أحمد لهذا المصاب خدين ، وغدت فاطمة على ذبيحها بادية التعداد دائمة المراثي والإنشاد ، فما الخنساء في عصرها ، ولا حزنها على صخرها (١) بأعظم من كريمة المصطفى وحليلة المرتضى ، فالخنساء أصيبت بأخيها فصارت أيّامها كلياليها ، وأما فاطمة الزهراء فقد فجعت بجميع أولادها النجباء ، فأيّ المصابين أعظم ؟ وأيّ البحرين أعمق وأفعم ؟ من أصيب بأخ واحد ، أو من فجع باثني عشر إماماً أماجد ؟ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولله درّ من قال من الرجال :

وثواكل في النوح تسعد مثلَها

أرأيت ذا ثَكَلٍ يكون سعيدا

حنّت فلم تر مثلهنّ نوائحاً

إذا ليس مثلُ فقيدهنّ فقيدا

لا العيس تحكيها إذا حنّت ولا

الورقاء تحسن عندها التعديدا

إن تنع أعطت كلّ قلب جمرة

أو تَدعُ صدّعت الجبال الميدا

عبراتها تحيى الثرى لو لم تكن

زفراتها تدع الرياض همودا

__________________

(١) تقدّم ترجمتهما في ص ٢١٩.

٢٨١

تدعو بلهفة ثاكل لغب الأسى

بفؤاده حتّى انطوى مفئودا

تخفى الشجا جلداً فإن غلب الجوى

ضعفت فأبدت شجوها المكمودا

نادت فقطّعت القلوب بصوتها

لكنّ ما انتظم البيان فريدا

روي في كتاب المعالم مرفوعاً إلى عمرو بن أبي المقدام قال : سمعت أبا عبد الله [ عليه‌السلام ] يقول : « خرجت أنا وأبي حتّى إذا كُنّا بين القبر والمنبر ، وإذا نحن بأناس من الشيعة ، فسلّم عليهم أبي ، ثمّ قال : والله إني لأُحبّ روائحكم (١) وأرواحكم ، فأعينوني على ذلك بالورع والاجتهاد (٢) ، واعلموا أنّ ولايتنا لا تُنال إلاّ بالورع (٣).

أنتم (٤)شيعة الله ، أنتم أنصار الله ، أنتم السابقون الأوّلون ، وأنتم السابقون الآخرون ، وأنتم السابقون في الدنيا والآخرة (٥) قد ضَمنّا لكم الجنّة بضمان الله عزّ وجلّ وضمان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله ما على درجات الجنّة أكثر أرواحاً منكم ، فتنافسوا في فضائل الدرجات ، أنتم الطيّبون ، ونساؤكم الطيبات ، كلّ مؤمنة حوراء عيناء ، وكل مؤمن صِدّيق (٦).

__________________

(١) في الكافي : « رياحكم ».

(٢) في الكافي : « رياحكم ».

(٣) في الكافي : « بالورع والإجتهاد ، ومن ائتمّ منكم بعبد فليعمل بعمله ».

(٤) في الكافي : « وأنتم » ، وكذا في الموردين الآتيين.

(٥) في الكافي : « والسابقون في الآخرة ».

(٦) زاد بعده في الكافي : ولقد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لقنبر : « يا قنبر ، ابشر وبشّر واستبشر ، فوالله لقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على أمته ساخط إلاّ الشيعة.

ألا وإنّ لكل شيء عزّاً وعزّ الإسلام الشيعة.

ألا وإنّ لكلّ شيء دعامة ودعامة الإسلام الشيعة.

ألا وإنّ لكلّ شيء ذروة وذروة الإسلام الشيعة.

ألا وإنّ لكلّ شيء شرفاً وشرف الإسلام الشيعة.

ألا وإنّ لكلّ شيء سيّداً وسيّد المجالس مجالس الشيعة.

٢٨٢

ولقد قال عليه‌السلام : إلاّ وإنّ لكلّ شيء جوهراً وجوهر وُلد آدم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن وشيعتنا بعدنا ، حبّذا شيعتنا ما أقربهم من عرش الله وحسن صنع الله إليهم (١) يوم القيامة.

والله لولا أن يتعاظم الناس ذلك أو يدخل به على شيعتنا زهو (٢) لسلّمت عليهم الملائكة قبلاً.

والله ما من عبد من شيعتنا يتلو القرآن في صلاته قائماً إلاّ وله بكلّ حرف مئة حسنة ، ولا قرأ في صلاته جالساً إلاّ وله بكلّ حرف خمسون حسنة ، ولا في غير صلاة إلاّ وله بكلّ حرف عشر حسنات ، وإنّ للصامت منهم أجر (٣) من قرأ القرآن من مخالفيهم (٤).

وهم والله على فرشهم نيام لهم أجر المجاهدين ، وهم والله في صلاتهم لهم (٥).

__________________

ألا وإن لكل شيء إماماً وإمام الأرض أرض تسكنها الشيعة.

والله لولا ما في الأرض منكم ما رأيت بعين عشباً أبداً.

والله لولا ما في الأرض منكم ما أنعم الله على أهل خلافكم ، ولا أصابوا الطيّبات ، ما لهم في الدنيا ولا لهم في الآخرة من نصيب ، كلّ ناصب وإن تعبّد واجتهد منسوب إلى هذه الآية : ( عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً ) [ الغاشية : ٣ ـ ٤ ] ، فكلّ ناصب مجتهد فعمله هباء. شيعتنا ينطقون بنور الله عزّ وجلّ ، ومن يخالفهم ينطقون بالتفلّت.

والله ما من عبد من شيعتنا ينام إلاّ أصعد الله عزّ وجلّ روحه إلى السماء فيبارك عليها ، فإن كان قد أتى عليها أجلها جعلها في كنوز رحمته وفي رياض جنّته وفي ظلّ عرشه ، وإن كان أجلها متأخرّاً بعث بها مع أمنته من الملائكة ليردّوها إلى الجسد الّذي خرجت منه لتسكن فيه.

والله إنّ حاجّكم وعمّاركم لخاصّة الله عزّ وجلّ ، وإن فقراءكم لأهل الغنا ، وإنّ أغنياءكم لأهل القناعة ، وإنّكم كلّكم لأهل دعوته وأهل إجابته.

(١) في الكافي : « ما أقربهم من عرش الله عزّ وجلّ وأحسن صنع الله بهم ».

(٢) في الكافي : « أو يدخلهم زهو ».

(٣) في الكافي : « وإنّ للصامت من شيعتنا لأجر ».

(٤) في الكافي : « ممّن خالفه ».

(٥) في الكافي : « أنتم والله على فرشكم نيام لكم أجر المجاهدين ، وأنتم والله في صلاتكم لكم ».

٢٨٣

أجر الصافّين في سبيل الله ، وهم والله الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم (١) : ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ) (٢).

إنّ لشيعتنا أربعة أعين (٣) : عينان في الرأس وعينان في القلب ، قد فتح الله أبصارهم وأعمى أبصار غيرهم (٤) » (٥).

فيا لها من بشارة تسرّ قلوب أولي النهى ، وحجة قاطعة تُدحض شبهة أرباب الغوى ، قد كشفت جلابيب المذلّة والتهوين ، عن وجوه شيعة أمير المؤمنين ، وثبتت قواعد الملّة النبويّة ، ومهّدت مباني الفرقة الإثنا عشرية ، ( مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا ) (٦) ، ولله درّ من قال من الرجال :

بني الوحي يا كهف الطريد ومن بهم

يلوذ فينجو الخائف المترقّب

منازلكم للنازلين مرابع

يريف بها عاف ويخصب مجدب

وأيديكم للسائلين سحائب

يهلّ بها عذب النوال ويسكب

وأسيافكم يوم الضبا يوم فاقة

لها الهام مُلهىً والترائب ملعب

ومجدكم ذاك الّذي كفّ فاقتي

تمدّ له دون البرايا وتنصب

__________________

(١) في الكافي : « وأنتم والله الذين قال الله عزّ وجلّ : ونزعنا ».

(٢) في الكافي : « وأنتم والله الذين قال الله عزّ وجلّ : ونزعنا ».

(٣) في الكافي : « إنّما شيعتنا أصحاب الأربعة أعين ».

(٤) في الكافي : « وعينان في القلب ، إلاّ وإنّ الخلائق كلّهم كذلك ، إلاّ إنّ الله عزّ وجلّ فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم ».

(٥) ورواه الكليني في الكافي : ٨ : ٢١٢ ح ٢٥٩ و٢٦٠ مع زيادة ذكرناها في الهامش ، وعنه المجلسي في البحار : ج ٦٨ ص ٨٠ ح ١٤١.

ورواه الصدوق في الأمالي : المجلس ٩١ ، الحديث ٤ وفي فضائل الشيعة : ص ٥١ ح ٨ ، والشيخ الطوسي في أماليه : المجلس ٢ الحديث ٩٠ والمجلس ٤٣ ح ٦ ، وفي ترتيب الأمالي : ج ٦ ص ٢٦٦ و ٢٣٤.

وقريباً منه رواه فرات في تفسيره : ص ٥٤٩ رقم ٧٠٥ في تفسير سورة الغاشية ، وعنه في البحار : ٧ : ٢٠٣ ح ٩٠ وفي ج ٢٧ ص ١٠٨ ح ٨١.

(٦) سورة الكهف : ١٨ : ١٧.

٢٨٤

وعيني إليكم لا إلى من عداكم

وإن كان من قد كان ترنو وترقب

وقصد سواكم لا تؤّم ركائبدي

وإن هو بالنعماء واديه مخصب

فيأسٌ تراه النفس منكم وخيبة

أحبّ لقلبي من سواكم وأرغب

ومنعكم لي أيّ نعما وغيركم

نداه ردىً أشقى به وأعذّب

وخُلّب برقٍ منكم فوق مطلبي

وبَرق السوا عندي وإن جاد خلّب

وحسبي إذاً ما كان حبّي أنتم

ويا ربّ حبّ حسبه ليس يحسب

روي في كتاب المجالس أنّ مولد الإمام أبي محمّد الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام كان في يوم الاثنين عاشر ربيع الآخر سنة اثنين وثلاثين ومئتين (١).

وظهرت له مناقب قلصت أوهام أولى الكمال عن إدراكها ، وتأخّرت أرباب سبق الجلال عن مجاراتها ، قلّد من المزايا العليّة أطواق الفخار ، وتقلّد من الصفات العلوية جوامع الافتخار.

روي في كتاب كشف الغمّة عن الحسن بن محمّد الأشعري [ ومحمّد بن يحيى وغيرهما ] قالوا : كان [ أحمد بن ] عبيد الله بن خاقان شديد النصب لأهل البيت عليهم‌السلام وكثير الانحراف عنهم ، فجرى يوماً في مجلسه ذكر العلويّة ومذهبهم ،

__________________

(١) حكاه الكفعمي في المصباح : ص ٥١١ في أعمال شهر ربيع الثاني ، وحكى أيضاً القول بأنّه في الرابع من ربيع الثاني. ورواه عنه المجلسي في البحار : ج ٥٠ ص ٢٣٨.

وانظر الإرشاد للشيخ المفيد : ج ٢ ص ٢١٣ ، وإعلام الورى للطبرسي : ص ٣٤٩ ، وتاج المواليه له أيضاً : ( مجموعة نفيسة : ص ١٣٣ ) ، وكشف الغمّة للإربلي : ج ٣ ص ١٩٤ و ٢١٧ و ٢٢٠.

وقال ابن طلحة في مطالب السؤول : ص ٣٠٩ باب ١١ : مولده سنة إحدى وثلاثين ومئتين للهجرة ، ورواه عنه الإربلي في كشف الغمة : ٣ : ١٩٢.

ومثله حكاه ابن الخشاب في مواليد الأئمّة ووفياتهم : ( مجموعة نفيسة : ١٩٩ ) ، وعنه الإربلي في كشف الغمّة : ٣ : ٢٠٦.

٢٨٥

فقال (١) : ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلا من العلويّة مثل الحسن بن علي بن محمّد بن علي الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبره عند أهل بيته وبني هاشم كافّة وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر ، وكذلك كانت حالته عند القوّاد والوزراء وعامة النّاس ، فأذكر أنّي كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو يحاسب النّاس فدخل بعض حجّابه فقال : أبو محمّد ابن الرضا بالباب. فنادى أبي بصوت عالي : ائذنوا له.

فتعجّبت منه ومن جرأة الحجاب كيف يكنّون رجلاً بحضرة أبي ، وكان لا يكنّى بحضرته أحدٌ من الناس سوى الخليفة أو وليّ عهده [ أو من أمر السلطان أن يكنّى عنده ] ، فبينما نحن كذلك إذ دخل رجل أسيم حسن القامة جميل الوجه جيّد البدن حدث السنّ له جلالة وهيبة حسنة ، فلمّا نظر إليه أبي قام قائماً على قدميه واستقبله خطوات ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد قبل هذا ، فلمّا دنى منه عانقه وقبّل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاّه الّذي كان يجلس عليه مقبلاً إليه بوجهه يكلّمه ويفديه بنفسه ، وأنا متعجّب ممّا أرى منه.

فبينما أنا كذلك إذ دخل الحاجب فقال : الموفّق قد جاء ، وكان الموفّق إذا دخل على أبي يقدمه حجّابه وخاصّته ، فقاموا بين مجلس أبي وباب الدار سماطين إلى أن دخل ، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمّد الحسن يحدّثه حتّى إذا نظر إلى غلمان الخاصة قد دخلوا ، فقال له أبي : إذا شئت انصرف ، جعلني الله فداك. فقام عليه‌السلام وقام أبي وعانقه ، ثمّ قال لحجّابه : خذوا به خلف السماطين لئلاّ يراه هذا الداخل. فمضى الحسن عليه‌السلام.

فقلت لحجّاب أبي وغلمانه : ويلكم ، من هذا الّذي كنّيتموه بحضرة أبي ، وفعل

__________________

(١) في المصدر : « كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان على الضياع والخراج بقم ، فجرى يوماً في مجلسه ذكر العلويّة ومذاهبهم ، وكان شديد النصب والإنحراف عن أهل البيت عليهم‌السلام ، فقال ».

٢٨٦

به أبي هذا الفعل ؟

فقالوا لي : هذا علويّ يقال له : الحسن بن علي بن محمّد بن الرضا.

فازددت تعجبّاً من أبي ، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكّراً في أمره وأمر أبي وما رأيته منه ، حتّى إذا كان الليل وكانت عادة أبي إذا صلّى العتمة يجلس وينظر ما يحتاج إليه من المؤامرات وما يرفعه إلى السلطان ، فلمّا صلّى وجلس جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد ، فقال لي : يا أحمد ، ألك حاجة ؟

قلت : نعم يا أبت ، فإن أذنت لي سألتك عنها.

قال : قد أذنت لك ، قل.

قلت : يا أبت ، مَن الرجل الّذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل ، وفديته بنفسك وأبويك ؟

فقال : يا بُنيّ ، ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي المعروف بابن الرضا.

ثمّ سكت ساعة [ وأنا ساكت ] وقال : يا بُنّي ، لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقّها أحد من بني هاشم غيره ، لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وحسن أخلاقه وصلاحه وتقواه ، ولو رأيت يا بُني أباه فإنه كان رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً.

فازددت قلقاً وغيظاً [ وتفكّراً ] على أبي ممّا سمعته منه ورأيته من فعله. فلم يكن لي همّة بعد ذلك إلاّ السؤال عن خبره والبحث عن أمره ، فما سألت أحداً من بني هاشم أو القوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر النّاس إلاّ وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرفيع والقول الجميل والتقديم على جميع أهل بيته ومشايخه ، فعظم قدره عندي إذ لم أر له وليّاً ولا عدوّاً إلاّ وهو عنده حسن القول والفعل.

فقال له بعض من حضر مجلسه [ من الأشعرييّن ] : ما تقول في أخيه جعفر ، وكيف كان منه في المحلّ ؟

فقال : اسكت ، ومَن جعفر حتّى تسألني عن خبره أو تقرنه إلى أبي محمّد ،

٢٨٧

جعفر رجل مُعلن بالفسق ، فاجر شريب للخمر ، أقلّ من رأيته من الرجال ، أهتكهم لنفسه ، خفيف الميزان ، والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي ، فما نظرت إليه ولا عرفت من هو ، وأمّا ابن الرضا لمّا اعتلّ بعث إلى أبي فركب من ساعته إلى دار الخلافة ورجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلّهم من ثقاته وخاصته ، فأمرهم بلزوم دار أبي محمّد عليه‌السلام وتعرّف أخباره ، وبعث إلى نفر من الم‍ [ ت‍ ] طبّبين وأمرهم بالاختلاف إليه وتعهّده صباحاً ومساءاً ، فلمّا كان بعد يومين أخبر أنّه قد ضعف ، فركب حتّى بكّر إليه بنفسه وأمر الم‍ [ ت‍ ] طببّين بلزوم داره ، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره وأمره أن يختار عشرة ممّن يثق بهم في دينهم وورعهم وإمامتهم ، فبعث بهم إلى دار أبي محمّد وأمرهم بلزومه [ ليلاً ونهاراً ، فلم يزالوا هناك حتّى توفّي عليه‌السلام ] (١).

__________________

(١) كشف الغمّة : ج ٣ ص ١٩٧ في مناقبه وآياته ، وما بين المعقوفات منه ، وزاد بعده :

فلمّا ذاع خبر وفاته صارت سرّ من رأى ضجّة واحدة ، وعطلت الأسواق وركب بنو هاشم والقوّاد والكتاب والقضاة والمعدلون وسائر الناس إلى جنازته ، فكانت سرّ من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة ، فلمّا فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكّل فأمره بالصلاة عليه ، فلمّا وضعت الجنازة للصلاة عليه دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلويّة والعبّاسيّة والقواد والكتّاب والقضاة والمعدلين ، وقال : هذا الحسن بن علي بن محمّد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه ، وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ، ومن المتطببيّن فلان وفلان. ثمّ غطى وجهه وصلّى عليه وأمره بحمله.

ولمّا دفن جاء جعفر أخوه إلى أبي فقال له : اجعل لي مرتبة أخي ، أنا أوصل إليك في كلّ سنة عشرين ألف دينار ! فزبره أبي وأسمعه ما كره ، وقال له : يا أحمق ! السلطان أطال الله بقاءه جرّد بسيفه في الذين يزعمون أن أباك وأخاك أئمّة ليردّوهم عن ذلك ، فما تهيّأ له ذلك ، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى سلطان يرتّبك مراتبهم ولا غير سلطان ، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لا تنالها بنا. فاستقلّه أبي عند ذلك واستضعفه وأمر أن يحجب عنه ، فلم يأذن له في الدخول عليه حتّى مات أبي ، وخرجنا وهو على تلك الحال ، والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي اليوم وهو لا يجد إلى ذلك سبيلاً ، وشيعته

٢٨٨

يا راكباً يسري على جسرة

قد غبّرت في أوجه الضمّر

عرّج بسامرّا والثم ثرى

أرض الإمام الحسن العسكري

عرّج على من جدّه صاعد

ومجده عال على المشتري

على الإمام الطاهر المجتبى

على الكريم الطيّب العنصر

على وليّ الله في عصره

وابن خيار الله في الأعصر

على كريم صوب معروفه

يزري على صوب الحيا الممطر

على إمام عدلُ أحكامه

تسلّط العرف على المنكر

وبلّغاه عن عبيد الإله

تحيّة أذكى من العنبر

وقل سلام الله وقف على

ذاك الجناب الممرع الأخضر

فلا غرو ، فهو عليه‌السلام بيت القصيدة ، ومكان الواسطة والفريدة ، فكيف تقاس النجوم بالجنادل ، وأين فصاحة قس من بهامة باقل ، فهو فارس العلوم الّذي لا يجارى ، ومبين الغوامض فلا يجادل ولا يبارى ، كاشف الحقائق بنظره الصائب ، ومظهر الدقائق بفكره الثاقب ، مالك أزمّة الكشف والنظر ، مفسّر الآي والسور ، المخجل بضوء طلعته بهاء الشمس ونور القمر ، وارث السادة الخير ، وابن الأئمّة الغرر ، وأبو الإمام المنتظر ، فانظر إلى الفرع والأصل وحدّد النظر ، واقطع بأنّ طيب الأصل دليل على طيب الثمر ، وإن شئت معرفة نعوته والأثر ، فتصفّح وجوه التواريخ وعيون السير ، فأقسم بالله العظيم ، والرسول الكريم ، أنّ صفاته دون مقداره ، وأنّى لي باستقصاء نعوته وأخباره ، وأنّ اللسان عن تعداد بعض مزاياه لقصير ، وطرف البلاغة عن الإحاطة بكنه فضائله لحسير ، فليرجع عن شأوه من رام السباق ، وليلو عنان فكرته من طمع في معرفته على الإطلاق.

وروي في كتاب الراوندي بإسناده عن أبي الأديان قال : كنت أخدم الحسن

__________________

مقيمون على أنه مات وخلّف ولداً يقوم مقامه بالإمامة.

والحديث رواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٣٢١.

٢٨٩

بن علي العسكري عليه‌السلام وأدخل له كتب الأمصار (١) ، فدخلت عليه في العلّة الّتي توفي فيها ، فكتب معي كتاباً وقال : « امض به إلى المدائن ، فإنّك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل سرّ من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري بل تجدني (٢) على المغتسل ».

قال أبو الأديان : قلت : يا سيّدي ، فإذا كان الأمر كذلك ، فمن آتيه بعدك ؟

قال : « من يطالبك (٣) بجواب كتبي ، فهو القائم بعدي ».

[ فقلت : زدني.

قال : « من يصلّي علَيّ فهو القائم بعدي ».

فقلت : زدني.

قال : « فمن خبّر بما في الهميان فهو القائم بعدي ». ]

ثمّ منعتني هيبته من أن أسأله عن شيء غير ذلك (٤) ، فخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها ، ودخلت سرّ من رأي يوم الخامس عشر من سفري كما قال عليه‌السلام ، فإذا أنا بالواعية في داره ( والرنة قد فشت في أهله وجواره.

وكان ذلك يوم وفاته عليه‌السلام وهو يوم الجمعة ثامن ربيع الأوّل سنة ستّين ومئتين ، وقد مضى مسموماً سمّه المعتمد ، وعمره ثمان وعشرون ) (٥).

قال أبو الأديان : فدخلت الدار فوجدته على المغتسل وأخوه جعفر الكذّاب آخذ بباب الدار والشيعة من حوله يعزّونه ويهنّؤونه ، فقلت في نفسي : إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة ، لأنّي كنت أعرفه بشرب الخمور واللعب بالطنبور (٦) ، فتقدّمت إليه وعزّيت وهنّيت ، فلم يسألني عن شيء قطّ.

__________________

(١) في المصدر : « وأحمل له كتبه إلى الأمصار ».

(٢) في المصدر : « وتجدني ».

(٣) في المصدر : « من طالبك ».

(٤) في المصدر : « عن أسأله ما في الهميان ».

(٥) ما بين القوسين ليس في المصدر.

(٦) في المصدر : « أعرفه بشرب النبيذ ، ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور ».

٢٩٠

ثمّ خرج عقيل (١) غلام العسكري فقال : يا سيّدي قد كُفّن أخوك ، فقم فصلّ عليه.

فدخل والشيعة من حوله ، [ فلمّا صرنا في الدار ] فإذا نحن بمولاي الحسن بن علي مكفّناً على سريره فتقدّم جعفر ليصلي ، فلمّا همّ بالتكبير خرج علينا صبيّ صغير بوجهه سمرة ذو شعر قطيط فلج الأسنان ، فجذب رداء جعفر وقال : « تأخّر يا عم ، فأنا أحقّ بالصلاة منك » (٢).

فتأخّر جعفر وقد انتقع لونه ، وتقدّم الصبيّ وصلّى على أبيه عليه‌السلام [ ودفن إلى جانب قبر أبيه ، ] ثمّ التفت إليّ وقال : « يا بصري ، هات جواب الكتب الّذي معك » (٣). فدفعتها إليه ، فقلت في نفسي : هذه علامتان ، وبقي الهميان ، ثمّ خرجت إلى جعفر وهو يزفر حنقاً ، فقلت له : من الصبي ؟ (٤) قال : والله ما رأيته قطّ ولا عرفته.

قال أبو الأديان : فبينما نحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي فعرّفوا بموته ، قالوا : فمن بعده ؟ فأشار بعض الناس إلى جعفر ، فسلّموا عليه وعزّوه وقالوا : معنا كتب ومال ، فعرّفنا ممن الكتب وكم المال ؟

فقام جعفر ينفض أثيابه وقال : تريدون منّا أن نعلم الغيب ؟! [ وخرج جعفر ].

قال أبو الأديان : فجاء غلام ـ وفي نسخة خادم ـ وقال لهم : معكم كتاب فلان وفلان [ وفلان ] ، وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير ، منها مطليّة. فدفعوا الكتب والمال وقالوا : إنّ الّذي وجّه [ بك ] لأخذ المال هو الإمام.

قال أبو الأديان : فعلمت صحة ما قال أبو محمّد الحسن عليه‌السلام من أمر الهميان ، فدخل جعفر الكذّاب على المعتمد فكشف له وجود ولد الحسن عليه‌السلام ، فوجّه

__________________

(١) في كمال الدين : « عقيد ».

(٢) في المصدر : « أحقّ بالصلاة على أبي ».

(٣) في المصدر : « جوابات الكتب الّتي معك ».

(٤) في المصدر : « فقال حاجز الوشاء : يا سيّدي ، من الصبي ؟ ».

٢٩١

المعتمد بعض خدمه (١) فقبضوا على صقيل (٢) الجارية وطالبوها بالصبيّ فأنكرته وادّعت حبلاً به لتغطّى حال الصبي ، [ فسلّمت ] على (٣) ابن أبي الشوارب القاضي ، فبلغهم موت عبد الله بن يحيى بن خاقان ، فجئته فخرج صاحب البصرة (٤) وسلمت الجارية ، والحمد لله ربّ العالمين ، ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٥). (٦)

لقد خابت الآمال وانقطع الرجا

بموتك مات العلم والدين والزهد

وأضحت ثغور الكفر تبسم فرحة

وعين العلى ينخدّ من سحّها الخدّ

وصوّح نبتُ الفضل بعد اخضراره

وأصبح بدر التم قد ضمّه اللحد

فليس لأخذ الثار إلاّ خليفة

هو الخلف المأمول والعلم الفرد

هو القائم المهدي والخلف الّذي

إذا سار أملاك السماء له جند

يشيّد ركن الدين عند ظهوره

علوّاً وركن الشرك والكفر ينهدّ

فغصن الهدى يضحى وريقا ونبته

أنيقاً وداعي الحقّ ليس له ضدّ

لعلّ العيون الرمد تحظى بنظرة

إليه فتُجلى عندها الأعين الرمد

إليك انتهى سرّ النبييّن كلّهم

وأنت ختام الأوصياء إذا عدّوا

نور مشرق من أنوار ، وسلالة طاهرة من أطهار ، وغصن فخر من سرحة فخار ، وثمرة كريمة من الدوحة العليا ، ونبعة قويمة من الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وأخباره عليه‌السلام كلّها عيون ، وسيرته السريّة كاللؤلؤ الموضون

__________________

(١) في المصدر : « فوجّه المعتمد بخدمه ».

(٢) في بعض نسخ المصدر : « صيقل ».

(٣) في المصدر : « إلى ».

(٤) في المصدر : « وخروج صاحب الزنج بالبصرة ».

(٥) في المصدر : « وخروج صاحب الزنج بالبصرة ».

(٦) الخرائج والجرائح : ج ٣ ص ١١٠١ ح ٢٣ وجميع ما بين المعقوفات منه.

ورواه الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة : ج ٢ ص ٤٧٥ ، وعنه المجلسي في البحار : ج ٥٠ ص ٣٣٢ ح ٤ ، وج ٥٢ ص ٦٧ ح ٥٣.

٢٩٢

ومقالاته قيد القلوب ونزهة العيون ، ومصابه الفادح قد عطّل المفروض والمسنون ، ورزؤه القادح قد حبّبت إلى النفوس المنون ، فعلى مثله فلتجري الشؤون وليبذل مذخور الدمع المصون ، أو لا تكونون أيها المؤمنون ، والشيعة المخلصون ، كمن تسربل بسرابيل الشجون ، وفجّر من صياخيد نواظره العيون ، ورثاه بما سنح له وهو المتيّم المحزون.

٢٩٣

المصرع التاسع عشر

وهو مصرع محمّد بن الحسن عليهما‌السلام

إخواني ، لا وصول إلى مقامات العلا إلاّ بمقاسات البلاء وتجرّع كاسات العناء ، من طلب الدرّ شرب الأجاج المرّ ، ومن أمل المناصب ركب السباسب ، فاحمدوا ربّكم إذ أكرمكم بسلامة الفطرة ، وخصّكم بإصابة الفكرة ، وأعززكم بالنفس الناطقة ، وميّزكم بالفراسة الصادقة ، وأنطقكم بالحكم البالغة ، وأيّدكم بالبراهين الدامغة ، وصرفكم عن مذاهب الشهوات ، وأرشدكم في غياهب الشبهات ، وبنور وجهه هداكم ، وفي فنا قربه آواكم.

أبدعكم بالنون والكاف ، ورقّمكم في سجلّ الأشراف ، وجعلكم عباده الصالحين ، وأبان لكم طريقه المبين ، أيّدكم بأكرم خلقه وأشرفهم ، وأعلمهم به وأعرفهم ، أزكاهم عرقاً ، وأطهرهم خلقاً ، محمّد المحمود بالفعال ، والمعهود بالجود والإفضال ، صلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرين ، وعترته آل طه ويس ، صلى الله عليهم أجمعين.

رويدك إن أحببت نيل المطالب

فلا تعد عن ترتيل آي المناقب

مناقب آل المصطفى المهتدى بهم

إلى منهج التقوى وأسنى الرغائب

مناقب آل المصطفى قدوة الورى

بهم يبتغي مطلوبه كلّ طالب

مناقب تجلى سافرات وجوهها

ويجلو سناها مدلهم الغياهب

عليك بها سرّاً وجهراً فإنّها

تحلّك عند الله أعلى المراتب

روي في كتاب إرشاد المفيد عن حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا عليهم‌السلام قالت :

٢٩٤

بعث إليّ أبو محمّد سنة ست وخمسين (١) ومئتين في النصف من شعبان فقال لي : « يا عمّة ، اجعلي إفطارك عندي ، فإنّ الله عزّ وجلّ سيبشّرك بوليّه وحجتّه على خلقه ؛ خليفتي من بعدي ».

قالت حكيمة : فتداخلني من ذلك سرور شديد ، وخرجت من ساعتي حتّى انتهيت إلى أبي محمّد عليه‌السلام وهو جالس في صحن داره وجواريه حوله ، فقلت : جعلت فداك يا سيدي ، الخلف بمن هو ؟

فقال عليه‌السلام : « من سوسن ».

فأدَرْت طرفي فلم أر جارية عليها أثر غير سوسن.

قالت حكيمة : فلمّا أن صلّيت المغرب والعشاء جاءت المائدة فأفطرت أنا وسوسن وبتّ معها في بيت واحد ، فغفوت غفوة ثمّ استيقظت ، فلم أزل متفكّرة فيما وعدني أبو محمّد عليه‌السلام في أمر وليّ الله ، فقمت قبل الوقت الّذي كنت أقوم فيه كلّ ليلة لصلاة الليل وبلغت إلى الوتر ، فوثبت سوسن فزعة وخرجت وأسبغت الوضوء ثمّ عادت فصلّت صلاة الليل حتّى انتهت إلى الوتر ، فوقع في قلبي أنّ الفجر قد قرب ، فقمت لأنظر فإذا أنا بالفجر الأوّل قد طلع ، فتداخل قلبي الشكّ من وعد أبي محمّد عليه‌السلام ، فناداني : « لا تشكّي ، فإنّك بالأمر الساعة ترينه إن شاء الله تعالى ».

قالت حكيمة : فاستحيت من أبي محمّد وممّا دخل بقلبي ، فرجعت إلى البيت وأنا خجلة.

قالت حكيمة : فوثبت إلى نرجس ـ وهي سوسن ـ وقابلتها ظهراً وبطناً ، فلم أر بها من أثر الحبل شيئاً ، فأخبرته بما فعلت ، فتبسّم ثم قال لي : « إذا جاء وقت الفجر ظهر لك بها الحبل ، لأنّ مثلها مثل أمّ موسى ، لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد إلاّ وقت ولادتها ، لأنّ فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى ، وهذا نظير موسى ».

__________________

(١) في سائر المصادر : « سنة خمس وخمسين ».

٢٩٥

قالت حكيمة : فلم أزل أرقبها إلى طلوع الفجر وهي نائمة لا تنقلب جنباً عن جنب حتّى إذا كان في آخر الليل وقت طلوع الفجر وثبت فزعة ، فضمّيتها إلى صدري وسمّيت عليها ، فصاح بي أبو محمّد : « يا عمّة ، اقرئي ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ».

فأقبلت اقرأ عليها كما أمرني ، فأجابني الجنين من بطنها يقرأ كما أقرأ ، وسلّم علَيّ.

قالت حكيمة : ففزعت لمّا سمعت منه ذلك ، فصاح بي أبو محمّد : « لا تعجبي من أمر الله عزّ وجلّ ، إن الله تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغاراً ويجعلنا حجة في خلقه كباراً ».

وكان صلوات الله وسلامه عليه يقرأ القرآن وهو حمل في البطن ويتكلّم ويعبد الله ربّه عزّ وجلّ.

قالت حكيمة : فقرأت عليها ( الم ) السجدة و ( يس ) ، فبينما أنا كذلك وإذا هي قد وثبت فزعة ، فوثبت إليها ودنوت منها وقلت : اسم الله عليك ، هل تحسّين شيئاً ؟

قالت : نعم.

قلت : أجمعي نفسك وقلبك. وصرت أرقبها وأنا فرحة مسرورة بها ، وعليها من النور ما يحير فيه العقل ، فنعست والتفّت فإذا قد غيّبت عنّي فلم أرها ، وضرب بيني وبينها حجاب ، ففزعت لذلك وأشفقت عليها وصرت حائرة ، فعند ذلك مضيت إلى أبي محمّد عليه‌السلام وأنا صارخة ، فلمّا رآني ناداني وقال لي : « لا عليك يا عمّة ، ارجعي إليها فإنّك ستجدنيها في مكانها ».

قالت حكيمة : فرجعت إليها فلم ألبث إلاّ قليلاً حتّى رفع الحجاب الّذي بيني وبينها وإذا عليها من النور ما يغشى الأبصار ، فأخذتني فترة ، فلمّا فتحت بصري وانتبهت وإذا بالحجّة صلوات الله عليه وقد ولد ، والنور يشرق من غرّته وهو كالبدر في تمّه وكماله ، رافعاً سبّابته نحو السماء يشير بها وهو يتلقّى الأرض

٢٩٦

بمساجده ساجداً على الأرض لربّه تعالى.

قالت حكيمة : فدنوت منه فوجدته طاهراً مطهراً مختوناً مسروراً منضفاً جاثياً على الأرض قائلاً : « أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمّداً رسول الله ». وعلى عضده مكتوب : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (١) ، ورائحة نجوه كالمسك تستره الأرض بابتلاعه ، وكان ذاكراً لربّه مستقبلاً للقبلة بوجهه حامداً لله ، وعطس ثلاثاً قائلاً : « الحمد لله ربّ العالمين ، وصلى الله على محمّد وآله عبداً ذاكراً لله غير مستنكف ولا مستكبر ».

ثم قال : « زعمت الظلمة أنّ حجّة الله داحضة ، ولو أذن لي في الكلام لزال الشكّ » (٢).

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ : ١١٥.

(٢) لم أجده في الإرشاد ، والحديث رواه مفصلاً ـ مع مغايرات ـ الشيخ الصدوق في كمال الدين : ج ٢ ص ٤٢٤ باب ٤٢ ح ١ قال : حدثنا محمّد بن الحسن بن الوليد رضي‌الله‌عنه قال : حدثنا محمّد بن يحيى العطار قال : حدثنا أبو عبد الله الحسين بن رزق الله قال : حدثني موسى بن محمّد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام قال : حدثتني حكيمة بنت محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام قالت : بعث إليّ أبو محمّد الحسن بن علي عليهما‌السلام فقال : يا عمّة ، اجعلي إفطاركِ [ هذه ] الليلة عندنا ، فإنّها ليلة النصف من شعبان ، فإنّ الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجّة وهو حجته في أرضه.

قالت : فقلت له : ومَن أمّه ؟ قال لي : نرجس.

قلت له : جعلني الله فداك ؛ ما بها من أثر !

فقال : هو ما أقول لك.

قالت : فجئت فلمّا سلّمت وجلست جاءت تنزع خُفّي وقالت لي : يا سيّدتي [ وسيّدة أهلي ] ، كيف أمسيت ؟ فقلت : بل أنت سيّدتي وسيّدة أهلي.

قالت : فأنكرت قولي وقالت : ما هذا يا عمّة ؟.

قالت : فقلت لها : يا بُنيّة ، إن الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة. قالت : فخجلت واستحيت.

٢٩٧

__________________

فلمّا أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة أفطرت وأخذت مضجعي فرقدت ، فلمّا أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث ثمّ جلست معقّبة ، ثم اضطجعت ثمّ انتبهت فزعة وهي راقدة ، ثمّ قامت وصلّت ونامت.

قالت حكيمة : وخرجت أتفقّد الفجر فإذا أنا بالفجر الأوّل كذنب السرحان وهي نائمة ، فدخلني الشكوك ، فصاح بي أبو محمّد عليه‌السلام من المجلس فقال : لا تعجلي يا عمّة ، فهاك الأمر قد قرب.

قالت : فجلست وقرأت الم السجدة ويس ، فبينما أنا كذلك إذ انتبهت فزعة فوثبت إليها فقلت : اسم الله عليك ، ثمّ قلت لها : أتحسّين شيئاً ؟ قالت : نعم يا عمّة.

فقلت لها : اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك.

قالت : فأخذتني فترة وأخذتها فترة ، فانتبهت بحسّ سيّدي فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به عليه‌السلام ساجداً يتلقّى الأرض مساجده ، فضممته إليّ فإذا أنا به نظيف متنظّف ، فصاح بي أبو محمّد عليه‌السلام : هلمّي إلَيّ ابني يا عمّة. فجئت به إليه ، فوضع يديه تحت إليتيه وظهره ووضع قدميه على صدره ، ثمّ أدلى لسانه في فيه وأمرّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله ، ثمّ قال : تكلّم يا بُنيّ. فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم صلّى على أمير المؤمنين وعلى الأئمّة عليهم‌السلام إلى أن وقف على أبيه ، ثمّ أحجم.

ثم قال أبو محمّد عليه‌السلام : يا عمّة ، اذهبي به إلى أمّه ليسلّم عليها وائتني به. فذهبت به فسلّم عليها ورددته فوضعته في المجلس. ثم قال : يا عمّة ، إذا كان يوم السابع فائتينا.

قالت حكيمة : فلمّا أصبحت جئت لأسلّم على أبي محمّد عليه‌السلام فكشفت الستر لأتفقّد سيّدي عليه‌السلام ، فلم أره ، فقلت : جعلت فداك ، ما فُعل سيّدي ؟ فقال : يا عمّة ، استودعناه الّذي استودعته أم موسى موسى عليه‌السلام.

قالت حكيمة : فلمّا كان في اليوم السابع جئت فسلّمت وجلست ، فقال : هلمّي إليّ ابني. فجئت بسيّدي عليه‌السلام وهو في الخرقة ، ففعل به كفعلته الأولى ، ثمّ أدلى لسانه في فيه فكأنّه يغذّيه لبناً أو عسلاً ، ثمّ قال : تكلّم يا بُنيّ. فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وثنّى بالصلاة على محمّد وعلى أمير المؤمنين وعلى الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجميعن حتّى وقف على أبيه عليه‌السلام ، ثم تلا هذه الآية : بسم الله الرحمن الرحيم ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ

٢٩٨

وكان مولده عليه‌السلام ليلة الجمعة نصف شهر شعبان سنة ست وخمسين ومئتين ، وتاريخ مولده نور ، صلوات الله عليه.

فلا عجب منه وممّا ظهر من برهانه ، وزهر من ساطع بيانه ، فهو خليفة الله على البشر ، وحجّته المنتظر ، سيف الله ورايته ، عين الله وعنايته ، ولله درّ من قال من الرجال ، ولقد أجاد فيما قال :

أقول والنفس مُرخاة أزمّتها

يقودها الوجد من سهل إلى حزن

مهلاً فقد قربت أوقات منتظر

من عهد آدم منصور على الزمن

صباح مشرقها مصباح مغربها

مزيل محنتها عن كلّ ممتحن

أبو الفتوح الّذي تسمو به همم

يدوس بالنعل منها هامة الحصن

وتنظرين حكيماً من بني مضر

لولاه حين شفاء الدين لم يحن

يسطو بسيفين من بأس ومن كرم

يستأصلان عروق البُخل والجبن

بحر زاخر ، وسحاب هامر ، ونور زاهر ، وحسام باتر ، علامات كماله ظاهرة ، وسمات جلاله باهرة ، ومحاسن علائه سافرة ، وهو حجّة الله الظاهرة ، والوسيلة إليه في الدنيا والآخرة.

وأمّا مناقبه صلوات الله وسلامه عليه ومزاياه ، وصفات شرفه وسجاياه ، وما اجتمع فيه من الفضائل ، وخصّ به من المآثر الّتي فاق بها الأواخر والأوائل ، فهي لا يقوم بإثباتها البنان ، ولا ينهض بذكرها اللسان ، لأنّه أرفع مكانة ومحلاًّ ، وأوفى شرفاً ونبلاً ، فكيف تدرك العقول كنه جلاله ؟ أو تدري العلماء الفحول غاية حاله ؟

__________________

وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) [ سورة القصص : ٥ ].

قال موسى : فسألت عقبة الخادم عن هذه ؟ فقالت : صدقت حكيمة.

ورواه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة : ص ٢٣٤ ح ٢٠٤ ، وعنه في البحار : ٥١ : ١٧.

ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص ٣٩٤ ، والإربلي ملخصاً في كشف الغمة : ٣ : ٢٨٨.

وانظر هداية الكبرى للخصيبي : ص ٣٥٥ ح ٢٢٦ ، وعيون المعجزات للشيخ حسين عبد الوهاب : ص ١٤٢ وفيهما إضافات.

٢٩٩

روي في كتاب كشف الغمّة عن حكيمة بنت محمّد قالت : لمّا مضى من مولد مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام أربعون يوماً دخلت على أبي محمّد عليه‌السلام أزوره ، وإذا بمولانا الصاحب يمشي في الدار ، فلم أر وجهاً أحسن من وجهه ، ولا لغة أفصح من لغته ، فقال لي أبو محمّد عليه‌السلام : « هذا المولود الكريم على الله تعالى ».

فقلت له : يا سيّدي ، بلغ من عمر مولانا أربعون يوماً ولم أدر من أمره شيئاً.

فقال لي : « يا عمّة ، نحن معاشر الأوصياء ننشأ في اليوم كما ينشأ غيرنا في الجمعة ، وننشأ في الجمعة كما ينشأ غيرنا في السنة ».

فقمت وقبّلت رأسه وانصرفت ، وعُدتُ وتفقّدته فلم أره ، فقلت لمولانا أبي محمّد عليه‌السلام : ما فعل مولانا ؟

فقال : « يا عمّة ، استودعناه الذي استودعته أمّ موسى » (١).

وكان أبو محمّد عليه‌السلام لا يظهره إلاّ للخواصّ من شيعته وثقاته من أهل الإيمان ويحرّضهم على كتمان خبره خوفاً من الحاسدين والمشركين والمنافقين الّذين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره المشركون (٢).

وروي في كتاب المجالس عن يعقوب بن منقوش قال : دخلت على أبي محمد

__________________

(١) رواه الإربلي في كشف الغمّة : ٣ : ٢٩٠ عن حكيمة قالت : دخلت على أبي محمّد بعد أربعين يوماً من ولادة نرجس ؛ فإذا مولانا الصاحب يمشي في الدار ، فلم أر لغة أفصح من لغته ، فتبسّم أبو محمّد وقال : إنا معاشر الأئمة ننشأ في كلّ يوم كما ينشأ غيرنا في الشهر ، وننشأ في الشهر كما ينشأ غيرنا في السنة.

قالت : ثمّ كنت بعد ذلك أسأل أبا محمّد عنه ، فقال : استودعناه الذي استودعت أم موسى ولدها.

ورواه المسعودي في إثبات الوصيّة : ص ٢٥٠ مع إضافات كثيرة في أوّله ، والشيخ الطوسي في كتاب الغيبة : ص ٢٣٩ ح ٢٠٧ ، وعنه في البحار : ج ٥١ ص ٢٠ ح ٢٧.

(٢) اقتباس من الآية ٣٢ من سورة التوبة : ٩ ، والآية : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا ... وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ).

٣٠٠