مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وسلفه في الجاهلية أكرم من كلّ سلف ، لا تعرف الماديات إلاّ بهم ، ولا الفضل إلاّ فيهم ، صفوة اصطفاها الله واختارها ، فلا يغترّ الجاهل بأنّه قعد عن الخلافة بمثائرة من ثار عليها وجالد بها السلال المارقة والأعوان الظالمة ، ولئن قلتم ذلك كذلك إنما استحقّها بالسبق ، تالله ألكم حجة في ذلك ؟ هذا سبق صاحبكم إلى المواضع الصعبة ، والمنازل الشعبة ، والمعارك المرّة ، كما سبق إليها على الّذي لم يكن بالقبعة ولا الهبعة (١) ، ولا مُضغناً إلى الله ولا منافق (٢).

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يدرء عن الإسلام كلّ أصبوحة ، ويذبّ عن كلّ أمسية ، ويلج بنفسه في الليل الديجور الحلكوك (٣) مرصداً للعدو ، هو ذل (٤) تارة وتضكضك (٥) أخرى ، ويأرب لزبة آبيه قسيّة وأوان آن أرونان (٦) قذف نفسه في لهوات وشيجة وعليه زعفة ابن عمّه الفضفاضة ، وبيده خطية عليها سنان لهذم (٧) ،

__________________

(١) قبع القنفذ يقبع قبوعاً : أدخل رأسه في جلده ، وكذلك الرجال إذا أدخل رأسه في قميصه ، وامرأة قبعة طلعة : تقبع مرة وتطلع أخرى. والقبعة أيضا طُوَير ابقع مثل العصفور يكون عنده حجرة الجرذان ، فإذا فزع ورمي بحجر انقبع فيها.

وهبع هبوعاً : مشى ومدّ عنقه ، وكأنّ الأول كناية عن الجبن ، والثاني عن الزهو والتبختر. ( البحار ). وفي النسخة : « بالقعبة ولا الهيعة ».

(٢) في البحار : « ولا مضطغنا آل الله ولا منافقاً ».

(٣) الحلكوك ـ بالضم والفتح ـ : الأسود الشديد السواد. ( البحار ).

(٤) هو ذل في مشيه : أسرع. ( البحار ).

(٥) الضكضكة : مشية في سرعة ، وتضكضك : انبسط وابتهج ، والأخير أنسب .. ( البحار ).

(٦) في العدد والبحار : « لزبة آتية » ، واللزبة : الشدة. قوله : آتية : أي تأتي على الناس وتهكهم ، وفي بعض النسخ : « آبية » أي يأبى عنها الناس. والقسيّة : أي شديدة من قولهم : عام قسيّ أي شديد من حرّ أو برد. وآن : أي حار ، كناية عن الشدّة. يوم أرونان : صعب. ( البحار ).

(٧) وشجية : ما اشتبك من الحروب والأسلحة. والزعفة : الدرع اللينة. والفضفاض : الواسعة. والرماح الخطية : منسوبة إلى خط موضع باليمامة. واللهذم من الأسنة : القاطع. ( البحار ).

٢٠١

فبرز عمرو بن عبد ودّ القرم الأود (١) والخصم الألدّ ، والفارس الأشدّ ، على فرس عنجوج ، كأنه يجرّ نحره بالخيلوج ، فضرب قونسه ضربة قنّع (٢) بها عنقه.

أو نسيتم عمرو بن معدي كرب الزبيدي إذ أقبل يسحب دلدال (٣) درعه ، مدلاً بنفسه ، قد زحزح الناس عن أماكنهم ، ونهّضهم عن مواضعهم ، ينادي : أين المبارزون ، يميناً وشمالاً ، فانقضّ عليه كأسود ونيق أو كصيحورة (٤) منجنيق فوقصه وقص القطام بحجر (٥) الحمام وأتى به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كالبعير الشارد يقاد كرهاً وعينه تدمع وأنفه يرمع (٦) وقلبه يجزع.

وكم له من يوم عصيب برز فيه إلى المشركين بنيّة صادقة وقد كشف أميل أجمّ (٧) أعزل.

__________________

(١) القرم : البعير يتّخذ للفحل ، والسيّد. والأود : الاعوجاج ، والمراد به المعوج ، أو هو « الأرد » بالراء والدال المشددة لردة الخصام عنه. ( البحار ).

(٢) في البحار : « باليلنجوج ». العنجوج : الفرس الجيّد. واليلنجوج : العود الّذي يتبخّر به.

والقونس : أعلى البيضة من الحديد. وقنعت المرأة : ألبستها القناع ، وقنعت رأسه بالسود ضرباً. ( البحار ).

(٣) في البحار : « ذلاذل ». ذلاذل الدرع : ما يلي الأرض من أسافله. ( البحار ).

(٤) في البحار : « كسود نيق أو كصيخودة ». والسود كأنّه جمع الأسود بمعنى الحية العظيمة وإن كان نادراً. والنيق ـ بالكسر ـ : أعلى موضع من الجبل. ( البحار ).

وفي هامش العدد القوية : الصحيح « السوذنيق » والكلمة واحدة وزان زنجبيل ، ويضمّ أوّله ، بمعنى الصقر والشاهين ، وهو المناسب لقوله : « فأنقذ ».

والصيخودة : كأنّها بمعنى الصخرة وإن لم نرها في كتب اللغة. ( البحار ).

(٥) في البحار : « بحجره ».

وقص عنقه : كسرها. والقطام ـ كسحاب ـ : الصقر. ( البحار ).

(٦) رمع أنفه من الغضب : تحرّك. ( البحار ).

(٧) في العدد القوية والبحار : « وهو أكشف أميل أجم ».

الأكشف : من ينهزم في الحرب. والأميل : الجبان. والأجمّ : الرجل بلا رُمح. والأعزل : الرجل المنفرد المنقطع ومن لا سلاح معه. ( البحار ).

٢٠٢

ألا وإنّي أخبركم بخبر علي إنّه مني بأوباش كالمراطة بين لغموط (١) وحجابه ومقدّم ومهدّم حملت (٢) به شوهاء شهواء في أقصى مهيلها فأتت به محصناً ، وكلّها (٣) أهون على عليّ من سعدانة بقل (٤).

أفبهذا يستحقّ الهجاء ؟ أم بعزمه (٥) الحاذق وقوله الصادق وسيفه الفالق ؟ إنّما يستحقّ الهجاء من سامه إليه وأخذ الخلافة وأزالها عن الوراثة (٦) وصاحبها ينظر إلى فيئه ، وكأنّ الشبا مرع تلبسه (٧) حتّى إذا لعب بها فريق ، بعد فريق ، وخريق (٨) بعد خريق ، اقتصروا على ضراعة الوهز وكثرة البز (٩) ، ولو ردّوه إلى سمت الطريق والمرت (١٠) البسيط والتامور العزيز (١١) لألفوه (١٢) قائماً واضع الأشياء (١٣)

__________________

(١) الأوباش : الأخلاط والسفلة. والمراطة : ما سقط في التسريح أو النتف. واللغموط لم أجده في اللغة ، وفي القاموس : اللعمط كزبرج : المرأة البذيّة ، ولا يبعد كون الميم زائدة ، واللغط : الأصوات المختلفة والجلبة. ( البحار ).

(٢) في العدد القوية والبحار : « وحجابه وفقامه ومغذمر ومهزمر حملت ». فقم فلان : بطر وأشر ، والأمر لم يجر على استواء. وغذمره : باعه جزافاً ، والغذمرة : الغضب والسخط ، واختلاط الكلام والصياح ، والمغذمر : من يركب الأمور فيأخذ من هذا ويعطي هذا ويدع لهذا من حقّه. والهزمرة : الحركة الشديدة ، وهزمره : عنف به. ( البحار ).

(٣) في البحار : « فأتت به محضاً بحتاً ، وكلّهم ».

(٤) في العدد القوية والبحار : « سعدانة بغل ».

(٥) في البحار : « الهجاء وعزمه ».

(٦) في البحار : « الوراثة ».

(٧) في العدد القوية والبحار : « وكأنّ الشبادع تلسبه ». والشبادع : جمع شبدع بالدال المهملة كزبرج ، وهو العقرب. يقال : لسبته الحيّة وغيرها كمنعه وضربه لدغته. ( البحار ).

(٨) المراد بالخريق من يخرق الدين ويضيعه ، وكان يحتمل النون فيهما فالفرنق كقنفذ : الرديء ، والخرنق كزبرج : الرديء من الأرانب. ( البحار ).

(٩) في العدد القوية والبحار : « وكثرة الأبز ».

الوهز : الوطي ، والدفع ، والحث. والأبز : الوثب والبغي. ( البحار ).

(١٠) المرت : المفازة. ( البحار ).

(١١) التامور : الوعاء ، والنفس وحياتها ، والقلب وحياته ، ووزير الملك ، والماء ، ولكلّ وجه

٢٠٣

في مواضعها ، لكنّهم انتهزوا الفرصة واقتحموا الغصّة وآبوا (١٤) بالحسرة.

فتربّد وجه الوليد ، وغصّ بريقه ، وشرق بعبرته ، كأنّما فقئ (١٥) في عينه حبّ المض الحازق ، فأشار عليه بعض جلسائه بالإنصراف ، وهو لا يشكّ أنّه مقتول ، فانصرف فوجد بعض الأعراب داخلاً على الوليد فقال له : هل لك أن تأخذ خلعتي الصفراء وتدفع إليّ خلعتك السوداء وأجعل لك بعض الجائزة ؟ فقبل الأعرابي الداخل وأخذ وأعطى ، ثمّ استوى على راحلته وغاص في بيدائه وتوغّل في صحرائه (١٦) واعتقل الأعرابي الداخل فضربت عنقه وجيء برأسه إلى الوليد ، فقال : ليس هذا بصاحبنا ، وأنفذ الخيل السراع في طلبه فلحقوه بعد وناء (١٧) ، فلمّا أحسّ بهم أدخل يده في كنانته وجعل يخرج سهما بعد سهم يقتل به فارساً فارساً إلى أن قتل منهم أربعين فارساً وانهزم الباقون ، فجاءوا إلى الوليد فأخبروه بذلك ، فأغمي عليه يوماً وليلة ، فلمّا أفاق قال : يا قوم ، إني أجد على قلبي غمّة كالجبل من فوت الأعرابي. الحديث (١٨).

__________________

مناسبة. ( البحار ).

(١٢) في العدد القوية والبحار : « ألغوه ».

(١٣) في العدد القوية والبحار : « واضعاً الأشياء ».

(١٤) في العدد القوية والبحار : « وباؤا ».

(١٥) كأنّما فقئ : أي كأنما كسر حاذق لا يخطئ حبّاً يمض العين ويوجعها في عينه ، فدخل ماؤه فيها كحبّ الرمّان أو الحصرم ، عبّر بذلك عن شدة احمرار عينه. ( البحار ).

(١٦) في العدد القوية والبحار : « وغاص في صحرائه وتوغّل في بيدائه ».

(١٧) في العدد القوية والبحار : « لأى ». واللاى : الإبطاء والاحتباس والشدة.

(١٨) ورواه علي بن يوسف بن المطهر الحلي في العدد القوية : ص ٢٥٣ قال : روى أبو الحسن اليشكري قال : حدثني عمرو بن العلاء قال : حدثني يونس النحوي اللغوي قال : حضرت مجلس الخليل بن أحمد العروضي قال : حضرت مجلس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ، قال : وقد اسحنفر في سبّ علي واثعنجر في ثلبه ، إذ خرج عليه أعرابي على ناقة له وذفراها يسيلان لاغذاذ السير دماً ...

ورواه عنه المجلسي في البحار : ج ٤٦ ص ٣٢١.

٢٠٤

ولله درّ من قال من الرجال الأبدال :

أعلام دين راسخ لهم

في نشر كلّ فضيلة نشر

وهم الرياض المونقات لهم

في طيّ كلّ رياضة صدر

فكفاهم فخراً إذا افتخروا

ما دام حيّاً فيهم الفخر

وصلوا نهارهم بليلهم

نظراً وما لوصالهم فجر

وطووا على مضض سرائرهم

صبراً وليس لطيّهم نشر

يا غائبين متى بقربكم

من بعد وهن يجبر الكسر

الفيء منقسم لغيركم

وأكفّكم من فيئكم صفر

والمال حل للعصاة ويحرمه

الكرام السادة الغرّ

فنصيبهم منه الأعمّ على

عصيانهم ونصيبكم نزر

والناس في أمن وليس لهم

من طارق يغشاهم حذر

ويكاد من خوف ومن فزع

بكم يضيق البرّ والبحر

٢٠٥

لكنّه لابدّ من فرج

والأمر يحدث بعده الأمر

فوا حسرة الدين على قمر الفضائل ، كيف خسف بأيدي الجفاة الأراذل ، حمّلهم الحسد الخاذل والبغضاء والغوائل ، على إطفاء نور الله الكامل ، فعمدوا إلى وليّه الفاضل ، وحكمه الفاصل ، فأذاقوه السمّ القاتل ، وغيّبوا هيكله الشريف تحت رجام الجنادل.

روى أبو بصير قال : بعث الوليد بن عبد الملك إلى أبي جعفر الباقر عليه‌السلام بسرج مسموم وأمره بالركوب عليه ، فلما ركبه تورّمت قدماه وفخذاه وأعتل العلّة الّتي مات فيها ، فلمّا عزم على المصير إلى روح الله وريحانه ، وحلول منازل جنانه ، واشتاق إلى لقاء محبوبه ، ليفوز منه بنيل مطلوبه ، ودعاه هوى الآباء والأجداد ، وأشعلت نار شوقه نفحات الوداد ، أوصى إلى ابنه أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام حسب ما أمره القادر الخالق ونصّ عليه ، وسلّم مواريث آبائه إليه ، كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال :

« كنت عند أبي في اليوم الّذي قبض فيه ، فأوصاني بأشياء في تغسيله وتكفينه وقبره ».

قال الصادق عليه‌السلام : « فقلت له : جعلت فداك يا أبتاه ، والله ما رأيتك منذ شكوت أحسن منك هيئة اليوم ولست أرى عليك للموت أثراً. فقال لي : يا بُني ، إني سمعت جدّك عليّ بن الحسين ينادي من وراء الجدار : يا محمّد تعال وعجّل.

ثمّ قال لي : يا بُنيّ قم فأدخل علَيّ أناساً من قريش حتّى أشهدهم ».

قال الصادق عليه‌السلام : « فقمت وأتيته بأناس ، فقال لي : يا بني ، إذا أنا متّ فغسّلني وكفّني وارفع قبري أربع أصابع ، ورشّه بالماء.

فلمّا خرجوا قلت : يا أبت ، لو أمرتني بهذا صنعته ، فلأيّ شيء أمرتني بإدخال هؤلاء النفر ؟!

فقال لي : يا بُنيّ ، أردت أن لا تنازع في الإمامة ، ولا تختلف عليك الشيعة ،

٢٠٦

لأن كلّ من أوصى إليه السابق من الأئمة فهو الخليفة بعده.

وما زال عليه‌السلام يناجي ربّه ويدعوه حتّى قضى نحبه صلوات الله وسلامه عليه » (١).

وكانت وفاته في يوم الاثنين رابع ذي الحجّة سنة أربع عشر ومئة من الهجرة (٢).

فقامت الواعية من داره ، وعلا النحيب من نسائه وجواره ، وخرجت نساء بني هاشم مشقّقات الجيوب ، ناشرات الشعور ، خامشات الوجوه ، لاطمات الخدود ، فيا له من يوم ما أشدّه على آل الرسول ، وما أمضّه على عليّ والبتول ، فقد انطمس فيه المعقول والمنقول ، وغادر شمس الإمامة الأفول.

أو لا تكونون يا ذوي العقول ، كمن ألبسه يومه المهول ، أثواب الضنى والنحول ، وكدّر عليه هنيء المشروب والمأكول ، فرثاه وندبه بما صوّرته القرائح ، من المراثي والمدائح ، وأجرى عليه الدموع السوافح ، ولله درّه من راثٍ ونائح.

__________________

(١) وقريباً منه رواه الكليني في الكافي : ١ : ٣٠٧ باب الإشارة والنص على أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق صلوات الله عليهما : ح ٨ ، وعنه في البحار : ٤٦ : ٢١٤.

ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ١٨١ وعنه في البحار : ٤٧ : ١٣ ح ٩ من الباب ٩.

ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص ٢٦٨ ، والإربلي في كشف الغمة : ٢ : ٣٧٩.

وروى قسماً منه الصفار في بصائر الدرجات : ص ٤٨٢ ح ٦ من الباب ٩ من الجزء ١٠ مع اختلاف في الألفاظ ، وعنه في البحار : ٤٦ : ٢١٣ ح ٤ من الباب ١.

(٢) لاحظ الإرشاد للمفيد : ٢ : ١٥٨ ، والمناقب لابن شهر آشوب : ٤ : ٢٢٧ في أحواله وتاريخه عليه‌السلام ، وترجمة الإمام الباقر عليه‌السلام من تاريخ دمشق لابن عساكر : ص ١٦٣.

٢٠٧

المصرع الثالث عشر

وهو مصرع الصادق عليه‌السلام

ما لي أرى أرباب الإيمان في غفلة ساهين ، وأصحاب الأديان عمّا يراد بهم غافلين ، وبزهوة دني الدنيا لاهين ، وعلى نمارق غرورها متّكئين ، وفي سرر بهجتها راقدين ، ولمعانقة خودها (١) طالبين ، وعن سلوك مناهج الآخرة قاعدين ، وفي السعي لتحصيلها متوانين ، وعن نعيمها الدائم عمين ؟!

ما هذا شأن العاقلين ، ولا من عادة العارفين ، ويحهم أما كانوا بالنصوص سامعين ، أم سمعوا وما كانوا موقنين ، فأقسم بديّان الدين وبارئ الخلائق أجمعين ، إنّهم عن ذلك لمسؤولون ، وعلى القطمير والقنطار لمحاسبون ، وإنّهم إلى الآخرة لصائرون ، وبالعبور على جسر جهنّم لمكلّفون.

فتزوّدوا أيها المسافر ، فالطريق بعيد ، وتفقّه أيّها المتاجر لئلاّ ترتطم في بحار التفنيد ، وانظر بعين بصيرتك تكن بصيراً ، وصفّ مورد سريرتك تكن محبوراً ، واكتم أيّها العاشق فمحبوبك كتوم ، ومت بهواك أيّها الوامق فالرقيب نموم ، وخذ قول النبي المجيد ، واقتد بالعاشق الوحيد ، فقد أوضح لك الطريق ، وأوقفك على جادة التحقيق ، بقوله في كلامه المرويّ في صحيح الأسانيد : « من عشق فكتم فمات فهو شهيد » (٢).

__________________

(١) الخود : الشابّة الناعمة الحسنة الخَلْق ، جمعه خُود وخَودات.

(٢) تاريخ بغداد : ١١ : ٢٩٧ عن ابن عبّاس ، وفيه : « وعفّ فمات ».

كنز العمّال : ٣ : ٣٧٢ / ٦٩٩٩ عن عائشة ، وح ٧٠٠٠ خطيب عن ابن عباس ، و ٤ : ٤٢٠ / ١١٢٠٣ خطيب عن ابن عبّاس.

٢٠٨

ويك ، أتدّعي المحبة وتسلك غير طريق المحبوب ؟ وتزيّن قامتك بخلع الرغبة وأنت بعيد عن المطلوب ، جاف جنبك عن فراش الهناء إن كنت طامعاً في اللقاء ، وأنزح بقلبك عن مواطن القلى إن رمت الوصال في الحمى ، أترى المحبوب زائرك وأنت مرقوب ؟ وتتمنّى الإستراحة بقربه وقلبك بهوى غيره متعوب ؟ ألم يرفع لك أعلام الهداية الواضحة ، ويوقفك على نجوم الدراية اللائحة ؟ فما حجتك في التواني ؟ وما وسائلك في ترك القرب والتداني ؟ ألم يبلّغك على لسان النبي الأوّاه : ( قُلْ [ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَ‍ ] اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) (١) ؟ ألم يعرّفك شأن العشّاق بلا اشتباه بقوله : ( الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ ) (٢) ؟

فدونك الرفيق فقد أمن الطريق ، وقد وقفت على التحقيق ، فإيّاك والتعويق ، الطريق محمّد وآله ، ومتابعة دين الحقّ ورجاله ، فهم سرّ الله المخزون ، وأولياؤه المقربّون ، وهم الكاف والنون ، إلى الله يدعون ، وعنه يقولون ، وبأمره يعملون ، وفي ذلك سرّ مصون ، ومن أنكر ذلك فهو شقيّ ملعون ، فكلّما في الذكر الحكيم ، والكلام القديم ، من آية تذكر فيها العين والوجه واليد والجنب والحقّ والصراط ، فهم هم ، لأنّ ظاهرهم باطن الصفات ، وهم السرّ المستودع في الكلمات ، أما سمعت قول النبي الهادي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ لله أعيناً وأيادي ».

فهم الجنب العليّ ، والوجه الرضي ، والمثل الرويّ ، والصراط السويّ ، والوسيلة إلى الله ، والوصلة إلى عفوه ورضاه ، فهم عين الأحد ، فلا يقاس بهم من الخلق أحد ، وهم خاصة الله وخالصته ، وسرّ الديان وكلمته.

__________________

البداية والنهاية : ١١ : ١٢٥ ، الجامع الصغير للسيوطي : ٢ : ٢٦٣ /٨٨٥٣ ، سبل الرشاد والهدى للصالحي الشامي : ١٢ : ٩٣ باب ٣٩ ، فيض القدير : ٦ : ٢٣٢ / ٨٨٥٢ ، شرح النهج لابن أبي الحديد : ٢٠ : ٢٣٣.

(١) سورة آل عمران : ٣ : ٣١.

(٢) سورة البقرة : ٢ : ١٦٥.

٢٠٩

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل

وملت إلى ذكرى حبيب ومنزل

ونادتني الأشواق ويحك هذه

منازل من تهوى فدوك فانزل

عد يا قلب إلى هواك الراسخ ، ودع عنك لمع البرق اللائح ، وانفرد فليس الجمع من حزبك ، ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ ) (١) ، أنّى للمعدم واللذات ، وأنّى للعليل وعناق الغانيات ؟ كيف يستر قلب من أصيب بهداته ، وحطم الدهر نواجم لذّاته ؟ أبعد مصاب الإمام الناطق للقلب سرور ؟ وبعد قتل الحجّة الصادق يتهنّى المحبّ بحبور ؟ هيهات ما ذلك شأن الموالين ، بل هو فعل القالين.

تقاضي النوى منّا فما في ظلاله

مقيل ولا ممّا جناه مقيل

فحسبي إذ شطّت بكم غربة النوى

علاج نحول لا يكاد يحول

أروم بمعتلّ الصبائر غلّتي

وأعجب ما يشفى الغليل عليل

لعل الصبا إن شطّت الدار أو نأى

مثالكم أو عزّ منك مثيل

أحيّي الحيا إن صاب من صوب أرضكم

يباريه من مرّ النسيم رميل

تمرّ بنا في الليل وهناً عسى بها

يداوى عليل أو يبلّ غليل

سرى وبريق الثغر وهناً كأنّما

لديّ بريق الثغر منك يذيل

وأنشأ شمال الغور لي منك نشأة

غشاه بمعتلّ الشمال شمول

أمتهمة قلبي مع البين سلوة

ومتهمة في الركب ليس تؤل

روي في كتاب الراوندي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « علمنا غابر ومزبور ، ونكت في القلوب ، ونقر في الأسماع ، وعندنا الجفر الأبيض والجفر الأحمر ، أمّا الجفر الأبيض فهو التوراة ، وأمّا الجفر الأحمر فهو سلاح رسول

__________________

(١) سورة الفجر ٨٩ : ٢٨.

٢١٠

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعندنا مصحف فاطمة وهو علم ما يكون من الحوادث واسم من يملّك منّا إلى يوم القيامة ، وعندنا الجامعة وهي ما يحتاج النّاس إليه من أمور دينهم ، وعندنا الصحيفة وفيها اسم مَن وُلد ومن يولد إلى يوم القيامة ، ذلك فضل الله علينا وعلى الناس ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون » (١).

وروي في كتاب المجالس أنّ مولد الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام كان يوم الاثنين سابع [ عشر ] ربيع الأوّل سنة ثلاث وثمانين من الهجرة (٢).

__________________

(١) رواه الراوندي في الخرائج : ٢ : ٨٩٤ قال : وكان عليه‌السلام يقول : « علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ونقر في الأسماع ، وإنّ عندنا الجفر الأحمر والجفر الأبيض ومصحف فاطمة عليها‌السلام ، وإنّ عندنا الجامعة الّتي فيها جميع ما يحتاج النّاس إليه ».

فسئل عن تفسيرها فقال : « أما الغابر فالعلم بما يكون ، وأمّا المزبور فالعلم بما كان ، وأمّا النكت في القوب فالإلهام ، والنقر في الأسماع حديث الملائكة نسمع كلامهم ولا نرى أشخاصهم ، وأمّا الجفر الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولن يخرج حتّى يقوم قائمنا أهل البيت ، وأمّا الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود ، وفيها كتب الله الأولى ، وأمّا مصحف فاطمة ففيه ما يكون من حادث واسماء كلّ من يملك إلى أن تقوم الساعة ، وأمّا الجامعة فهي كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فلق فيه وخطّ علي بن أبي طالب بيده ، فيه والله جميع ما يحتاج النّاس إليه إلى يوم القيامة ، حتّى أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة ».

وقال : « ألواح موسى عندنا ، وعصا موسى عندنا ، ونحن ورثة النبييّن ، حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث علي بن أبي طالب ، وحديث علي حديث رسول الله ، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ ».

ورواه الكليني في الكافي : ١ : ٢٦٤ ح ٣ وص ٢٣٩ ح ١ من باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها‌السلام من كتاب الحجة ، والصفار في بصائر الدرجات : ص ١٥١ ح ٣ من الباب ١٤ وأحاديث قبله وبعده ، والمفيد في الإرشاد : ٢ : ١٨٦ ، والطبرسي في الاحتجاج : ٢ : ٢٩٤ برقم ٢٤٦ ، والإربلي في كشف الغمة : ٢ : ٣٨١ ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٢٩٨ في معالي أموره عليه‌السلام.

(٢) ورواه ـ مقتصراً على سنة الولادة ـ الكليني في الكافي : ١ : ٤٧٢ ، وابن الخشاب في مواليد

٢١١

وروي أيضاً في كتاب النوادر يرفعه إلى عبد العظيم [ بن عبد الله ] الحسني قال : دخل عمر [ و ] بن عبيد البصري على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فلمّا سلّم وجلس تلا هذه الآية : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ ) (١) ، ثمّ سأل عن الكبائر ، فأجابه عليه‌السلام فخرج أبو عبيد وله صراخ وبكاء وهو يقول : هلك والله من عمل برأيه ونازعكم في الفضل (٢).

وروي في كتاب ثواب الأعمال عن المعلّى بن خنيس قال : خرج أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام في ليلة قد رشت السماء وهو يريد ظلّة بني ساعدة ، فاتبعته فإذا [ هو ] قد سقط منه شيء فقال : « بسم الله ، اللهمّ ردّه (٣) علينا ».

[ قال : ] فأتيته فسلمت عليه ، [ ف‍ ] قال : « أنت معلّى » ؟

قلت : نعم ، جعلت فداك.

فقال لي : « التمس بيدك ، فما وجدت من شيء فادفعه إليّ ».

قال : فإذا بخبز متنشّر ، فجعلت أدفع إليه ما أجد (٤) ، فإذا أنا بجراب مملوء

__________________

الأئمة : ( مجموعة نفيسة : ص ١٨٥ ) ، والمفيد في الإرشاد : ١٧٩.

وقال الطبرسي في إعلام الورى : ص ٢٦٦ : ولد بالمدينة لثلاث عشر ليلة بقيت من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثمانين من الهجرة.

قال : المجلسي في البحار : ٤٧ : ١ : ٢ : قال الشهيد في الدروس : ولد عليه‌السلام بالمدينة يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأوّل سنة وثلاث وثمانين. ومثله في تاريخ الغفاري وفي الجدول من مصباح الكفعمي : [ ص ٥٢٣ ].

ومثله في المناقب لابن شهر آشوب : ٤ : ٣٠١ في تواريخ وأحواله عليه‌السلام ، والحلّي في العدد القويّة : ص ١٤٧.

وفي تاريخ ولادته قول آخر ، راجع البحار : ٤٧ : ١.

(١) سورة الشورى : ٤٢ : ٣٧ ، والنجم : ٥٣ : ٣٢.

(٢) ورواه ابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٢٧٣ مع إضافات.

(٣) في المصدر : « ردّ ».

(٤) في المصدر : « ما وجدت ».

٢١٢

خبزاً (١) ، فقلت له : جعلت فداك ، ( دعني ) (٢) أحمله عنك.

فقال : « لا ، أنا أولى منك بحمله (٣) ، ولكن امض معي ».

فانطلقت معه وأتينا (٤) ظلّة بني ساعدة ، وإذا بأناس نيام (٥) ، فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين تحت ثوب كلّ واحد منهم حتّى أتى على آخرهم وانصرفنا ، فقلت له : جعلت فداك ، هل يعرف هؤلاء الحقّ ؟ (٦)

فقال : « لو عرفوا ( الحقّ ) (٧) لواسيناهم بالدقّة والملح » ! (٨)

فوا لهف نفسي على الإمام ، وربيع الأرامل والأيتام ، والمطعم لوجه الله الطعام ، وفاروق الحلال والحرام ، الصادق في الفعل والكلام ، والمنزّه عن الخطايا واللآثام ، وعماد الدين والقوام ، والعروة الوثقى التي ليس لها انفصام ، ولله درّ من قال من الأنام :

أبني المفاخر والّذين علا

لهم على هام السهى القدر

__________________

(١) في المصدر : « ما وجدت ».

(٢) ليس في المصدر.

(٣) في المصدر : « أولى به منك ».

(٤) في المصدر : « ... امض معي. قال : فأتينا ».

(٥) في المصدر : « فإذا نحن بقوم نيام ».

(٦) في المصدر : « ثمّ انصرفنا ، قلت : جعلت فداك ، يعرف هؤلاء الحقّ ».

(٧) ليس في المصدر.

(٨) رواه الصدوق في ثواب الأعمال : ص ١٤٤ وجميع ما بين المعقوفات منه ، وفيه : « بالدقة » ـ والدقّة هي الملح ـ إنّ الله لم يخلق شيئاً إلاّ وله خازن يخزنه إلاّ الصدقة فإنّ الربّ تبارك وتعالى يليهما بنفسه ، وكان أبي إذا تصدّق بشيء وضعه في يد السائل ثم ارتدّه منه وقبّله وشمّه ثمّ ردّه في يد السائل ، وذلك إنّها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل ، فأحببت أن أناول ما ولاها الله تعالى ، إنّ صدقة الليل تطفئ غضب الربّ وتمحق الذنب العظيم وتهوّن الحساب ، وصدقة النهار تثمر المال وتزيد في العمر ، إنّ عيسى بن مريم عليهما‌السلام لمّا مرّ على البحر ألقى بقرص من قوته في الماء ، فقال له بعض الحواريين : يا روح الله وكلمته ، لِمَ فعلتَ هذا ؟ هو من قوتك ؟ قال : فعلت هذا لتأكله دابّة من دوابّ الماء وثوابه عند الله العظيم ».

٢١٣

أسمائكم في الذكر معلنة

يجلو محاسنها لنا الذكر

شهدت بها الأعراف معرفة

والنحل والأنفال والزمر

وبراءة شهدت بفضلكم

والنور والفرقان والحشر

وتعظم التوراة قدركم

فاذا انتهى سفر حكى سفر

ولكم مناقب قد أحاط بها

الإنجيل حار بوصفها الفكر

ولكم علوم الغائبات فمنها

الجامع المخزون والجفر

هذا ولو شجر البسيطة أقلا

م وسبعة أبحر حبر

وفسيح هذي الأرض مجملة

طرس فمنها السهل والوعر

والإنس والأملاك كاتبة

والجنّ حتّى ينقضي العمر

ليعددوا ما فيه خصّكم

ذو العرش حتّى ينفد الدهر

لم يدركوا عُشر العشير وهل

يُحصى الحصى أو يُحصر الذرّ

وروي في كتاب الاحتجاج أنّه دخل أبو شاكر الديصاني ـ وهو زنديق ـ على أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، فقال له : يا جعفر ، دلّني على معبودي.

فقال [ له أبو عبد الله ] عليه‌السلام : « اجلس ». فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها ، فقال [ أبو عبد الله ] عليه‌السلام : « ناولني يا غلام هذه البيضة ». فناوله إيّاها ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « يا ديصاني ، هذا حصن مكنون ، له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبية مائعة وفضة ذائبة ، فلا الذهبيّة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبية المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح [ ف‍ ] يخبر عن إصلاحها ، ولم يدخل فيها داخل مفسد فخبّر عن فسادها ، لا ندري للذكر خلقت أم للأنثى ؟ تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لذلك مدبّراً أم لا » ؟

فأطرق مليّاً وقال : (١) أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ

__________________

(١) في المصدر : « ثمّ قال ».

٢١٤

محمّداً عبده ورسوله ، وأنّك إمام وحجّة الله على خلقه ، وأنا تائب إلى الله تعالى ممّا كنت عليه (١).

وروي في الكتاب المذكور عن أبان بن تغلب قال : كنت عند أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام إذ دخل عليه رجل من أهل اليمن فسلّم ، فردّ أبو عبد الله عليه‌السلام فقال : « مرحبا بك يا سعد » (٢).

فقال له الرجل : هذا اسم ما سماّني به أحد إلاّ أمي ، وما أقلّ من يعرفني بهذا الاسم (٣).

فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : « صدقت يا سعد المولى ».

فقال الرجل : جعلت فداك ، بهذا كنت ألقّب.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « لا خير في اللقب ، إنّ الله تعالى يقول : ( وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ، ما صناعتك يا سعد » ؟

قال : جعلت فداك ، إنّا أهل بيت ننظر في النجوم ، لا يوجد أحد في اليمن أعلم به منّا (٥).

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « [ فكم يزيد ضوء الشمس على ضوء القمر درجة » ؟

فقال اليماني : لا أدري. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « صدقت ».

قال : « فكم ضوء القمر يزيد على ضوء المشتري درجة » ؟

__________________

(١) الاحتجاج : ٢ : ٢٠١ برقم ٢١٥ وما بين المعقوفات منه ، وفيه : « ممّا كنت فيه ».

ورواه ـ مع إضافات في أوّله ـ الكليني في الكافي : ١ : ٧٩ ح ٤ كتاب التوحيد ، والصدوق في كتاب التوحيد : ص ١٢٢ باب ٩ ح ١.

(٢) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « يا سعد المولى ».

(٣) في المصدر : « بهذا الإسم سمّتني أمّي ، وما أقلّ من يعرفني به ».

(٤) سورة : الحجرات : ٤٩ : ١١.

(٥) في المصدر : « لا يقال إن باليمن أحد أعلم بالنجوم منّا ».

٢١٥

قال اليماني : لا أدري.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « صدقت » ، ] كم [ يزيد ] ضوء المشتري على ضوء القمر درجة » ؟

قال اليماني : لا أدري.

فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : « [ ف‍ ] كم [ يزيد ] ضوء المشتري على ضوء عطارد درجة » ؟

قال [ اليماني ] : لا أدري.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « صدقت ، فما اسم النجم الّذي إذا طلعت هاجت الإبل » ؟ فقال اليماني : لا أدري.

قال الصادق عليه‌السلام : « صدقت ».

[ قال : « فكم ضوء عطارد يزيد درجة على الزهرة » ؟

قال : اليماني : لا أدري. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « صدقت ».

قال : ] فما اسم النجم الّذي إذا طلع هاجت البقر » ؟

قال اليماني : لا أدري.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « صدقت ، فما اسم النجم الّذي إذا طلع هاجت الكلاب » ؟

قال اليماني : لا أدري.

قال ابو عبد الله عليه‌السلام : « صدقت ، فما زحل عندكم في النجوم » ؟

قال اليماني : نجم نحس.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « لا تقل نجم نحس ، فإنّه (١) نجم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعلى ذريّته الأكرمين ، [ وهو ] نجم الأوصياء ، [ وهو ] النجم الثاقب الّذي ذكره الله في كتابه العزيز ».

__________________

(١) في المصدر : « لا تقل هذا ، فإنّه ».

٢١٦

قال (١) له اليماني : فما معنى الثاقب ؟

قال : « لأنّ مطلعه في السماء السابعة ، فضوؤه تثقبت السماوات الأربع ، فمن ذلك سمّي النجم الثاقب (٢) »

ثم قال عليه‌السلام له : « يا أخا العرب ، هل عندكم عالم » ؟

قال (٣) اليماني : نعم ، جعلت فداك ، إنّ اليمن ليسوا كغيرهم (٤) من الناس في علمهم.

فقال أبو عبد الله : « فما تبلغ من علم عالمهم » ؟

قال اليماني : إنّ عالمهم ليزجر الطير فيقف ، ويقفو أثر الراكب (٥) في مسيرة في ساعة واحدة.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « فعالم المدينة أعلم من عالم اليمن ».

فقال اليماني : وما يبلغ من [ علم ] عالم المدينة ؟

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « [ علم عالم المدينة ينتهي إلى ] أن (٦) لا يقفو الأثر ولا يزجر الطير ويعلم [ ما ] في اللحظة الواحدة مسيرة الشمس تقطع اثني عشر برجاً واثني عشر بحراً (٧) واثني عشر عالماً ».

فقال [ له ] اليماني : ما ظننت أنّ أحداً يعلم هذا و [ ما يدري ما كنهه ! قال : ] وقام [ اليماني ] ( من عنده ) (٨) [ فخرج ] (٩).

__________________

(١) في المصدر : « قال الله تعالى في كتابه. فقال ».

(٢) في المصدر : « لأنّ مطلعه في السماء السابعة ، فإنّه ثقب بضوئه حتّى أضاء في السماء الدنيا ، فمن ثمّ سمّي النجم الثاقب ».

(٣) في المصدر : « ثمّ قال : يا أخا العرب أعندكم عالم ؟ فقال ».

(٤) في المصدر : « ليسوا كأحد ».

(٥) في المصدر : « ليزجر الطير ، ويقفوا الأثر في ساعة واحدة مسيرة شهر للراكب المحث ».

(٦) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « أنّه ».

(٧) في المصدر : « برّاً ».

(٨) ليس في المصدر.

٢١٧

ولله درّ من قال :

تلك نفس عزّت على الله قدراً

فارتضاها لدينه واصطفاها

صيغ للذكر وحده والإلهيّون

كانت ! في الذكر عنه شفاها

سل ذوات التمييز تخبرك عنه

إنّ حال التوحيد منه ابتداها

حاز قدسيّة العلوم وإن لم

يؤتها جعفر فمن يؤتاها

علم اقسمت جميع المعالي

إنّه ربّها الّذي ربّاها

مقدم الأمر عن عزائم قدس

ليست السبعة السواري سواها

إنّما عاشت السماوات والأرض

ومن فيهما على نعماها

لا تضع في سوى أياديه سؤلا

ربّما أفسد المدام إناها

وهو سرّ السجود في الملأ الأعلى

ولولاه لم تعفّر جباها

وهو الآية المحيطة بالكون

ففي عين كلّ شيء تراها

فالعجب العجاب ، من الكفرة النصّاب ، كيف أغفلوا دخول هذا الباب ، ولم يرقبوا فيه ربّ الأرباب ، في ظلم هذا الإمام الأوّاب ، فالويل لهم يوم فصل الخطاب ، حين يدعون للمناقشة والجواب ، وأنّى لهم الجواب ؟ فسوف يذوقون أشدّ العذاب ، ( وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (١٠).

وروي في كتاب عيون أخبار الرضا بالإسناد عن الحسن بن الفضل (١١) [ أبو محمّد مولى الهاشميين بالمدينة ] ، عن علي بن موسى ، عن أبيه عليهم‌السلام قال : « أرسل أبو جعفر الدوانيقي إلى جعفر بن محمّد عليه‌السلام وأحضره ليقتله وأحضر له سيفاً ونطعاً ، ثمّ قال للربيع : إنّي دعوت جعفراً ، فإذا دخل عليّ فسوف أكلّمه فإذا كلّمته

__________________

(٩) الاحتجاج للطبرسي : ٢ : ٢٥٠ رقم ٢٢٤.

ورواه الصدوق في الخصال : ٢ : ٤٨٩ ح ٦٨ من أبواب الأثني عشر ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٢٧٧.

(١٠) سورة البقرة : ٢ : ٧٤ و ٨٥ و ١٤٠ و ١٤٩ ، وسورة آل عمران : ٣ : ٩٩.

(١١) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « الحسن بن المفضّل ».

٢١٨

أضرب يدي على الأخرى ، فإذا رأيتني فعلت ذلك فاضرب عنقه.

فدخل جعفر بن محمّد عليهما‌السلام المجلس ، فلمّا نظر إليه أبو جعفر الدوانيقي من بعيد تحرّك من مكانه وقال : مرحباً وأهلاً بك يا أبا عبد الله ، إنّما أرسلنا إليك لرجاء قضاء دينك ، ونقضي ذمامك. ثمّ سأله مسألة لطيفة عن أهل بيته ، ثمّ قال له : يا أبا عبد الله ، قد قضى الله دينك وأجزل جائزتك.

ثمّ قال : يا ربيع ، امض مع جعفر حتّى توصله إلى أهله.

قال الربيع : فخرجت معه فسألته في الطريق عن حاله وقلت له : يا أبا عبد الله ، أرأيت النطع والسيف ؟ إنّما وضعاً لك ، فأيّ شيء قلت عند دخولك ؟

قال عليه‌السلام : نعم يا ربيع ، إنّي لمّا دخلت على هذا الطاغية رأيت الشرّ في وجهه يلوح ، فقلت : حسبي الربّ من المربوبين ، حسبي الخالق من المخلوقين ، حسبي الرازق من المرزوقين ، حسبي من لم يزل حسبي ، لا إله إلاّ الله ، عليه توكّلت ، وهو ربّ العرش العظيم » (١).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ : ٢٧٣ ح ٦٤ وفي ط المحقق : ص ٥٦٣ ح ٢٨٦ قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن صقر الصائغ وأبو الحسن علي بن محمّد بن مهرويه قالا : حدثنا عبد الرحمان بن أبي حاتم قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الحسن بن الفضل أبو محمّد مولى الهاشميين بالمدينة ، قال : حدثنا علي بن موسى بن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عليهم‌السلام قال : « أرسل أبو جعفر الدوانيقي إلى جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ليقتله وطرح له سيفاً ونطعا ً، وقال : يا ربيع إذا أنا كلمته ثم ضربت بإحدى يدي على الأخرى ، فاضرب عنقه.

فلمّا دخل جعفر بن محمّد عليه‌السلام ونظر إليه من بعيد تحرّك أبو جعفر على فراشه وقال : مرحباً وأهلاً بك يا أبا عبد الله ، ما أرسلنا إليك إلاّ أن نقضي دينك ، ونقضي ذمامك. ثمّ سأله مسألة لطيفة عن أهل بيته ، وقال : قد قضى الله حاجتك ودينك وأخرج جائزتك.

[ ثمّ قال : ] يا ربيع ، لا تمضين ثلاثة حتّى يرجع جعفر إلى أهله.

فلمّا خرج قال له الربيع : يا با عبد الله ، رأيت السيف ؟ إنّما كان وضع لك والنطع ، فأيّ شيء رأيتك تحرّك به شفتيك ؟

قال جعفر بن محمّد عليه‌السلام : نعم يا ربيع ، لمّا رأيت الشرّ في وجهه قلت : حسبي الربّ من

٢١٩

وروى عن عبد الله بن سنان أنّه قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن عظم حوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لي : « يا ابن سنان ، حوض ما بين بُصرى إلى صنعاء ، أتحبّ أن تراه يا ابن سنان » ؟

قلت : نعم فداك أبي وأمي.

قال : فأخذ بيدي وأخرجني إلى ظاهر المدينة ، ثمّ ضرب رجله على الأرض ، فانشقّت وظهر نهر يجري لا تدرك حافتاه إلا أنّه شبيه بالجزيرة ، فكنت أنا وهو واقفين ، فنظرت إلى نهر آخر بجانبنا يجري كأنّه الثلج ومن جانبنا الآخر نهر من لبن أبيض من الثلج ، وفي وسطه نهر من خمر أحسن من الياقوت نوراً ، فما رأيت أبهج للنظر من ذلك الخمر بين اللبن والماء ، فقلت له : جعلت فداك ، من أين يخرج هذا ، ومن أين يجري ذاك ؟

فقال عليه‌السلام : « هذه العيون الّتي ذكرها الله تعالى في كتابه بقوله تعالى ، عين من ماء وعين من لبن وعين من خمر (١) ، وكلّها تجري في هذا النهر ».

ورأيت على حافة النهر شجراً فيهنّ الحور معلّقات برؤوسهنّ ما رأيت أحسن منهنّ وجهاً ، وبأيديهنّ أواني ليست بمثل أواني الدنيا ، فدنا عليه‌السلام من إحداهنّ وأومأ بيده فنظرت إلى تلك الحورية فمالت من الشجرة إلى النهر فغرفت في تلك الآنية وناولته فشرب ، ثمّ ناولها وأومأ إليها بيده فمالت لتغرف ثانية فمالت تلك الشجرة معها ، ثمّ غرفت وناولته فناولنيه فشربت ، فما رأيت شراباً مثله كان

__________________

المربوبين ، وحسبي الخالق من المخلوقين ، وحسبي الرازق من المرزوقين ، وحسبي الله ربّ العالمين ، حسبي من هو حسبي ، حسبي من لم يزل حسبي ، حسبي الله لا إله إلاّ هو ، عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم ».

ورواه عنه في البحار : ٤٧ : ١٦٢ ح ٢ باب ما جرى بينه وبين المنصور وولاته.

(١) في الآية ١٥ من سورة محمّد : ٤٧ : ( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ).

وفي رواية الإختصاص كما سيأتي : هذه العيون التي ذكرها الله في كتابه أنهار في الجنّة عين من ماء وعين من لبن وعين من خمر ، يجري في هذا النهر.

٢٢٠