مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فكيف ألذّ العيش أو أعرف الكرى

وقلبي على جمر الغضا في توقّد

روي في كتاب الأنوار عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير قوله : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (١) ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا جابر ، اعلم أنّه أول ما خلق الله نوري واشتقّه من نوره وابتدعه من جلال عظمته (٢) ، فأقبل يطوف بالقدرة حتّى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة ، ثمّ سجد لله تعظيماً ففتق من نور عليّ وأولاده ، فكان نوري محيطاً بالعظمة ونورهم محيطة بالقدرة (٣) ، ثمّ خلق العرش واللوح والقلم (٤) والشمس والقمر والنجوم وضوء النهار وضوء الأبصار والعقل والمعرفة وأبصار العباد [ وأسماعهم ] وقلوبهم من نوري ، ونوري مشتقّ من نوره ، ونحن (٥) الأوّلون ، ونحن الآخرون ، ونحن السابقون ، ونحن الشافعون ، ونحن كلمة الله ، ونحن خاصة الله ، ونحن أحبّاء الله ، ونحن وجه الله ، ونحن أمناء الله (٦) ، ونحن خزنة وحي الله وسدنة غيب الله ، ونحن معدن التنزيل ، وعندنا معدن التأويل (٧) ، وفي أبياتنا هبط جبرئيل ، ونحن مختلف أمر الله الجليل (٨) ، ونحن منتهى غيب الله ، ونحن محالّ قدس الله ، ونحن مصابيح الحكمة ، ومفاتيح الرحمة ، وينابيع النعمة ، ونحن شرف الأمّة ، وسادة الأئمّة ، ونحن الولاة والهداة والدعاة والسقاة والحماة ، وحبّنا طريق النجاة وعين الحياة ، ( ونحن صنائع الله والخلق صنائع لنا أي

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ : ١١٠.

(٢) في مشارق أنوار اليقين : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أوّل ما خلق الله نوري ابتدعه من نوره واشتقّه من جلال عظمته ».

(٣) في المشارق : « ونور عليّ محيطاً بالقدرة ».

(٤) « والقلم » ليس في المشارق.

(٥) في المشارق : « فنحن ».

(٦) المثبت من المشارق ، وفي النسخة : « ونحن أنبياء الله ».

(٧) في المشارق : « معنى التأويل ».

(٨) ليست في المشارق كلمة « الجليل ».

٢٦١

مصنوعين لأجلنا ) (١) ، من آمن بنا آمن بالله ، ومن ردّ علينا ردّ على الله ، ومن شكّ فينا شك في الله ، ومن عرفنا عرف الله ، ومن تولّى عنا تولّى عن الله ، ومن تبعنا أطاع الله ، [ ونحن الوسيلة إلى الله ، والوصلة إلى رضوان الله ، ولنا العصمة والخلافة والهداية ، وفينا النبوّة والإمامة والولاية ، ونحن معدن الحكمة وباب الرحمة ، ونحن كلمة الله والمثل الأعلى والحجّة العظمى والعروة الوثقى الّتي من تمسّك بها نجا وتمّت البشرى ] » (٢).

وروي في كتاب كشف الغمّة أن مولد الإمام التقيّ أبي جعفر محمّد بن علي الرضا عليه‌السلام كان في ليلة التاسعة عشر من شهر رمضان ، وقيل في النصف منه ليلة الجمعة ، سنة خمس وتسعين ومئة من الهجرة (٣).

وظهرت له بعد مولده معاجز أبهرت العقول ، وأعجزت أهل المعقول والمنقول ، كما روي في كتاب المشارق أنّه خرج قبل موت أبيه إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان عمره سنتين ، فجاء المنبر ورقا منه درجة ثمّ نطق فقال : « أنا محمّد بن علي الرضا ، أنا الجواد ابن الجواد ، أنا العالم بالأنساب في الأصلاب ، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون إليه ، علم منحني به من خلق الخلق قبل تكوين الذرّ وهو باق إلى بعد فناء السماوات والأرضين ، ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل الضلال ووثوب أهل الشك لقلت قولاً يتعجّب منه الأوّلون والآخرون ».

ثم وضع يده على فيه وقال : « اصمت يا محمّد بن علي كما صمت أبوك » (٤).

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في المشارق ، وبدله : « ونحن السبيل والسبيل والمنهج القويم والصراط المستقيم ».

(٢) مشارق أنوار اليقين : ص ٣٩ وجميع ما بين المعقوفات منه.

(٣) كشف الغمّة : ٣ : ١٥٩ عن الطبرسي في إعلام الورى : ص ٣٢٩ فصل ١ من الباب ٨.

ورواه أيضاً في كشف الغمة : ص ١٥٢ عن ابن الخشّاب : ( مجموعة نفيسة : ص ١٩٥ ).

(٤) مشارق أنوار اليقين : ص ٩٨ فصل ١١ وفيه : فمن ذلك ما روي عنه أنّه جيء به إلى

٢٦٢

وكم له من منقبة متألقة في مطالع التعظيم ، مرتفعة في معارج التفضيل والتكريم ، وكم له من معجزة أنوارها بادية لأبصار ذوي البصائر ، بيّنة لأهل العقول والسرائر ، فمن ذلك ما روي في كتاب كشف الغمّة أنّه لمّا توفّي الرضا عليه‌السلام وقدم المأمون لعنه الله إلى بغداد [ بعد وفاته بسنة ] اتّفق أنّه خرج إلى الصيد فاجتاز في طريقه بصبيان يلعبون ومحمّد بن علي الجواد واقف عندهم ، [ وكان عمره يومئذ احدى عشرة سنة فما حولها ] ، فلمّا أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين ووقف أبو جعفر عليه‌السلام مكانه فقرب منه المأمون ونظر إليه وكأنّ الله سبحانه قد ألقى في قلبه مسحةً من حبّه ، فوقف المأمون وقال له : يا غلام ، ما منعك من الانصراف مع الصبيان ؟

فقال له الجواد عليه‌السلام : « يا أمير المؤمنين ، لم يكن الطريق ضيّقاً فيوسعه ذهابي ، ولم تكن لي جريمة فأخشاها ، وظنّي بك أنك لا تعاقب من لا ذنب له » (١).

فبهت المأمون وأعجب كلامه وحسن وجهه فقال له : ما اسمك يا غلام ؟

فقال : « يا أمير المؤمنين ، محمّد » (٢).

فقال : ابن مَن ؟

فقال : « [ يا أمير المؤمنين ] ابن علي الرضا ».

فترحّم على أبيه وتوجّه حيث قصد ، وكان معه بزاة ، فلمّا بعد أرسل بازاً منها

__________________

مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موت أبيه الرضا وهو طفل ، فجاء إلى المنبر ورقا منه درجة ثمّ نطق فقال : « أنا محمّد بن علي الرضا ، أنا الجواد ، أنا العالم بأنساب النّاس في الأصلاب ، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون إليه ، علم منحنا به من قبل خلق الخلق أجمعين وبعد فناء السماوات والأرضين ، ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل الضلال ووثوب أهل الشّك لقلت قولاً يتعجّب منه الأوّلون والآخرون ».

ثمّ وضع يده الشريف على فيه وقال : « يا محمّد اصمت كما صمت آباؤك من قبل ».

(١) في المصدر : « يا أمير المؤمنين ، لم يكن بالطريق ضيق لأوسّعه عليك بذهابي ، ولم تكن لي جريمة فأخشاها ، وظنّي بك حسن إنك لا تضرّ من لا ذنب له ».

(٢) في المصدر : فقال : محمّد.

٢٦٣

على درّاجة ، فغاب عن عينيه غيبة طويلة ثمّ عاد من الجو وفي منقاره سمكة صغيرة وبها بقايا الحياة ، فعجب الخليفة من ذلك غاية العجب ، ثمّ أخذها في يده وعاد إلى البلد من الطريق الذي أقبل منه ، فلمّا وصل ذلك المكان وجد الصبيان على ما فارقهم عليه ، فانصرفوا وأبو جعفر لم ينصرف ووقف كما وقف أوّلاً ، فلمّا دنا منه الخليفة قال : يا محمّد.

قال : « لبّيك يا أمير المؤمنين ».

قال : ما في يدي ؟

فقال : « يا أمير المؤمنين إنّ الله تعالى خلق بمشيئته في بحر قدرته سمكاً صغاراً تصطادها بزاة الملوك والخلفاء فيختبرون بها سلالة [ أهل بيت ] النبوة ».

فلمّا سمع المأمون كلامه أعجبه وجعل يطيل النظر في وجهه وقال : أنت ابن الرضا حقّاً. وضاعف إحسانه إليه ، صلوات الله وسلامه عليه (١).

إمام هدى له شرف ومجد

علا بهما على السبع الشداد

إمام هدى له شرف ومجد

أقرّ به الموالي والمعادي

تصوب يداه بالجدوى فيغني

عن الأنواء في السنة الجماد

يبخّل جود كفيّه إذا ما

جرى في الجود منهل الغواد

بنى من صالح الأعمال بيتاً

بعيد الصيت مرتفع العماد

وشاد من المفاخر والمعالي

بناء لم يشده قوم عاد

فواضله وأنعمه غزار

عهدن أبرّ من سحّ العهاد

ويقدم في الوغا إقدام ليث

ويجري في الندا جري الجواد

فمن يرجو اللحاق به إذا ما

أتى بطريف فخر أو تلاد

من القوم الّذين أقرّ طوعاً

بنبلهم الأصادق والأعادي

فهو وإن صدرت منه هذه الكرامات ، ابن سيد الكائنات ، فمناقبه منها ما حلّ

__________________

(١) كشف الغمّة : ٣ : ١٣٤ ، وما بين المعقوفات منه.

ورواه ابن طلحة في مطالب السؤول : ٢ : ٧٤ ـ ٧٥ ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٢ : ٤٢٠.

٢٦٤

في الآذان محلّ جلاها وأشنافها ، واكتنفت ذاته الشريفة شغفاً بها اكتناف اللآلي الثمينة بأصدافها ، وشهدت جميع الكائنات له أنّ نفسه مخصوصة بنفائس أوصافها ، قد احتلت من أوج النبوّة ذرى أشرافها ، وسكنت من الشرف شرفات أعرافها.

روي في كتاب كشف الغمّة عن حكيمة بنت الرضا عليه‌السلام قالت : صرت يوماً إلى امرأة أخي محمّد الجواد عليه‌السلام أمّ الفضل لسبب احتجت إليها فيه ، قالت : فبينما نحن كذلك نتذاكر فضل أخي وما أعطاه الله من العلم والحكمة ، فقالت امرأته أم الفضل : إلاّ أخبرك يا حكيمة بعجيبة رأيتها من أخيك لم يسمع مثلها ؟

قالت حكيمة : وما ذاك ؟

قالت : إنّه أغارني بجارية مرّة تسرّاها ، ومرّة بزوجة ، فشكوته إلى المأمون ، فقال لي : يا بنيّة احتملي ، فإنّه ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . فبينما أنا ذات ليلة جالسة إذ أتتني امرأة كأنّها غصن بان أو قضيب خيزران ، فقلت لها : مَن أنتِ ؟

فقالت : أنا زوجة محمّد بن علي الرضا ، وأنا من ولد عمّار بن ياسر.

قالت أمّ الفضل : فدخل عَلَيّ من الغيرة ما لم أملك معه نفسي ! فنهضت من ساعتي وصرت إلى المأمون وكان ثملاً (١) وقد مضى من الليل وهن ، فأخبرته بحالي وقلت له : إنّ الجواد يشتمني ويشتم العبّاس ويشتمك ، وقلت له ما لم يكن ، فغاظه ذلك.

ثمّ إنّه قام وتبعني ومعه خادم حتّى دخل على أبي جعفر وهو نائم ، فضربه بالسيف حتّى قطّعه إربين وذبحه وعاد إلى مكانه ، فلمّا أصبح عرف ما كان بدا منه ، فأرسل خادماً ليعرّفه حال أبي جعفر عليه‌السلام ، فمضى الخادم فوجد أبا جعفر عليه‌السلام قائماً يصلّي ولا أثر عليه ، فعاد الخادم وأخبره بذلك وأنّه سالم ، ففرح بذلك وأعطى الخادم ألف دينار ، وحمل إلى أبي جعفر عشرة آلاف دينار ،

__________________

(١) ثمل الشراب : نقعه حتّى اختمر ، وثمل الشراب فلاناً : أثمله. ( المعجم الوسيط ).

٢٦٥

واجتمع به واعتذر إليه ، فقبله منه وأشار عليه بترك الشراب ، ففعل (١).

وروي في الكتاب المذكور عن عليّ بن جرير قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام جالساً وقد ذهبت شاة لمولاه ، فأخذ بها بعض الجيران وقال لهم : إنّكم سرقتموها ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « ويلكم خلّوا عن جيراننا فإنّهم لم يسرقوا شاتكم ، والشاة (٢) في دار فلان فأخرجوها من ذلك الدار ».

فذهبوا فوجدوها في داره وأخذوا الرجل وضربوه وأخذوا ثيابه وهو يحلف أنّه لم يسرق هذه الشاة إلى أن صاروا به إلى أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال لهم : « ويلكم ظلمتم الرجل ، إنّ الشاة قد دخلت داره وهو لا يعلم بها ». ثمّ دعاه ووهب (٣) له شيئاً عوض [ ما خرق من ثيابه و ] ضربه (٤).

ولله درّ من قال من الرجال :

__________________

(١) كشف الغمّة : ٣ : ١٥٥ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

ورواه الراوندي في الخرائج : ١ : ٣٧٢ ـ ٣٧٥ / ٢ مع تلخيص.

وأورده ابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٤٢٦ عن صفوان بن يحيى عن أبي نصر الهمداني وإسماعيل بن مهران وجبران الأسباطي عن حكيمة بنت أبي الحسن القرشي عن حكيمة بنت موسى بن عبد الله عن حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى التقي عليه‌السلام.

ورواه حسين بن عبد الوهاب في عيون المعجزات : ص ١٢٧ بإسناده عن حكيمة بنت أبي الحسن القرشي.

ورواه مع تفصيل السيّد الأجل عليّ بن طاوس في مهج الدعوات ص ٣٦ وفي الأمان : ص ٧٤ بإسناده عن الصدوق عن أبيه عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم عن جده عن أبي نصر الهمداني عن حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر عمّة أبي محمّد الحسن بن علي عليهم‌السلام.

(٢) في المصدر : « فلم يسرقوا شاتكم ، الشاة ».

(٣) في المصدر : « فإنّ الشاة دخلت وهو لا يعلم ، ثمّ دعاه فوهب ».

(٤) كشف الغمّة : ٣ : ١٥٦ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

ورواه الراوندي في الخرائج والجرائح : ٣٧٦ / ٣.

ورواه الخصيبي في الهداية الكبرى : ص ٣٢ بإسناده عن داود بن زيد الخياط.

٢٦٦

يا غيث كلّ الورى إن عمّ عامهم

جذب ويا غوثهم إن نابت النوب

والثابت العزم والأهوال مقبلة

والراسخ الحلم والأحلام تضطرب

والماجد الحسب المقري الضبا كرماً

حوبائه وكذلك الماجد الحسب

ما غالبت صبرك الدنيا ومحنتها

إلاّ انثنت وله من دونها الغلب

ولا تريع لك الأيّام سرب حجا

بلا إذا ريعت الأيّام والهضب

إن يصبح الكون داجي اللون بعدك

والأيّام سود وحسن الدهر مستلب

فأنت للشمس ما للعالمين غنى

عنها ولم تجزهم من دونها الشهب

كشف لهم الغطاء فرأوا عالم الغيب في عالم الشهادة ، ووقفوا على حقائق المعارف في خلوات العبادة ، وناجتهم أفكارهم في أوقات أذكارهم بما يسمون به غارب الشرف والسيادة ، وحصلوا بصدق توجّههم إلى جناب القدس ما بلغوا به منتهى الإراداة ، فهم كما في نفوس أوليائهم ومحبيهم وزيادة ، فما تزيد معارفهم في زمان الشيخوخة على زمن معارفهم في زمن الولادة ، فهم خيرة الخير وزبدة الحقب ، وواسطة القلادة.

روي في كتاب مجمع الطبرسي عن محمّد بن عبد الله بن مهران قال : إنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر عليه‌السلام وأشار على ابنة المأمون زوجته بأنّها تسمّه ، لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر عليه‌السلام وشدّة غيرتها عليه لتفضيل أمّ أبي الحسن ابنه عليها ، ولأنّه لم يرزق منها ولداً ، فأجابته إلى ذلك ، وجعلت سمّاً في عنب رازقي ووضعته بين يديه عليه‌السلام ، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي ، فقال عليه‌السلام : « ما بكاؤك ؟ والله ليضربنّك الله بعقر لا يجبر ، وبلاء لا ينستر ».

فماتت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناصوراً ، فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلّة حتّى احتاجت إلى استرفاد النّاس.

فمات عليه‌السلام من ذلك السم في يوم الثلثاء لستّ خلون (١) من ذي الحجّة ، سنة

__________________

(١) في عيون المعجزات : « لخمس خلون ».

٢٦٧

مئتين وعشرين من الهجرة.

ودفن ببغداد بمقابر قريش ، صلوات الله وسلامه عليه ، ولعنة الله على قاتله (١).

فالويل لحزب الشيطان ، وأولياء الكفر والعدوان ، كيف حملهم ذلك البغض والشنآن ، على إهلاك خلفاء الملك الديّان ، فعرّضوهم للقتل والحدثان ، وأزهقوا منهم النفوس والجنان ، وتتّبعوهم في السرّ والإعلان ، وضيّقوا عليهم الفسيح من المكان ، يبكي عليهم العلم والبيان ، ويندبهم الحلم والتبيان ، وتنوح عليهم محجّبات الأذكار ومخبيّات الأوراد في دجنة الأسحار ، وتتلهّف المنابر لفقد تلك المواعظ ، وتأسف المحاضر لخلوّها من الواعظ واللافظ ، فعلى رزئهم الفادح ومصابهم القادح فلتطلق أوكية الدموع ، وتطلّق أبكار الهجوع ، أو لا تكونون أيها المحبون ، والشيعة المخلصون ، كمن تذكّر ما جرى عليهم ، وحلّ من الأرزاء ليديهم ، فرثاهم بما سمحت به النفوس من الأشعار ، وندبهم بما صوّرته القرائح من المراثي والأذكار ، وهو من الشيعة الأخيار.

__________________

(١) ورواه الحسين بن عبد الوهاب في عيون المعجزات : ص ١٣٢ ، وعنه المجلسي في البحار : ٥٠ : ١٦ ح ٢٦.

٢٦٨

المصرع السابع عشر

وهو مصرع الإمام الهمام عليّ الهادي صلوات الله عليه

اجلوا طخياء ليالي الشكوك بنبراس التسليم ، واهتدوا في فلوات السلوك بلامع التفهيم ، وسيحوا في مهامة الفكرة فالنظر دقيق ، وتدرّعوا بدروع العزلة فالمحبوب رفيق ، وتتوّجوا بتيجان القناعة فالطامع ذليل ، وتمنطقوا بمناطق الطاعة فالوزر ثقيل ، وأحيوا ميت القلوب بتلاوة الأذكار ، وزيّنوا قامة الجنوب بعبادة الأسحار ، وأعدّوا رواحل السير فقد لاح الطريق ، واملأوا حقائب الميرة فقد حصل دليل التوفيق ، وطهّروا دنس العقائد بقراح الإنقياد ، واستعدّوا لهاتيك الشدائد المركب والزاد ، واعلموا أنّ الحاكم عدل لا يظلم في الأحكام ، والصراط دقيق لا تثبت عليه الأقدام ، والقسطاس مبين لا يعتريه التغيير ، والشاهد أمين لا يغادر صغيراً ولا كبيراً ، فأمسكوا أزمّة الولا ، واقتدوا بأشراف الملا ، فإنّهم قد جانبوا لذّات الحياة ، وطلقوا أبكار البهجة والمسرّات ، وصبروا على الأذى في محبوبهم ، وأمروا بالتحمّل في مسنونهم ومندوبهم ، فالولاء بدون التسليم كذب وبهتان ، والوداد بغير المواساة زور وخسران.

إذا كنت تهوي القوم فاسلك طريقهم

فما وصلوا إلاّ بقطع العلائق

فانتبه أيّها الراقد من سنة غفلتك ، وانهج أيّها السالك طريق أئمتك ، فهم والله أنوار الهداية السافرة ، والقرى المباركة الظاهرة ، المأمور باتّباعهم في صريح القرآن ، والمحثوث على موالاتهم في الذكر والبيان ، بهم يدرك المطلوب ، وقربهم قرب المحبوب.

خليليّ عوجا بي على الركب عوجة

عسى يشتفي فيها السقيم المعذّب

ولو لم يكن إلاّ بتعريس ساعة

لماماً نؤدي بعض فرض ونندب

٢٦٩

خليليّ لا والله لو قد علمتما

من النازخ الثاوي به والمغيّب

لما اخترتما يوماً على ذاك منزلا

وإن لم يكن إلاّ من الدمع مشرب

فعوجا بنفسي أنتما وتبيّنا

فخير صحاب المرء من لا يؤنّب

تقولان قصد العيس جمع ويثرب

صدقتم وهذا الربع جمع ويثرب

ولا تعجبا ممّا يحاول مدنف

فأمركما في اللوم أدهى وأعجب

دعاني وأشجاني الفؤاد فإنّني

جعلتكما في أوسع الحلّ فاذهبوا

صحبتكما كي تسعفاني على الجوى

أماسبة إذ لم تفوا إن تؤنّبوا

روي في كتاب المعالم (١) مرفوعاً إلى جابر بن يزيد الجعفي قال : قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : « كان الله ولا شيء غيره ولا معلوم ولا مجهول ، فأوّل ما ابتدأ به من خلق أن خلق محمّداً وخلقنا أهل البيت معه من نور عظمته ، فأوقفنا أظلّة خضراء بين يديه حيث لا سماء ولا أرض ولا مكان ولا ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر ، فانفصل نورنا من نور ربّنا كشعاع الشمس من الشمس نسبّح الله تعالى ونقدّسه ونحمده ونعبده حق عبادته.

ثمّ بدأ الله تعالى بخلق المكان فخلقه وكتب عليه « لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله ، علي أمير المؤمنين ووصي رسول الله ».

ثمّ كيّف الله العرش فكتب على سرادقاته مثل ذلك ، ثم خلق السماوات فكتب على أطرافها مثل ذلك ، ثمّ خلق الجنّة والنّار وكتب عليهما كذلك.

ثم خلق الملائكة وأسكنهم السماء ، ثمّ تراءا لهم وأخذ منهم الميثاق له بالربوبيّة ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة ولعلي وأولاده بالولاية ، فارتعدت فرائص الملائكة فسخط على الملائكة واحتجب عنهم فلاذوا بالعرش سبع سنين يستجيرون الله من سخطه ، ويقرّون بما أخذ عليهم ، ويسألونه الرضا عنهم ، فرضي بعد ما أقرّوا

__________________

(١) لعل مراده من « المعالم » معالم العترة النبويّة للجنابذي ، وما عثرت عليه ، انظر « أهل البيت في المكتبة العربية » للسيّد عبد العزيز الطباطبائي.

٢٧٠

بذلك ، فأسكنهم في السماء واختصّهم لنفسه واختارهم لعبادته.

ثمّ أمر الله أنوارنا بالتسبيح ، فسبّحنا فسبّحت الملائكة لتسبيحنا ، ولولا تسبيحنا ما دروا كيف يسبّحون الله ويقدّسونه.

ثمّ إنّ الله تعالى خلق الهواء فكتب عليه ما كتب على العرش.

ثمّ خلق الجنّ وأسكنهم فيه ، وأخذ الميثاق له منهم بالربوبيّة ولمحمّد بالنبوّة ولعلي وأولاده بالولاية ، فأقرّ منهم بذلك من أقرّ وجحد منهم من جحد ، فأوّل من جحد إبليس وختم له بالشقاوة.

ثمّ أمر الله أنوارنا بالتسبيح ، فسبّحنا فسبّحت الجنّ لتسبيحنا ، ولو لم نسبّح لم يدروا كيف التسبيح.

ثمّ خلق الله الأرض وكتب على أطرافها ما كتب على الهواء ، فبذلك يا جابر قامت السماوات بلا عمد وثبتت الأرض بلا وتد.

ثمّ خلق الله آدم من أديم الأرض ونفخ فيه من روحه ، وأخرج ذريّته من صلبه فأخذ عليهم الميثاق له بالربوبيّة ولمحمّد بالنبوّة ولنا بالولاية ، فأقرّ منهم من أقرّ وجحد منهم من جحد.

ثمّ إنّ الله تعالى قال لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : وعزّتي وجلالي وعلوّ شأني ، لولاك ولولا عليّ وعترتكما الهادين المهديّين الراشدين ما خلقت الجنّة ولا النّار ولا المكان ولا الأرض ولا السماء ولا الملائكة ولا الهواء ولا خلقاً يعبدني.

يا محمّد ، أنت خليلي وحبيبي وصفيّي وخيرتي من خلقي وأحبّ الخلق إليّ وأوّل من ابتدأته من خلقي.

ثمّ من بعدك الصدّيق الأكبر عليّ أمير المؤمنين ووصيّك به أيّدتك ونصرتك ، جعلته العروة الوثقى ، ونور أوليائي ومنار الهدى ، ثمّ هؤلاء الهداة المهديّون.

من أجلكم ابتدأت ما خلقت ، فأنتم خيار خلقي وأحبّائي ، وكلماتي الحسنى وآياتي الكبرى ، وحجّتي فيما بيني وبين الورى ، خلقتكم من نور عظمتي ، واحتجبت بكم عن خلقي ، وجعلت بكم استقبالي ، وبكم سؤالي ، فكلّ شيء هالك

٢٧١

إلاّ وجهي ، فأنتم وجهي لا تبيدون ولا تهلكون ، ولا يهلك ولا يبيد من تولاّكم ، من استقبلني بغيركم فقد ضلّ وهوى ، فأنتم صفوتي ، وحملة سرّي ، وخزنة علمي ، وسادة أهل السماوات والأرض.

ثمّ إنّ الله تعالى هبط إلى الأرض في ظلل من الغمام والملائكة ، وأهبط أنوارنا معه ، فأوقفنا صفوفاً بين يديه نسبّحه ونقدّسه في أرضه كما سبّحناه في سمائه.

فلمّا أراد الله إخراج ذريّة آدم عليه‌السلام لأخذ الميثاق سلك نورنا فيه ، ثمّ أخرج ذريّته من صلبه فسبّحنا فسبّحوا ، ولولانا ما دروا كيف التسبيح.

ثمّ تراءا لهم فقال : « ألست بربّكم » ؟ فقلنا : بلى.

ثمّ أخذ الميثاق منهم بالنبوّة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولعليّ بالولاية ، فأقرّ من أقرّ وجحد من جحد ».

ثمّ قال أبو جعفر عليه‌السلام : « نحن أوّل خلق الله ، وأوّل خلق عبد الله ، ونحن سبب خلق الخلق ، وسبب تسبيحهم وعبادتهم ، وبنا عرف الله ، وبنا وحّد ، وبنا عبد ، وبنا أكرم من أكرم من جميع خلقه ، وبنا أثاب من أثاب وعاقب من عاقب ».

ثمّ تلى قوله تعالى : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ ) (١) ، ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) (٢) ، فرسول الله أوّل من عبد الله ، وأوّل من أنكر إن يكون له ولد أو شريك ، ثمّ نحن بعد رسول الله ، ثمّ أودعنا بعد ذلك صُلب آدم ، فما زال ذلك النور يتنقل من الأصلاب والأرحام من صلب إلى صلب ولا استقرّ في صلب إلاّ صار شرفاً لما منه انتقل وشرفاً للذي فيه استقرّ حتّى صار في عبد المطلب وافترق جزئين جزء في عبد الله وجزء في أبي طالب ، فذلك قوله تعالى : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (٣) يعني في أصلاب النبييّن ، فعلى هذا أجرانا الله في الأصلاب والأرحام حتّى أخرجنا في أوان عصرنا وزماننا ».

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ : ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٢) سورة الصافات : ٢٧ : ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ : ٢١٩.

٢٧٢

بدور طوالع ، وجبال فوارع ، وعيون هوامع ، وسيول دوافع ، وسيوف قواطع وبهاليل لو عاين فيض أكفّهم الطامع والقانع ، لأيقنّا أنّ رزق الله في الأرض واسع ، بهم اتّضحت سبل الهدى وبهم سلم من سلم من الردى ، وبحبّهم ترجى النجاة والفوز غداً ، وهم أهل المعروف وأولوا الندى ، كلّ المدائح دون استحقاقهم ، وكلّ مكارم الأخلاق مأخوذة من مكارم أخلاقهم ، وكلّ صفات الخير مخلوقة في عنصرهم الشريف وأعراقهم ، فالجنّة في وصالهم والنار في فراقهم ، وهذه الصفات تصدق على الجمع والواحد ، وتثبت للغائب منهم والشاهد ، وتنزل على الولد منهم والوالد ، حبّهم فريضة لازمة ، ودولتهم باقية دائمة (١).

فأنوارهم فتح لرشد موفق

وآثارهم حتف لفيء مظلّل

إذا سوبقوا يوم الفخار انتهت بهم

سوابق للمجد القديم المؤثّل

تراهم ركوعاً سجّداً وأكفّهم

نوافلها مخلوطة بالتنفّل

وعين العلى والعلم فيهم فهل ترى

سؤالاً ولم للطالب المتوعّل

مناجيد أزوال أماجيد سادة

صناديد أبطال ضراغم حفّل

فمن يجاريهم في الفخر ، ويسابقهم في علوّ القدر ، فما تركوا غاية إلاّ انتهو إليها سابقين ، ولا مرتبة إلاّ ارتقوها آمنين ، فالنّاس كلّهم عيال عليهم ، منتسبون انتساب العبوديّة إليهم ، عنهم أخذت المأثر ، ومنهم تعلّمت المفاخر ، وبشرفهم شرّف الأوائل والأواخر.

__________________

(١) ورواه البحراني في حلية الأبرار : ١ : ١٤ ح ٢ ، وفي مدينة المعاجز : ٢ : ٣٧١ ح ٦١١ مع اختلاف في الألفاظ.

ورواه المجلسي في البحار : ١٥ : ٢٣ ح ٤١ من باب بدء الخلق وما يتعلّق بذلك ، باختصار ، وفي ج ٢٥ ص ١٧ ح ٣١ من باب بدء خلقهم وطينتهم وأرواحهم ، مفصلا ، وفي ج ٥٧ ص ١٦٩ ح ١١٢ من باب حدوث العالم وبدء خلقه ، كثيراً من فقراته ، في جميع الموارد عن كتاب رياض الجنان لفضل الله بن محمود الفارسي بإسناده إلى جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام.

٢٧٣

روي في كتاب كشف الغمة أنّ مولد الإمام الهادي عليه‌السلام كان في اليوم الثاني من شهر رجب سنة أربع عشر ومئتين (١).

وروي في الكتاب المذكور عن عليّ بن إبراهيم الطائفي قال : مرض المتوكّل من خُراج (٢) خرج به فأشرف منه على الموت [ فلم يجسر أحد أن يمسّه بحديد ] فنذرت أمّه أنّه متى عافاه الله أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمّد مالاً جزيلاً من مالها.

ثمّ إنّ الفتح بن خاقان قال للمتوكّل : لو بعثت إلى هذا الرجل ، يعني أبا الحسن عليه‌السلام ، فسألته عن دائك ، فربما يكون عنده شيء يفرّج الله به عنك.

فقال المتوكّل : ابعثوا إليه. فمضى الرسول ورجع فقال : « خذوا بعر الغنم فديفوه بماء الورد وضعوه على الجراح ، فإنّه نافع بإذن الله ».

فجعل من حضر المتوكّل يهزأ من قوله ، فقال لهم الفتح : وما يضرّ من تجربته ، فوالله إنّي لأرجو الصلاح به.

فأحضر الكسب وديف بماء الورد ووضع على الجراح ، فانفتح وخرج ما كان

__________________

(١) كشف الغمّة : ج ٣ ص ١٦٤ عن ابن طلحة في مطالب السؤول : ص ٣٠٧ في أول الباب العاشر.

ورواه أيضاً في ص ١٧٤ عن ابن الخشاب في مواليد الأئمّة ووفياتهم : ( مجموعة نفيسة : ص ١٩٧ ) ، ولم يشر في الموردين إلى اليوم الثاني بل اكتفى بأنّه عليه‌السلام ولد في شهر رجب.

ورواه أيضاً في ص ١٨٦ عن الطبرسي في إعلام الورى : ص ٣٣٩ في أول الباب التاسع ، وفيه : ولد عليه‌السلام بصريا من المدينة في النصف من ذي الحجّة سنة اثنتي عشر ومأتين ، وفي رواية ابن عيّاش يوم الثلثاء الخامس من رجب.

وقال الطبرسي في تاج المواليد : ( مجموعة نفيسة : ص ١٣١ ) : ولد عليه‌السلام بصريا من مدينة الرسول صلوات الله عليه وآله يوم الثلثاء في رجب ، ويقول في النصف من ذي الحجّة ، ويقال : ولد لليلة بقين منه سنة ٢١٢.

ومثله في كشف الغمة : ج ٣ ص ١٦٥ عن الجنابذي ، وفي ص ١٦٦ عن المفيد في الإرشاد : ٢ : ٢٩٧.

(٢) الخراج : ما يخرج من البدن من القروح. ( الصحاح : ١ : ٣٠٩ « خرج » ).

٢٧٤

فيه ، وبشّرت أم المتوكّل بعافيته فحملت إلى أبي الحسن عليه‌السلام عشرة آلاف دينار.

فعوفي المتوكّل من علّته ، فلما كان بعد أيام سعى البطحائي بأبي الحسن عليه‌السلام إلى المتوكّل وقال : عنده أموال وسلاح. فتقدّم المتوكّل إلى سعيد الحاجب أن يهجم عليه ليلاً ويأخذ ما يجده عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه.

قال إبراهيم بن محمّد : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى دار أبي الحسن بالليل ومعي سُلّم ، فصعدت منه إلى السطح فنزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة ، فلم أدر كيف أصل إلى الدار ، فناداني أبو الحسن عليه‌السلام من الدار : « يا سعيد مكانك حتّى يأتونك بشمعة ».

فلم ألبث أن آتوني بشمعة ، فنزلت فوجدت عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجّادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة ، فقال لي : « دونك البيوت ». فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً ، ووجدت البدرة مختمومة بخاتم [ أمّ ] المتوكل وكيساً مختوماً معها ، فقال لي أبو الحسن عليه‌السلام : « دونك المصلّى ». فرفعته فوجدت سيفا في جفن ملبوس ، فأخذت ذلك وصرت إليه ، فلمّا رأى خاتم أمّه على البدرة بعث إليها ، فخرجت فسألها عن البدرة ، فأخبرني بعض خدم الخاصة (١) أنّها قالت : كنت نذرت في مرضك عليك إن عوفيت أن أحمل من مالي عشرة آلاف دينار ، فحملتها إليه ، وهذا خاتمك على الكيس ما حرّكها. وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربع مئة دينار ، فأمر أن يضمّ إلى البدرة بدرة أخرى وقال لي : احمل ذلك إلى أبي الحسن واردد السيف والكيس عليه بما فيه. فحملت ذلك إليه واستحييت منه ، فقلت : يا سيدي ، عزّ علَيّ دخولي دارك بغير إذنك ، ولكنّي مأمور !

فقال لي : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢). (٣)

__________________

(١) في كشف الغمّة : « بعض الخادم الخاصّة ».

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ : ٢٢٧.

(٣) كشف الغمّة : ٣ : ١٦٨ مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وما بين المعقوفات منه.

٢٧٥

ألا لعنة الله على القوم الظالمين ، ولله درّ من قال من الرجال :

الله أكبر إنّها

لمن الغرائب والعجائب

يستأصلون معاشرا

بلغوا بهم أقصى المطالب

ويظاهرون بقتل من

نالوا بسيفهم المراتب

أبني المراثي والممادح

والمعالي والمناقب

ما إن ذكرت مصابكم

إلاّ وهيج بي المصائب

فكأنّ من ولعي بكم

ما بين أضلاعي عقارب

صلّى الإله عليكم

ما حج ببيت الله راكب

وروي في الكتاب المذكور أنّ المتوكّل عرض عسكره وأمر كلّ فارس منهم أن يملأ مخلاة فرسه طيناً ويطرحوه في موضع واحد ، فصار كالجبل ، فسمّاه « تل المخالي » ، وصعد هو وأبو الحسن عليه‌السلام على ذلك التلّ ثم قال لأبي الحسن عليه‌السلام : إنّما طلبتك لتشاهد خيولي. وكانوا لابسين التحايف (١) حاملين السلاح ، فعرضوا بأحسن هيئة وأتمّ عدّة وأعظم زينة ، وكان غرضه كسر قلب من يخرج عليه ، وكان يخاف من أبي الحسن أن يأمر أحداً من أهل بيته بالخروج عليه.

فقال له أبوالحسن عليه‌السلام : « هل أعرض عليك عسكري » ؟

قال : نعم.

فدعا الله سبحانه وتعالى ، فإذا بين السماء والأرض من المشرق والمغرب ملائكة مدجّجون ، فغشي على الخليفة ، فلمّا أفاق قاله له أبو الحسن : « نحن لا ننازعكم (٢) في الدنيا ، فإنّا مشغولون بالآخرة ، فلا شيء عليك ممّا تظن » (٣).

__________________

ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٣٠٢.

(١) في المصدر : « التجافيف » ، وفي هامشه : قال الفيومي : التِجفاف ـ بالكسر ـ : شيء تلبسه الفرس عند الحرب كأنّه درع ، وقيل : سمّي بذلك لما فيه من الصلابة واليبوسة ، وقال الجواليني : معرّب ومعناه ثوب البدن.

(٢) في المصدر : « لا ننافسكم ».

٢٧٦

وروي في الكتاب المذكور عن أبي سعيد سهل بن زياد قال : حدّثنا أبو العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب ونحن في داره بسرّ من رأى فجرى ذكر أبي الحسن عليه‌السلام فقال : يا أبا سعيد ، أحدّثك بشيء حدثني به أبي قال : كنّا مع المنتصر ـ وأبي كاتبه ـ فدخلنا والمتوكّل على سريره فسلّم المنتصر ووقف ووقفت خلفه ، وكان إذا دخل رحّب به وأجلسه ، فأطال القيام وجعل يرفع رجلاً ويضع أخرى وهو لا يأذن له في القعود ، ورأيت وجهه يتغير ساعة بعد ساعة ويقول للفتح بن خاقان : هذا الّذي يقول فيّ ما يقول ويردّ عليّ القول ، والفتح يسكّنه ويقول : هو مكذوب عليه. والمتوكّل يتلظى ويستشيط ويقول : والله لأقتلنّ هذا المرائي الزنديق ، فهو الذي يدّعي الكذب ويطعن في دولتي.

ثمّ طلب أربعة من الخزر أجلافاً ودفع إليهم أسيافاً وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل ، وقال : والله لأحرقنّه بعد قتله. وأنا قائم خلف المنتصر من وراء الستر ، فدخل أبو الحسن عليه‌السلام وشفتاه تتحرّكان وهو غير مكترث ولا جازع ، فلمّا رآه المتوكل رمى بنفسه عن السرير إليه وانكبّ عليه يقبّل ما بين عينيه ويديه ( ورجليه ) (٤) ، واحتمل سيفه بيده (٥) وهو يقول : « يا سيِّدي يا ابن رسول الله ، يا خير خلق الله ، يا ابن عمّي ، يا مولاي ، يا أبا الحسن ». وأبو الحسن عليه‌السلام يقول : « أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا » ؟

فقال : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت ؟

قال : جاءني رسولك.

قال : كذب ابن الفاعلة ، ارجع يا سيّدي ، يا فتح ، يا عبد الله (٦) ، يا منتصر ، شيّعوا سيّدكم وسيّدي.

__________________

(٣) كشف الغمّة : ٣ : ١٨٥.

(٤) ما بين القوسين ليس في المصدر.

(٥) في المصدر : « واحتمل وشقّه بيده ».

(٦) في المصدر : « يا عبيد الله ».

٢٧٧

فلمّا بصر به الخزر سجدوا ، فدعاهم المتوكّل وقال : لِمَ لم تفعلوا ما أمرتكم به ؟

قالوا : سجدتنا هيبته (١) ، ورأينا حوله أكثر من مئة سيف لم نقدر أن نتأمّلهم ، وامتلأت قلوبنا من ذلك رعباً.

فقال : يا فتح ، هذا صاحبك ، وضحك في وجهه وقال : الحمد لله الّذي بيّض وجهه وأنار حجّته (٢).

فيا لها من مناقب أكسبت الأكوان لامع ضيائها ، وبرقعت الأزمان بناصع سنائمها ، ومكارم تفرّد بخصائصها بطبعه الكريم ، وحفظ تائه قلائصها بفضله العميم ، قد كانت نفسه مهذّبة بأهداب اللاهوت ، وأخلاقه مستعذبة بسلسبيل الملكوت ، وسيرته عادلة في جميع الأنام ، وخلاله فاضلة بين الخاصّ والعام ، إذا قال ذلّل الفصحاء وحيّر البلغاء وأسكت العلماء ، وإن جاد خجّل الغيث ، وإن صال جبن الليث ، وإن فخر أذعن كلّ ساحل وسلّم إليه كل مناضل وأقرّ لشرفه كل شريف وطأطأ لجاهه كلّ ذي مجد منيف ، وإن طاول فالأفلاك تحت أقدامه ، وإن فاخر فالأملاك من خدامه ، وإن ذكرت العلوم فهو موضح إشكالها وفارس جلادلها وجدالها ، وابن نجدتها (٣) وصاحب أقوالها ، وطلاّع ثناياها ، وناصب أعلام أعقالها ، فهذه بعض صفات ذاته ، وعلامات معجزاته.

لم تزل عنده مفاتيح كشف

قد أماطت عن الغيوب غطاها

قائم في زكاة كلّ المعالي

دائم دأبه على ائتياها

كم أدارت يداه أفلاك مجد

مستمرّ على الزمان بقاها

ذاك من جنّة المعالي كطوبى

كلّ شيء تظلّه أفياها

ذاك ذو الطلعة الّتي تتجلّى

حضرات الجمال دون اجتلاها

لذ إلى جوده تجده زعيماً

حلل المكرمات من صنعاها

__________________

(١) في المصدر : « قال : شدة هيبته ».

(٢) كشف الغمة : ٣ : ١٨٥ مع اختلاف لفظية.

(٣) نجد الشيء نجودا : ارتفع ، والأمر : وضح واستبان. ( المعجم الوسيط )

٢٧٨

كم له شمس حكمة تتمنّى

غرّة الشمس أن تكون سماها

كم له من روائح وغواد

مدد الفيض كان من مبتداها

وروى في الكتاب المذكور عن ابن أرومة قال : خرجت إلى سرّ من رأى أيّام المتوكّل فدخلت إلى سعيد الحاجب وقد دفع المتوكّل إليه أبا الحسن عليه‌السلام ليقتله ، فقال لي سعيد : أتحبّ أن ترى الٰهك ؟

فقلت : سبحان الله ، إنّ إلهي لا تدركه الأبصار !

فقال : إنّما عنيت الّذي تسمّونه إمامكم.

قلت : ما أكره ذلك.

فقال لي : إنّه قد أمرني المتوكّل بقتله ، وأنا فاعل ، فادخل على البريد.

قال : فقمت ودخلت على سيّدي وإذا هو جالس (١) هناك وإلى جنبه قبر محفور ، فسلّمت عليه وبكيت بكاءاً عالياً ، فقال عليه‌السلام لي : « ما يبكيك » ؟

قلت : ما أرى.

قال : « لا تبك ، إنّه لا يتمّ لهم ما أرادوا ، ولا يلبث (٢) أكثر من يومين حتّى يسفك الله دمه ودم صاحبه ».

فوالله ما مضى غير يومين حتّى قتل (٣).

وروي فيه أيضاً عن أبي هاشم الجعفري قال : ظهر برجل من أهل سرّ من رأى برص ، فتنغّص عيشه ، فأشار عليه أبو علي الفهري بالتعرّض لأبي الحسن وأن يسأله الدعاء ، فجلس له يوماً على طريقه ، فلمّا رآه قام إليه ، قال عليه‌السلام له : « تنحّ عافاك الله ، تنحّ عافاك الله ، تنحّ عافاك الله » ، وأشار بيده إليه ثلاث مرّات ، فانخزل ولم يجسر أن يدنو منه ، فانصرف ولقي أبا علي الفهري فأعلمه بذلك ، قال

__________________

(١) في المصدر : « فإذا خرج صاحب البريد فأدخل عليه فخرج ودخلت وهو جالس ».

(٢) في المصدر : « لا تبك ، إنّه لا يتمّ له ذلك وإنّه لا يلبث ».

(٣) كشف الغمّة : ٣ : ١٨٤ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

٢٧٩

له : إنّه قد دعا لك قبل أن تسأله ، فاذهب فإنّك معافى. فذهب فما أصبح إلاّ وقد برئ من ذلك البرص (١).

وروي أنّه عليه‌السلام مضى إلى سبيل ربّه شهيداً مسموماً ، سمّه المعتزّ بن المتوكّل باليوم الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة مئتين وأربع وخمسين من الهجرة. صلى الله عليه ، ولعنة الله على قاتله وظالمه (٢).

فيا عاذلي كفّ عن ملامي ، ويا لائمي أجّجت عليّ ضرامي ، أأسلوا [ عن ] آل الرسول ، أم أنس أولاد عليّ والبتول ؟ وقد أضحوا عباديد في الفلوات ، متشتّتين في الجهات ، بين قتيل بالحسام ، وهالك بالأوام ، وسميم قد فرت كبده السموم ، وكليم يشوي شواه السموم ، ومقيد لا يفدى ، وعليل لا يعالج ولا يداوى ، فعزيز على محمّد المصطفى وعليّ المرتضى والزهراء ، ما حلّ بأولادهم الأصفياء ، من القتل والأذى ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

أو لا تكونون يا ذوي الإخلاص الصادق ، وأرباب الوداد الفائق ، كمن هدّ هذا المصاب ركونه ، وحبّب إليه منونه ، فضرب قباب الكآبة في أودية اصطباره ، وطنّب فساطيط الصبابة في مرابع قراره ، فجعل النوح شعاره ، والبكاء دثاره ، فنظّم المراثي ، ولله درّه من راث.

__________________

(١) كشف الغمّة : ٣ : ١٨٣.

(٢) انظر كشف الغمّة : ٣ : ١٦٥ عن مطالب السؤول ، وفي ص ١٦٦ عن الخشّاب والمفيد ، وفي ص ١٧٤ عن ابن الخشّاب ، وفي ص ١٨٦ عن إعلام الورى.

رواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٣١١ ، وابن طلحة في مطالب السؤول : ص ٣٠٨ في الباب ١٠ ، وابن الخشّاب في مواليد الأئمة ووفياتهم : ( مجموعة نفيسة : ص ١٩٧ ) ، والطبرسي في إعلام الورى : ص ٣٣٩ في أوّل الباب التاسع.

٢٨٠