مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وكفاك لو لم تدر إلاّ كربلا

يوم ابن حيدر والسيوف عواد

أيّام قاد الخيل توسع شاؤها

من تحت كلّ شمردل مغوار

هاجوا إلى الحرب العوان كأنّما

تبدو لهم عذراء ذات خمار

يمشون في ظلّ السيوف تبختراً

مشي التريف معاقر العقّار

وتناهبت أجسادهم بيض الضبا

فمسربل بدم الوتين وعار

وانصاع نحو الجيش نجل الضيغم

الكرّار مثل الضيغم الكرّار

يوفي على الغمرات لا يلوي به

فقد الظهير وقلّة الأنصار

لليوم من أنواره وقد انكفت

بنهاره الهبوات خير نهار

فيا نفس سيلى من المحاجر سيل الأنهار ، ويا لهبات الأحزان كنّي في الضمائر بالاستعار ، فقد دارت على مراكن الشرف الدوائر من بدع الأقدار ، وحلّت ببيت الفخر أمّ الفواقر فأخلت من أربابه الديار ، فلا تسمع في محانى تلك المحاظر نغمات الأسحار ، ولا تشمّ من تلك الوجوه الزواهر حارساً ولا سمّار ، فعلى مثل مصاب سادات الأعاصر فلمتكدّر الأعصار ، أو لا تكونون كمن خيّم هذا الرزء العاقر في مرابع سلوانه والاصطبار ، وحطّم بكلاكل الداء المخاير منه كلا الاستثبار (١) ، فرثاه بما استتر في السرائر من المراثي والأشعار ، ولله درّه من راث وشاعر قد طاب منه التجّار.

__________________

١٦١ ، وابن بنت منيع كما عنه في ذخائر العقبى : ص ١٤٩ ـ ١٥٠.

وأورده ابن عبد البرّ في العقد الفريد : ٤ : ٣٤٨ ، والقاضي النعمان في شرح الأخبار : ٣ : ١٥٠ / ١٠٨٨ ، والحلواني في نزهة الناظر : ٨٧ ـ ٨٨ ، وورّام بن أبي فراس في مجموعته : ٢ : ٩٨ ط النجف ، والذهبي في السير : ٣ : ٣١٠ ، والحسن بن شعبة في تحف العقول : ص ٢٤٥ ، والآبي في نثر الدّر : ١ : ٣٣٧ ، والإربلي في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام من كشف الغمّة : ٢ : ٢٤٤ في عنوان : « الثامن : في ذكر شيء من كلامه عليه‌السلام ».

(١) من بعد قوله : « الداء » إلى هنا غير واضح في النسخة ، وما أثبتناه هو ظاهر رسم الخطّ.

١٠١

المصرع السابع

من مصارع أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام

طنّبوا أبنية الأحزان في فلوات القلوب ، وأقيموا أعمدة الأشجان بين الجوانح والجنوب ، وجافوا الأبدان عن نواعم مراقد الإطمئنان ، فقد دها الإسلام خطب خطير ، وحلّ ببيت سيّد الأنام رزء لا يوجد له نظير ، خطب ألبس أرباب الفضل والشرف ثياب الوجد والأسف ، وطوّق أجياد الفخار أطواق الذلّ والصغار ، وأقرّ سوامي الكمال والرتب حضيض الوبال والتعب ، وأردى كماة مضامير العرفان بسيوف البغي والعدوان ، وأسمى رؤوس رؤساء الملل سوامي ذبّل الأسل ، وقطّر زواكي أجسام المناصب والمذاهب على تلعات الوهاد والسباسب ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولله درّ من قال من الأبدال :

وركب سروا والليل جمٌّ خطوبه

وما اليوم بالمأمون ان سائر سارا

حَدَتْ بهم نحو العلى محض عزمة

تفيد الضيا نوراًَ وتقري الحصا ناراً

حجازية لا الثابت الأصل ثابتا

لديها ولا السيّار ان تعد سيّارا

يريد بها المجد الموئل أبلج

قليل عراه الجفن أبيض مغوارا

معيد وغى تنشى به البيض والقنا

من الضرب أنهاراً وللطعن آبارا

له سبق العلياء في كل غارة

وإن بعد الشاءُون في السبق مضمارا

كأنّي به والحرب تذكي ضرامها

وأبناؤها بالحتف طائرهم طارا

تحفّ به الأعداء من كلّ وجهة

فما قلّ عن حزم وقد قلّ أنصارا

يلاقي المنايا كالحات وجوهها

طليق المحيّا باسم الثغر مسعارا

على مقبل لم تلفه الحرب مدبرا

فما انفكّ كرّاراً وما فكّ كرارا

كأنّ من الحرب العوان لعينه

مخضّبة الأطراف هيفاء منظارا

روي في كتاب تذكرة الأئمّة أنّه لما بلغ عبيد الله بن زياد وصول الحسين عليه‌السلام

١٠٢

لكربلاء ، وحلوله بمركز الكرب والبلاء ، نفذ الجيوش لقتاله ، وسرّح العساكر لنزاله ، وكان جملة العساكر الّتي جاءت لحربه ، وعرضت مهجها لشديد كرّه وضربه ، مئة وأربعة وعشرين ألفاً ، وقيل أقلّ وقيل أكثر ، وأصحّ ما وجدناه منها ما ذكرناه ، وكانوا ثمانين ألف فارس وأربعة وأربعين ألف راجل ، فأوّل ذلك اثنان وعشرون ألفاً من أهل الكوفة ، والمؤمّر عليهم الشمر بن ذي الجوشن الضبابي وقثم بن كلاب العمري وشبث بن ربعي ويزيد بن ركاب ومحمّد بن الأشعث وأبو الأشرس والضحاك بن قيس وسعد بن عبد الله وراهب بن قيس وحبيب بن جمّاز صاحب راية الضلال وقيس بن فاكه ونوفل بن فهر وأسد بن مغيرة وسعد بن أرطأة ، ومعهم من أهل الحرف مثل خبّاز ونجّار وحدّاد وطبّاخ ورؤساء المحال ، وجملتهم ثمانية آلاف ، وهم شاكرية وكندة وخزيمة وأهل مسجد بني زهرة وسوق الليل وسوق الساعات وسوق البراثين ، وثلاثة وثلاثون ألفاً من أهل البوادي وقبائل الكوفة مثل عبادة وربيعة وسكون وحمير وكندة ودارم ومطعون وجشعم ومدحج ويربوع وخزاعة وكلب ، ومن المدائن والبصرة سبعة آلاف نفر والعميد عليهم زيد بن اللحم وسعد بن جريح وقمير بن قيس وعلوان بن وردان ووردان بن ثابت وبشير بن سعدان وحماد بن عثمان وعثمان بن فهد ، ومن أهل الشام ثلاثون ألفاً وعميدهم ربيعة بن سوادة وسواد بن نحرس وقيس بن زعّال وصخر بن طعيم ، ومن الخوارج اثنا عشر ألفاً وعميدهم غسّان بن ثابت وحمل بن نافع وحكم بن عقبة الزهري وزياد بن حرقوس البجلي ، وألفان من الموصل وتكريت والأنبار ، وعشرة آلاف من الأكراد ، والأمير على كلّ العسكر عمر بن سعد ، وابنه حفص وزيره ، وأبو الحتوف ناظر العسكر ، وعميد عيون الجيش أبو الأشرس السلمي ، وجونة بن جونة كان جاسوساً ، والمؤمر على الحرّاثين أبو أيّوب الغنوي ، ونقيب الجيش الشمر لعنه الله وتحت يديه أربعة آلاف نفر ، وتفصيل مراتب من ذكرناهم غير الشمر وعمر بن سعد وابنه كما سيأتي.

١٠٣

وذلك أنّ يزيد بن ركاب عميد ألفي راجل ، وشبث بن ربعي عميد أربعة آلاف ، وقثم رئيس ألفي راجل ، ووردان غلام ابن سعد أمير جميع الرجّالة ، وإسحاق بن الأشعث ضابط الغنائم ، وعروة بن قيس الأحمسي أمير ألفي راجل ، وقرّة بن قيس عميد ألفي راجل ، وابن أبي جويرية المزني أمير ألفي فارس ، وحكيم بن الطفيل عميد أربعة آلاف فارس ، وعامر بن الطفيل عميد ألفي راجل ، وحمدان بن مالك عميد ألفي فارس ، وسنان كتاب العسكر ، وأبو الحتوف مشرّف الحرب ، وزياد بن قادر وشبلي بن يزيد مؤذّن العسكر ، وخُوَّلي بن يزيد الأصبحي صاحب الراية العظمى ، وحرملة بن كاهل حامل راية الرجّالة ، ومنقذ بن مرة العبدي وزيد بن ورقاء سعاة العسكر ، وحجار بن الأحجار ؟ ورافع بن مالك ـ وقيل : الأعور السلمي ـ عميدان على العسكر الّذي على الفرات ، وابن حوشب أمير النبّالة ، وعمر بن صبيح الصيداوي عميد الحجّارة ، ومحمّد بن الأشعث أمير الأمراء ، وأخوه قيس عميد ألفي فارس ، إلاّ لعنة الله على الظالمين (١).

ولله درّ من قال :

وتبدت شوارع الخيل والسّمر

وفرسانها يرفّ لواها

تتداعا ثارات بدر ولمّا

يكفها كبد حمزة وكلاها

فدعا صحبه ، هلمّوا فقد

اسمع داعي المنون نفسي رداها

كنت عرضتكم لمحبوب أمر

أن تروا فيه غبطة وارتفاها

فإذا الأمر عكس ما قد رجونا

محنة فاجئت [ ظ ] وأخرى ولاها

فأجاب الجميع عن صدق نفس

أجمعت أمرها وحازت هداها

لا ومعنىً به تقدّست ذاتاً

وجلال به تعاليت جاها

__________________

(١) تذكرة الأئمّة لمحمّد باقر اللاهيجي : ص ٨٧ مع مغايرات كثيرة.

والكتاب باللغة الفارسية.

١٠٤

لا نخلّيك أو نخلّي الأعادي

تتخلّى رؤوسها عن طلاها

أو تنال السيوف منّا غذاها

وتروّي الرماح منا ظماها

وروي أنّ عمر بن سعد لعنه الله لمّا خيّم بتلك الجنود الكثيرة ، وحطّ على مرابع الطفّ بهاتيك الجموع الغفيرة ، وكان ذلك لستّ ليال خلون من المحرّم ، فلمّا نزل بعث إلى الحسين عليه‌السلام رسولاً يقال له كثير بن عبد الله الشعبي ، وكان فارساً لا يردّ وجهه شيء ، فقال : إذهب إلى الحسين واسأله ما الّذي جاء به ؟

فقال كثير : والله إن شئت لأفتكنّ به !

فقال عمر : ما أريد أن تفتك به ، ولكن سله عن ذلك.

فأقبل كثير إلى الحسين عليه‌السلام ، فلمّا رآه أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين عليه‌السلام : قد جاءك يا أبا عبد الله شرّ أهل الأرض وأجرأهم على إهراق الدماء.

فقام إليه فقال له : ضع سيفك. قال : لا ولا كرامة ، إنّما أنا رسول ، إن سمعتم كلامي بلغتكم إيّاه ، وإن أبيتم انصرفت عنكم.

فقال له أبو ثمامة : إني آخذ بقائم سيفك ثمّ تكلّم.

قال : لا والله ولا تمسّه.

قال : إذا أخبرني بما جئت به وأنا أبلّغه عنك ولا أدعك تدنو منه أبداً ، فإنك فاجر فاسق.

فانصرف إلى ابن سعد وأخبره بذلك ، فدعا عمر بن سعد قرّة بن قيس الحنظلي فقال له : ويحك ، الق حسيناً وقل له : ما جاء بك ، وما يريد ؟

فأتاه قرّة ، فلمّا رآه الحسين عليه‌السلام قال : « أتعرفون هذا المقبل » ؟

فقال له حبيب بن مظاهر : هذا رجل من بني حنظلة تميم ، وهو ابن اختنا ، وقد كنت أعرفه بحسن الرأي وما كنت أراه يشهد هذا المشهد !

فجاء فسلّم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه ، فقال له الحسين : « كتب إليّ أهل هذا المصر أن اقدم علينا ، فأمّا إذا كرهتموني فأنا منصرف عنكم ».

فقال حبيب بن مظاهر : ويحك يا قرّة ، أين تذهب إلى القوم الكافرين ، انصر

١٠٥

هذا الرجل الّذي أيدك الله بآبائه.

فقال له قرّة : أرجع إلى صاحبي جواب رسالته وأرى رأيي.

فانصرف إلى ابن سعد وأخبره ، فقال عمر بن سعد لعنه الله : أسأل الله أن يعافيني من حربه.

قال : وكتب إلى عبيد الله بن زياد : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أمّا بعد فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عن ما أقدمه وما ذا يريد ، فقال : « كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم يسألوني القدوم ففعلت ، فأمّا إذا كرهتموني وبدا لهم غير الّذي أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم ».

فلمّا ورد الكتاب إلى عبيد الله بن زياد قال :

الآن قد علقت به مخالبنا

يرجو النجاة ولات حين مناص

وكتب إلى عمر بن سعد : أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا فيه ، والسلام (١).

وروي أنّ الحسين عليه‌السلام لمّا رأى حرص القوم على تعجيل قتاله ، وقلّة انتفاعهم بمواعظ مقاله ، قال لأخيه العباس : « إن استطعت أن تصرف عنّا القوم هذا اليوم فافعل ، لعلّنا نصلي لربّنا هذه الليلة ، فإنّه يعلم أنّي أحبّ الصلاة له والتلاوة لكتابه ».

قال : فسألهم العبّاس ذلك ، فتوقّف عمر بن سعد لعنه الله ، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي : والله لو أنّهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمّد ! فأجابوهم إلى ذلك.

قال : وجلس الحسين عليه‌السلام في خباه ، فرقد ثمّ استيقظ وقال لزينب : « يا أختاه ، إنّي رأيت الساعة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي عليّاً وأمّي فاطمة وأخي

__________________

(١) رواه الطبري في تاريخه : ج ٥ ص ٤١٠.

١٠٦

الحسن عليهم‌السلام وهم يقولون : يا حسين ، إنّك رائح إلينا عن قريب ».

فلطمت زينب على رأسها وصاحت ، فقال لها الحسين عليه‌السلام : « مهلاً ، لا يشمت القوم بنا فيقولون جبن أبو عبد الله عن القتال ».

فلمّا جاء الليل جمع أصحابه ـ وكانوا نيفا وسبعين رجلاً ـ فحمد الله وأثنى عليه وقال : « إنّي لا أعلم أصحاباً أصلح منكم ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوفى من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً ، فهذا الليل قد غشيكم ، فاتخذوه ستراً جميلاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذروني وهؤلاء القوم فإنّهم لا يريدون غيري ».

فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر : « لم نفعل ذلك لنبقي بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبداً » ، بدأهم بهذا القول العباس بن علي وتبعته الجماعة.

قال : ثمّ نظر الحسين إلى بني عقيل وقال : « حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم ».

قال : فأجابوه وقالوا : « يا ابن رسول الله ، ما يقول الناس لنا وما نقول لهم إذا تركنا شيخنا وكبيرنا وابن بنت نبيّنا لم نرم معه بسهم ولم نطعن معه برمح ولم نضرب معه بسيف ، لا والله يا ابن رسول الله لا نفارقك أبداً ، ولكنّا نقيك بأنفسنا حتّى تقتل بين يديك ونرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك ».

ثمّ قام مسلم بن عوسجة فقال : « نحن نخلّيك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك الأعداء ؟! لا والله لا يرانا هكذا أبداً حتّى أكسر في صدورهم رمحي وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح لقاتل‍ [ ت‍ ] هم بالحجارة ولا أفارقك أو أموت معك ».

ثمّ قام سعيد بن عبد الله الحنفي وقال : « لا والله يا ابن رسول الله ، لا نخليك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا وصية رسول الله فيك ، والله لو علمت أنّي أقتل فيك ثمّ أحيىٰ ثمّ أحرق حيّاً ثم أذرى في الهواء يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتّى ألقيى حمامي دونك ».

١٠٧

ثمّ قام زهير وقال : « والله يا ابن رسول الله ، وددت أن أقتل ثمّ أنشر حتّى يفعل بي ذلك ألف مرّة وأنّ الله يدفع بي عنك وعن هؤلاء الفتية من إخوانك وولدك وأهل بيتك ».

وتكلّم جماعة من أصحابه بمثل هذا الكلام ونحوه ، فجزاهم الحسين خيراً وقال لهم : « ارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم ». فرفعوا رؤوسهم وجعل يقول لهم : « هذا منزلك يا فلان ، وهذا منزلك يا فلان » ، فجعل الرجل منهم يستقبل الرماح والسيوف بنحره وصدره ليصل إلى مكانه من الجنّة (١).

ولله درّ من قال من الرجال الأبدال :

عشقوا الفنا للدفع لا عشقوا

العنا للنفع لكن أمضي المقدور

وتمثّلت لهم القصور وما بهم

لولا تمثلت القصور قصور

ما ساقهم للموت إلاّ دعوة الر

حمن لا ولدانها والحور

فطوبى لها من نفوس سلت [ عن ] هذه الدار فسالت على واردات اليعاسب ، وطلقت القرار فعانقت حداد القواضب ، وعشقت داني الجوار فهان عليها قدّ السباسب ، ومالت إلى الفخار فامتطت ظهور السلاهب ، قادها طيب النجار بأزمّة التجارب إلى مركز البوار لتفوز بالمطالب ، أو لا تكونون يا ذوي الأبصار والشيعة الأطايب كمن تذكّر أولئك الأقمار فغدى عن البشر عازب ، وتصوّر ما حلّ بالأكرمين الأبرار من الأرزاء والنوائب ، فرثاهم ببعض الأشعار وأقام عليهم النوادب ، وصلى الله على محمّد وآله الأطايب.

__________________

(١) ورواه الطبري في تاريخه : ٥ : ٤١٧ ـ ٤٢٠ مع اختلاف في بعض الألفاظ وتقديم وتأخير في الكلمات.

١٠٨

المصرع الثامن

من مصارع أبي عبد الله عليه‌السلام

تسنّموا صهوات صواهل الأحزان في مواقف المواساة ، وقوّموا واردات عواسل الأشجان في مراكز الموالاة ، وجرّدوا صوارم الدموع من أغمادها ، واتّقوا بجنن الخشوع وهيج النار وضرام اتّقادها ، وعضّوا بأسنان الندم على نواجذ الحسرة ، وصبّوا من الأماق العندم على فوات النصرة ، ومثّلوا أمامكم الحسين عليه‌السلام وقد أحاط به الكفرة اللئام مع قليل من أحبابه ، ونزر من شيعته وأصحابه ، بعد أن ذادوه عن المناهل والموارد ، وضيّقوا عليه فسيح المصادر والموارد ، وأبادوا أنصاره ورجاله ، وقتلوا شبّانه وأطفاله ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) (١) ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢).

سل كربلا كم حوت منهم هلال دجىً

كأنّها فلك للأنجم الزهر

لم أنس حامية الإسلام منفرداً

صفر الأنامل من حام ومنتصر

يرى قنا الدين من بعد استقامتها

مغموزة وعليها صدع منكسر

فقام يجمع شملاً غير مجتمع

منها ويجبر كسراً غير منجبر

لم أنسه وهو خوّاض عجاجتها

يشقّ بالسيف منها سورة السور

كم طعنة تتلظّى من أنامله

كالبرق يقدح من عود الحيا النظر

وضربة تتجلى من بوارقه

كالشمس طالعة من جانبي نهر

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ : ٤٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ : ١٥٦.

١٠٩

إذا انتضى بردة التشكيل عنه تجد

لاهوت قدس تردّى هيكل البشر

روي أنّه لمّا كان اليوم العاشر من المحرّم ـ وما أدراك ما اليوم العاشر ، يومٌ لا سؤدد إلاّ وانقضى ، وحسامٌ للعُلى إلاّ وفُلاّ ـ أمر الحسين عليه‌السلام بفسطاطه فضرب ، وأمر بجفنة فيها مسك ، كثير وجعل عندها نورة ، وجعل يطلي وبرير بن خضير الهمداني وعبد الرحمان الأنصاري واقفان بباب الفسطاط ليطليا بعده ، فجعل برير يضاحك عبد الرحمان ، فقال له عبد الرحمان : يا برير ، ما هذه بساعة ضحك ولا باطل !

فقال له برير : « لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً ، وإنّما أفعل ذلك استبشاراً لما نصير إليه ، والله ما هو إلاّ أن تميل القوم علينا بأسيافهم فنعانق الحور العين ». قال : فسرّه كلامه (١).

ثمّ إن عمر بن سعد لعنه الله رتّب عسكره ميمنة وميسرة وقلباً وجناحين ، فجعل ابنه حفصاً على ميمنته ، وعمرو بن الحجاج على ميسرته ، وحميد بن مسلم على [ ال‍ ] جناح الأيمن ، والشمر على [ ال‍ ] جناح الأيسر ، ووقف هو في القلب ومعه صناديد الكوفة (٢).

ثمّ أمر النبّالة أن تتقدّم أمام القوم وأمرهم أن يرشقوا عسكر الحسين بالسهام ، فتقدّم اثنا عشر ألف نبّال وأوتروا ، فأقبلت السهام كأنّها قطر السماء فقال الحسين عليه‌السلام لأصحابه : « قوموا رحمكم الله إلى الموت الّذي لابدّ منه ، فهذه السهام رسل القوم إليكم (٣) ».

ثمّ إنّه رفع يده إلى السماء وقال : « اللهمّ أنت ثقتي في كلّ شدّة ، ورجائي في كلّ

__________________

(١) ورواه السيد بن طاوس في الملهوف : ص ١٥٤ مع اختلاف لفظي قليل ، وعنه في البحار ٤٥ : ١.

ورواه الطبري في تاريخه : ٥ : ٤٢٣.

(٢) انظر إرشاد المفيد : ٢ : ٩٥ ، وتاريخ الطبري : ٥ : ٤٢٢.

(٣) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٥٨.

١١٠

كرب ، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعدّة ، [ إلهي ] كم من كرب يضعف عنه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت به العدوّ ، أنزلته بك ، وشكوته إليك ، رغبة مني إليك عن من سواك ، ففرّجته وكشفته ، فأنت وليّ كلّ نعمة ، وصاحب كلّ حسنة ومنتهى كلّ رغبة ».

وأقبل القوم يجولون حول بيت الحسين عليه‌السلام فيرون النار تتقد في الخندق في ظهر البيوت ، فنادى الشمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : يا حسين ، ويا أصحاب حسين ، استعجلت بالنار قبل يوم القيامة.

فقال الحسين عليه‌السلام : « من هذا كأنّه شمر بن ذي الجوشن ». ثمّ قال الحسين له : « يا ابن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليّاً ».

ورام مسلم بن عوسجة يرميه بسهم فمنعه الحسين عليه‌السلام من ذلك ، فقال له : « دعني أرميه ، فإنّه الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبّارين وقد أمكن الله منه ».

فقال الحسين عليه‌السلام : « إنّي أكره أن أبدأهم بقتال ».

ثمّ إنّه عليه‌السلام صف أصحابه ورتّبهم ميمنةً وميسرة في مراتبهم ، فجعل ابنه عليّ بن الحسين في ميمنته ، وحبيب بن مظاهر في ميسرته ، وزهير في جناحه الأيمن ، ومسلم بن عوسجة في جناحه الأيسر ، ووقف هو في القلب ، وأعطى رايته أخاه العبّاس (٢).

ثمّ إنّه تقدّم قبالة القوم ونظر إلى صفوفهم كأنّهم السيل ، فقال : « الحمد لله الّذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصّرفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها

__________________

(١) انظر الإرشاد : ٢ : ٩٦ ، وتاريخ الطبري : ٥ : ٤٢٣.

(٢) في الإرشاد للمفيد : ٢ : ٩٥ ، وتاريخ الطبري : ٥ : ٤٢٢ ، والمقتل للخوارزمي : ٢ : ٤ : « فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته العبّاس بن علي أخاه ... ».

١١١

وتخيّب [ طمع ] (١) من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحلّ بكم نقمته وأحرمكم (٢) رحمته ، فنعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ إنكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّاً لكم ولما تريدون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبُعدا للقوم الظالمين ».

فقال عمر بن سعد : كلّموه فإنّه ابن أبيه ، فوالله إن وقف فيكم موقفاً بعد موقف لما انقطع ولما حصر. فكلّموه (٣).

ولله درّ من قال :

يقول والسيف لولا الله يمسكه

أبى بأن لا يرى رأس على بدن

يا جيرة الغدر إن أنكرتموا شرفي

فإنّ واعية الهيجاء تعرفني

لا تفخروا بجنود لا عداد لها

إنّ الفخار بغير السيف لم يكن

ومذ رقى منبر الهيجا أسمعها

مواعظاً من فروض الطعن والسنن

لله موعظة الخطّي كم وقعت

من آل سفيان في قلب وفي أذن

كأنّ أسيافه إذ تستهلّ دماً

صفائح البرق حلت عقدة المزن

لله حملته لو صادفت فلكاً

لخرّ هيكله الأعلى على الذقن

يفري الجسوم بعضب غير ذي ثقة

على النفوس ورمح غير مؤتمن

فعزيز على جدّه النبي الأوّاب ، وأبيه أبي تراب داحي الباب ، وأمّه زكيّة الجناب ، بل عزيز على السنّة والكتاب ، أن تثب عرج الضباع على الأسد المنّاع ، وتتحكّم الأجلاف الأجشاع في السيّد المطاع ، وتنشب أظفارها طلس الذئاب في منحر ليث الغاب ، وتظفر جرب الكلاب بالهزبر المهاب ، وتهدى رؤوس

__________________

(١) من البحار.

(٢) في البحار : « وجنّبكم ».

(٣) ورواه المجلسي في البحار : ٤٥ : ٥ نقلاً عن كتاب محمّد بن أبي طالب.

١١٢

أولاد أبي تراب على موائد الحراب لابن مرجانة وابن آكلة الذباب ، وتهتك عن مصونات الأنجاب أسجاف الصون والحجاب ، أمر ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ) (١).

روي أنّ الحسين عليه‌السلام يوم الطف نادى : « يا شبث بن ربعي ، يا حجّار بن أبجر ، يا قيس بن الأشعث ، يا يزيد بن الحارث ، أَلَم تكتبوا إلَيّ أنه قد اينعت الثمار واخضرّ الجناب ، وإنّما تقدّم على جند لك مجنّدة ».

فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن أنزل على حكم بني عمك ، فإنهم ما يرونك إلاّ ما تحبّ.

فقال عليه‌السلام : « لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد » (٢).

ثنا عطفه عن حذر جان وقد خبا

إلى الموت دامي الصفحتين كليم

أخو الحرب أمّا جلده فممزّق

كليم وامّا عرضه فسليم

ثمّ إنّه عليه‌السلام دعا بفرسه فركبه وتقدّم إليهم فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا له حتّى قال لهم : « ويلكم ، ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا منّي ، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من الراشدين ، ومن عصاني كان من الهالكين ، وكلّكم عاص لأمري ، غير مستمع قولي ، قد ملئت بطونكم من الحرام ، وطبع على قلوبكم ، ويلكم إلاّ تنصتون ، إلاّ تسمعون » ؟

فتلاوم أصحاب ابن سعد بينهم وقال بعضهم : انصتوا له ، فأنصتوا ، فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله ، وصلّى على الملائكة والأنبياء (٣) وأبلغ في المقال ، ثمّ قال : « تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً وبؤساً ، حين استصرختمونا والهين ،

__________________

(١) سورة مريم : الآية ٩٠.

(٢) ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٩٨ ، وعنه في البحار : ٤٥ : ٧.

ورواه الطبري في تاريخه ٥ : ٤٢٥.

(٣) في الملهوف : « والرسل ».

١١٣

فأصرخناكم موجفين (١) ، شحذتم علينا سيفاً كان في أيدينا ، وحششتم (٢) علينا ناراً أضرمناها على عدوّكم وعدوّنا ، فأصبحتم ألباً (٣) على أوليائكم ويداً لأعدائكم ، من غير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، ولا ذنب كان منّا إليكم ، فمهلاً لكم الويلات إذ كرهتمونا والسيف مشيم والجأش (٤) طامن والرأي لما يستصف ، ولكنّكم أسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا وتهافتمّ إليها كتهافت الفراش ، ثمّ نقضتموها سفهاً وضلّة ، فبعداً وسحقاً لطواغيت هذه الأمة ، وبقيّة الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومطفئ السنن ، ومخالفي الملل ، ومؤاخي المستهزئين الّذين جعلوا القرآن عضين ، وعصاة الايمان ، وملحقي العهرة بالنسب ، لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ، فهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون.

أجل والله الخذل فيكم معروف ، نبتت عليه أصولكم ، وتآزرت عليه عروقكم ، فكنتم أخبث شجرة للناظر ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الظالمين الناكثين ، الّذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلاً.

ألا وإن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلّة والذّلة ، وهيهات له منّا الذّلة ، أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طهرت ، وبطون طابت ، أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وكثرة العدوّ وخذلة الناصر ».

وتمثّل صلوات الله عليه بهذه الأبيات :

فإن نهزم فهزّامون قدماً

وإن نغلب فغير مغلّبينا

فما إن طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

__________________

(١) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « مرجفين ».

(٢) في الملهوف : « سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم وحششتم ».

(٣) الألب : القوم يجتمعون على عداوة إنسان. ( المعجم الوسيط ).

(٤) الجأش : النفس أو القلب ، ويقال هو رابط الجأش ثابت عند الشدائد. ( المعجم الوسيط ).

١١٤

إذا ما الموت رفّع عن أناس

كلاكله أناخ بآخرينا

فأفنى ذلكم سروات قومي

كما أفنى القرون الأوّلينا

فلو خلد الملوك إذاً خلدنا

ولو بقي الكرام إذاً بقينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

ثمّ قال عليه‌السلام لهم : « وأيم الله إنّكم لا تلبثون بعدها إلاّ ريث ما يركب الفرس حتّى تدور بكم دوران الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إليّ جدّي ، ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنظِرُونِ ) (١) ، ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٢).

اللّهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسنين يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبّرة (٣) ما منهم إلّا قتله ».

ثمّ ضرب بيده الشريفة على لحيته وجعل يقول : « اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولدا ، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم.

أما والله لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضب بدمي مغصوب علَيّ حقّي » (٤)

ولله در من قال :

يوم سرى فيه ابن فاطم موقظا

عزماً يحك به مناط الأنجم

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ : ٧١.

(٢) سورة هود : ١١ : ٥٦.

(٣) الصَّبر : عصارة شجرّ مرّ ، واحدته صَبرة ، ج صبور. ( المعجم الوسيط ).

(٤) ورواه السيّد في الملهوف : ص ١٥٥ ـ ١٥٨ مع اختلافات لفظية كثيرة.

ورواه المجلسي في البحار : ٤٥ : ٨ نقلاً عن المناقب لابن شهر آشوب.

١١٥

يرمى الطغاة بفيلق من نفسه

جم العديد طويل باع المغنم

وكتائب ترمي الجبال بمثلها

بأساً وتزهق من دويّ عرمرم

من كلّ شين اللبدتين كأنّما

عرفت يداه السيف قبل المعصم

ومضيّق عند الحفاض ! لثامه

متطلّع عنه تطلع أرقم

يغشى الوغا متهلّلا فكأنّه

تحت العجاجة غرّة في أدهم

وشمردل عبل المرافق لو سرى

أنسى السراة ربيعة بن مكدّم

حيّ من الأقران لم يتسامروا

إلاّ بذكر مثقف ومطهّم

وإذا تنادوا آل غالب في الوغى

نسفوا متالع يَذبل فيلملم

يقتادهم ضخم الدسيعة أصيد

ثبت الجنان بعيد مهوى المخذم

بطل يرى الهندي أصدق صاحب

ومخيّم الهيجاء خير مخيّم

فبخ بخ لهم فازوا بالوصال إذ بذلوا ما أراد المحبوب ، وتنعّموا ببديع الجمال حيث مالت منهم القلوب ، فكان متن السيوف الصقال صقال الخدود ، وكأنّ حطيم القنا العسّال في أكفّهم غداير الجعود ، كرعوا قرقف الحقيقة فثملوا بصهباء العرفان ، وسلكوا ملحوب الطريقة وقطعوا السهول والأحزان.

روي أنّ الحسين عليه‌السلام لما لقى العسكر نادى : « أما من مغيث يغيثنا لوجه الله ، أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله ».

فإذا الحرّ بن يزيد الرياحي قد أقبل إلى عمر بن سعد لعنه الله فقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟

فقال : إي والله ، قتالاً أيسره أن تطير فيه الرؤوس وتطيح الأيدي.

قال : فمضى الحرّ ووقف موقفاً من أصحابه وأخذه مثل الأفكل ، فقال له مهاجر بن أوس : والله إنّ أمرك لمريب ، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة ؟ لما عدوتك ، فما هذا الّذي أراه منك ؟!

فقال : والله إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار ، فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ، ولو قطّعت وأحرقت.

١١٦

ثمّ ضرب فرسه واجتاز إلى عسكر الحسين عليه‌السلام ، واضعاً يده على رأسه وهو يقول : اللهم إليك أتيت تائباً فتُب عَليّ ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد أنبيائك.

فقال للحسين : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، أنا صاحبك الّذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعتك في هذا المكان ، وما كنت أظنّ أنّ القوم يبلغون منك ما أرى ، وأنا تائب إلى الله ، فهل ترى لي من توبة يا أبا عبد الله ؟

فقال له الحسين عليه‌السلام : « نعم يتوب الله عليك ». ثم قال له : « انزل ».

فقال الحرّ : أنا لك فارساً خير منّي لك راجلاً ، أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري.

ثمّ قال : إذ كنت أوّل خارج خرج عليك ، فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك ، لعليّ أكون أوّل من يصافح جدّك صلى‌الله‌عليه‌وآله وأباك عليّاً في عرصات القيامة.

فأذن له الحسين عليه‌السلام ، فتقدّم الحرّ إلى عساكر الكوفة ، ثمّ نادى : يا أهل الكوفة ، لأمّكم الهبل ، دعوتم هذا الرجل المؤمن حتّى إذا أتاكم خرجتم لقتاله ومنعتموه الماء الّذي تشربه الكلاب والخنازير ، لا سقاكم الله يوم الظمأ.

ثم إنّه همز جواده ، وقوّم سنانه بين أذن حصانه وقاتل قتالاً يسرّ الأحرار ، ويرضي الجبّار ، وهو ينشد ويقول :

إنّي أنا الحرّ ومأوى الضيف

أضرب في أعناقكم بالسيف

أضربكم ولا أرى من حيف

عن خير من حلّ بأرض الخيف (١)

وروي أنّ الحرّ لمّا لحق بالحسين قال رجل من تميم يقال له يزيد بن سفيان : أما

__________________

(١) ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٩٩ مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وعنه البحار : ٤٥ : ١٠.

ورواه الطبري في تاريخه : ٥ : ٤٢٨ ، وابن الأثير في الكامل : ٤ : ٦٤ ، والسيّد ابن طاوس في الملهوف : ١٥٩ مع اختلافات لفظية.

١١٧

والله لو لحقت بالحر لأتبعته السنان. فبينما هو يقاتل وإنّ فرسه لمضروب على أذنه وحاجبيه والدماء تسيل منه ، فالتفت الحصين إلى يزيد وقال له : هذا الحرّ الّذي كنت تتمنّاه.

قال : فخرج إليه ، فما لبث الحرّ أن قتل يزيد وقتل معه أربعين فارساً وثلاثين راجلاً ، فعرقب فرسه فبقي راجلاً ويقول :

إنّي أنا الحر ونجل الحرّ

اشجع من ذي لبد هزبر

ولست بالجبان عند الكرّ

لكنّني الوثّاب عند الفرّ

فلم يزل يجال الشجعان ، ويقطر الأقران ، ويبلي الأعذار ، في نصرة قرّة عين المختار ، حتّى قتل وانتقل إلى جوار الملك الغفّار ، في دار القرار ، فلمّا قتل مشى إليه الحسين وجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : « أنت حرّ كما سمّتك أمّك ».

ورثاه رجل من أصحاب الحسين عليه‌السلام بهذا الأبيات ، وقيل : عليّ بن الحسين عليه‌السلام :

فنعم الحرّ حر بني رياحٍ

صبور عند مشتبك الرماح

ونعم الحرّ إذ واسا حسيناً

فجاد بنفسه عند الصباح

فأقرره إلهي دار خلد

وزوّجه من الحور الملاح

واشترك في قتله أبو أيّوب الغنوي ورجل من فرسان أهل الكوفة (١).

فهنيئاً للحرّ حيث فاز بفضيلة الإنتصار ، وجاد بنفسه بين بتّار وخطّار ، وعرض مهجته للتلف والبوار ، وخرج من رقّ الذلّ والصغار ، وتوّج هامته بتاج العزّ والفخار ، أوَلا تكونون يا أرباب العقول والأبصار ، كمن تصوّر مصائب ساداته الأطهار ، وتذكّر نوائب أئمّته ذوي المراتب والأقدار ، فرثاهم بنفائس المراثي والأشعار ، وهو من الخلّص الأبرار.

__________________

(١) ورواه لطبري في تاريخه : ٥ : ٤٣٤.

ورواه المجلسي في البحار : ٤٥ : ١٤ نقلاً عن محمّد بن أبي طالب.

وروى القسم الأوّل منه مختصراً ابن الأثير في الكامل : ٤ : ٦٧.

١١٨

المصرع التاسع

من مصارع الحسين عليه‌السلام

ضعوا أقدام التوكّل في ركاب اليقين ، واثنوا أعنّة التأمل على قرابيس الحقيقة والتعيين ، وامتشقوا لوامع الثكل من أجفان الأسف والتهوين ، وأسرعوا وثبة الوجل واستحضروا نوائي الحنين ، وأغرخوا شكائم النياحة والزجل في مضامير الوصب والأنين ، وتصوّروا أقدام الغطارفة الكمّل والأماجد الميامين ، على مشتبكات الوشيج الأسل والتثام كلّ باتر سنين وشاركوهم في المقام الأنبل والمسكن الأمين ، فلقد والله فازوا بغاية الأمل ، وجادوا بالنفيس الثمين ، تجرّعوا كاساة حرارة النكل فبردت غللهم من ضرام التوهين ، وصبروا على اقتحام لجج الخوف والوجل ، واطمأنّوا في القرار المكين ، ولله درّ من قال من الأبدال ولقد أجاد :

قوم كأوّلهم في الفضل آخرهم

والفضل أن يتساوى البدء والعقب

فمنذر مصطفىً بالوحي منتجب

ومرتضى مجتبى بالهدي منتخب

الواهبون لدى البأساء ما وجدوا

والطالبون بصدر الرمح ما طلبوا

والمدركون إذا ما أزمة بخلت

بصرفها وتخلّت عندها الصحب

وكم لهم حين جدّ الخطب من قدم

رست عُلاً والجبال القود تضطرب

ولا كيومهم في كربلاء وقد

جدّ البلا وارجحنّت عندها الكرب

وفتية وردوا ماء المنون بها

ورد المضاضة ظمآن الحشا سغب

من كلّ أبيض وضّاح الجبين له

نوران من جانبيه الفضل والنسب

تجلو العفاة لهم تحت القنا غرراً

تلاعب البيض فيها والقنا السلب

١١٩

أمة ! أميّة أن تعلو لها شرف

ويصبح الرأس مخدوماً له الذنب

ودون ما يممّت هند وجارتها

هند السيوف وحرب دونه الحرب

جاءت ليستعبد الحرّ اللئيم وفي

عود العلا عند عجم الضيم مضطرب

فشمّرت للوغى فرسانها طرباً

وامتاز بالسبك عن ما دونها الذهب

روي في كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » : أنّه لمّا استشهد الحرّ رضي‌الله‌عنه برز من بعده برير بن خضير الهمداني ، فلمّا حاذ الحسين عليه‌السلام قال : السلام عليك يا ابن رسول الله ، أستودعك الله.

فأجابه الحسين : « وعليك السلام ، ونحن خلفك ». وقرأ عليه‌السلام : ( فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (١).

ثمّ نادى برير : اقتربوا منّي يا قتلة المؤمنين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد البدريّين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول ربّ العالمين وذريّته الباقين.

وكان برير زاهداً عابداً ، وكان أقرأ أهل زمانه ، فحمل على القوم وهو يقول :

أنا برير وأبو خضير

ليث يروع الأسد عن الزير

يعرف فينا الخير أهل الخير

ذلك فعل الخير من برير

فلم يزل يقاتل حتّى قتل عشرين فارساً وثلاثين راجلاً ، فخرج إليه يزيد بن معقل واتّفقا على المباهلة إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب منهما وأن يقتل المحقّ المبطل منهما ، فتلاقيا فقتله برير وقتل معه عدّة من الرجال ، فتكاثروا عليه فقتلوه رحمة الله عليه ، فلمّا قتل برير عظم ذلك على الحسين عليه‌السلام (٢).

قال : فخرج من بعده وهب بن حباب الكلبي ، فأحسن في الجلاد وبالغ في الجهاد ، وكانت امرأته ووالدته معه ، فقالت له أمّه : جاهد بين يدي ابن بنت

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ : ٢٣.

(٢) رواه السيّد مختصراً في الملهوف : ص ١٦٠.

ورواه الطبري في تاريخه : ٥ : ٤٣٢ مع إضافات ، وابن الأثير في الكامل : ٤ : ٦٦ ، والمجلسي في البحار : ٤٥ : ١٥.

١٢٠