مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

لا شيء أجمل من عفاف زانه

ورع ومن لبس العفاف تجمّلا

طبعت سرائرنا على التقوى ومن

طبعت سريرته على التقوى علا

أهواه لا لخيانة حاشا ومن

أنهى الكتاب تلاوة أن يجهلا

لي فيه مزدجر بما أخلصته

في المصطفى وأخيه من عقد الولا

فهما لعمرك علّة الأشياء في

أهل الحقيقة إن عرفت الأمثلا

الأوّلان الآخران الباطنان

الظاهران الشاكران لذي العلا

الزاهدان العابدان الراكعان

الساجدان الشاهدان على الملا

خُلِقا وما خلق الوجود كلاهما

نوران من نور العليّ تفصّلا

في علمه المخزون مجتمعان لن

يتفرّقا أبداً ولن يتحوّلا

فاسأل عن النور الّذي تجدنّه

في النور مسطوراً وسائل من تلا

واسأل عن الكلمات لمّا أن بها

حقّاً تلقّى آدم فتقبّلا

ثمّ اجتباه فأودعا في صلبه

شرفاً له وتكرّما وتبجّلا

فاحمدوا يا إخواني ربّكم الأجلّ حيث ألبسكم خلعة الوجود ، واشكروا يا خلاّني نبيّكم الأفضل ؛ إذ هو الفيّاض عليكم زلال الجود ، به ختم الله المرسلين ، وكان هو علّة وجود النبيّين ، صلى‌الله‌عليه‌وآله حملة الكتاب ، والأدلاّء على الخير والصواب ، الّذين كانوا في الأجساد أشباحاً ، وفي الأشباح أرواحاً ، وفي الأرواح أنواراً ، وفي الأنوار أسراراً ، فهم الصفوة والصفاة ، والأصفياء والكلمات ، وإليهم الإشارة بقولهم : « لولانا ما عرف الله ، ولولاه ما عرفنا ».

روى في الكتاب المذكور (١) عن زياد بن المنذر ، عن ليث بن سعد قال : قلت

__________________

(١) مشارق أنوار اليقين للبرسي : ص ٧١ مع اختلاف لفظي ، وزاد في آخره : ونجد في الكتب أنّ عترته خير البشر ، ولا تزال الناس في أمان من العذاب ما دامت عترته في الدنيا. فقال معاوية : يا أبا إسحاق : ومَن عترته ؟ فقال : من ولد فاطمة. فعبس معاوية وجهه وعضّ على شفته وقام من مجلسه.

٢١

لكعب الأحبار وهو عند معاوية : كيف تجدون صفة مولد النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وهل وجدتم لعترته فضلاً ؟ فالتفت كعب إلى معاوية لينظر كيف هو ، فأنطقه الله فقال : هات يا أبا إسحاق. فقال كعب : إنّي قرأت في سبعة وسبعين (١) كتاباً نزلت من السماء ، وقرأت صحف دانيال ، ووجدت في الكلّ مولده ومولد عترته ، وأنّ اسمه لمعروف ولم يولد ، نُبِّئ فنزلت عليه الملائكة قطّ ما عدا عيسى وأحمد ، وما ضرب على آدميّة حجاب الجنة غير مريم وآمنة ، وكان من علامة حمله أن نادى منادٍ من السماء في ليلة حمله : ابشروا يا أهل السماء ، فقد حملت آمنة بأحمد ، وفي الأرض كذلك [ حتّى في البحور ، وما بقي يومئذ في الأرض دابّة تدبّ ولا طائر يطير إلاّ وعلم بمولده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ] ، ولقد بني في تلك الليلة في الجنّة سبعون ألف قصر من ياقوتة حمراء وسبعون ألف قصر من لؤلؤة رطبة ، وسمّيت قصور الولادة ، وقيل للجنّة اهتزّي وتزيّني فإنّ في هذه الليلة ولد نبي أوليائك ، فضحكت يومئذ فهي ضاحكة إلى يوم القيامة ، وبلغنا أنّ حوتاً من حيتان البحر يقال له طمسوسا وهو سيد الحيتان له سبعمئة ألف ذنب يمشي على ظهور سبعمئة ألف ثَور ، الواحد أكبر من الدنيا ، لكلّ ثور سبعمئة الف قرن من زمرّد أخضر ، وقد اضطربت ليلة مولده فرحاً ، ولولا أنّ الله ثبّتها لجعلت الأرض عاليها سافلها ، ولا بقي جبل إلاّ لقى صاحبه بالبشارة وهم يقولون : « لا إله إلاّ الله » ، ولقد خضعت الجبال لأبي قبيس كرامة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولقد ماست الأشجار أربعين يوما بأفنانها وأطيارها وأنهارها (٢) ، ولقد نصب بين السماء والأرض سبعون عموداً من نور ، ولقد بشّر آدم بمولده فزاد في حسنه أضعافاً (٣) ، ولقد اضطرب الكوثر

__________________

(١) في المصدر : « في اثنين وسبعين ».

(٢) في المصدر بدل « ولقد ماست ... وأنهارها » : ولقد قدست الأشجار أربعين يوماً بأغصانها وأنهارها وثمارها فرحاً بمولده.

(٣) في المصدر بدل « ولقد ماست ... وأنهارها » : ولقد قدست الأشجار أربعين يوماً بأغصانها وأنهارها وثمارها فرحاً بمولده.

٢٢

حتّى أسقط سبعين قصراً من الزمرّد نثاراً لمقدمه ، ولقد زمّ إبليس وكبّل وألقي في الحصر أربعين يوماً ، ولقد سقطت الأصنام ، وسمعت قريش أصواتاً من داخل الكعبة وقائلاً يقول : « يا قريش ، قد جاءكم البشير النذير معه عمود الأبد والربح الأكبر ، وهو خاتم الأنبياء ».

وكذلك ما ورد في الكتاب المذكور (١) أنّ الملك سيف بن ذي يزن قال لعبد المطلب رضي‌الله‌عنه : إنّي أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون أنّه يولد بتهامة غلام بين كتفيه علامة تكون له الإمامة ولولده إلى يوم القيامة ، يموت أبوه وأمّه ويكفله جدّه وعمّه.

وكان مولده صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة السابع عشر من شهر ربيع الأوّل عام الفيل ، وتوفّي أبوه وهو ابن شهرين ، وماتت أمّه وهو ابن أربع سنين ، ومات عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين ، وكفّله عمّه أبوطالب رضي‌الله‌عنه.

فيا مدّعي الشرف قصّر خطاك وثقل حملك على مطاك ، ويا أيّها الطالب لسموّ المكانة ، والخاطب لمحجّبات الصيانة ، والراقد على فرش الإفتخار ، والراغب في عناق أبكار الأقدار ، امدد بصرك ، وأحدّ نظرك ، فقد طلعت شمس الأسرار من مطالع العناية ، ولمع نور الأنوار من مشارق الهداية ، وأنّ الحي القيّوم قد فضّل الحضرة المحمّدية ، بأن جعل نورها هو الفيض الأوّل ، وجعل سائر الأنوار تشرق منها وتشعشع عنها ، وجعل لها السبق الأوّل ، ولها السبق على الكلّ والرفعة على الكلّ والإحاطة بالكلّ ، فما أحرى ذلك بقول الناصح والحبيب الصالح حيث قال :

نقّل فؤادك ما استطعت من الهوى

ما الحبّ إلاّ للحبيب الأوّل

__________________

(١) مشارق أنوار اليقين : لص ٧٤ مع اختلاف في بعض الألفاظ فقط.

ورواه الشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة : ج ١ ص ١٧٦ ح ٣٢ باب ١٣ في خبر سيف بن ذي يزن ، مع إضافات كثيرة.

٢٣

صلى الله عليه صلاة تعمّ صلاة المصّلين ، وتفوق دعوات الداعين ، ما حنّت القلوب المفتونة به إليه ، وعطفت أعناق شوقها عليه.

لا تجل في صفات أحمد طرفاً

فهو الغاية الّتي لن تراها

قلّب الخافقين ظهراً لبطن

فرأى ذات أحمد فأجتباها

ليت شعري هل ارتقى قمم

الأملاك أم طأطأت له فرقاها

بل لسرّ من عالم الغيب فيه

دون إدراك لحظه أنهاها

ذاك ظلّ الإله لو ان حوته

أهل وادي جهنّم لحماها

وهو الآية المحيطة بالكون

ففي عين كلّ شيء تراها

بشّرت أمّه به الرسل طرّاً

طرباً بأسمه فيا بُشراها

تلتقى كلّ ذروة برسول

أيّ فخر للرّسل في ملتقاها

روى في كتاب الأحتجاج مرفوعاً الى معمل بن راشد قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « أتى يهودي الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقام بين يديه يحدّ النظر فيه (١) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا يهودي ما حاجتك ؟ فقال اليهودي : جئت أسألك : أنت أفضل أم موسى بن عِمران النبي الذي كلّمه الله عزّ وجلّ ، وأنزل عليه التوراة والعصا ، وفلق له البحر ، وأظلّه بالغمام ؟

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه يُكْرَه للعبد أن يزكّي نفسه ، ولكنّي أقول : إنّ آدم عليه‌السلام لمّا أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما غفرت لي. فغفرها الله له ، وإنّ نوحا عليه‌السلام لمّا ركب في السفينة وخاف الغرق قال : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما نجّيتني (٢) من الغرق. فنجّاه الله عزّ وجلّ ، وإنّ إبراهيم عليه‌السلام لمّا ألقي في النّار قال : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما أنجيتني منها. فجعلها الله عليه برداً وسلاماً ، وإنّ موسى عليه‌السلام لمّا ألقى

__________________

(١) في المصدر : « إليه ».

(٢) في المصدر : « أنجيتني ».

٢٤

عصاه فأوجس في نفسه خيفة قال : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما آمنتني. قال الله جل جلاله : ( لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَىٰ ) (١).

يا يهودي ، لو أنّ موسى عليه‌السلام أدركني (٢) ثمّ لم يؤمن بنبوّتي ، لم ينفعه إيمانه شيئاً ، ولا نفعته النبوّة.

يا يهودي ، ومِن ذريّتي المهدي ، إذا خرج نزل المسيح لنصرته ، فيقدّمه ويصلّي خلفه ».

فصمت اليهودي كأنّما ألقم حجراً.

وروي عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن أبيه علي بن الحسين عليهم‌السلام أنّه دخل عليه رجلان من قريش ، فقال : « إلاّ أحدّثكما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ». قالا : بلى ، حدّثنا عن أبي القاسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال : سمعت أبي يقول : « لمّا كان قبل وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاثة أيّام نزل [ عليه ] جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا أحمد ، إنّ الله أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً [ لك ] وخاصّة ، يسألك عمّا هو أعلم به منك ، يقول : كيف تجدك يا محمّد ؟

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : تجدُني يا جبرئيل مغموماً ، تجدني يا جبرئيل مكرُوباً.

فلمّا كان اليوم الثالث هبط جبرئيل ومعه ملك الموت عليهما‌السلام ، ومعهما مَلَكٌ يقاله له : « إسماعيل » في الهواء في سبعين ألف مَلَك ، فسَبَقَهُم جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ : ٦٨.

(٢) في المصدر : « إنّ موسى لو أدركني ».

( ) رواه الطبرسي في الباب ٢٨ ـ ذكر استشفاع أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين في دعوى الأنبياء عليهم السلام من الاحتجاج : ج ١ ص ١٠٦.

ورواه الصدوق في أماليه : المجلس ٣٩ الحديث ٤ ، والعلاّمة المجلسي في البحار : ٢٦ : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

وأورده الفتّال في عنوان « مناقب آل محمّد صلوات الله عليهم » من روضة الواعظين : ص ٢٧٢ ، والسبزواري في الفصل ٤ من جامع الأخبار : ص ٤٤ ـ ٤٥ ح ٤٨ / ٩.

( ) في المصدر : « هبط ».

٢٥

محمّد ، إنّ الله أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً ، يسألك عمّا هو أعلم به منك ويقول : كيف يَجِدك يا محمّد ؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تجدُني يا جبرئيل مغموماً ، تجدُني يا جبرئيل مكروباً.

فاستأذن مَلَك الموت عليه ، فقال جبرئيل : يا محمّد ، هذا ملك الموت يستأذن عليك ، ولَم يستأذن [ على أحد قبلك ، لا يستأذن ] (١) على أحد بعدك ، فهل تأذن له ؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم.

فأذن جبرئيل إليه ، فأقبل حتّى وقف بين يديه وقال : يا أحمد ، إنّ الله أرسلني إليك ، وأمرني أن أطيعك فيما تأمرني ، فإن أمرتني بقبض نفسك قبضتُها ، وإن كرهتَ تركتُها.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أو تفعل ذلك يا ملك الموت ؟

قال : نعم ، بذلك أمِرتُ.

فقال جبرئيل عليه‌السلام : يا أحمد ، إنّ الله تبارك وتعالى قد اشتاق إلى لقائك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ملك الموت ، امضِ لما اُمِرتَ به.

فقال جبرئيل عليه‌السلام : هذا آخر هبوطي الأرض ، وإنّما كنتَ أنت حاجتي من الدنيا (٢).

فلمّا أراد ملك الموت أن يقبض روحه قال له : « خفّف ». قال : خفّفت يا رسول الله ، ولكنّ النزع شديد.

قال : أو يكون لكلّ واحد من أمّتي مثل هذه الشدائد ؟

قال : وأضعاف هذا.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ضع على روحي الشدّة حتّى يكون عليهم أهون.

__________________

(١) من سائر المصادر.

(٢) إلى هنا رواه الشيخ الصدوق في أماليه : المجلس ٤٦ الحديث ١١ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

٢٦

فلمّا بلغت الروح نحره وصبّ الماء على صدره ، فقال : هوّن عليّ سكرات الموت ، فلمّا حبس لسانه وغمّضت عيناه حرّك شفتيه ، ثمّ نظر إلى عليّ عليه‌السلام وهو جالس يبكي ورأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجره ، فهبط رأسه وجعل يوصيه بأشياء لا يفهمها بينهما إلاّ جبرئيل ، ثم وضع أُذُنه على فمه وهو يقول : « أمّتي أمّتي ».

وتوفّي صلى‌الله‌عليه‌وآله في اليوم الثامن والعشرين من شهر صفر سنة [ أحد ] عشرة من الهجرة كما وردت به الروايات عن الأئمّة الثقات (١) ، ولله درّ من قال :

ألا طرق الناعي بليل فراعني

وارقّني لمّا استقلّ مناديا

فقلت له لمّا رأيت الّذي أتا :

ألا انع رسول الله إن كنت ناعيا

فحقّقت ما أشفقت منه ولم أنل

وكان خليلي عزّنا وجماليا

فو الله ما أنساك أحمد ما مشت

بي العيس في أرض تجاوزن واديا

وكنت متى أهبط من الأرض تلعة

أرى أثراً منه جديداً وعافيا

جرى رحيب الصدر نهد مصدّر

هو الموت مدعوّ عليه وداعيا

فوا لهف نفسي على علّة الوجود ، وينبوع المكارم والجود ، ويا طول تأسّفي على شمس الهداية والسعود ، كيف حجبتها غيوم اللحود ، وعلى ودود الملك الودود ، كيف صعّر الحمام منه الخدود ، على الحبل الممدود ، بين العبيد والمعبود ، كيف ابتلته مواضى القضاء المنفود ، وعلى مقيم السنن والحدود ، وكريم الآباء

__________________

(١) رواه الشيخ في التهذيب : ٦ : ٢ في أوّل كتاب المزار ، وعنه المجلسي في البحار : ٢٢ : ٥١٤ ، والطبرسي في إعلام الورى : ص ١٤٣ وعنه في البحار : ٢٢ : ٥٣٠.

والمشهور أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله توفّي سنة إحدى عشرة من الهجرة كما قال الشيخ الطوسي في مصباح المتهجّد : ص ٨٩٠ ، والمجلسي في البحار : ٢٢ : ٥١٤ ح ١٦ عن قصص الأنبياء ( مخطوط ) ، والمفيد في الإرشاد : ج ١ ص ١٨٩.

قال المجلسي في البحار : ٢٢ : ٥٣٠ : بيان : لعلّ قوله سنة عشرة مبني على اعتبار سنة الهجرة من أوّل ربيع الأوّل حيث وقعت الهجرة فيه ، والّذين قالوا سنة إحدى عشرة ينوه على المحرّم ، وهو أشهر.

٢٧

والجدود ، كيف نهل من منهل الحين المورود ، فوا عجباً للجبال الشواهق لم تسنح بالهمود ، وللعيون كيف تنال سنة الهجود ، أما كان في هذا الحادث النكود ، والجائح الموقود سبب لاختلال نظام الوجود ، واصطلام نفس الوالد والمولود ، وعلى مثله فلتمزّق الكبود ، فضلاً عن البرود ، وتجزأ نيط القلب الكمود عوضاً من النواصي والجعود ، أو لا تكونون كمن طوق جيد صبره لهذه الرزيّة بعقود ، وطال له فيها القيام والقعود ، فرثاه بما سمحت به قريحته من الأبيات المزرية بلآلي العقود ، وهو من شيعته الباذلين فيه أقصى المجحود.

٢٨

المصرع الثاني

وهو مصرع فاطمة الزهرا صلوات الله عليها

استنهضوا إخواني سبّق الصبابة وأجروها في ميادين المناخ ، وامتطوا كواهل عوامل الكآبة ، واهجروا كواعب الأفراح ، وأطفئوا وهج القلوب المذابة بالدمع السيّاح ، وواسوا كلوم الأفئدة المصابة بمراهم بذل الأرواح ، وتفكّروا فيما زعزع بيت النجابة منا لفادح المتاح ، فقد هزّ عليهم الدهر حرابه وأروى من دمائهم ظوامي الصفاح ، وألقى عليهم الزمان ركابه وأشفى منهم أولاد السفاح ، وترك جسومهم الطاهرة غنائمه ونهابه وأسمى رؤوسهم عوالي الرماح ، وضيّق عليهم فجاج البسيط ورحابه وشتتهم في البطاح ، فأوّل فادح قرعوا بابه ووردوا منه الأتراح ، وأوّل قادح أوتر نحوهم شهابه وناداهم لا براح ، ما جرى على الدرّة المنضّدة في عقود الكمال ، والقدوة المسدّدة من تطرّقات الضلال ، الإنسيّة الحوراء ، أمّ الأئمة النجباء ، فاطمة الزهرا صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها ، ولله درّ من قال من الميامين الأبدال :

ولقد وقفت على منازل من

أهوى وفيض مدامعي غمر

وسألتها لو أنّها نطقت

أم كيف ينطق منزل قفر

يا دار هل لك بالاُولى رحلوا

خبر وهل لمعالم خبر

أين البدور بدور سعدك يا

مغنى وأين الأنجم الزهر

أين الكفاة ومن أكفّهم

في النائبات لمعسر يُسر

أين الربوع المخصبات إذا

عفت السنون وأعوز البشر

أين الغيوث الهاطلات إذا

بخل السحاب وأفحم القطر

ذهبوا فما وأبيك بعدهم

للناس تبيان ولا غرّ

٢٩

تلك المحاسن في القبور على

مرّ الزمان هوامد دثر

أبكي اشتياقاً كلّما ذكروا

وأخو الغرام يهيجه الذكر

روي (١) عن المفضّل بن عمر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف كانت ولادة فاطمة عليها‌السلام ؟ قال : « نعم ، إنّ خديجة لمّا تزوّج بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هجرتها نساء مكّة وكنّ لا يدخلن إليها ولا يسلّمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها ، فاستوحشت خديجة عند ذلك ، فلما حملت بفاطمة عليها‌السلام كانت فاطمة عليها‌السلام تحدّثها في بطنها وتصبّرها ، وكانت تكتم ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدخل [ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ] يوماً فسمع خديجة تحدّث فاطمة صلوات الله عليها ، فقال لها : يا خديجة ، من تُحدّثين ؟

قالت : الجنين الّذي في بطني يحدّثني ويؤنسيني.

قال : يا خديجة ، هذا جبرئيل عليه‌السلام يبشّرني أنّها إبنتي وأنّها النسلة الطاهرة الميمونة ، وأنّ الله سيجعل نسلي منها ، وسيجعل من نسلها أئمّة ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقطاع وحيه.

فلم تزل خديجة كذلك حتّى حضرت ولادتها ، فوجّهت إلى نساء قريش ونساء بني هاشم أن تعالين لتليني منّي ما تلي النساء من النساء ، فأرسلن إليها عصيتينا ولم تقبلي منّا وتزوّجت محمّداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له ، فلسنا نجيء إليك ولا نلي من أمرك شيئاً.

__________________

(١) ورواه الشيخ الصدوق في الأمالي : المجلس ٨٧ ح ١ ، والطبري الإمامي في دلائل الإمامة : ص ٧٦ ح ١٧ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

وأورده ابن شهر آشوب في المناقب : ٣ : ٣٨٨ في عنوان : « فصل في معجزاته عليه‌السلام » ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب : ص ٢٨٥ في الباب الرابع ، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين : ص ١٤٣ ، والراوندي في الخرائج والجرائح : ٢ : ٥٢٤.

ورواه مختصراً القندوزي الحنفي في ينابيع المودة : ص ١٩٨ في الباب ٥٦ وقال : أخرجه الملاّ في سيرته.

٣٠

فاغتمّت خديجة لذلك ، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنّهنّ من نساء بني هاشم ، ففزعت منهنّ لما رأتهنّ ، فقالت إحداهنّ : لاتحزني يا خديجة ، فإنّا رسل ربّك إليك ، ونحن أخواتك ، أنا سارة ، وهذه آسية بنت مزاحم ، وهي رفيقتك في الجنّة ، وهذه مريم بنت عمران ، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران ، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء.

فجلست واحدة عن يمينها والأخرى عن يسارها والثالثة من بين يديها والرابعة من خلفها ، فوضعت فاطمة عليها‌السلام طاهرة مطهرة ».

وكانت ولادتها باليوم العشرين من جمادى الآخر قبل الهجرة بثمان سنين (١).

وكانت عليها‌السلام تنمو في اليوم كما ينمو غيرها في الشهر ، وتنمو في الشهر كما ينمو غيرها في السنة.

فلا غرو فهي سماء النبوّة وشمس الرسالة وقمر العصمة ودوحة الحكمة وجرثومة الشرف وبيت الفخار الأشرف.

بنت النبيّ الّتي فاقت عُلىً وسمت

شأناً فما مثلها شمس ولا قمر

البدر من خجل يخفى إذا طلعت

والشمس في أفقها بالغيم تعتجر

والغصن في الروض إن مرّت وإن خطرت

يغضي حياء وفي الأوراق يستتر

روي (٢) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ذات يوم من الأيّام جالساً بإزاء المسجد الحرام إذ أتته جماعة من خواتين نساء قريش لابسين ثياباً من قباطّي مصر متلفّعين بأردية مذهّبة وهم في غبطة وفرح وسرور ، وقد سقاهم الدهر كأساً من الغرور ،

__________________

(١) انظر دلائل الإمامة للطبري : ص ٧٩ ح ١٨ وص ١٣٤ ح ٤٣ ، وفي المناقب لابن شهر آشوب : ٣ : ٤٠٥ في عنوان : « فصل في حليتها وتواريخها عليها‌السلام » ، والبحار : ج ٤٣ ص ٩ ح ١٦.

(٢) ورواه بنحو آخر الرواندي في الخرائج والجرائح : ٢ : ٥٣٨ في أعلام فاطمة البتول عليها‌السلام : ح ١٤ ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٣ : ٣٠ ح ٣٧ ، والبحراني في ترجمة فاطمة عليها‌السلام من العوالم : ص ٢١٩ باب ٣ ح ٢.

٣١

فجعلن بتبخترن في خطواتهن ينظرن لميال قاماتهن حتّى وصلن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلّمن عليه وقلن : يا محمّد ، إنّك ، وإن كنت فينا في الملّة غريباً فأنت منّا في النسب قريب ، فلا تقطع حبل النسب منّا ، ولا تختار البعد عنّا.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وما ذاك ؟ »

قلن : إنّ عندنا عرساً وزفافاً ، ونلتمس من حضرتك الشريفة وطلعتك المنيفة أن ترسل معنا خاتون القيامة وأصل الإمامة فاطمة عليها‌السلام لتزيّن مجلسنا وتنوّر محلّنا ، ويكون لمجمعنا الرونق والنظام ، ويحصل لعرسنا العزّ والإكرام. وقد أرادوا بذلك خجل الزهرا عليها‌السلام.

فأطرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رأسه مفكّراً وقال لهم : « نعم ما أشرتم ، غداً إن شاء الله أرسلها إليكم لتحوز ثواب زفافكم ».

فمضين النساء مسرعات ، وقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من وقته إلى ابنته وشجرة عترته وقال لها : « يا قطعة جسدي ويا فلذة كبدي ، اعلمي أنّ خواتين قريش ، وأهل المفاخرة والطيش ، قد طلبوا منّي حضورك مجلسهم ، والتمسوا وصولك عرسهم ، لتحضري وقت زفافهم ، ويحملوك على أكتافهم ، وقد أمرنا فاطر السماوات وبارئ النسمات بأن نقابل جفاء الأعداء بالصبر ، ونوازي أذاهم بالشكر ».

فأطرقت الزهرا عليها‌السلام رأسها ساعة إلى الأرض ثمّ قالت : « أنا أمة الجبّار ، وخادمة لمحمّد المختار ، فلا أستطيع التجاوز عن حكمكما ، ولا التعدّي عن أمركما ، يا أبتاه سوف أمتثل أمرك العالي وأعمل بحكمك المتعالي ، ولكن دهرنا غدّار ، يخون بأهل الشرف والمقدار.

يا أبتاه بأيّ حلّة أتزيّن ، وبأيّ حلية أحتشم بها وأتبيّن ؟ أألبس ردائي المرقّع المخرّق ؟! أم قناعي العتيق الممزّق ؟!

يا أبتاه نسوة قريش متلوّنين بأفخر الملابس ، متّكئين على الأرائك في صدور المجالس ، فكيف بي إذا وصلت إليهم ، وجلست لديهم ، فكلّ منهم ينظرني بالطعن والتهكّم ، ويرمقني بالإستهزاء والتبسّم.

يا أبتاه إنّ هؤلاء كانوا لأمّي خديجة الكبرى خدّاماً ، فكم قبّلوا أعتابها إجلالاً وإكراماً ، واليوم هم في الحلل اليمانيّة ، والأردية الأرجوانية.

٣٢

يا أبتاه إنّ نسوة قريش ما ينظرن إلاّ للزينة الدنيويّة ، ويعمون عن الزينة الأخروية ».

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لها : « يا ابنتي ويا نور مقلتي ، لا تغتمّي لهذه الدنيا الدانية ، والمدّة الفانية ، فإنّ ذا كلّه في معرض الزوال ، وما هي إلاّ كفيء نزّال ، يا بنيّة ، إن الفقر فخري والإعسار ذخري ».

فبينما هو كذلك إذ هبط الأمين جبرئيل عن الملك الجليل وقال : « يا محمّد ، ربّك يقرؤك السلام ، ويخصّك بالإكرام ، ويقول لك : أرسل ابنتك فاطمة تحضر زفافهم ، فإنّ الله سيظهر لها معجزات وكرامات ، وتفوز ببركة قدومها بعض النسوان بدولة الإسلام ».

فالتفت النبي إليها وأخبرها بما جاء به جبرئيل ، فقالت : « سمعاً لما قال به ربّي الجليل ».

فقامت ولبست مقنعة الفقر ، وتردّت برداء العصمة ، وتوجّهت نحو النسوة فريدة ، ليس لها خادمة تخدمها ، ولا أمة تحشمها ، فأرسل الله لها فوجاً من الحور العين ، فغيّبنها عن أعين الناظرين ، فلمّا وصلت مجلسهنّ ظهر منها نور شعشعاني ، أخذ بأبصارهنّ ، وحيّر أفكارهنّ ، فلمّا رأوها وقد أقبلت تمشي رويداً تسحب أذيال حلّة لم تر العيون مثلها ، وعلى رأسها تاج من الذهب مكلّل بالدرّ والجوهر ، وفي يديها أساوير من اللؤلؤ ، وفي رجليها خلاخل من الذهب الأحمر ، مرصّع بالفيروزج الأخضر ، ومعها وصائف كالنجوم الزاهرات ، حافّين بها من أربع الجهات ، رافعين أصواتهنّ بالتكبير والتهليل والتقديس للملك الجليل ، فلمّا دخلت المجلس تلجلجت ألسنتهنّ وحارت عقولهن وقالت بعضهن (١) لبعض : مَن هذه التي أرعبت قلوبنا وأدهشت عقولنا ؟ فمنهنّ من فرّت من المجلس لما أصابته من الغمّ ، ومنهن من حملته على السحر كما قيل لأبيها في القدم ، ومنهنّ من أسلمت على يد الزهرا ، وفازت بالسعادة الكبرى ، ثمّ قلن : يا بنت رسول الله ، مرينا بأمرك فإنّا سامعون ومطيعون.

فوا حسرتاه على ذلّها بعد أبيها ، وظلمها بعد مربّيها ، ووا لهفاه لاستهضامها ،

__________________

(١) هذا هو الصحيح ، وفي النسخة : « السنتهم ... عقولهم ... بعضهم » بضمير المذكّر.

٣٣

وتواثب ظلاّمها ، فقد غصبوها تراثها ، وحازوا ميراثها ، وأوجعوا جبينها ، وأغضبوا ربّها ، وتركوها حزينة عليلة ، ومكروبة ذليلة ، ولله درّ من قال من الرجال الأبدال (١) :

يا ابنة الطاهر كم تقرع بالظلم عصاك

غضب الله لخطب ليلة الطفّ عراك

كم تعرّضت لأمرٍ تاقه فانتهراك

وادّعيت النحلة المشهود فيها بالصكاك

كيف لم تقطع يد مدّ إليك ابن صهاك

فزوى الله عن الجنّة زنديقاً زواك

ونفى عن بابه الواسع شيطاناً نفاك

يا قبوراً بالغريين من الطف سقاك

كلّ محلول عرى المرزم محلوب السماك

فإن استغنيت من سقيا حياً عزّ حياك

تحت بطن الأرض حمس نفسه فوق السماك

وغريب الدار يلقى موطن الطعن العراك

خاطباً بالرمح أو تخضب أعراف المذاكي

يخرس الموت إذا سمّته أفواه البواكي

بأبي في قبضة الفجّار منهم كلّ زاكي

روي من طريق ورقة ، عن أَمَة فاطمة عليها‌السلام قالت : إنّه لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إفتجع له الصغير والكبير ، وكثر عليه البكاء ، وقلّ له العزاء ، وعظم رزؤه على الأقرباء ، والأصحاب والأولياء ، والأحباب والغرباء [ والأنساب ] ، فلم تلق إلاّ كلّ باك وباكية ، ونادب ونادبة.

فلم يكن في أهل الأرض أشدّ حزناً وأعظم بكاءاً وانتحاباً من مولاتي فاطمة الزهرا عليها‌السلام ، وكان حزنها يتجدّد ويزيد ، وبكاؤها يشتدّ ولا يبيد ، فجلست سبعة

__________________

(١) قطعات من هذه الأبيات توجد في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ : ٢٣٥.

٣٤

أيّام لا يهدء لها أنين ، ولا يسكن منها الحنين ، وكلّ يوم جاء بكاؤها أكثر من اليوم الأوّل ، فلمّا كان في اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن الكامن ، فلم تطق صبراً إذ خرجت وصرخت فكأنّها من فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نطقت ، فتبادرت النسوان ، وخرجت الولائد والولدان ، وضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وجاء النّاس من كلّ مكان ، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبيّن صفحات وجوه النساء ، وخيّل إلى الناس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قام من قبره وصارت الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم ، وهي تنادي وتندب أباها : « وا أبتاه ، وا ضيعتها ، وا محمّداه ، وا أبا القاسماه ، يا ربيع الأرامل واليتاما ، مَن للقبلة والمصلّى ؟ ومن لابنتك الواهلة الثكلى » ؟

ثم أقبلت تعثر في أذيالها ، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها ، وتواتر دمعتها ، حتّى دنت من قبر أبيها ، فلمّا نظرت إلى الحجرة الطاهرة ، ووقع طرفها على المأذنة ، قصّرت خطاها ، ودام نحيبها وبكاها ، إلى أن أغمي عليها ، فتبادرت النسوة إليها ، فنضحن الماء عليها وعلى صدرها وجبينها ، حتّى أفاقت من غشاها ، عادت إلى نحيبها وبكاها وهي تقول :

« رفعت قوّتي ، وخانني جلدي ، وشمت بي عدوّي ، والكمد قاتلي.

يا ابتاه ، بقيت بعدك والهة وحيدة ، حيرانة فريدة ، قد انخمد صوتي ، وانقطع ظهري ، وتنغصّ عيشي ، وتكدّر دهري ، فما أجد يا أبتاه بعدك أنيساً لوحشتي ، ولا رادّاً لدمعتي ، ولا معيناً لضعف قوّتي ، قد فني بعدك محكم التنزيل ، ومهبط جبرئيل ومحلّ ميكائيل ، وانقلبت من بعدك يا أبتاه الأسباب ، وتغلقت دوني الأبواب ، فأنا للدنيا بعدك قالية ، وعليك ما تردّدت أنفاسي باكية ، لا ينفد شوقي إليك ولا يفنى حزني عليك ».

ثم نادت : « يا أبتاه ، يا أبتاه ». ثمّ أنشأت تقول :

إنّ حزني عليك حزن جديد

وفؤادي والله صبّ عتيد

٣٥

كلّ يوم يزيد فيه شجوني

واكتئابي عليك ليس يبيد

جلّ خطبي فبان عنّي عزائي

فبكائي في كلّ وقت يزيد

إنّ قلباً عليك يألف صبراً

أو عزاءً فإنّه لجليد

ثمّ نادت : « يا أبتاه ، انقطعت بك الدنيا وأنوارها ، وذوت زهرتها ، وكانت بهجتك زاهرة ، فقد اسودّ نهارها ، فصار يحكى حنادسها ، رطبها ويابسها.

يا أبتاه ، لا زلت آسفة عليك إلى التلاق.

يا أبتاه زال غمضي منذ حقّ الفراق.

يا أبتاه ، من للأرامل والمساكين ؟ ومَن للأمّة إلى يوم الدين ؟

يا أبتاه ، أمسينا بعدك من المستضعفين ؟

يا أبتاه ، أصبحت الناس عنّا معرضين ، ولقد كنّا بك معظّمين وفي الناس غير مستضعفين ! فأيّة دمعة لفراقك لا تنهمل ؟ وأيّ حزن عليك لا يتّصل ؟ وأيّ جفن بعدك بالنوم يكتحل ؟ وأنت ربيع الدين ونور النبيّين ، وكيف للجبال لا تمور ؟ وللبحار بعدك لا تغور ؟ والأرض لم تتزلزل ؟ والجبال بعدك لا تتهيّل ؟

رمتينا يا أبتاه بعدك بالخطب الجليل ، والفادح المهول ، ولم يكن رزؤك علينا بالقليل ، وطرقتنا يا أبتاه بالمصاب العظيم الثقيل.

قد بكتك يا أبتاه الأملاك ، ووقفت عن حركتها الأفلاك ، فمنبرك خال من ذاتك ، وقبرك فرح بمواراتك ، ومحرابك مستوحش لفقد مناجاتك ، والجنّة مشتاقة إليك وإلى دعواتك وصلواتك.

يا أبتاه ، ما أعظم ظلمة مساجدك ومجالسك وأوقاتك ! فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلاً عليك.

ولقد أثكل أبو الحسن المؤتمن أبو ولديك الحسن والحسين ، وأخوك ووليّك ، وحبيبك وصفيّك ، ومن ربّيته صغيراً ، وآخيته كبيراً ، وأجلّ أحبابك إليك وأعزّ أصحابك عليك ، من كان منهم سابقاً ومهاجراً ومحامياً وناصراً ، والبكاء قاتلنا والأسى لازمنا ».

٣٦

ثمّ زفرت زفرة في أثر زفرة ، وأنّت أنّة في أثر أنّة ، كادت بها روحها أن تخرج (١).

__________________

(١) وأورده المجلسي في البحار : ٤٣ : ١٧٤ باب ما وقع عليها عليها‌السلام من الظلم : ح ١٥ ، والبحراني في العوالم : في تاريخ فاطمة عليها‌السلام : ٢٥٥.

قال المجلسي : وجدت في بعض الكتب خبراً في وفاتها عليها‌السلام فأحببت إيراده وإن لم آخذه من أصل يعوّل عليه.

روى ورقة بن عبد الله الأزدي قال : خرجت حاجّاً إلى بيت الله الحرام راجياً لثواب الله ربّ العالمين ، فبينما أنا أطوف وإذا أنا بجارية سمراء ، مليحة الوجه ، عذبة الكلام ، وهي تنادي بفصاحة منطقها وهي تقول :

« اللهمّ ربّ الكعبة الحرام ، والحفظة الكرام ، وزمزم والمقام ، والمشاعر العظام ، وربّ محمّد خير الأنام صلى‌الله‌عليه‌وآله البررة الكرام ، [ أسألك ] أن تحشرني مع ساداتي الطاهرين وأبناءهم الغرّ المحجّلين الميامين.

ألا فاشهدوا يا جماعة الحجّاج والمعتمرين ، أنّ موالي خيرة الأخيار ، وصفوة الأبرار ، الّذين علا قدرهم على الأقدار ، وارتفع ذكرهم في سائر الأمصار ، المرتدين بالفخار.

قال ورقة بن عبد الله : فقلت : يا جارية ، إنّي لأظنّك من موالي أهل البيت عليهم‌السلام ؟ فقالت : أجل. قلت : فمن أنت من مواليهم ؟ قالت : أنا فضّة أمة فاطمة الزهرا ابنة محمّد المصطفى صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

فقلت لها : مرحباً بك وأهلاً وسهلاً ، فلقد كنت مشتاقاً إلى كلامك ومنطقك ، فأريد منك الساعة أن تجيبني عن مسألة أسألك ، فإذا أنت فرغت من الطواف قفي لي عند سوق الطعام حتّى آتيك. وأنت مثابة مأجورة. فافترقنا [ في الطواف ].

فلمّا فرغت من الطواف وأردت الرجوع إلى منزلي جعلت طريق على سوق الطعام وإذا أنا بها جالسة في معزل عن الناس ، فأقبلت عليها واعتزلت بها وأهديت إليه هدية ولم أعتقد أنّها صدقة ، ثمّ قلت لها : يا فضّة أخبريني عن مولاتك فاطمة الزهرا وما الّذي رأيت منها عند وفاتها بعد موت أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال ورقة : فلمّا سمعت كلامي تغرغرت عيناها بالدموع ثمّ انتحبت نادبة وقالت : يا ورقة بن عبد الله هيّجت عليّ حزناً ساكناً وأشجاناً في فؤادي كانت كامنة ، فاسمع الآن ما شاهدت منها عليها‌السلام.

اعلم أنّه لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله افتجع له الصغير والكبير ، وكثر عليه البكاء وقلّ العزاء ،

٣٧

__________________

وعظم رزؤه على الأقرباء والأصحاب والأولياء والأحباب والغرباء والأنساب ، ولم تلق إلاّ كلّ باك وباكية ، ونادب ونادبة ، ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب والأقرباء والأحباب أشدّ حزناً وأعظم بكاءً وانتهاباً من مولاتي فاطمة الزهرا عليها‌السلام ، وكان حزنها يتجدّد ويزيد ، وبكاؤها يشتدّ.

فجلست سبعة أيّام لا يهدأ لها أنين ، ولا يسكن منها الحنين ، كلّ يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأوّل ، فلمّا كان في اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن ، فلم تطق صبراً إذ خرجت وصرخت ، فكأنّها من فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تنطق.

فتبادرت النسوان وخرجت الولائد والولدان ، وضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وجاء الناس من كلّ مكان ، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبيّن صفحات النساء وخيّل إلى النسوان أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قام من قبره ، وصارت الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم ، وهي عليها‌السلام تنادي وتندب أباه : « وا أبتاه ، وا صفياه ، وا محمّداه ، وا أبا القاسماه ، وا ربيع الأرامل واليتامى ، مَن للقبلة والمصلّى ؟ ومَن لابنتك الوالهة الثكلى » ؟

ثمّ أقبلت تعثر في أذيالها وهي لا تبصر شيئاً من عَبرتها ، ومن تواتر دمعتها ، حتّى دنت من قبر أبيها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما نظرت إلى الحجرة وقعت طرفها على المأذنة فقصرت خطاها ، ودام نحيبها وبكاها ، إلى أن أغمي عليها ، فتبادرت النسوان إليها ، فنضحن الماء عليها وعلى صدرها وجبينها حتّى أفاقت ، فلمّا أفاقت من غشيتها قامت وهي تقول :

« رفعت قوّتي ، وخانني جلدي ، وشمت بي عدوّي ، والكمَد قاتلي ، يا أبتاه ، بقيت والهة وحيدة ، وحيرانة فريدة ، فقد انخمد صوتي ، وانقطع ظهري ، وتنغصّ عيشي ، وتكدّر دهري ، فما أجد يا أبتاه بعدك أنيساً لوحشتي ، ولا رادّاً لدمعتي ، ولا معيناً لضعفي ، فقد فني بعدك محكم التنزيل ومهبط جبرئيل ومحلّ ميكائيل ، انقلبت بعدك يا أبتاه الأسباب ، وتغلّقت دوني الأبواب ، فأنا للدنيا بعدك قالية ، وعليك ما تردّدت أنفاسي باكية ، لا ينفد شوقي إليك ، ولا حزني عليك ».

ثمّ نادت : « يا أبتاه ، وا لبّاه ». ثم قالت :

إنّ حزني عليك حزن جديد

وفؤداي والله صبّ عنيد

كلّ يوم يزيد فيه شجوني

واكتئابي عليك ليس يبيد

جلّ خطبي فبان عنّي عزائي

فبكائي في كلّ وقت جديد

إنّ قلباً عليك يألف صبراً

أو عزاءً فإنّه لجليد

٣٨

__________________

ثمّ نادت : « يا أبتاه ، انقطعت بك الدنيا بأنوارها ، وزوت زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة ، فقد اسودّ نهارها ، فصار يحكي حنادسها ، رطبها ويابسها ، يا أبتاه لا زلت آسفة عليك إلى التلاق ، يا أبتاه زال غمضي منذ حقّ الفراق ، يا أبتاه مَن للأرامل والمساكين ؟ ومَن للأمّة إلى يوم الدين ؟ يا أبتاه أمسينا بعدك من المستضعفين ، يا أبتاه أصبحت النّاس عنّا معرضين ، ولقد كنّا بك معظّمين في الناس غير مستضعفين ، فأيّ دمعة لفراقك لا تنهمل ، وأيّ حزن بعدك عليك لا يتّصل ؟ وأيّ جفن بعدك بالنوم يكتحل ؟ وأنت ربيعة الدين ، ونور النبيّين ، فكيف للجبال لا تمور ، وللبحار بعدك لا تغور ، والأرض كيف لم تتزلزل ، رميت يا أبتاه بالخطب الجليل ، ولم تكن الرزيّة بالقليل ، وطرقت يا أبتاه بالمصاب العظيم وبالفادح المهول.

بكتك يا أبتاه الأملاك ، ووقفت الأفلاك ، فمنبرك بعدك مستوحش ، ومحرابك خال من مناجاتك ، وقبرك فرح بمواراتك ، والجنّة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك.

يا أبتاه ، ما أعظم ظلمة مجالسك ، فوا أسفاه عليك ، إلى أن أقدم عاجلاً عليك ، وأثكل أبو الحسن المؤتمن ، أبو ولديك الحسن والحسين ، وأخوك ووليّك وحبيبك ، ومن ربّيته صغيراً وواخيته كبيراً ، وأجلّ أحبابك وأصحابك إليك ، من كان منهم سابقاً ومهاجراً وناصراً ، والثكل شاملنا ، والبكاء قاتلنا ، والأسى لازمنا ».

ثمّ زفرت زفرة ، وأنّت أنّة ، كادت روحها أن تخرج ، ثمّ قالت :

قلّ صبري وبان عنّي عزائي

بعد فقدي لخاتم الأنبياء

عين يا عين اسكب الدمع سحّاً

ويك لا تبخلي بفيض الدماء

يا رسول الإله يا خيرة الله

وكهف الأيتام والضعفاء

قد بكتك الجبال والوحش جمعاً

والطير والأرض بعد بكي السماء

وبكاك الحجون والركن والمش‍

‍عر يا سيّدي مع البطحاء

وبكاك المحراب والدرس للقرآ

ن في الصبح معلناً والمساء

وبكاك الإسلام إذ صار في النا

س غريباً من سائر الغرباء

لو ترى المنبر الذي كنت تعلو

ه علاه الظلام بعد الضياء

يا إلهي عجّل وفاتي سريعاً

فلقد تنغّصت الحياة يا مولائي

قالت : ثم رجعت إلى منزلها وأخذت بالبكاء والعويل ليلها ونهارها ، وهي لا ترقأ دمعتها ، ولا تهدأ زفرتها.

٣٩

__________________

واجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقالوا له : يا أبا الحسن إنّ فاطمة عليها‌السلام تبكي الليل والنهار ، فلا أحد منا يتهنّأ بالنوم في الليل على فرشنا ، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معائشنا ، وإنّا نخبّرك أن تسألها إمّا أن تبكي ليلاً أو نهاراً. فقال عليه‌السلام : « حبّاً وكرامة ».

فأقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام حتّى دخل على فاطمة عليها‌السلام وهي لا تفيق من البكاء ، ولا ينفع فيها العزاء ، فلما رأته سكنت هنيئة له ، فقال لها : « يا بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إمّا أن تبكين أباك ليلاً وإمّا نهاراً ». فقالت : يا أبا الحسن ، ما أقلّ مكثي بينهم ، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم ، فوالله لا أسكت ليلاً ولا نهاراً ، أو ألحق بأبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ». فقال لها علي عليه‌السلام : « افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك ».

ثمّ إنّه بنى لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة يسمّى « بيت الأحزان » ، وكانت إذا أصبحت قدّمت الحسن والحسين عليهما‌السلام أمامها وخرجت إلى البقيع باكية ، فلا تزال بين القبور باكية ، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام إليها وساقت من بين يديه إلى منزلها.

ولم تزل على ذلك إلى أن مضى لها بعد موت أبيها سبعة وعشرون يوماً ، واعتلّت العلّة التي توفّيت فيها ، فبقيت إلى يوم الأربعين ، وقد صلّى أمير المؤمنين عليه‌السلام صلاة الظهر وأقبل يريد المنزل ، إذا استقبلته الجواري باكيات حزينات ، فقال لهن : « ما الخبر ، وما لي أراكنّ متغيّرات الوجوه والصور » ؟ فقلن : يا أمير المؤمنين ، أدرك ابنة عمّك الزهرا عليها‌السلام ، وما نظنّ تدركها.

فأقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام مسرعاً حتّى دخل عليها ، فإذا هي ملقاة على فراشها ، وهو من قباطي مصر ، وهي تقبض يمينا وتمدّ شمالاً ، فألقى الرداء عن عاتقه ، والعمامة عن رأسه ، وحلّ أزراره ، وأقبل حتّى أخذ رأسها وتركه في حجره ، وناداها : « يا زهرا » ، فلم تكلّمه ، فناداه : « يا بنت محمّد المصطفى » ، فلم تكلّمه ، فنادها : « يا بنت من حمل الزكاة في طرف ردائه وبذلها على الفقراء » ، فلم تكلّمه ، فناداه : « يا ابنة من صلّى للملائكة في السماء مثنى مثنى » ، فلم تكلّمه ، فناداها : « يا فاطمة كلّميني ، فأنا ابن عمك علي بن أبي طالب ».

قالت : ففتحت عينيها في وجهه ونظرت إليه وبكت وبكى وقال : « ما الّذي تجدينه ، فأنا ابن عمك علي بن أبي طالب ».

فقالت : « يا ابن العمّ ، إني أجد الموت الذي لابدّ منه ولا محيص عنه ، وأنا أعلم أنّك بعدي لا تصبر على قلّة التزويج ، فإن أنت تزوّجت امرأة اجعل لها يوماً وليلة واجعل لأولادي

٤٠