مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

قلت : من أعلمك أنّي بالباب ؟

فقالت : أخبرتني سيّدتي ومولاتي أنّ بالباب رجلاً من كندة من أطيبها خياراً جاء يسألني عن موضع قرّة عيني.

فكبر ذلك عندي ، فوّليتها ظهري كما كنت أدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيت أمّ سلمة ، فقلت لها : ما منزلة الحسين ؟

قالت : « لما ولدت بالحسن عليه‌السلام أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا ألبس ثوباً أجد فيه اللذّة حتّى أفطمه ، فأتاني أبي زائراً فنظر إلى الحسن عليه‌السلام فرآه يمصّ النوى ، فقال : فطمتيه ؟ قلت : نعم. قال : إذا أحبّ على الاشتمال فلا تمنعيه ، فإنّي أرى في مقدّم وجهك نوراً وضوءاً ، وذلك إنّك ستلدين غلاماً يكون حجة لهذا الخلق.

فلمّا تمّ شهر من حملي وجدت في بدني سخنة ، فقلت لأبي ذلك ، فدعا بكوز ماء فتفل فيه وتكلّم عليه وقال : اشربي منه ، فشربت ، فطرد الله عنّي ما كنت أجد ، وصرت في الأربعين من الأيّام ، فوجدت دبيباً في بطني كدبيب النمل فيما بين الجلدة والثوب ، فلم أزل على ذلك حتّى تم الشهر الثاني ، فوجدت الاضطراب والحركة ، فو الله لقد تحرّك وأنا بعيدة من المطعم والمشرب ، فعصمني الله حتّى كأنّي شربت لبناً ، حتّى تمت الثلاثة الأشهر وأنا أجد الزيادة والخير في منزلي.

فلمّا صرت في الأربعة آنس الله به وحشتي ، ولزمت المسجد لا أخرج منه إلاّ لحاجة تخرجني ، وكنت في الزيادة والخفّة في الظاهر والباطن حتّى تمّت الخمسة ، فلمّا صارت الخمسة (١) كنت لا أحتاج في الليلة الظلماء إلى المصباح ، وجعلت أسمع إذا خلوت في مصلاّي التسبيح والتقديس في باطني.

فلمّا مضى فوق ذلك تسع ازددت قوّة ، فذكرت ذلك لأم سلمة ، فشدّ الله بها عضدي ، فلما زالت العشرة غلبتني عيني فأتاني آت فمسح جناحه على ظهري ، فقمت وأسبغت الوضوء وصلّيت ركعتين ، ثم غلبتني عيني فأتاني آت في منامي وعليه ثياب بيض ، فجلس عند رأسي ونفخ في وجهي وفي قفاي ، فقمت وأنا

__________________

(١) في المصدر : « فلما أن دخلت الستّة ».

٨١

خائفة ، فأسبغت الوضوء وأدّيت أربعاً ، ثمّ غلبتني عيني فأتاني آت في منامي فأقعدني ورقّاني وعوّدني ، فأصبحت ـ وكان يوم أم سلمة ـ فدخلت في ثوب حمامة ، فنظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وجهي ورأيت أثر السرور في وجهه ، فذهب عنّي ما كنت أجد وحكيت له ذلك ، فقال :

ابشري ، أمّا الأوّل فخليلي عزرائيل الموكّل بأرحام النساء ، وأمّا الثاني فميكائيل الموكّل بأرحام أهل بيتي ، فنفخ فيك.

قلت : نعم. فبكى ثمّ ضمّني إلى صدره وقال : أما الثالث فذاك حبيبي جبرئيل يخدمه الله ولدك (١).

فرجعت فنزل‍ [ ته ] تمام الستّة ». ليلة الثلثاء لخمس مضين من شعبان ، وقيل : لسبع بقين من رمضان ، سنة أربع من الهجرة (٢).

وروي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : « لما حملت فاطمة بالحسين عليه‌السلام جاء جبرئيل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّ فاطمة ستلد غلاماً تقتله أمّتك من بعدك. فلذلك كرهته فاطمة حال حمله وحال وضعه ».

ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « هل رأيتم أمّا تلد غلاماً فتكرهه ، ولكنّها كرهته لما علمت أنّه سيقتل ، وفيه نزلت هذه الآية : ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) (٣). (٤)

__________________

(١) في المصدر : « يقيمه الله بولدك ».

(٢) رواه الراوندي في الخرائج والجرائح : ٢ : ٨٤٢ ح ٦٠ في نوادر المعجزات ، مع اختلاف في بعض الألفاظ وإضافات في أوّله ، وليس فيه في آخر الحديث : « ليلة الثلاثاء » إلى آخره.

ورواه عنه المجلسي في البحار : ٤٣ : ٢٧١ ح ٣٩ ، والبحراني في العوالم : ١٧ : ١٠ ح ١.

أقول : كون ولادته عليه‌السلام ليلة الثلاثاء لخمس مضين من شعبان موافق لعدّة من الروايات ، لكنّ الأشهر أنّ ولادته يوم الخميس لثلاث خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة.

(٣) سورة الأحقاف : ٤٦ : ١٥.

(٤) ورواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره : ٢ : ٢٩٧ ذيل الآية الشريفة مع اختلاف في

٨٢

وعنه أنّه قال : « إنّ جبرئيل أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والحسين يلعب بين يديه ، فأخبره أنّ أمّته ستقتله ». قال : « فجزع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال جبرئيل : يا محمّد ، إلاّ أريك التربة الّتي يقتل فيها » ؟

قال : « فخسف ما بين مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين المكان الّذي قتل فيه الحسين عليه‌السلام حتّى التقت القطعتان وأخذ منها قبضة وقال : بورك فيك من تربة ، وطوبى لمن يقتل حولك » (١).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « كان الحسين مع أمّه تحمله ، فأخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : لعن الله قاتلك ، لعن الله سالبك ، وأهلك الله المتآزرين عليك ، وحكم الله بيني

__________________

بعض الألفاظ ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٣ : ٢٤٦ ح ٢١.

ورواه الطبري الإمامي في دلائل الإمامة : ص ١٧٩ ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٥٧ في معجزاته عليه‌السلام ، وعنه البحراني في العوالم : ١٧ : ٢١ ح ١٤.

(١) رواه ابن قولويه في كامل الزيارات : ص ١٢٨ باب ١٧ ح ١ ، وفي ص ١٣٠ ح ٥.

ورواه الشيخ الطوسي في المجلس ١١ من أماليه : ح ٨٥ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

وانظر ترتيب الأمالي للمحمودي : ج ٥ ص ١٦٢ ح ٢٣٨٥.

وفي الباب حديث عائشة ، ورواه أحمد في مسنده : ٦ : ٢٩٤ ، والطبراني في المعجم الكبير : ٣ : ١٠٧ برقم ٢٨١٥ ، الطوسي في المجلس ١١ من أماليه : ح ٨٩ ، والمرشد بالله الشجري في الأمالي الخميسيّة : ١ : ١٧٧ ح ٨ ، والخوارزمي في المقتل : ١ : ١٥٩ في الفصل ٨ ، والقاضي النعمان في شرح الأخبار : ٣ : ١٣٥ رقم ١٠٧٤ ، وابن سعد في الطبقات : ص ٤٥ من القسم غير المطبوع برقم ٢٧٠ في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام من تاريخ دمشق : ص ٢٦٠ ـ ٢٦٢ برقم ٢٢٩.

وحديث أنس بن مالك ، رواه الشيخ الطوسي في أماليه : المجلس ١١ الحديث ٨٦ و ١٠٥ ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٦٢.

وانظر ترتيب الأمالي : ٥ : ١٦٤ وبهامشه مصادر كثيرة.

وحديث زينب بنت جحش ، رواه الطبراني في المعجم الكبير : ٢٤ : ٥٤ ح ١٤١ وفي ص ٥٧ ح ١٤٧ وعنه الهيثمي في مجمع الزوائد : ٩ : ١٨٨ وابن حجر في المطالب العالية : ١ : ٩ كتاب الطهارة : ح ١٣ ، وابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام من تاريخ دمشق : ص ٢٦٣ ح ٢٣١.

٨٣

وبين من أعان عليك.

قالت فاطمة الزهراء : يا أبت ، أيّ شيء تقول ؟

قال : يا بنتاه ، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي ، وهو يومئذ في عصبة كأنّهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل (١) ، وكأني أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم.

قالت : يا أبت ، وأين هذا الموضع الّذي تصف ؟

قال : في موضع يقال له « كربلا » وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمّة ، يخرج عليهم شرار أمّتي لو أنّ أحدهم شفّع له من في السماوات والأرضين ما شفّعوا فيه وهم المخلّدون في النار.

قالت : يا أبت ، فيقتل ؟

قال : نعم يا بنتاه ، وما قتل قتلته أحد كان قبله ، وتبكيه السماوات والأرضون والملائكة والنباتات والبحار والجبال ، ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض متنفّس ، ويأتيه قوم من محبّينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوم بحقنا منهم ، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم ، أولئك المصابيح في ظلمات الجور وهم الشفعاء ، وهم واردون حوضي غداً ، أعرفهم إذا وردوا علَيّ بسيماهم ، وكلّ أهل دين يطلبون أئمّتهم وهم يطلبوننا لا يطلبون غيرنا ، وهم قوّام الأرض ، وبهم تنزل الغيث.

فبكت فاطمة وقالت : يا أبت ، إنا لله وإنا إليه راجعون » (٢).

__________________

(١) « يتهادون إلى القتل » إمّا من الهدية كأنه يهدي بعضهم بعضاً إلى القتل ، أو من قولهم : هداه أي تقدّمه أي يتسابقون ، وعلى التقديرين كناية عن فرحهم وسرورهم بذلك.

(٢) ورواه فرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره : ص ١٧١ برقم ٢١٩ ذيل الآية ١١١ من سورة التوبة ، وفي آخره : « فقال لها : يا بنتاه ، إن أهل الجنان ، هم الشهداء في الدنيا ، بذلوا أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقّاً ، فما عند الله خير من الدنيا وما فيها ، [ وما فيها ] قتلة أهون من ميتته ، من كتب عليه القتل

٨٤

فوا لهفتاه على أقمار الهداية ، كيف كسفت بأرض الطفوف ، وواحزناه لأنوار شموس الدراية كيف حجبتها غيوم السيوف ، ووا كرباه لنفس الرسول كيف أسالتها أولاد النغول على حدود النصول ، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

لك الخير لا تذهب بحلمك دمنة

محاها البلى واستوطنتها الأوابد

فما هي إن خاطبتها بمجيبة

وإن جاوبت لم تشف ما أنت واجد

ولكن هلمّ الخطب في رزء سيّد

قضى ظمأ والماء جار وراكد

كأنّي به في ثلّة من رجاله

كما حفّ بالليث الأسود اللوابد

يخوض بهم بحر الوغى وكأنّه

لواردهم عذب المجاجة بارد

إذا اعتقلوا سُمر الرماح وجرّدوا

سيوفاً أعارتها البطون الأساود

فليس لها إلاّ الصدور مراكز

وليس لها إلاّ الرؤوس مغامد

__________________

خرج إلى مضجعه ، ومن لم يقتل فسوف يموت.

يا فاطمة بنت محمّد ، أما تحبين أن تأمرين غداً [ بأمر ] فتطاعين في هذا الخلق عند الحساب ؟ أما ترضين أن يكون ابنك من حملة العرش ؟ أما ترضين [ أن يكون ] أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة ؟ أما ترضين أن يكون بعلك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه ؟ أما ترضين أن يكون بعلك قسيم النار ، يأمر النار فتطيعه ، يخرج منها من يشاء ويترك من يشاء ؟ أما ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك وإلى ما تأمرين به وينظرون إلى بعلك [ و ] قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله فما ترين الله صانع بقاتل ولدك وقاتليك إذا أفلحت حجته على الخلائق وأمرت النار أن تطيعه ؟ أما ترضين أن تكون الملائكة تبكي لابنك ويأسف عليه كل شيء ؟ أما ترضين أن يكون من أتاه زائراً في ضمان الله ويكون من أتاه بمنزلة من حج إلى بيت [ الله الحرام ] واعتمر ولم يخلو من الرحمة طرفة عين ، وإذا مات مات شهيداً ، وإن بقي لم تزل الحفظة تدعوا له ما بقي ، ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتّى يفارق الدنيا ؟

قالت : يا أبه ، سلمت ورضيت وتوكّلت على الله. فمسح على قلبها ومسح [ على ] عينيها ، فقال : إنّي وبعلك وأنت وابناك في مكان تقر عيناك ويفرح قلبك.

ورواه عنه المجلسي في البحار : ٤٤ : ٢٦٤ ح ٢٢.

ورواه ابن قولويه في كامل الزيارات : ص ١٤٤ باب ٢٢ ح ٢.

٨٥

يلاقون شدّاة الكماة بأنفس

إذا غضبت هانت عليها الشدائد

إخواني ، ما عذر أولى الايمان عن أسالة المدامع ، وما حجة ذووا الأذهان في التغافل والتهاجع ، بعد ما قرعت الآذان هذه الداهية الدهياء ، والمصيبة الدهماء ، الّتي جرت على آل بيت الرسالة ، وضعضعت أركان العلم والدلالة ، وأخلت مرابع أهل الفخر والجلالة من سكّانها أرباب البسالة ، ونكّست أعلام العرفان والمقالة ، ووطئت صماخ العلم والنبالة بأخمص الظلم والجهالة ، وتركت رؤوس سادات الرسالة على عوالي الخرصان مُشالة ، ونفوس أصحاب الصدارة والأيالة على صفحات البواتر مسالة ، فهم بين ذبيح لا ينعى ، وجريح لا يداوى ، وأسير لا يفدى ، وثاكل لا يعزّى ، ومصونة مهتوكة الحجاب ، وعقيلة مسلوبة الثياب ، ومفجوعة بفقد الواحد ، وملطومة بكفّ الجاحد ، وأسير في قيد الأذلال ، وعزيز مرغم في الأغلال ، وطفل فطمته ماضيات السهام ، وشابّ ألبسته بُرد النجيع أيدي الكُلام ، لا خاخر يخفرها ، ولا وال يسرّها ، قد أزعجت بطيّ المراحل في الفلوات ، وزجر الزواجر وسوق الحداة ، غير محجوبة النواظر عن الرامق والناظر ، قد اتّخذت النياح فنّاً وشغلاً ، وتبدّلت بالأعداء خدناً وأهلاً ، فليت لفاطمة عينا ناظرة لها في سباها ، وليت لها أذنا تسمع محرقات نعاها ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

روي في كتاب الأرشاد أنّه كتب يزيد إلى الوليد بن عُتبة ـ وكان على المدينة والياً من قِبَل يزيد ـ : أن خذ الحسين بالبيعة لنا ، ولا ترخّص له في التأخر في ذلك.

فأنفذ الوليد إلى الحسين عليه‌السلام في الليل واستدعاه ، فعرف الحسين عليه‌السلام الّذي أراد ، فدعا جماعة من موالي بني هاشم وأمرهم أن يتجلّلوا بالسلاح وقال لهم : « إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ، ولست آمنه أنّه يكلفني أمراً فيه لا أجيبه

٨٦

إليه (١) ، وهو غير مأمون ، فكونوا معي ، فإذا دخلت إليه فكونوا أنتم بالباب ، فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا لتمنعوه منّي ».

فصار الحسين عليه‌السلام إلى الوليد ، فوجد عنده مروان بن الحكم ، فنعا إليه الوليد معاوية ، فاسترجع الحسين عليه‌السلام ، ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة عليه له.

فقال له الحسين عليه‌السلام : « إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى أبايعه جهراً فيعرف ذلك النّاس » ؟

فقال له الوليد : أجل.

فقال الحسين عليه‌السلام : « فتصبح وترى رأيك في ذلك ».

فقال له الوليد : انصرف على اسم الله حتّى تأتينا مع جماعة الناس.

فقال له مروان ـ لعنه الله ـ : والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع ، فلا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتل بينكم وبينه ، فاحبسه فلا يخرج من عندك حتّى يبايع ، فإن أبى فاضرب عنقه.

فوثب عند ذلك الحسين عليه‌السلام وقال : « ءأنت يا ابن الزرقاء تضرب عنقي ، أو هو ؟ لعنت وأثمت ». وخرج يتمشّى مع مواليه حتّى أتى منزله.

فقال مروان للوليد : عصيتني ، لا والله لا يمكنك بمثلها من نفسه.

فقال الوليد : ويحك يا مروان ، اخترت لي الّتي فيها هلاكي ديناً ودنياً ، والله ما أحبّ أن تكون لي حمر النعم وأنّي قتلت حسيناً ! سبحان الله أقتل حسيناً بأن قال : لا أبايع يزيد ! والله إني لا أعلم رجلاً يحاسب بدم الحسين إلاّ وهو خفيف الميزان عند الله يوم القيامة.

فقال له مروان : رأيك أصوب (٢).

__________________

(١) في المصدر : « ولست آمن ، أيكلّفني فيه أمراً لا أجيبه إليه ».

(٢) إلى هنا رواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٣٢ مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وعنه المجلسي في

٨٧

قال : وخرج الحسين عليه‌السلام من منزله ذات ليلة وأقبل إلى قبر جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « السلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ، وسبطك الذي خلّفتني في أمتك ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنّهم قد خذلوني وضيّعوني ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك ».

قال : ثمّ قام إلى نصف الليل راكعاً وساجداً (١).

قال : وأرسل الوليد إلى منزل الحسين عليه‌السلام لينظر هل خرج من المدينة أم لا ، فلم يصبه في منزله ، فقال : الحمد لله الّذي أخرجه ولم يبتليني بدمه.

قال : ورجع الحسين عليه‌السلام إلى منزله عند الصباح.

فلمّا كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً وصلّى ركعات ، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول : « اللهمّ هذا قبر نبيّك وأنا ابن بنت نبيّك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللهمّ إنّي أحبّ المعروف وأنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومَن فيه إلاّ اخترت لي [ من أمري ] (٢) ما هو لك رضا ولرسولك رضا ».

قال : ثم جعلى يبكى عند القبر حتّى إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر ، فغفا (٣) ، فإذا هو برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه [ ومن خلفه ] (٤) حتّى ضمّ الحسين عليه‌السلام إلى صدره وقبّل ما

__________________

البحار : ٤٤ : ٣٢٤.

ورواه الطبري في تاريخه : ٥ : ٣٣٨ ، والطبرسي في إعلام الورى : ص ٢٢٠ في الفصل الرابع.

ورواه ملخّصاً السيد ابن طاوس في الملهوف : ص ٩٦.

وانظر مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ص ١٨١ الفصل التاسع.

(١) في البحار والمقتل للخوارزمي : « ثمّ قام فصفّ قدميه ، فلم يزل راكعاً ساجداً ».

(٢) من مقتل الحسين عليه‌السلام.

(٣) في البحار والمقتل : « فأغفى ».

(٤) من المقتل.

٨٨

بين عينيه وقال : « حبيبي يا حسين ، كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدماك ، مذبوحاً بأرض كربلاء من عصابة [ من أمّتي وهم مع ذلك ] (١) يرجون شفاعتي ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة ، [ وما لهم عند الله من خلاق ] (٢) ، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى.

حبيبي يا حسين ، إنّ أباك وأمك وأخاك قد قدموا عَلَيّ وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجنان لدرجات لا تنالها إلاّ بالشهادة ».

قال : فجعل الحسين عليه‌السلام في منامه ينظر إلى جدّه ويقول : « يا جداه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك ».

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لابدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى ترزق الشهادة وما قد كتب الله لك فيها من الثواب والسعادة ، فإنّك وأباك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلون الجنة ».

قال : فانتبه الحسين عليه‌السلام من نومه فزعاً مرعوباً ، وقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قوم أشدّ غمّاً من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا أكثر باك ولا باكية منهم.

قال : وتهيأ الحسين عليه‌السلام إلى الخروج من المدينة ومضى في جوف الليل إلى قبر أمه فودّعها ، ومضى إلى قبر أخيه الحسن عليه‌السلام ففعل كذلك ، ثمّ رجع إلى منزله وقت الصبح (٣).

ولله در من قال :

أقول لخلّي في البكا أَمُساعد

بإهراق دمع العين ضربة لازم

__________________

(١) من البحار والمقتل.

(٢) من المقتل.

(٣) ورواه المجلسي في البحار : ٤٤ : ٣٢٧ نقلاً عن كتاب محمّد بن أبي طالب الموسوي.

وروه الخوارزمي في المقتل : ص ١٨٦ و ١٨٧ في الفصل التاسع مع اختلاف.

٨٩

أعنّي على فرط الصبابة والجوى

فقد هاجني ناع نعى آل هاشم

وذكّرني يوم الطفوف وما جرى

لهم فيه من أمّ الدواهي العظائم

عشيّة ألقى سبط أحمد رحله

بساحة أشقى عُربها والأعاجم

وقد طالبوه بالنزول إليهم

على حُكم رجس قد غدا شرّ حاكم

أبى الله والمجد الأثيل لسادة

تطيع لغاوٍ في الأنام وغاشم

ولكنّها غرّ تمطّت إلى الردى

سلاهب غرّ من عتاق صلادم

وقادوا لها تردى لكلّ مدجّج

سوابح أمثال الضّبا في الشكائم

إذا وجفت في قلب جيش عرمرم

تزف إليه طار مثل النعائم

عليها كماة كالليوث بسالة

قصارى ملاقيها بعيد الهزائم

وروي أنّ الحسين عليه‌السلام توجّه إلى مكّة ، فلمّا دخل مكّة كان دخوله إيّاها يوم الجمعة لثلاث بقين (١) من شعبان ، ودخلها وهو يقرأ : ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) (٢) ، فأقام بها باقي شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة ، وأقبل أهلها يختلفون إليه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي بها (٣) ويطوف.

فسمع أهل الكوفة بوصول الحسين إلى مكّة وامتناعه من البيعة ليزيد لعنه الله ، فاجتمعوا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي ، فلمّا تكاملوا قام فيهم خطيباً وقال في آخر خطبته : يا معاشر الشيعة ، قد علمتم أنّ معاوية قد هلك وقد صار إلى ربّه وقدم على عمله ، وقد قعد في موضعه ابنه يزيد لعنه الله ، وهذا الحسين بن علي عليهما‌السلام قد خالفه وصار إلى مكّة هارباً من طواغيت آل أبي سفيان ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه من قبله ، وقد احتاج إلى نصرتكم ، فإن كنتم ناصريه

__________________

(١) في الإرشاد : « ليلة الجمعة لثلاث مضين » ، وفي الملهوف أيضاً : « لثلاث مضين ».

(٢) في الإرشاد : « ليلة الجمعة لثلاث مضين » ، وفي الملهوف أيضاً : « لثلاث مضين ».

(٣) في الإرشاد : « يصلّي عندها ».

٩٠

ومجاهدي عدوّه فاكتبوا إليه ، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه.

قال : فكتبوا إليه خمسين صحيفة عن جملة من أشراف القبائل مثل سليمان بن صرد الخزاعي والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وعبد الله بن وال ونحوهم ، ثمّ سرّحوا بها ومكثوا يومين وأنفذوا إليه مع جملة من أشرافهم نحو من مئة وخمسين كتاب من الرجل والإثنين حتّى ورد عليه في يوم واحد ست مئة كتاب (١).

وروي أنّه اجتمع عنده في نوب متفرّقة اثنا عشر ألف كتاب ، وهو عليه‌السلام لا يردّ عليهم جواباً ، لعلمه بغدرهم وقلّة وفائهم (٢).

ثمّ قدم عليه من بعد ذلك هانئ بن هانئ السبعي وسعيد بن عبد الله الجهني (٣) عطارد التميمي.

قال : فعندها كتب الحسين عليه‌السلام إليهم الجواب ، وذكر حديثاً طويلاً يشتمل على مكاتبة الحسين وإرسال مسلم وما فعلت به أهل الكوفة (٤).

فليت شعري أي ذنب فعله المصطفى ، وأيّة جر [ ي‍ ] مة اجترمها المرتضى حتّى تفعل بنسلهما أمتهما هذا الفعل الشنيع ، وتضيّع وصيّتهما في أولادهما هذا التضييع ؟

__________________

(١) ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٣٥ مع اختلافات لفظية ، وعنه في البحار : ٤٤ : ٣٣٢.

ورواه الطبري في تاريخه : ٥ : ٣٥١ ـ ٣٥٣ مع اختلافات لفظية وتقديم وتأخير في بعض الجملات ، والخوارزمي في المقتل : ١٩٣ و ١٩٤ في الفصل العاشر ، وابن طاوس في الملهوف : ص ١٠١ ـ ١٠٣ ، والطبرسي في إعلام الورى : ص ٢٢١.

(٢) ورواه السّيد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٠٥ ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٤ : ٣٣٤ ، والبحراني في العوالم : ١٧ : ١٨٣.

(٣) هذا هو الظاهر ، وفي النسخة : « وعمر بن محمّد بن عطارد ».

(٤) رواه المفيد في الإرشاد : ج ٢ ص ٣٨ مع اختلافات لفظية ، وعنه المجلسي في البحار : ج ٤٤ ص ٣٣٤.

ورواه الطبري في تاريخه : ٥ ص ٣٥٣ مع اختلافات لفظية ، والخوارزمي في مقتل الحسين عليه‌السلام : ص ١٩٥ في الفصل العاشر ، والطبرسي في إعلام الورى : ص ٢٢١.

٩١

هذا عوض الإرشاد والهداية ، ومكافئة إحسانهم من البداية إلى النهاية ؟!

فيا ويحهم بما يجيبون به سؤال الرسول ، وبما يعتذرون لفاطمة البتول ، يوم تشهد موقف الحساب وتنادي : « يا ربّ الأرباب ، احكم بيني وبين من قتل أولادي الأطياب ». فأنّى لمخالفيها والجواب ؟ فعلى مثل غريب الوطن ، والمكروب الممتحن ، فلتسكب سحائب الأجفان شؤونها ، وتسيل فيه عيونها ، أو لا تكونون أيّها الموالون ، والشيعة المقرّبون ، كمن لبس ثياب الضنى ، وتدرّع بدروع التعب والعنا ، وأهاج قرير قراره ، وحرّك ساكن اصطباره ، فأنشد وقال ، وهو من الأبدال.

٩٢

المصرع السادس

وهو مصرع الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام أيضاً

تفكّروا يا شيعة أبي تراب وأولاده الميامين الأنجاب ، فيما قدم عليه أنصار إمامكم الحسين عليه‌السلام ، وما لاقوه من الأذى والآلام ، فقد رابحوا الله بالأعمار ، وتاجروه في أسواق الإختبار ، وصرفوا أعناق قلوبهم إلى ظلّ وصاله ، وعطفوا أجياد شوقهم إلى حمى إفضاله ، وسرّحوا طرف طرفهم في ميدان بديع جماله ، وأصغوا بأسماعهم إلى نغمات تذكاره ، وفتحوا أقفال خزائن قلوبهم إلى حفظ جواهر أسراره ، وخلعوا أثواب بقائهم إذ عرفوها مبعّدة لهم عن جواره ، وقرعوا أبواب لقائهم إذ وجدوها أول مراحل قربه ومزاره ، فازوا من متاجرته بأعظم الأرباح حيث قد باعوا عليه نفائس الأرواح.

جزى الله قوماً أحسنوا الصبر والبلا

مقيم وداعي الخطب يدعو ويخطب

بحيث حسين والرماح شواخص

إليه وألحاظ الأسنّة ترقب

وفرسان صدق من لؤيّ بن غالب

يؤمّ بها يبغي المغالب أغلب

أخو الفضل لا اللاجي إلى طود عزّه

يضام ولا الراجي لديه يخيّب

سروا خابطي الظلماء في طلب العلا

إلى أن بدى منها الخفي المحجّب

بكلّ محيّا منهم ينجلي الدجى

كان كلّ عضو منه في الليل كوكب

إذا الصارم الهندي خلاّ طريقه

وحاد عن القصد السنان المدّرب

مضى ابن عليّ حيث لا نفس ماجد

تهمّ ولا قلب من الحزم بعرب

وخوّفه بالموت قوم متى دروا

بأنّ حسيناً من لقى الموت يرهب

وقامت تصادي دونه هاشميّة

تحنّ إلى وصل المنايا وتطرب

٩٣

روي في كتاب دلائل الإمامة مرفوعاً إلى محمّد بن وكيع قال : إنّه لمّا عزم الحسين عليه‌السلام على الخروج من مكّة إلى العراق قام خطيباً فقال : « الحمد لله ، ما شاء الله ، ولا قوة إلاّ بالله ، وصلى الله على رسول الله ، خُطّ الموت على ابن آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير مصرعٍ أنا لاقيه (١) ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا ، فيملأْن منّي أكراشاً جوفاً ، وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، فيوفيّنا أجر الصابرين (٢) ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده ، من كان فينا باذلاً مهجته ، وموطناً على لقاء الله نفسه ، فليرحل فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى » (٣).

وروى الكليني في كتاب الرسائل عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ذكرنا خروج الحسين عليه‌السلام وتخلّف ابن الحنفيّة عنه ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « يا حمزة ، إني سأحدّثك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا ، إنّ الحسين بن علي عليهما‌السلام لمّا انفصل (٤) متوجّهاً دعا بقرطاس وكتب فيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن علي إلى بني هاشم ، أمّا بعد ، فإنّه من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح ، والسلام » (٥).

__________________

(١) في المصدر : « وخيّر لي مصرع أنا لاقيه ».

(٢) في الملهوف وكشف الغمة : « ويوفينا أجور الصابرين ».

(٣) لم أعثر على كلامه عليه‌السلام في دلائل الإمامة.

ورواه السيّد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٢٦ ، والإربلي في كشف الغمّة : ٢ : ٢٤١ في عنوان « كلامه وفصاحته عليه‌السلام » نقلاً عن مطالب السؤول لابن طلحة. وعن المجلسي في البحار : ٤٤ : ٣٦٦.

(٤) في نسخة من الملهوف : « لما فصل ».

(٥) ورواه ابن طاوس في الملهوف : ص ١٢٩ عن كتاب الرسائل للكليني ، كما في هامش الملهوف.

٩٤

وروي أنّ الحسين عليه‌السلام لمّا وصل زبالة (١) أتاه خبر مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، فعرّف بذلك جماعة ممّن معه ، وأخرج لهم كتاباً فقرأه عليهم وقال : « بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أمّا بعد ، فقد أتانا خبر فضيع : قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبدالله بن يقطر ، وقد خذلتنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف ، من غير حرج ، ليس عليه ذمام ».

فتفرّق عنه أهل الأطماع والإرتياب ، وبقي معه أهله وخيار الأصحاب.

قال : وارتجّ الموضع بالبكاء لقتل مسلم ، وسالت عليه دموع كلّ مسلم.

ثمّ إنّ الحسين عليه‌السلام سار قاصداً لما دعاه الله إليه فلقيه الفرزدق فسلّم عليه وقال : يا ابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الّذين قتلوا ابن عمّك مسلم وشيعته. فاستعبر الحسين عليه‌السلام باكياً وقال : « رحم الله مسلمًا » (٢).

ولله درّ من قال :

يا سائق الحرّة الوجناء أنحلها

طيّ السرى وطواها الأين والوصب

وجناء ما ألفت يوماً مباركها

ولا انثنت عند تعريس لها الركب

علامة بضروب السير أقربها منها

إلى رائها التقريب والجنب

تؤتى جوانبها تأبى مباركها

حبّ السرى وكأنّ الراحة التعب

عُج بي إذا جئت غربي الحمى وبدت

منه لمقلتك الأعلام والقبب

وحيّ عنّي الألى أقمارهم طلعت

من طيبة ولدي كرب البلا غربوا

فأعجب بهم كيف حلّوا كربلا وقد

كانت بهم تكشف الغمّات والكرب

فأين تلك البدور التمّ لا غربوا

وأين تلك البحور الفعم لا نضبوا

قوم لهم شرف العلياء من مضر

والمرء يوخذ في تحديده النسب

__________________

(١) زبالة : منزل بطريق مكّة من الكوفة. ( معجم البلدان : ٣ : ١٢٩ ).

(٢) ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٧٥ مع اختلاف.

ورواه السيّد في الملهوف : ص ١٣٤.

٩٥

فللّه درهّم من رجال بذلوا نفائس النفوس ، وعرّضوا للصوارم الأعناق والرؤوس ، وتسنّموا في اليوم العبوس ، كلّ طمرة شموس ، وناطحوا في موقف الأذى والبؤس كلّ شمردل (١) حموس ، أخمدوا بجلادهم يوم داحس والبسوس ، وغادروا بحدادهم القرم الطموس تحت الجنادل مرموس.

روي في الكتاب المذكور أنّ الحسين عليه‌السلام لمّا وصل على مرحلتين من الكوفة ، فإذا بالحرّ بن يزيد الرياحي في ألف فارس ، فقال له الحسين عليه‌السلام : « ألَنا أم علينا » ؟

فقال : « بل عليك يا أبا عبد الله ».

فقال الحسين عليه‌السلام : « لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلّي العظيم ». وترداد القول بينهما حتّى قال الحسين : « أيّها النّاس ، فإنّكم إن تتّقوا الله ربّكم ، وتعرفوا الحق لأهله ، يكون أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت نبيّكم أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم بحقّ ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلاّ الكراهة لنا والجهل بحقّنا وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به رسلكم ، انصرفت عنكم ».

فسكتوا كلّهم ولم يردّوا عليه جواباً ، فقال لأصحابه : « قوموا فاركبوا ». فركبوا وانتظر حتّى ركّب نساؤه ، فقال لأصحابه : « انصرفوا ». فحال القوم بينهم وبين الإنصراف ، فقال الحسين عليه‌السلام للحرّ : « ثكلتك أمّك ، ما تريد » ؟

فقال له الحرّ : أما والله لو غيرك من العرب يقولها وهو على مثل هذا الحال ما تركت ذكر أمّه والثكل كائناً ما كان ، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه.

فقال الحسين عليه‌السلام : « ما تريد إذاً » ؟

قال : أريد أمضي بك إلى الأمير عبيد الله بن زياد.

__________________

(١) الشمردل : الصبيّ الجلد ، وقالوا : جمل شمردل وناقة شمردلة ، لقوّة سيرها. ( المعجم الوسيط ).

٩٦

فقال الحسين عليه‌السلام : « إذاً والله لا أتّبعك ».

فقال الحرّ : إذا والله لا أدعك.

فكثر الكلام بينهما ، فقال له الحرّ : إنّي لم اُؤمر بقتالك ، وإنّما أمرت أن لا أفارقك حتّى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت يا ابن رسول الله فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يوصلك إلى المدينة لأعتذر أنا إلى ابن زياد بأنّك خالفتني في الطريق ، فلعلّ الله أن يرزقني العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك.

فتياسر الحسين عليه‌السلام حتّى وصل إلى عذيب الهجانات والحرّ يسايره مع أصحابه وهو يقول له : يا حسين ، أذكّرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ.

فقال له الحسين عليه‌السلام : أفبالموت تخوّفني ؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخوّفه ابن عمه [ فقال له : أين تذهب ؟ فإنّك مقتول. فقال :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً يغش ويرغما ] (١) (٢)

ولله درّ من قال من الرجال :

عشيّة أضحى الشرك مرتفع الذرى

وولّت بشمل الدين عنقاء مغرب

تراع الوغى منهم بكل شمردل

نديماه فيها سمهريّ ومقضب

بكلّ فتىً للطعن في حرّ وجهه

مراح وللضرب المرعبل ملعب

__________________

(١) ما بين المعقوفين من تاريخ الطبري.

(٢) ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٧٩ و ٨٠ مع مغايرات لفظية.

ورواه الخوارزمي في المقتل : ص ٢٣١ ـ ٢٣٣ في الفصل الحادي العشر ، والطبرسي في إعلام الورى : ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، وابن طاوس في الملهوف : ص ١٣٧.

وانظر كشف الغمّة للإربلي : ج ٢ ص ٢٥٨ ، وإعلام الورى : ص ٢٣٠.

٩٧

بكلّ نقي الخدّ لولا خطى القنا

ترى الشمس من معناه تبدو وتغرب

كثير حيا لولا وقاحة رُمحه

لحقّ به للعارفين التشبّب

كأنّ الحداد البيض تخضب بالدما

لعينيه ثغر بارد الظلم أشنب

كأنّ القنى العسّال وهي شوارع

قدُود تُثنّى في المراح وتلعب

كأنّ صليل المُرهفات لسمعه

غواني تغنّي بالصبا وتشبّب

كأنّ ظلام النقع صُبح مسرّة

لديه ويوم السلم إن هاج غيهب

كأنّ المنايا السود يطلع بُينها

أخو البدر معشوق الجمال محجّب

كأنّ ركام النقع من فوق رأسه

أرائك تُبنى للوصال وتضرب

كأنّ الضبا فيها نجوم مضيئة

ويومهم من ثائر النقع مقطب

كأنّ صدور البيض من ضربها الطلا

أخو صبوة مضني الفؤاد معذّب

كأنّ أطاريف الأسنّة تكتسي

دما طرف صبّ أحمر الدمع صيّب

وروي أنّ الحسين عليه‌السلام مضى حتّى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به ، وإذا هو بفسطاط مضروب ، فقال : « لمَن هذا » ؟ فقيل : لعبيد الله بن الحرّ الجعفي ، قال : « ادعوه إليّ ».

فلمّا أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي عليهما‌السلام يدعوك. فقال له عبيد الله : إنا لله وإنّا إليه راجعون ، والله ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهية أن يدخلها الحسين عليه‌السلام وأنا فيها ، وما أريد أن أراه ولا يراني !

فأتاه الرسول فأخبره ، فقام الحسين عليه‌السلام فجاءه حتّى دخل عليه وسلّم وجلس ، ثم دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد عليه عبيد الله تلك المقالة واستقاله مما دعاه إليه ، فقال له الحسين عليه‌السلام : « فإن لم تكن تنصرنا فاتّق الله ولا تكن ممن يقاتلنا ، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ثمّ لم ينصرنا إلاّ هلك ».

فقال له : أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله. ثمّ قام الحسين عليه‌السلام من عنده حتّى

٩٨

دخل رحله (١).

ولمّا كان في آخر الليل أمر مناديه بالاستسقاء من الماء ، ثمّ أمر بالرحيل ، فارتحل من قصر بني مقاتل ، فلمّا أصبح نزل بهم وصلّى الغداة ، ثمّ عجّل الركوب وأخذ يتياسر بأصحابه فعارضه الحرّ وأصحابه ، ومنعوه من المسير ، فقال : « ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق » ؟ فقال الحرّ : بلى ، ولكن كتاب الأمير عبيد الله وصل إلَيّ يأمرني بالتضييق عليك ، وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتّى أنفذ أمره فيكم.

فنظر يزيد بن مهاجر الكندي إلى رسول ابن زياد ـ لعنه الله ـ فعرفه ، فقال له : ثكلتك أمّك ، ماذا جئت فيه ؟ فقال : أطعت إمامي ووفيت ببيعتي.

فقال له : بل عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، وكسبت العار والنار ، فبئس الإمام إمامك ، قال الله تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ ) (٢) ، فإمامك منهم.

فأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا كلاء ، فقال له الحسين عليه‌السلام : « ويحك ، دعنا ننزل هذه القرية » ، يعني نينوى أو الغاضريات.

فقال له الحرّ : لا والله لا أستطيع إلى ذلك من سبيل ، هذا رجل قد بُعث عَلَيّ عيناً.

فقال زهير بن القين للحسين عليه‌السلام : والله لا ترون شيئاً بعد الآن إلاّ كان أشدّ ممّا ترون الآن ، يا ابن رسول الله ، إنّ قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتي من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا طاقة لنا به.

فقال له الحسين : « ما كنت لأبدأهم بالقتال ». ثمّ نزل (٣).

__________________

(١) ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٨١ ، وعنه المجلسي في البحار : ٤٤ : ٣٧٩.

ورواه الخوارزمي في المقتل : ص ٢٧٧ في الفصل ١١ مع إضافات.

(٢) سورة القصص : ٢٨ : ٤١.

(٣) ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٨٢ ـ ٨٤ مع مغايرات لفظية ، وعنه في البحار : ٤٤ : ٣٨٠.

٩٩

وقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر النبي فصلّى عليه ثم قال : « إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش المرعى ، إلاّ ترون إلى الحقّ لا يعمل به ؟ وإلى الباطل لا ينهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقاً ، فأنا لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً ».

فقال زهير بن القين : نعم قد سمعنا ، هدانا الله بك يا ابن رسول الله ، فنحن مقاتلوا مقاتلك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا ذلك على النهوض معك.

فقام هلال بن نافع البجلي فقال : والله ما كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا لعلى نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ، ونعادي من عاداك.

قال : وقام بُرير بن خضير فقال : يا ابن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا لنقاتل معك وتقطّع أعضاؤنا بين يديك ، ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة.

ثمّ إن الحسين عليه‌السلام ركب وأراد المسير والحرّ يمانعه حتّى ورد كربلاء ، وكان ذلك يوم الثاني من المحرم ، فلما وصلها سأل عن اسم المكان فقال له : كربلاء.

فقال : « انزلوا ، هاهنا والله محطّ رحالنا وسفك دمائنا ، هاهنا والله محلّ قبورنا ، هاهنا والله تُسبى حريمنا ، بهذا وعدني (١) جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ». ونزل الحرّ معه في ساعة واحدة (٢).

__________________

ورواه الخوارزمي في المقتل : ص ٢٣٤ في الفصل ١١.

(١) في النسخة : « أوعدني » ، وفي الملهوف : « حدّثني ».

(٢) ورواه السيّد ابن طاوس في الملهوف : ص ١٣٨ مع اختلافات لفظية.

وروى قسماً منه الطبري في تاريخه : ٥ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤ ، والطبراني في المعجم الكبير : ٣ : ١١٤ ـ ١١٥ / ٢٨٤٢ ، ومن طريقه ابن عساكر في ترجمة الحسين عليه‌السلام : (٢٧١) والخوارزمي في مقتل الحسين عليه‌السلام : ٢ : ٤ ـ ٥ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء : ٢ : ٣٩ ، والسيّد أبو طالب في تيسير المطالب : ص ٩١ باب ٦ ، ويحيى بن الحسين الشجري في أماليه : ١ :

١٠٠