مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء

المؤلف:

الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور


المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-92538-2-4
الصفحات: ٣٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

قال : « يا مسيّب ، شاهد عندي غير غائب ، وحاضر غير بعيد ».

قلت : يا سيّدي ، فإليه قصدت ؟

فقال عليه‌السلام : « قصدت والله كلّ منتجب لله عزّ وجلّ على وجه الأرض شرقها وغربها حتّى محبّي من الجنّ في البراري والبحار ومخلصي الملائكة في مقاماتهم وصفوتهم ».

فبكيت ، فقال عليه‌السلام : « لا تبك يا مسيّب ، إنّنا نور لا يطفى ، إن غبت عنك فهذا عليّ ابني بعدي هو أنا ».

فقلت : الحمد لله.

ثمّ إنّ سيّدي عليه‌السلام في ليلة يوم الثالث دعاني وقال : « يا مسيّب إنّ سيّدك يصبح في ليلة يومه على ما عرّفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجلّ مولاه الحقّ تقدّست أسماؤه ، فإذا دعوت بشربة ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخ بطني واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألواناً فخبّر الطاغية بوفاتي ، وإيّاك أن تظهر على الحديث أحداً إلاّ بعد وفاتي ».

قال المسيّب : فلم أزل أترقّب وعده حتّى دعا بشربة ماء فشربها ، ثمّ دعاني وقال : « إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك يقول إنّه يتولّى أمري ويدفنني ، لا يكون ذلك أبداً ، فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدني بها ولا تعلو على قبري علوّاً ، وتجنّبوا زيارتي ، ولا تأخذوا من تربتي لتبرّكوا بها ، فإن كل تربة لنا محرمة ما خلا تربة جدي الحسين عليه‌السلام ، فإنّ الله عزّ وجلّ جعلها شفاءاً لشيعتنا وموالينا » (١).

وتوفّي صلوات الله عليه لخمس بقين من رجب. وقيل : لخمس خلون من رجب ، سنة ثلاث وثمانين ومئة من الهجرة (٢).

__________________

(١) ورواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ : ٩٤ ح ٦ من الباب ٨ وفي ط المحقق : ص ٢٥٢ ح ١٠٢ مع مغايرات.

(٢) رواه الطبرسيّ في إعلام الورى : ص ٢٨٦ في تاريخ مولده ومبلغ سنّه ووقت وفاته عليه‌السلام ،

٢٤١

لعن الله قاتليه والمتؤازرين عليه ، ولله درّ من قال من الرجال على الآل ، ولقد أجاد :

لهفي على النفس الزكيّة

أزهقت والله ناظر

لهفي على قمر المعارف

نكرته يدي المناكر

لهفي لشمس هداية

غارت بأطراف المغاور

لهفي لقطب سما العلا

دارت عليه رحى الدوائر

لهفي لبيت محمّد

أقوى وفيه اليوم صافر

فالويل لهارون الرشيد ، من الإمام الشهيد ، في يوم الوعد والوعيد ، بين يدي العلي الحميد ، يوم يقول لجهنّم هل امتلأت ، وتقول هل من مزيد.

ثبّتنا الله وإيّاكم يا إخواني على ولاهم ، ووفّقنا للبراءة من عداهم ، وحشرنا تحت لواهم ، أو لا تكونون كمن هدّ ركن صبره بلاهم ، وقام بواجب عزاهم ، وأجاد في رثاهم.

__________________

وفي تاج المواليد : ( مجموعة نفيسة : ص ١٢٣ ) في الفصل الرابع.

٢٤٢

المصرع الخامس عشر

وهو مصرع الرضا عليه‌السلام

فضّوا ختم دنّ صهباء الأوصاب ، واترعوا كؤوس الأفئدة من قرقف المصاب ، وامزجوا صرف سلاف البهجة بمعين الاكتئاب ، وادعوا ندماء الإيمان ، وادعوا ندماء الإيمان والأحباب ، واصطبحوا حميّا الالتهاب ، واغتبقوا صرخد النياحة والإنتحاب ، واحتبسوها على أصوات النوائح ، وترجيع رنّات الصوائح ، وعطّروا مفارق المجالس برياحين الأسف ، وزيّنوا مجامع التنافس بأسجاف الكربة واللهف ، واصرفوا عن النفوس البهجة والسرور ، وباعدوا عن القلوب الداني من المسرّة والحبور ، واهجروا عساليج الأبكار ، وجانبوا مضاجع الراحة والقرار ، فقد غال شمس الرفعة كسوف ، وكوّر قمر المنعة خسوف ، ودكّ أطواد الشرف زعزع البلاء ، وفطّر قواعد البيت الأشرف محتوم القضاء ، ونضب غطمطم الفخار ، وغاض قاموس جود ذوي الأقدار ، وسما على العيّوق سكاكها ، وانحطّ تحت أسفل الوهاد أفلاكها ، وأمحلت مرابع الروّاد ، وجفّت بحور الورّاد.

ذهب الفريق فلا كريم يرتجى

منه النوال ولا مليح يُعشق

أقفر المنزل الأهيل ، فاستوحش الأنيس ، وغدا المخصب محيل ، وتكدّر النفيس ، وصار العزيز ذليل ! وأوحشت معابد التهليل والتقديس.

وقد كنت أبكي والديار أنيسة

وما ظعنت للظاعنين (١) قفول

فكيف وقد شطّ المزار وروّعت

فريق التداني فرقة ورحيل

إذا غبتم عن ربع حلة بابل

فلا سحبت للسحب فيه ذيول

__________________

(١) ظعن ظعناً وظُعوناً : سار وارتحل. ( المعجم الوسيط )

٢٤٣

ولا ابتسمت للثغر فيه مباسم

ولا ابتهجت للطلّ فيه طلول

ولا هبّ معتل النسيم ولا سرت

بليل على تلك الربوع بليل

ولا صدرت عنها السوام ولا غدا

بها راتعاً بين الفصيل فصيل

ولا برزت في حلّة سندسيّة

لذات هدير في الغصون هديل

وما النفع فيها وهي غير أواهل

ومعهدها ممّا عهدت محيل

تنكّر منها عرفها فأهيلها

غريب وفيها الأجنبيّ أهيل

روي في كتاب الأمالي بسند عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « شيعة عليّ هم الفائزون يوم القيامة ، يا عليّ ، أنا منك وأنت منّي ، روحي روحك (١) وشيعتك شيعتي ، وأولياؤك أوليائي ، من أحبّهم فقد أحبّني ومن أبغضهم فقد أبغضني ، ومن عاداهم فقد عاداني.

يا عليّ شيعتك مغفور لهم على ما كان منهم من عيوب وذنوب ، وأنا الشفيع لهم يوم القيامة إذا قمت المقام المحمود ، فبشّرهم بذلك.

يا عليّ ، شيعتك شيعة الله ، وأنصارك أنصار الله ، وحزبك حزب الله ، وحزب الله هم الفائزون.

يا عليّ ، سعد من والاك وشقي من عاداك » (٢).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا علي ، إن الله وهب لك حبّ المساكين والمستضعفين في الأرض ، فرضيت بهم إخواناً ورضوا بك إماماً ، فطوبى لمن أحبك وويل لمن أبغضك.

__________________

(١) في المشارق : « روحك روحي ».

(٢) رواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص ٤٥ بإسناده عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وروى نظيره الصدوق في أماليه : م ٤ ح ٨ ، وبإسناده عنه العماد الطبري في بشارة المصطفى : ج ١ ص ٤٢ ح ٣١.

وأورده الفتّال في روضة الواعظين : ص ٢٩٦ مجلس ٣٧.

٢٤٤

يا عليّ ، أهل مودّتك كل أوّاب حفيظ وكلّ ذي طمرين (١) لو أقسم على الله لأبرّ قسمه.

يا عليّ ، أحبّاؤك كل محتقر عند الخلق عظيم عند الحقّ.

يا عليّ ، أنا وليّ لمن واليت وعدوّ لمن عاديت.

يا عليّ ، إخوانك ذبل الشفاه (٢) ، تعرف الرهبانية في وجوههم ، يفرحون في ثلاث مواطن : عند الموت وأنا شاهدهم ، وعند المسألة في قبورهم وأنت تلقّنهم ، وعند العرض الأكبر إذ دعي كلّ أناس بإمامهم.

يا عليّ ، بشّر إخوانك أنّ الله قد رضي عنهم.

يا عليّ ، أنت أمير المؤمنين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وأنت وشيعتك الصافّون المسبّحون ، ولولا أنت وشيعتك ما قام لله دين ، ولولا مَن في الأرض منكم لما نزل من السماء قطر.

يا عليّ ، لك في الجنة كنز وأنت ذو قرنيها ، وشيعتك حزب الله ، وحزب الله هم المفلحون الفائزون على الحوض تسقون من أحبّكم ، وتمنعون من أبغضكم ، وأنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر.

يا عليّ ، أنت وشيعتك تظلّون في الموقف وتتنعّمون في الجنان.

يا عليّ ، إنّ الجنّة مشتاقة إلى شيعتك ، وإنّ حملة العرش المقرّبين يستغفرون لهم ويستبشرون بقدومهم ، وإنّ الملائكة يخصّونهم بالدعاء.

يا عليّ ، شيعتك الذين يخافون الله في السرّ والعلانية.

يا عليّ ، شيعتك الذين يتنافسون في الدرجات ويلقون الله ولا ذنب عليهم.

يا عليّ ، أعمال شيعتك تعرض عليّ في كلّ يوم جمعة ، فأفرح بصالح أعمالهم وأستغفر لسيّئاتهم.

يا عليّ ، ذكرك وذكر شيعتك في التوراة قبل أن يخلقوا بكلّ خير ، وكذلك في

__________________

(١) الطِمر ـ بالكسر ـ : الثوب الخلق.

(٢) ذَبلت بشرته : قلّ ماء جلدته وذهب نظارته ، وهنا كناية عن كثرة صيامهم.

٢٤٥

الإنجيل ، فإنّهم يعظّمون إليا وشيعته.

يا عليّ ، ذكر شيعتك في السماء أكثر من ذكرهم في الأرض ، فبشّرهم بذلك.

يا عليّ ، قل لشيعتك وأحبابك ي‍ [ ت‍ ] ـنزهون من الأعمال التي يعملها عدوّهم ، فما من يوم ولا ليلة إلاّ ورحمة من الله نازلة عليهم.

يا عليّ ، اشتدّ غضب الله على من أبغضك وأبغض شيعتك ، واستبدل (١) بك وبهم.

يا عليّ ، ويل لمن استبدل بك سواك وأبغض من والاك.

يا عليّ ، اقرأ شيعتك السلام وأعلمهم أنّهم إخواني وأنّي مشتاق إليهم ، فليستمسكوا بحبل الله ويعتصموا به ويجتهدوا في العمل ، فإن الله تعالى راض عنهم يباهي بهم الملائكة ، لأنّهم وفوا بما عاهدوا الله تعالى وأعطوك صفو المودة من قلوبهم ، واختاروك على الآباء والإخوة والأولاد ، وصبروا على المكاره فينا مع الأذى وسوء القول فيهم ، فكن بهم رحيماً ، فإنّ الله سبحانه اختارهم لنا وخلقهم من طينتنا ، واستودعهم سرّنا ، وألزم قلوبهم معرفة حقنا ، وجعلهم متحلّين بحليتنا لا يؤثرون علينا من خالفنا ، فالناس في غمّة من الضلال قد عموا عن الحجة وتنكّبوا المحجّة ، يصبحون ويمسون في سخط الله ، وشيعتك على منهاج الحقّ ، لا يستأنسون إلى من خالفهم ، وليست الدنيا لهم ، ولا همّهم ! منها ، أولئك مصابيح الدجى » (٢).

__________________

(١) المثبت من الأمالي والمشارق ، وفي النسخة : « واستذل ».

(٢) رواه الصدوق في أماليه : م ٨٣ ح ٢ وفيه : « يا عليّ ، إنّ الله عزّ وجلّ وهب لك حبّ المساكين والمستضعفين في الأرض ، فرضيت بهم إخواناً ورضوا بك إماماً ، فطوبى لمن أحبّك وصدّق عليك ، وويل لمن أبغضك وكذّب عليك.

يا عليّ ، أنت العلم لهذه الأمة ، من أحبّك فاز ، ومن أبغضك هلك.

يا عليّ ، أنا مدينة العلم وأنت بابها ، وهل تؤتى المدينة إلاّ من بابها.

يا عليّ ، أهل مودّتك كل أوّاب حفيظ وكل ذي طِمر لو أقسم على الله لأبرّ قسمه.

٢٤٦

__________________

يا عليّ ، إخوانك كلّ طاهر زاك مجتهد ، يحبّ فيك ، ويبغض فيك ، محتقر عند الخلق ، عظيم المنزلة عند الله عزّ وجلّ.

يا عليّ ، محبّوك جيران الله في دار الفِردوس ، لا يأسفون على ما خلّفوا من الدنيا.

يا عليّ ، أنا وليّ لمن واليت ، وأنا عدوّ لمن عاديت.

يا عليّ ، مَن أحبّك فقد أحبني ، ومن أبغضك فقد أبغضني.

يا عليّ ، إخوانك ذبل الشفاه ، تُعرف الرهبانية في وجوههم.

يا علي ، إخوانك يفرحون في ثلاثة مواطن : عند خروج أنفسهم وأنا شاهدهم وأنت ، وعند المسألة في قبورهم ، وعند العرض الأكبر ، وعند الصراط إذا سئل الخلق عن إيمانهم فلم يجيبوا.

يا عليّ ، حربك حربي وسلمك سلمي ، وحربي حرب الله ، ومن سالمك فقد سالمني ، ومن سالمني فقد سالم الله عزّ وجلّ.

يا عليّ ، بشّر إخوانك ، فإن الله عزّ وجلّ قد رضي عنهم إذ رضيك لهم قائداً ورضوا بك وليّاً.

يا عليّ ، أنت أمير المؤمنين ، وقائد الغرّ المحجّلين.

يا عليّ ، شيعتك المنتجبون ، ولولا أنت وشيعتك ما قام لله عزوجل دين ، ولولا مَن في الأرض منكم لما أنزلت السماء قطرها.

يا عليّ ، لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها ، وشيعتك تُعرف بحزب الله عزّ وجلّ.

يا عليّ ، أنت وشيعتك القائمون بالقسط ، وخيرة الله من خلقه.

يا عليّ ، أنا أوّل من ينفض التراب عن رأسه وأنت معي ، ثمّ سائر الخلق.

يا عليّ ، أنت وشيعتك على الحوض تسقون من أحببتم وتمنعون من كرهتم ، وأنت الامنون يوم الفزع الأكبر في ظلّ العرش ، يفزع النّاس ولا تفزعون ، ويحزن النّاس ولا تحزنون ، فيكم نزلت هذه الآية : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) ، وفيكم نزلت : ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ).

يا عليّ ، أنت وشيعتك تُطلبون في الموقف ، وأنتم في الجنان تتنعّمون.

يا عليّ ، إن الملائكة والخزّان يشتاقون إليكم ، وإنّ حملة العرش والملائكة المقرّبين ليخصّونكم بالدعاء ، ويسألون الله لمحبيكم ، ويفرحون بمن قدم عليهم منكم كما يفرح الأهل بالغائب القادم بعد طول الغيبة.

٢٤٧

__________________

يا عليّ ، شيعتك الّذين يخافون الله في السرّ ، وينصحونه في العلانية.

يا عليّ ، شيعتك الذين يتنافسون في الدرجات لأنّهم يلقون الله عزّ وجلّ وما عليهم من ذنب.

يا عليّ ، أعمال شيعتك ستعرض عَلَيّ في كلّ جمعة ، فأفرح بصالح ما يبلغني من أعمالهم ، وأستغفر لسيّئاتهم.

يا عليّ ، ذكرك في التوراة وذكر شيعتك قبل أن يُخلَقوا بكلّ خير ، وكذلك في الإنجيل ، فسَل أهل الإنجيل وأهل الكتاب عن إليا يخبروك ، مع علمك بالتوراة والإنجيل وما أعطاك الله عزّ وجلّ من علم الكتاب ، وإنّ أهل الإنجيل ليتعاظمون إليا وما يعرفونه ، وما يعرفون شيعته ، وإنّما يعرفونهم بما يجدونهم في كتبهم.

يا عليّ ، إن أصحابك ذِكرهم في السماء أكبر وأعظم من ذِكر أهل الأرض لهم بالخير ، فليفرحوا بذلك ، وليزدادوا اجتهاداً.

يا عليّ ، إن أرواح شيعتك لتصعد إلى السماء في رقادهم ووفاتهم ، فتنظر الملائكة إليها كما ينظر النّاس إلى الهلال ، شوقاً إليهم ولما يرون من منزلتهم عند الله عزّ وجلّ.

يا عليّ ، قُل لأصحابك العارفين بك : يتنزّهون عن الأعمال الّتي يقارفها عدوّهم ، فما من يوم ولا ليلة إلاّ ورحمة من الله تبارك وتعالى تغشاهم ، فليجتنبوا الدّنس.

يا عليّ ، اشتدّ غضب الله عزّ وجلّ على من قلاهم وبرئ منك ومنهم ، واستبدل بك وبهم ، ومال إلى عدوّك وتركك وشيعتك واختار الضلال ، ونصب الحرب لك ولشيعتك ، وأبغضنا أهل البيت وابغض من والاك ونصرك واختارك وبذل مهجته وماله فينا.

يا عليّ ، أقرئهم منّي السلام من لم أر منهم ولم يرني ، وأعلمهم أنّهم إخواني الّذين أشتاق إليهم ، فليلقوا عِلمي إلى من يبلغ القرون من بعدي ، وليتمسّكوا بحبل الله وليعتصموا به ، وليجتهدوا في العمل ، فإنّا لا نخرجهم من هدى إلى ضلالة ، وأخبِرهم أن الله عزّ وجلّ عنهم راض ، وأنّه يباهي بهم ملائكته وينظر إليهم في كلّ جمعة برحمته ، ويأمر الملائكة أن تستغفر لهم.

يا عليّ ، لا ترغب عن نصرة قوم يبلغهم أو يسمعون أنّي أحبّك ، فأحبّوك لحبيّ إيّاك , ودانوا لله عزّ وجلّ بذلك ، وأعطوك صَفو المودّة في قلوبهم ، واختاروك على الاباء والإخوة والأولاد ، وسلكوا طريقتك ، وقد حملوا على المكاره فينا فأبوا إلاّ نصرنا وبَذل المهج فينا مع الأذى وسوء القول وما يقاسونه من مضاضة ذلك ، فكن بهم رحيماً واقنع بهم ، فإنّ الله

٢٤٨

ولله درّ من قال من الرجال :

فهو المشفّع في المعاد وخير من

علقت به بعد النبيّ يداك

وهو الّذي للدين بعد خموله

حقّاً أراك فهذّبت آراك

لولاه ما عرف الهدى ونجوت من

متضائق الأشراك والإشراك

هو فُلك نوح بين ممتسك به

ناج ومطّرح مع الهُلاّك

قد قلت حين تقدّمته عصابة

جهلت حقوق حقيقة الإدراك

لا تفرحي فبكثر ما استعذبت في

أولاك قد عذّبت في اُخراك

يا أمة نقضت عهود نبيّها

أفمن إلى نقض العهود دعاك

وصّاك خيراً في الوصيّ كأنّما

متعمّداً في بغضه وصّاك

أو لم يقل فيه النبي مبلّغاً

هذا عليّك في العُلا أعلاك

وأمين وحي الله بعدي وهو في

إدراك كلّ قضيّة أدراك

فكم له من منقبة أظهرت خفيّ إيمانه وأبرزت علوّ شأنه وارتفاع مكانه وإثبات إمكانه وكثرة أعوانه وظهور برهانه.

روي أنّ مولد الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام كان يوم الخميس لأحد عشر

__________________

عزّ وجلّ اختارهم بعلمه لنا من بين الخلق ، وخلقهم من طينتنا ، واستودعهم سرّنا وألزم قلوبهم معرفة حقّنا ، وشرح صدورهم وجعلهم مستمسكين بحبلنا ، لا يؤثرون علينا من خالفنا مع ما يزول من الدنيا عنهم ، أيّدهم الله وسلك بهم طريق الهدى ، فاعتصموا به ، فالنّاس في غمّة الضلال متحيّرون في الأهواء ، عموا عن الحجّة وما جاء من عند الله عزّ وجلّ ، فهم يصبحون ويمسون في سخط الله ، وشيعتك على منهاج الحق والاستقامة ، لا يستأنسون إلى من خالفهم ، وليست الدنيا منهم وليسوا منها ، أولئك مصابيح الدجى ، أولئك مصابيح الدجى ، أولئك مصابيح الدجى ».

ورواه أيضاً في صفات الشيعة : ص ٥٥ ح ١٧ ، وفي فضائل الشيعة : ح ١٧ ، وعنه العماد الطبري في بشارة المصطفى : ص ١٨٠ وفي ط الحديث : ص ٢٧٧ ح ٩٣ في آخر الجزء الرابع.

ورواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص ٤٦.

٢٤٩

ليلة خلت من ربيع الأوّل سنة ثلاث وخمسين مئة (١).

وكان عليه‌السلام بشراً ملكياً ، وجسداً سماوياً ، وامرءاً إلهياً ، وروحاً قدسياً ، ومقاماً جليّا ، وسرّاً خفياً (٢) ، حارت فيه الأفكار والعقول ، وتاهت أوهام العلماء الفحول ، وكلّت الشعراء ، وخرست البلغاء ، ولكنت الخطباء ، وتواضعت الأرض والسماء عن وصف ولي الأولياء ، وهل يعرف أو يوصف أو يعلم أو يفهم أو يدرك شأن من هو نقطة خطّة الكائنات ، وقطب الدائرات ، وسرّ الممكنات ، وشعاع جلال الكبرياء ، وشرف الأرض والسماء ، والنور الأوّل ، والكلمة العليا ، والسمة البيضاء ، والوحدانية الكبرى ، الّتي أعرض عنها من أدبر وتولّى ، حجاب الله الأعظم الأعلى.

فهو الذروة من قريش ، والشرف من هاشم ، والبقيّة من إبراهيم ، والبضعة من نبيّنا الكريم ، والنفس من الوصي الحليم.

وهو شرف الأشراف ، والصفوة من عبد مناف ، ملكيّ الذات ، إلهي الصفات ، زائد الحسنات ، عالم بالمغيبات ، معدن التنزيل ومنتهى التأويل ، وخاصة الربّ الجليل ، ومهبط الأمين جبرئيل ، السبيل إلى الله والسلسبيل ، والقسطاس المستقيم ، والمنهاج القديم ، والذكر الحكيم ، والوجه الكريم ، والنور القويم ، ربّ الشرق والتقديم والتفضيل والتعظيم ، خليفة النبيّ الكريم ، وأمين العليّ الرحيم.

روي في كتاب كشف الغمّة عن الغفاري قال : كان لرجل من آل رافع [ مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ] علَيّ دين فقاضاني وألحّ علَيّ ، فلما رأيت ذلك صلّيت الصبح في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ توجّهت إلى الرضا عليه‌السلام فسلّمت عليه ، وكان في شهر رمضان ، فقلت له : إنّ لفلان علَيّ حقّاً وقد والله شهرني. وأنا أظنّ في نفسي أنّه عليه‌السلام يأمره بالكفّ عنّي ، فوالله ما قلت له كَم علَيّ ، ولا سمّيت له شيئاً ، فأمرني

__________________

(١) ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص ٣٠٢ ، والإربلي في كشف الغمّة : ٣ : ٤٩.

(٢) هذا هو الصحيح ، وفي النسخة : « وكان عليه‌السلام بشراً ملكي ... سماوي ... خفي ».

٢٥٠

بالجلوس إلى رجوعه ثمّ مضى ، فلم أزل حتّى صلّيت المغرب وأنا صائم ، فضاق صدري وأردت أن أنصرف ، فإذا هو قد طلع علَيّ وحوله الناس و [ قد قعد له ] السّؤال وهو يتصدّق عليهم ، فمضى داخل الدار ثمّ خرج ودعاني ، فقمت إليه ودخلت معه ، فجلس وجلست فجعلت أحدّثه عن [ ابن ] المسيّب ، وكان كثيراً ما أحدّثه عنه ، فلمّا فرغت قال : « ما أظّنك أفطرت بعد » ؟ قلت : لا.

فدعا لي بطعام فوضع بين يديّ وأمر الغلام أن يأكل معي ، فأصبت والغلام من الطعام ، فلمّا فرغنا قال : « ارفع الوسادة وخذ ما تحتها ». فرفعتها فإذا دنانير ، فأخذتها ووضعتها في كمّي ، وأمر أربعة من عبيده أن يكونوا معي إلى منزلي ، فقلت : جعلت فداك ، إنّ طائف بن المسيب يَقعُد في الطريق وأخاف أن يروني ومعي عبيدك.

فقال لي : « أصَبتَ ، أصاب الله بك الرشاد » وأمر عبيده بالانصراف [ إذا رددتُهم ، فلمّا قَربتُ من منزلي وأنِستُ رددتُهم ] فصرت إلى منزلي ودعوت بالسراج ونظرت إلى الدنانير فإذا هي ثمانية وأربعون ديناراً ، وكان فيها دينار يلوح ، فأعجبني فأخذته وقَرَّبته من السراج ، فإذا عليه نقش واضح : « حقّ الرجل ثمانية وعشرون ديناراً ، والباقي هو لك ». وأنا والله ما كنت عارفاً كم له عَلَيّ بالتحديد (١).

قد لقى آل أحمد وعلي

من بني عمّهم بني العبّاس

فتناً ألقت البلايا عليهم

قبلها نسل هندها كالأساس

جعلت فيئهم غنائم حرب

لم تخف من عذابها والبأس

هدّمت من قواعد الدين ما كان

قويماً وصيّرت في انتكاس

__________________

(١) رواه الإربلي في كشف الغمة : ٣ : ٦٣ وما بين المعقوفات منه.

ورواه المفيد في الإرشاد : ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٥٧ ، والكليني في الكافي : ١ : ٤٧٨ / ٤ ، والفتّال في روضة الواعظين : ص ٢٢٢ ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٣٦٦ نقلاً عن الروضة وفي ص ٣٧٤.

٢٥١

قد حذا حذوها أناس أعانوا

ذلك الرجس مقتفي الأرجاس

روي في كتاب العيون عن عبد السلام بن صالح الهروي قال : رفع إلى المأمون أنّ أبي الحسن يقعد مجالس الكلام والنّاس تعلمه ، فأمر محمّد بن عمرو الطوسي صاحب المأمون فطرد الناس عن مجلسه وأحضره ، فلمّا نظر إليه المأمون زجره فاستخفّ به ، فخرج أبو الحسن عليه‌السلام من عنده مغضباً وهو يدمدم (١) بشفتيه ويقول : « وحقّ المصطفى والمرتضى وسيّدة النساء لأستنزلهنّ من حول الله عزّ وجلّ بدعائي عليه ما يكون سبباً لطرد كلاب هذه الكورة أياه واستخفافهم به وبخاصته وعامته ».

ثم إنّه عليه‌السلام انصرف إلى مركزه واستحضر الميضاة وتوضّأ وصلّى ركعتين [ و ] قنت في الثانية فقال : « اللهمّ يا ذا القدرة الجامعة والرحمة الواسعة » (٢) إلي قوله عليه‌السلام : « صلّ على من شرف‍ [ ت ] الصلاة [ بالصلاة ] عليه وانتقم لي ممّن ظلمني واستخفّ بي وطرد الشيعة عن بابي ، وأذقه مرارة الذلّ والهوان كما أذاقنيها ، واجعله طريد الأرجاس وشريد الأنجاس ».

قال أبو الصلت [ عبد السلام بن صالح ] الهروي : فما استتمّ مولاي عليه‌السلام دعاءه

__________________

(١) دمدم : أي كلّمه مغضباً.

(٢) في المصدر بعده : « والمنن المتتابعة ، والآلاء المتوالية ، والأيادي الجميلة ، والمواهب الجزيلة ، يا من لا يوصف بتمثيل ، ولا يمثل بنظير ، ولا يغلب بظهير ، يا من خلق فرزق ، وألهم فأنطق ، وابتدع فشرع ، وعلا فارتفع ، وقدر فأحسن ، وصوّر فأتقن ، وأجنح فأبلغ ، وأنعم فأسبغ ، وأعطى فأجزل ، يا من سما في العزّ ففات خواطف الأبصار ، ودنا في اللطف فجاز هواجز الأفكار ، يا من تفرّد بالملك فلا ندّ له في ملكوت سلطانه ، وتوحّد بالكبرياء فلا ضدّ له في جبروت شأنه ، يا من حارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام ، وحسرت دون إدراك عظمته خطائف أبصار الأنام ، يا عالم خطرات قلوب العارفين وشواهد لحظات أبصار الناظرين ، يا من عنت الوجوه لهيبته ، وخضعت الرقاب لجلالته ، ووجلت القلوب من خيفته ، وارتعدت الفرائص من فرقه ، يا بديء يا بديع ، يا قويّ يا منيع ، يا عليّ يا رفيع ، صلّ على من شرفت الصلاة بالصلاة عليه ».

٢٥٢

حتى وقعت الرجفة في المدينة وارتفعت الزعقة والصيحة ، واستفحلت النعرة ، وثارت الغبرة ، وهاجت الغاغة ، فلم أزايل مكاني إلى أن سلّم مولاي عليه‌السلام فقال لي : « يا أبا الصلت ، اصعد السطح ، فإنّك سترى امرأة بغيّة غثة رثة مهيّجة الأشرار (١) متسخة الأطمار يسميّها أهل هذه الكورة « سمانة » لعبادتها وتنسّكها قد (٢) اسندت مكان الرمح إلى فخذها (٣) قصباً وقد شدّت وقاية لها حمراء إلى طرفه مكان اللهادم تقود (٤) مكان الجيوش الغاغة وتسوق عساكر الطغام إلى قصر المأمون في منازل (٥) فؤاده ».

فصعدت السطح ، فلم أر إلاّ نفوساً تنزّع (٦) بالعصا وهامات ترضخ بالأحجار ، ولقد رأيت المأمون مدّرعاً قد برز من قصر « شاه جهان » متوجّهاً إلى الحرب (٧) ، فما شعرت إلاّ بشاجرد حجّام (٨) قد رمى المأمون بلبنة ثقيلة من بعض أعالي السطوح فأصابت رأسه وألقت البيضة عن راسه بعد أن ثقبت جلدة هامته ، فقال لقاذف اللبنة بعض من عرف المأمون : ويلك ، هذا أمير المؤمنين. فسمعتُ سمانة تقول : اسكت لا أمّ لك ، ليس هذا يوم التمييز والمحابات ، ولا يوم إنزال الناس على طبقاتهم ، فلو كان هذا أمير المؤمنين لما سلّط ذكور الفجّار على فروج الأبكار ! وطرد المأمون وجنوده بأسود طرد بعد الإذلال والاستخفاف (٩).

__________________

(١) في النسخة : « بغية عند رية مهيجة الأسرار ».

(٢) في المصدر : « لغباوتها وتهتّكها ، وقد ».

(٣) في المصدر : « إلى نحرها ».

(٤) في المصدر : « مكان اللواء فهي تقود ».

(٥) في المصدر : « ومنازل ».

(٦) في المصدر : « تزعزع ».

(٧) في المصدر : « متوجّهاً للهرب ».

(٨) في المصدر : « الحجّام ».

(٩) رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ : ١٨٤ باب ٤٢ مع اختلاف في بعض

٢٥٣

فليتدبّر العاقل والنبيه الكامل ، أنّهم صلوات الله عليهم قادرون على دفع الباغين عليهم ، ومتمكّنون من إهلاك من أساء إليهم ، ولكنّهم صبروا على أذى الأعداء ، وتحمّلوا منهم أنواع الشدائد والبلاء ، لينالوا المطلوب ، ويفوزوا بوصال المحبوب ، فقد شرّفهم الله بكراماته ، واستودعهم سرّه ، واستحفظهم غيبه ، واسترعاهم عباده ، واطّلعهم على مكنون أمره ، ولقّنهم حكمته ، وولاّهم أمر خلقه ، وأمّرهم على بريّته ، واصطفاهم لتنزيله ، وأخدمهم ملائكته ، وصرّفهم في مملكته ، وارتضاهم لعلمه ، واجتباهم لكلماته ، وجعلهم أعلاماً لدينه ، وشهداء على عباده ، وأمناء في بلاده ، فهم الأئمّة الزكيّة ، والعترة المرضية ، والسادة العلوية.

إذا رمت يوم البعث تنجو من اللظى

ويقبل منك الدين والفرض والسنن

فوال (١) عليّاً والأئمّة بعده

نجوم الهدى تنجو من الضيق والمحن

وهم عترة قد فوض الله أمره

إليهم فلا ترتاب في غيرهم ومن

أئمّة حقّ أوجب الله حبّهم

فطاعتهم فرض به الخلق ممتحن

فحبّهم ذخر يخصّ وليهم

يلاقيه عند الموت والقبر والكفن

كذلك يوم البعث لم ينج قادم

من النّار إلاّ من توالى أبا الحسن

روي في كتاب المعالم عن أبي الصلت الهروي أنّه قال : بينما أنا واقف بين يدي أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فقال لي : « يا أبا الصلت ، ادخل هذه القبّة الّتي فيها قبر هارون ، فأتني بتراب من أربع جوانبها ».

قال : فمضيت وأتيته بما طلب ، فلمّا مثل بين يديه قال لي : « ناولني من هذا التراب ، وهو من عند الباب ». فناولته فأخذه وشمّه ثمّ رمى به ، ثم قال : « سيحفر لي هاهنا قبر وتظهر صخرة لو اجتمع عليها كلّ معول بخراسان لم يمكن قلعها ».

__________________

الألفاظ ، وما بين المعقوفات منه.

(١) في النسخة : « توالي ».

٢٥٤

ثمّ طلب الّذي من عند الرأس ، ثمّ الّذي من عند الرجل ، وفعل به كذلك ، ثمّ قال : « ناولني من هذا التراب فهو من تربتي ».

ثمّ قال لي : « سيحفر لي في هذا الموضع ، فاؤمرهم أن يحفروا لي سبع مراقي إلى أسفل وأن يشقّ لي ضريحاً ، فإن أبوا إلاّ أن يلحدوني فاؤمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبراً ، فإنّ الله سبحانه سيوسعه ، فإذا فعلوا ذلك فإنّك ترى عند رأسي نداوة ، فتكلّم بالكلام الذي أعلّمك به ، فإنه ينبع الماء حتّى يمتلئ اللحد وترى فيه حيتاناً صغاراً ، فتفتّت لها الخبز الّذي أعطيك إيّاه فإنّها تلتقطه ، فإذا لم يبق منه شيء خرجت منه حوتة كبيرة فالتقطت الحيتان الصغار حتّى لا يبقى منها شيء ثمّ تغيب ، فإذا غابت تضع يدك على الماء وتكلّم بالكلام الّذي أعلّمك به ، فإنه ينضب الماء ولا يبقى منه شيء ، ولا تفعل ذلك إلاّ بحضرة المأمون ».

ثم قال عليه‌السلام : « يا أبا الصلت ، غداً أدخل على هذا الفاجر ، فإن أنا خرجت وأنا مكشوف الرأس فتكلّم معي أكلّمك ، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني ».

قال أبو الصلت : فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه وجلس في محرابه ينتظر ، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون فقال له : أجب أمير المؤمنين.

فلبس نعله ورداءه وقام يمشي وأنا أتّبعه حتّى دخل على المأمون وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة بين يديه ، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلمّا أبصر بالرضا عليه‌السلام وثب إليه وعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه ، ثمّ ناوله العنقود وقال : يا ابن رسول الله هل رأيت عنباً أحسن من هذا ؟

فقال له الرضا عليه‌السلام : « ربّما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة ».

فقال له : كل منه.

فقال له الرضا عليه‌السلام : « تعفيني منه ».

فقال له : لابدّ من ذلك ما يمنعك منه ؟ لعلّك تتّهمنا بشي ؟

فتناول العنقود فأكل منه الرضا ثلاث حبّات ثمّ رمى به وقام ، فقال له

٢٥٥

المأمون : إلى أين ؟

قال : « إلى حيث وجّهتني ». وخرج عليه‌السلام مغطّى الرأس ، فلم أكلّمه حتّى دخل الدار ، ثمّ أمر أن يغلق الباب ، فأغلق ، ثمّ نام على فراشه ، فمكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً ، فبينا أنا كذلك إذ دخل علَيّ شابّ حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا عليه‌السلام ، فبادرت إليه فقلت له : من أين دخلت والباب مغلق ؟!

فقال : « الّذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الّذي أدخلني الدار والباب مغلق ».

فقلت له : ومَن أنت ؟

فقال لي : « أنا حجّة الله عليك يا أبا الصلت ، أنا محمّد بن علي ».

ثمّ مضى نحو أبيه عليه‌السلام ، فدخل وأمرني بالدخول معه ، فلمّا نظر إليه الرضا وثب إليه وعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه وسحبه سحباً إلى فراشه ، وأكبّ عليه محمّد بن عليّ يقبّله ويسارّه بشيء لم أفهمه ، ورأيت على شفة الرضا عليه‌السلام زبداً أبيض أشدّ بياضاً من الثلج ، ورأيت أبا جعفر عليه‌السلام يلحسه بلسانه ، ثم أدخل يده بين ثوبه وصدره فاستخرج منه شيئاً شبيهاً بالعصفور فابتلعه أبو جعفر عليه‌السلام (١).

__________________

(١) لم أعثر على كتاب معالم العترة النبويّة للجنابذي.

والحديث رواه الطبرسي في إعلام الورى : ص ٣٢٦ مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وزاد في آخره :

ومضى الرضا عليه‌السلام فقال أبو جعفر : قُم يا أبا الصلت وائتني بالمغتسل والماء من الخزانة.

فقلت : ما في الخزانة مغتسل ولا ماء !

فقال لي : « انتهِ إلى ما أمرتك به ».

فدخلت إلى الخزانة فوجدت ذلك فأخرجته وشمُّرتُ ثيابي لأغسّله معه ، ثمّ قال لي : « يا أبا الصلت ، إنّ معي من يعينني غيرك ».

فغسّله ثمّ قال لي : « ادخل الخزانة فاخرج لي السَفَط الّذي فيه كفنه وحنوطه ». فدخلت فإذا أنا بالسفط لم أره في تلك الخزانة قط ، فحملته إليه وكفّنه وصلّى عليه.

٢٥٦

__________________

ثم قال : « ائتني بالتابوت ».

فقلت : أمضي إلى النجار حتّى يصلح تابوتاً ، قال : « قم فإنّ في الخزانة تابوتاً ».

فدخلت فوجدت تابوتاً لم أره قطّ ، فأتيته به ، فأخذه فوضعه في التابوت بعد ما صلّى عليه ، وصَفَّ قدميه وصلّى ركعتين لم يفرغ منهما حتّى علا التابوت ، وانشقّ السقف فخرج منه ومضى.

فقلت : يا ابن رسول الله ، الساعة يجيئنا المأمون ويطالبنا بالرضا ، فما نصنع ؟

فقال لي : « اسكت سيعود ، يا أبا الصلت ، ما من نبيّ يموت في المشرق ويموت وصيّه في المغرب إلاّ جمع الله بين أرواحهما وأجسادهما ». فما استتمّ الحديث حتّى انشقّ السقف ونزل التابوت ، فقام واستخرج الرضا عليه‌السلام من التابوت ووضعه على فراشه كأنّه لم يغسّل ولم يكفّن ، ثم قال : « يا أبا الصلت ، قم فافتح الباب للمأمون ». ففتحت الباب فإذا المأمون والغلمان بالباب ، فدخل باكياً حزيناً قد شقّ جيبه ولطم رأسه وهو يقول : يا سيّداه ، فجعتُ بك يا سيّدي. ثمّ دخل وجلس عند رأسه وقال : خذوا في تجهيزه.

وأمر بحفر القبر ، فحفرت الموضع فظهر كلّ شيء على وصفه الرضا عليه‌السلام ، فقام بعض جلسائه وقال : ألست تزعم أنّه إمام ؟ قلت : بلى. قال : لا يكون الإمام إلاّ مقدّم الناس ، فأمر أن يحفر له في القبلة.

فقلت : أمرني أن أحفر له سبع مراقي ، وأن أشقّ له ضريحة.

فقال : انتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت سوى الضريح ، ولكن يحفر له ويلحد.

فلما رأى ما يظهر به من النداوة والحيتان وغير ذلك قال المأمون : لم يزل الرضا عليه‌السلام يرينا العجائب في حياته حتّى أراناها بعد وفاته أيضاً.

فقال وزير كان معه : أتدري ما أخبرك الرضا ؟

قال : لا.

قال : أخبركم أنّ ملككم بني العباس مع كثرتكم وطول مدّتكم مثل هذه الحيتان ، حتّى إذا فنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم ، سلّط الله عليكم رجلاً منّا فأفناكم عن آخركم.

فقال له : صدقت ، ثمّ قال : يا أبا الصلت ، علِّمني الكلام الذي علّمك به.

قلت : والله لقد نسيت الكلام من ساعتي ، وقد كنت صدقت. فأمر بحبسي ، فحبست سنة فضاق عَلَيّ الحبس وسألت الله أن يفرّج عني بحقّ محمّد وآله ، فلم استتمّ الدعاء حتّى دخل

٢٥٧

وقضى الرضا صلوات الله عليه في شهر رمضان لتسع بقين منه يوم الجمعة سنة ثلاث ومئتين ، وقد تمّ عمره تسعاً وأربعين سنة وستّة أشهر.

__________________

[ عَلَيّ ] محمّد بن عليّ فقال لي : « ضاق صدرك يا أبا الصلت » ؟

فقلت : اي والله.

قال : « فقم فاخرُج ». ثمّ مدّ بيده إلى القيود الّتي كانت عَلَيّ ، ففكّها وأخذ بيدي وأخرجني من الدار والحَرَسَةُ والغِلمة يرونني ، فلم يستطيعوا أن يكلّموني ، وخرجت من باب الدار ، ثمّ قال لي : « امض في ودائع الله ، فإنّك لن تصل إليه ولا يصل إليك أبداً ».

قال أبو الصلت : فلم ألتق المأمون إلى هذا الوقت.

ورواه عنه الإربلي في كشف الغمّة : ٣ : ١٢٠.

ورواه الصدوق في العيون : ٢ : ٢٧١ باب ٦٣ ح ١ وفي أماليه : م ٩٤ ح ١٧.

وأورده الفتّال في روضة الواعظين : ص ٢٣٠ ـ ٢٣٢ ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب : ٤٨٩ / ٤١٧ ، وابن شهر آشوب في المناقب : ٤ : ٣٧٤ ، والقطب الراوندي في الخرائج : ١ : ٣٥٢ / ٨.

() إعلام الورى : ٢ : ٨٥ ـ ٨٦ وفي ط ١ ص ٣٢٨ ، كشف الغمة : ٣ : ١٠٢ وفيهما : « بسبع بقين منه ».

ورواه الصدوق في العيون : ٢ : ٢٧٤ باب ٦٣ ح ٢ ثمّ قال : وروى لي غيره : أن الرضا عليه‌السلام توفّي وله تسع وأربعون سنة وستّة أشهر ، والصحيح أنّه عليه‌السلام توفي في شهر رمضان لتسع بقين منه يوم الجمعة سنة ثلاث ومئتين من هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

أقول : وفي تاريخ وفاته ومبلغ عمره أقوال أخر ، والمشهور أنّ وفاته عليه‌السلام في صفر ، قال الكليني في الكافي : ١ : ٤٨٦ : وقبض عليه‌السلام في صفر سنة ثلاث ومئتين وهو ابن خمس وخمسين سنة ، وقد اختلف في تاريخه إلاّ أنّ هذا التاريخ أقصد إنشاء الله.

قال المفيد في الإرشاد : ٢ : ٢٤٧ في أوّل ترجمته عليه‌السلام : وقبض بطوس من أرض خراسان في صفر من سنة ثلاث ومئتين ، وله يومئذ خمس وخمسون سنة. ورواه عنه في البحار : ٤٩ : ٢٩٢ ح ١.

وقريباً منه رواه الشهيد في الدروس كما في البحار : ٤٩ : ٢٩٣ ح ٦.

وقال الطبرسي في إعلام الورى : ص ٣٠٣ : وقبض بطوس من خراسان في قرية يقال لها « سناباذ » في آخر صفر.

وقال الكفعمي : توفي الرضا عليه‌السلام في سابع عشر شهر صفر يوم الثلاثاء سنة ثلاث ومئتين ،

٢٥٨

ولله درّ من قال من الرجال :

يا أرض طوس سقاك الله رحمته

ما ذا حويت من الخيرات يا طوس

طابت بقاعك في الدنيا وطاب بها

شخص ثوى بسنا آباذ مرموس

شخص عزيز على الإسلام مصرعه

في رحمة الله مغمور ومطموس

يا قبره أنت قبر قد تضمّنه

حلم وعلم وتطهير وتقديس

فخراً بأنك مغبوط بجثّته

وبالملائكة الأبرار محروس

في كلّ عصر لنا منكم إمام هدى

فربعه آهِلٌ منكم ومأنوس

أمست نجوم السماء ثكلاً وآفلة

وظلّ أسد الشرى قد ضمّها الخيس

غابت ثمانية منكم وأربعة

ترجى مطالعها ما حنّت العيس

حتى متى يظهر الحقّ المنير بكم

فالحقّ في غيركم داح ومطموس

فيا قلبي المضنى ، لا تألف المسرّة والهنا ، ويا فؤادي المعنّى تسربل بالمحنة والعناء ، فقد قوّضت قباب الجلال ، وصوّحت أودية الشرف والكمال ، وغارت مياه الجود والإفضال ، وخرت رواسي الفخر والإجلال ، ومالت قناة الإيمان ، وجُبّت سواعد الفضل والإحسان ، وفُلّ حسام التوحيد ، وعقرت سوابق التعظيم والتمجيد ، أو لا تكونون يا أولي النهى كمن اتّزر بهذه المصيبة وارتدى ، وشرب علقم وقوعها واحتسا ، فرثا ساداته النجباء ، وأقام عليهم أعمدة العزاء ، وحرّم على نفسه القرار والصفاء ، وأجاد فيهم المديح والرثاء ، وهو من الشيعة الأتقياء.

__________________

سمّه المأمون ، وكان له أحد وخمسون سنة ، كما عنه في البحار : ٤٩ : ٢٩٣ ح ٤.

وقال علي بن يوسف بن المطهر الحلي في العدد القوية : ص ٢٧٥ : وفي الثالث والعشرين من ذي القعدة كانت وفاة مولانا أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام.

٢٥٩

المصرع السادس عشر

وهو مصرع الجواد محمّد بن علي عليهما‌السلام

إخواني ، اعمروا دنياكم بقدر محياكم ، ودبّروا أمر عقباكم التي هي مأواكم بقدر مثواكم ، واعلموا أنّ الدنيا دار غرور وجسر مرور ، فإتئدوا في مشيّتكم فقراحها نهبور وبراحها عاثور ، فاحملوا من الدنيا زاد الضرورة ، وجانبوا الطمع في زخارفها الحقيرة ، وكلوا منها ما يسدّ رمقكم ، وآثروا سؤركم على من رمقكم ، وتصوروا تقلّب أحوالها ، وسرعة زوالها ، فما ظنّكم بدار صرعت آل الرسول ، وغدرت بأولاد عليّ والبتول ، فنفتهم عن جديدها ، وشحّت عليهم بطارفها وتليدها ، فغدوا بين ذبيح وسميم ، ومرضع بمواضي النصال فطيم ، ومغلولٍ يعالج شدّة الأقياد ، ومُرهق يكابد نهسة الأقتاد ، وذات حجاب مهتوكة الأسجاف ، وأسيرة في أكوار البُزل العجاف.

هذا وهم علة وجود العالم ، وبهم تاب الله على أبينا آدم ، فيحقّ لمصيبتهم العظمى ، ورزيّتهم الدهما ، أن تفطّر المرائر وتضرم نار الضمائر ، بل والله قليل في رزئهم المهول ، ومصابهم الشديد النكول ، إزهاق النفوس ، واسكان الأجسام الملاحد والرموس ، ولله در من قال ولقد أجاد :

إذا لم يكن بدّ من الحزن والبكا

فلا تجزعي إلاّ لآل محمّد

أصابتهم أيدي المصائب فاغتدوا

بأسوء حال في الزمان وأنكد

رمتهم بنبل الحقد آل اميّة

فمن بين مسموم وبين مشرّد

أصابت ذراري المصطفى بمصيبة

تجدّد حزني كلّ يوم مجدّد

أذاب فؤادي حزنهم فبكيتهم

لأنّهم ذخري وفخري وسؤددي

٢٦٠