رحلات في الجزيرة العربية

جي. آر. ويستلد

رحلات في الجزيرة العربية

المؤلف:

جي. آر. ويستلد


المترجم: د. محمّد درويش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجمع الثقافي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٠

١٦١

فإن طبيعة فم الجمل تساعده في التغذي عليها دون صعوبات. وعند ما يسير البدوي ، يكرس جزءا كبيرا من وقته لجمع النباتات والأعشاب التي تعترض طريقه وإطعام إبله بها. وتشكل هذه الأعشاب مع حفنة من التمر والفاصوليا الطعام الاعتيادي ، أما عند ما يكونون في المخيم ، فإن غذاؤه يتكون من الأغصان الخضر والأوراق الرقيقة في شجرة الطرفاء والتي توضع بشكل كومة أمام الحيوان بعد أن تفرس تحتها حصران دائرية. فيبرك الحيوان ويبدأ بتناول طعامه. أما في جنوب الجزيرة العربية فيتغذى الجمل على الملح ، بل وحتى السمك الطازج.

وفي أثناء القيام برحلة ما ، يكون التوقف عادة بعد مرور أربع ساعات ، حتى تنزّل الأحمال ويسمح للإبل بتناول الكلأ في الأراضي المحيطة. وإذا رغب العرب في الحيلولة دون ذهاب الإبل بعيدا ، فإنهم يربطون الساقين الأماميتين معا أو يربطون خصلة الشعر بالمفصل الأعلى بوساطة حبل أما الرأس فلا يثبت بشيء إلا عند السفر حيث يربط العرب رأس الجمل بذيل الجمل الذي يسبقه ويسير الجميع بخط مستقيم. وعند حلول المساء يبدأ تناول وجبة العشاء حيث تبرك الجمال من حول الأمتعة. ولا تذهب للكلأ بعد الظلام ، كما أنها قلما تحاول النهوض من مكانها ، بل تستمر في اجترار الطعام طيلة الليل. ويرمي ذكر الجمل وأنثاه بولهما إلى الوراء ، وبما أن الأرض تغدو مبللة بعد ذلك ، فإنهما يتحركان رويدا رويدا إلى أمام دون أن يغيرا من وضعهما.

وتختلف الآراء حول الفترة الزمنية التي يستطيع فيها الجمل تحمل الظمأ. فيقول (بوفون (١) Buffon) إن الجمل يستطيع البقاء بلا ماء خمسة أيام في الحالات الاستثنائية. أما (تافرنية (٢) Tavernier) فيقول إنها تسعة أيام. لكن يبدو أن الجمال ، شأنها شأن الحيوانات المجترة ، لا تحتاج إلى الماء عند ما تتغذى على نباتات عصارية ريانة. وقد أكد لي أحد الأصدقاء ممن توفرت لديهم فرصة مناسبة لإطلاق الحكم بأنه سافر ذات يوم من بغداد إلى دمشق ، وهي رحلة تستغرق خمسة وعشرين يوما ، لم تشرب فيها الإبل أي ماء

__________________

(*) عالم طبيعة فرنسي (١٧٠٧ ـ ١٧٨٨) له كتاب بعنوان «التاريخ الطبيعي»

(**) رحالة فرنسي (١٦٠٥ ـ ١٦٨٩) كتب عن رحلاته إلى الهند وإيران وتركيا.

١٦٢

وكان يكفي وجود الرطوبة في النباتات المتوفرة في كل مرحلة.

وعلى الرغم من الصبر وغير ذلك من الصفات المدهشة التي يتمتع بها الجمل ، إلا أنه قليل الذكاء ولا يبدو قادرا على إقامة صلة قوية بسيّده إلا إذا كانا قد ألفا السفر معا منذ أمد بعيد. وفي الرحلات الصحراوية الطويلة ، يبدو الجمل مدركا كل الإدراك بأن سلامته تكمن في البقاء قريبا من القافلة ، إذ لو تأخر إلى الخلف ، فإنه لن يتوقف عن بذل المحاولات الشاقة للحاق بها. ويصف أحد الرحالة واسمه (علي بك) (١) الجمل بأنه حيوان هادئ ومسالم. ويقول : «إن الجمال تأكل طعامها على نحو منتظم فلا تأكل إلا قليلا كل مرة ، وإذا ما ترك أحد الجمال رفاقه ، فإن رفيقه يظهر أمامه ليؤنبه برفق مما يجعله يشعر بالخطأ ويعود إلى بقية الجمال». لكنني أقول العكس وهو أن الجمال هي أكثر الحيوانات المشاكسة على وجه الأرض. فبعد انقضاء رحلة نهار شاقة ، وإنزال الحمل من على ظهر الجمال ، فإن الحادي يضطر باستمرار إلى الحيلولة دون الشجار فيما بينها. والتأنيب الرقيق ليس سوى عضات قاسية وتمزيق آذان بعضهم بعضا.

يقدر (فولني) (٢) خطوات جمال سوريا بثلاثة آلاف وستمائة ياردة في الساعة. أما القبطان (بيرنز) ، الذي كرس الكثير من الاهتمام لهذا الموضوع ، فقد وجد الشيء نفسه تقريبا في (تركستان). أما في (عمان) فقد تأكد لي أن المعدل العام للقوافل المسافرة أكبر بكثير ، واتبعت في ذلك الطريقة التالية : بوساطة ساعة جيدة لاحظت بدقة مرات عديدة بأن الوقت الذي تشغله في قطع مسافة بين منطقتين أحدهما في الشمال والأخرى في الجنوب ، بعد تثبيت خطوط العرض فإن النتيجة تتراوح بين ميلين جغرافيين ونصف إلى ميلين وثلاثة أرباع في الساعة. وهذا هو نفس ما توصل إليه (بركهاردت). إلا أن خطوة الجمل العماني الاعتيادية عند ما يركب البدوي على ظهره في رحلة صحراوية ، تكون خطوة سريعة وقوية وتصل إلى ستة أو ثمانية أميال في الساعة وتستمر الجمال في السير على هذا النحو ما بين

__________________

(*) علي بك العباسي رحالة أسباني اسمه دو منغو باديا إيليليخ أسم وجاء إلى مكة حاجا سنة ١٨٠٦ وسمي نفسه الحاج علي بك العباسي ونشر رحلاته في باريس عام ١٨١٤ وتوفي أثناء رحلة ثانية له إلى مكة في موضع يبعد نحو ١٢٠ ميلا عن دمشق وذلك عام ١٨١٨.

(**) Volney رحالة فرنسي (١٧٥٧ ـ ١٨٢٠) له كتاب «رحلة إلى سورية ومصر».

١٦٣

عشرين إلى أربع وعشرين ساعة متعاقبة. لكن هذه السرعة تزداد حسب مقتضيات الضرورة لتصل إلى ما بين ثلاثة عشر إلى خمسة عشر ميلا في الساعة. وتعد أنثى الجمل أسرع من الذكر ، لكن البدو يفضلون ، على الرغم من ذلك الذكر بسبب معنوياته العالية. أما حمل الجمل فيختلف اختلافا بينا. ففي مصر ، وعند ما يكون الجمل مزودا بغذاء جيد ، فإنه يستطيع أن ينقل حمولة يصل وزنها ألف رطل. إلا أن الحمولة الاعتيادية في رحلة القافلة تتراوح بين مائتين وخمسين إلى خمسمائة رطل. والمعروف أن الجمل يسير سيرا أخرق ، وهو في سيره وخببه السريع وعدوه عنيف وغير مريح.

ويقوم البدو بتزيين رقاب هذه الحيوانات بشريط من قماش أو جلد معلقة به قطع صغيرة من المحار على شكل هلال. ويضيف الشيوخ إلى هذه القطع بعض الزينة المصنوعة من الفضة ، وبهذا فإنها تظل حتى يومنا هذا جائزة ثمينة لمن يريد سرقتها. وثمة إيضاح في الكتاب المقدس (سفر القضاة ، ٢٠ : ٣ ، ٢٦) حيث يرد ذكر زينة الجمال في معرض الحديث عن المجوهرات وغيرها من المواد الثمينة. وتثبت قطع المحار بخيط شبه دائري ومن هنا جاءت العبارة «زينة تشبه القمر».

ولا يتعرض الجمل إلا لبعض الأمراض القليلة. ففي المناطق الرطبة تتصدع أقدامه وتنتشر عليها التقيحات وإذا أصابها العفن فتكون الإصابة قاتلة. وقد قضى المئات من الجمال عند ما بقي الحجاج القادمون من الشام في خيامهم قرب حلب وغيرها من المدن الكبيرة. وأفضل علاج لذلك هو الزيت. ويقال أن تورم الغدد في الرقبة والذي يؤدي إلى موت الجمل في غضون ثلاثة أو أربعة أيام ـ وإصابة القولون من الأمراض التي تنتشر في الربيع والخريف من كل عام. ويفيد الكي في علاج كل هذه الأمراض.

وعند ما يرفض أحد الجمال النهوض وهو في رحلة ، فإن العرب عموما يتركونه ليواجه مصيره. وقلما ينهض الجمل ثانية على قدميه ، لكن هناك حالات نهضت بها الإبل وواصلت الرحلة لعدة أيام. وقد مررت بمثل هذه الجمال التي تركت وشأنها ولا حظت نظراتها الحزينة وهي صامتة تراقب القافلة وهي تتوارى عن الأنظار. عند ما يلام العربي بسبب لا إنسانيته ، لأنه لا يضع حدا لمعاناة الحيوان ، فإنه يرد بأن القانون يحرم قتل الحيوان

١٦٤

إلا إذا كان ذلك لأجل الطعام. وحتى في مثل هذه الحال ، فإن الغفران يستجدى للضرورة التي تملي القيام بمثل هذا الفعل. وعند ما يقترب الموت من الحيوان المسكين ، فإن النسور وغيرها من الطيور الكاسرة التي تتجسس أو تشم رائحة فريستها من على بعد مسافة شاسعة ، تتجمع أسرابا أسرابا وتنقض على الجسد وتبدأ بنهشه حتى قبل أن يلفظ الحيوان أنفاسه الأخيرة. وهكذا يشاهد الرحالة باستمرار بقايا خادم الإنسان الوفي التي تكون في بعض الأحيان عبارة عن هيكل عظمي كامل مغطى بالجلد الذابل المتعفن ، أو قد تكون العظام وحدها هي الباقية دون قطعة لحم وقد باتت بيضاء اللون ساطعة بفعل أشعة شمس الصحراء المحرقة.

أما فيما يخص الجياد فعددها قليل جدا باستثناء تلك التي يملكها الإمام نفسه ، وفي بعض أجزاء (عمان) لا يعرف الناس شكل الجواد. وذات يوم ، كنت أعتلي صهوة جوادي وأنطلق في مقدمة القافلة عند ما تصورت جماعة قادمة من إحدى المدن بأنني أحد الوهابيين. وكنت قريبا من مرمى هذه الجماعة لو لا سرعة هذا الحيوان النبيل ، الذي أسميته سيدا تيمنا باسم السيد الذي وهبني إياه ، والذي أدين له بحياتي. ولدى عودتي من (عبري) إلى (السويق) ، وخلافا لرغبة البدو الذين تلقوا أبناء تفيد بأن الوهابيين يكمنون في الجوار ، غادرت القرية التي توقفنا فيها دون مرافقة أحد سوى بندقيتي بحثا عن طريدة. وما أن ابتعدت مسافة ثلاثة أميال عن السور حتى وجدت نفسي عند ما انعطفت من حول إحدى الصخور بأنني على بعد مسافة قصيرة جدا من مجموعة من الفرسان كانوا يستلقون على الأرض ويتنعمون بالشمس بكسل. كانت الاستدارة والهرب عملا مكشوفا ، لكن على الرغم من ذلك ، ما كدت أستدير حتى كان جميع الفرسان فوق صهوات جيادهم يلحقون بي.

أزّت بعض الرصاصات قرب رأسي واستطاع الجواد أن يميزها على الفور وشرع يثب إلى الأمام كالظبي. كان معتادا على مثل هذه الأمور. وكانت رغبة الفرسان في القبض عليه دون أن يصيبه أذى هي التي منعتهم من إصابته مباشرة. وعند ما اقتربنا من البلدة ، نظرت إلى الوراء فشاهدت شيخا يعلو صهوة جواد أفضل من بقية رجاله في المقدمة وكان رداءه وشعره الطويل يتطايرون من ورائه في حين أمسك برمح طويل عاليا غير متأكد إن كانت المسافة كافية لتسديده صوبي. غير أنه ولحسن حظي ، قدّر أنه ليس على مقربة تكفي

١٦٥

لإصابتي لأنه جذب لجام جواده وانضم من جديد لبقية الأشخاص بينما وصلت بسلام إلى السور. ربما كان هؤلاء هم نفس الرجال الذين قتلوا الرسولين اللذين أرسلهما إلى أمام (مسقط) ، وقد أشار إلى ذلك (سعيد بن كلفان) في رسالته المنشورة في الملحق.

قبل يوم واحد من تسليم الجواد لي ، كان قد قدّم هدية من أحد شيوخ نجد إلى الإمام. ولما كان هذا الجواد قد نشأ وسط جو عائلي واعتاد على الوجود في خيمة إحدى الأسر في تلك البلاد ، فقد اكتسب درجة عالية من الطاعة وسهولة الانقياد والسرعة التي تميز أصالته العربية. ولتجنب حرارة الشمس الشديدة والحفاظ على سلامة الإبل ، كان البدو يعمدون إلى التوقف غالبا خلال رحلتنا مدة ساعة في منتصف النهار. وفي هذه المرات ، كان جوادي السيد يبقى ساكنا بلا حراك بينما ارتاح أنا فوق الرمال يحجبني جسده عن أشعة الشمس. وكان دوما يبحث عن وجبة غذائي المؤلف من التمور ليشاركني فيها. وكلما توقفنا ، ورفعنا عنه السرج واللجام ، نتركه حرا طليقا يتجول وسط مضاربنا. وعند غروب الشمس كان يأتي لتناول الذرة عند سماع صوتي وأنا أناديه. وفي أثناء الليل ، ودون أن يكون مشدودا إلى حبل ، كان يتخذ مكانه على بعد بضع ياردات من سيده. وفي أثناء رحلاتي على امتداد ساحل عمان ، كان غالبا ما يرافقني ، وحتى في رحلتي على ظهر أحد المراكب من مسقط إلى الهند.

ولما أجبرتني أحوالي الصحية على العودة إلى إنكلترا برا ، لم أتمكن من اصطحاب جوادي معي. وعند الافتراق عن هذا المخلوق المخلص المتعلق بي الذي رافقني في مغامراتي وأخطاري ، فإنني لا أشعر بالخجل أن اعترفت بأن شعورا عاطفيا اجتاحني يشبه ذلك الشعور الذي نشعر به عند مفارقة صديق مجرّب ذي قيمة.

إن العديد من جياد الإمام هي من أحسن الجياد النجدية ويقدر ثمن إحداها ما بين ألف وخمسمائة إلى ألفي دولار. وكان لديه جواد أعتقد أنه من أجمل ما رأيت في حياتي من خيول يوازي نفس الثمن. وكان الإمام يحتفظ ببعض خيول الاستيلاد في مسقط ، إلا أن العدد الأكبر منها موجود في (بركاء) و (السويق) حيث يزداد الاهتمام في هاتين البلدتين بإنجاب هذه الحيوانات النبيلة وتربيتها. أما الجمال والحمير فإنها تستخدم أكثر للسفر في

١٦٦

عمان. وعلى الرغم من أن شيخا من الشيوخ قد يعتقد في بعض الأحيان أن ركوب الحمير غير مناسب ، فإن بقية فئات الشعب ليست بهذه الدرجة من الحساسية. والحمير كبيرة الحجم ، قوية الأبدان وتتحمل مصاعب شتى. ويهتم العرب اهتماما كبيرا بها ، ويبلغ ثمن أفضل أنواع الحمير ما بين أربعين إلى خمسين دولار. والحمير التي تعبر الجبل الأخضر تتصف بثبات الخطوات والجلد وتضاهي البغال التي تعبر أكثر المضايق صعوبة ذات الصخور الكلسية الزلقة دون أن تزل لها قدم واحدة. ويصدر عدد كبير من الحمير بحرا من عمان إلى موانئ بلاد فارس الشرقية وكذلك إلى جزيرة فرنسا حيث تقدر بثمن عال (١).

أما الجاموس فهو غير معروف ، في حين لا توجد أعداد كبيرة من الثيران ، وتمتاز بوجود الحدبة على ظهرها وهذه علامة فارقة على الثيران الأفريقية. وفائدة الثيران في الزراعة وغير ذلك من الأشغال الأخرى عظيمة مما لا يسمح بذبحها من أجل لحومها باستثناء المدن الكبيرة. وتستخدم الثيران بالدرجة الأساس لسحب المياه وفي الحراثة وفي الدوس على المحاصيل. أما على ساحل البحر حيث يندر وجود العلف ، فإن الثيران تتغذى على التمور أو الأسماك الطازجة أو المملحة.

ويكثر وجود الماعز في عمان ، إلا أن الأغنام قليلة ، وتكون سوداء اللون وصغيرة الحجم. وبما أنها تتغذى على الأعشاب العطرية التي يكثر وجودها في البلاد ، فإن لحومها لذيذة وذات مذاق جيد. أما إليتها فهي أصغر من إلية مثيلتها الأفريقية ولكنها أكبر حجما من الأوروبية. ولا يقوم العرب بإخصاء الأغنام أو الماعز ، لكنهم يقضون على عضو الذكر التناسلي بالربط المحكم.

وإذا ما استثنينا الطيور التي تكثر في عمان وتباع بثمن رخيص ، فإن عرب عمان لا يملكون الدواجن الأليفة. والطرائد نادرة. وطيور الماء الوحيدة التي شاهدتها في أثناء إقامتي هي بعض البط البري ، لكنه ليس للصيد. في حين يكثر الحمام والزقزاق واليمام ، إلا أن العرب لا يكلفون أنفسهم عناء صيدها ، أما السمّان ذو اللون البني الشائع ، أو ما يسمى

__________________

(١) لقد لاحظت انه لا توجد في عمان أي واسطة من وسائط النقل الحديثة (بداية القرن التاسع عشر) وينطبق الشيء نفسه على كل الأقسام التي شاهدتها من جزيرة العرب.

١٦٧

بالقطا الصحراوي ، فيكثر في السهول. والقوانين الإسلامية تضع قيودا صارمة على الرماية. فما أن يسقط الطير حتى يهرع إليه الرياضيون لحز رقبته. وإذا لم تخرج كمية كافية من الدماء من الجرح ، فإنهم يعلنون عدم صلاحيته للأكل. وتتناول النسور طعامها وسط الجبال وتوجد ثلاثة أنواع من النسور في السهول. كما توجد أعداد كبيرة جدا من طيور البحر التي ترتاد السواحل ، ومن أشهرها طائر النورس والطائر الأبله والغرنوق الهندي. وتكثر الأسماك على امتداد الساحل وهي تشبه الأسماك الهندية باستثناء نوع واحد أو نوعين ولهذا سأمسك عن ذكرها. وتزور (مسقط) في أغلب الأحيان حيوانات (الغرميس) الكبيرة وهي من رتبة الدلافين ويسميها البحارة عندنا باسم (توم مسقط) بينما يطلق عليه العرب Ouey وتقوم أحيانا بقلب القوارب وتمارس بعض الألعاب المزعجة ، حسب تقاريرهم ، إلا أنني لم أسمع بأنها أدت إلى حدوث أي إصابة خطرة.

كان خليج مسقط قبل بضع سنوات مليئا بالأسماك الصغيرة التي يطلق عليها اسم السردين في البحر المتوسط ويمكن الحصول عليها بأي كمية ويتم تصدير أعداد كبيرة منها بعد عملية حفظها ، ولكن قبل حوالي سنتين هاجرت الأسماك من مواطنها هذه وأصبحت توجد فقط قرب (جمبرون) على الساحل الفارسي. وقد سمعت السكان المحليين يقولون إن وباء ما يحل كل خمس أو ست سنوات بهذه الأسماك فيؤدي إلى هلاك أعداد هائلة منها فيجرفها الموج إلى الساحل. وتوجد في جداول الأنهار أسماك صغيرة جدا ، إلا أن السكان لا يأكلونها. أما الحشرات والزواحف الموجودة فهي الجراد والزنابير والنحل والسلاحف والسحالي والعقارب وغيرها مما يشاهد شائعا في الهند.

ونظرا لتنوع التضاريس الجغرافية في عمان ، فإن المناخ متنوع أيضا. ففي المناطق البعيدة عن الساحل ، والواقعة غربي الجبال ، يكون الهواء جافا في فصل البرد وحارا جدا في فصل الحر. أما في (الباطنة) فالجبال العالية التي تتراجع بعيدا عن الساحل تعيق تقدم البخار القادم من المحيط ولهذا تكون باردة ورطبة مقارنة بغيرها. ويخفف وجود النباتات في الواحات من درجات الحرارة ، إلا أن المناخ يبدو في نفس الوقت كريها عند الأجانب. فالحميات العنيفة التي تنتهي عموما نهاية مدمرة تنتشر طيلة فصل البرد. والسكان الذين

١٦٨

يقطنون مناطق الواحات يعرفون جيدا أن الهواء الملائم جدا للنباتات له أثر معاكس تماما على حياة الإنسان. فكان السكان خلال فترة وجودي ، يشكون من المرض ويفترقون إلى الحيوية والعافية التي يتمتع بها البدو. وبيوتهم رطبة وكئيبة لا تدفئها الشمس البتة ومشيدة داخل البساتين ، وتنتشر من حولها المستنقعات والبرك المائية التي تحف بها النباتات الخضر. وينتقل هؤلاء السكان من مثل هذه الأماكن إلى الصحراء القاحلة والمحرقة. ولهذا السبب ، فإن أسباب انعدام الجو الصحي واضحة مثل وضوح نتائجه من جهة ثانية ، فإن المنطقة التي يقطنها (بني بو علي) وأراضي (بني جنبه) وساحل (الباطنة) معروفة بجوها الصحي تماما. والسكان الذين هاجمتهم في المناطق الأولى الحميات ومرض الزحار مع الغذاء البسيط والهواء العليل يشفون عادة بعد مرور شهر على إقامتهم في المناطق الأخيرة. وبلدة (السيب) التي تبعد مسافة عشرين ميل إلى الشمال من (مسقط) معروفة بخصائصها الاستشفائية.

ويبدو أن مرض الرمد ، وغيره من الأمراض التي تصيب العيون ، شائع جدا وبخاصة في وسط أولئك الذين يعيشون في الواحات. ويكفي الانتقال المفاجئ من عتمة بساتينهم إلى وهج الصحراء لتكون الأمراض ، كما تكفي عاداتهم غير النظيفة في استمرار هذه الأمراض. والسكان لا يشبعون من الأدوية وهم على استعداد لابتلاع أي كمية تعطى لهم ، إلا أنهم كانوا يضحكون ويتجاهلون وصيتي لهم بالاغتسال بين وقت وآخر. وقد لا حظت وجود عدد من حالات الإصابة بحصى الكلية ولكنها ليست شائعة ، كما أنهم لا يعرفون أي شيء عن إجراء عملية للتخلص منها. ولم أشاهد أي حالة من حالات الجذام في عمان ، في حين شاهدت حالتين لمرض (الديدان الخيطية) ، وطريقة العلاج هي الطريقة المتبعة في الهند نفسها.

في القرنين الحادي عشر والثاني عشر ، عرف عن العرب أنهم أجروا أبحاثهم في مملكة النبات إلى حد بعيد. وقد عرفوا أيضا علم الطب معرفة واسعة ويكتب الأطباء المعاصرون بامتنان كبير العديد من المقالات المختلفة ذات السمعة الجيدة التي تدين مادتهم الطبية بالشيء الكثير للعرب. ولكن لا يملك هؤلاء العرب في الوقت الحاضر في أي هذين الميدانين أي إنجازات جديرة بالاحترام. وفي حالة حدوث الحمى ، يمتنعون عن أكل لحم

١٦٩

الحيوان ويشربون الكثير من الشربت ويطلقون العنان لأنفسهم في تناول البطيخ والخيار وغير ذلك من الخضراوات الباردة. وفي بلدة (نزوى) التي يقطنها قرابة ألف نسمة وجدت أنه ليس عمليا الحصول على فرد ينزف دما. كما أن الإصابات جراء طلق ناري والجروح التي تحدثها السيوف في الأماكن التي يحمل فيها كل فرد بندقية وسيفا كثيرة ومتعددة ، إلا أن معالجتها بسيطة ، رغم أن هناك حالات كثيرة لا ينجح فيها العلاج بسبب الطعام البسيط وعادات الجسد المقتصدة التي اعتاد عليها السكان.

ولما كانت (مسقط) تحيط بها الصخور الجرداء ، فإن أشعة الشمس تصبح مركزة في بؤرة وتكون الحرارة في بعض الفصول غير محتملة تقريبا. وفي العاشر من إبريل / نيسان ، كانت درجة الحرارة في الساعة الخامسة مساء تصل إلى ١٠٦ درجة فهرنهايت ، ولا وجود لنسمة هواء واحدة. ومع هذا ، فإن هذه الحرارة الشديدة تخف على وجه العموم خلال النهار بفعل نسيم البحر المنعش والبارد. وأفضل عرض للحالة العامة للمناخ تكون بالإشارة إلى خلاصة سجل الأرصاد الجوية. الأمطار تهطل من أكتوبر / تشرين الأول وحتى مارس / آذار ، ولكن ليس لأكثر من ثلاثة أو أربعة أيام في الشهر الواحد عند ما تكون الرياح مؤاتية وتقوم القمم العالية في الجبل الأخضر بإعاقة السحب وهي في تقدمها فينجم عن زخات المطر العديد من الجداول المائية التي تجري عبر الحقول على طرفي السلسلة. وتسقط الثلوج أيضا في فصل الشتاء في هذه المناطق بينما يسقط البرد في شهر مارس / آذار فوق السهول. وتكثر قطرات الندى ليلا تاركة على الأشجار وعلى الأرض نفس الأثر الذي تتركه الأمطار الخفيفة. وفي الصحراء يكون الجو صحوا وصافيا وفي النهار تكون السماء ذات لون ازرق غامق. وفي الليل تلمع النجوم ببريق غير معهود تحت ظل أي مناخ آخر. ويتناسب البرد في ذلك الفصل ، كما هو الشأن في كل الأماكن الرملية ، مع حرارة النهار. إلا أن الحمى غير معروفة هناك كما يتضح. فالبدوي الذي ينام فوق الرمال يكتسب حيوية وعافية مضافتين بسبب الهواء المنعش الذي يتنفسه في نومه.

الأحجار الكلسية البدائية هي الأحجار الرئيسة في عمان ، حيث أن سلسلة من الجبال الرئيسية تتكون من هذه الأحجار التي تدخل أيضا في تركيب السلاسل الجبلية الثانوية.

١٧٠

وفي المناطق والأقاليم الشمالية ، وعلى ساحل البحر قرب مدينة (مسقط) نجد أن التلال ، التي يتجاوز ارتفاعها ألفا وخمسمائة قدم ، وفي بعض الأحيان ألفي قدم ، تتكون من الميكا المترسبة في طبقات رقيقة وتكون ذات أشكال معوجة. وعلى مقربة من (رأس مسندم) توجد صخور البازلت التي تشكل في بعض الأماكن حدبات شديدة الانحدار وفي أماكن أخرى تشكل ما يشبه قمم الجبال. لقد قيل أن الجزيرة العربية تخلو تماما من المعادن الثمينة ، لكننا وجدنا في هذه المنطقة الفضة ومعها الرصاص. ويوجد النحاس أيضا. وفي إحدى القرى الصغيرة على الطريق المؤدية من (سمد) إلى (نزوى) ثمة منجم يعمل فيه العرب حاليا ، أما بقية المناجم فمهجورة. وحتى في المناطق الواقعة قرب (مسقط) نجد أن التلال تتضمن المعادن. أما الأحجار الكريمة ، فلم يعثر على أي منها حسب علمي.

١٧١
١٧٢

الفصل العشرون

التجارة والصناعات

إذا أردنا أن نتأمل في موقع عمان المفيد ، بوصفها سوقا لتجارة الهند وبلاد فارس والجزيرة العربية ، فإن مما يدعونا إلى الدهشة أن هذا الإقليم لم يصل البتة إلى أي مرتبة تجارية مهمة. بل إننا نجد على العكس من ذلك ـ باستثناء (مسقط) و (صحار) و (قلهات) التي حققت مجتمعة شهرة بسيطة ـ بأنه حتى في تلك الفترة التي كان فيها الطريق العام ، لتلك التجارة العظيمة القادمة من الهند والمارة بموانئها والمتجهة إلى أوروبا ، قد أثرى كل بلد يمر فيه ، فإن عمان ظلت مستثناة من تحقيق أي فائدة منه. لكن في بلاد تكون فيها الاحتياجات السطحية قليلة ـ بسبب اقتصاد السكان ـ وتكون الحاجات الطبيعية ، كما في هذه الحالة ، متوفرة بفعل الثروات الزراعية ، فإنه لا يمكن أن توجد تجارة داخلية نشطة. ولهذا السبب ، فإن سكان عمان مستقلون إلى حد ما عن بقية الأمم وهم فخورون جدا بنسبهم وبلادهم وحريتهم ، مما يجعلهم يأنفون الاختلاط بجيرانهم الأقل حظا منهم : فقد احتفظوا بنفس الوضع الانعزالي الأولي. والطبقة الوحيدة التي تشتغل بالأمور التجارية هي تلك التي تعيش بالقرب من البحر. وهنا نستطيع الاستنتاج بأنهم اكتسبوا أول الأمر ميلا للمغامرة والملاحة في نفس الوقت الذي كانوا يهتمون فيه بالصيد على امتداد الساحل. ولا بد أنهم حققوا في الملاحة ، منذ وقت مبكر ، درجة كبيرة من التقدم طالما أننا نعلم بأن سفنهم أبحرت في القرن الثاني عشر من (صحار) في رحلات بحرية طويلة ، حتى كانت تصل إلى الصين. وفي يومنا هذا ، فإن مجمل تجارة عمان تمر من خلال تجار (مسقط) وقد شرحت كل التفاصيل الضرورية في أثناء حديثي عن تلك المدينة سابقا. أما الفروع التجارية الأخرى في (صور) و (بركاء) و (صحار) و (شناص) فهي أقل شأنا ، إذ تنحصر تجارتها في تصدير التمور التي يتلقون عوضا عنها الحبوب والأقمشة الهندية والحطب. أما الحالة الراهنة للتعليم والأدب والمصانع في عمان فلا تختلف كثيرا عن حالة الانحسار المماثل

١٧٣

الموجود في أجزاء أخرى من الجزيرة العربية. بل إنها في كل هذه المجالات أقل شأنا بكثير من مثيلاتها في اليمن المجاورة. وقد بحثت بنفسي في أوساط أكثر الناس تعليما فلم أجد إلا شخصا واحدا يعرف شيئا عن علم الفلك أو عن الأدب أو العلوم بصورة عامة. كما أنهم لا يملكون أي رغبة في تنمية ثقافتهم. إلا أننا لا ينبغي لنا ، على هذا الأساس ، أن نخلص إلى القول بأن الناس يفتقرون إلى الذكاء أو القدرة العقلية. فقد صادفت شخصا يدعى (سعيد بن خلفان) درس في (كلكتا) ولديه معرفة واسعة بعلم الفلك البحري حتى أنه يستطيع تصوير الشمس بآلة السدس التي تقيس الأجرام السماوية ، والأفق الاصطناعي لحساب ملاحظاته وتصنيف آلات الكرنوميتر. وكان تحت إمرته العديد من سفن الإمام الكبيرة ، وقام أكثر من مرة بالملاحة بين (زنجبار) و (مسقط) (١).

في أول الأمر ، أثارت آلاتي اهتماما أكبر مما كنت راغبا فيه. إلا أن هذه المشاعر سرعان ما تلاشت عند ما أخبرت الناس أنها ليست من الذهب. وفي أثناء إقامتي لم أتمكن من الحصول على كتاب أو مخطوطة في أي موضوع باستثناء تفاسير القرآن الكريم والكتب الدينية عموما. وكان أولادهم لا يتلقون إلا القراء ، والكتابة في هذه المواضيع.

في بعض المدن الرئيسية يصنع السكر بكميات كبيرة. ولكن على الرغم من أن القصب يتميز بنوعيته الممتازة جدا ، إلا أن السكر له مظهر مختلف بسبب بعض الصعوبات التي يواجهونها ولم يتمكنوا من التغلب عليها في عملية التحبيب. ويشكل السكر أهم الصادرات من (مسقط) حيث يتم فيها وفي (نزوى) وبعض المدن الرئيسية الأخرى صنع كميات كبيرة من الحلوى وهي مزيج من السكر والعسل والسمن واللوز يغلى حتى يصبح كعجينة متماسكة وترسل منها كميات كبيرة إلى الهند وبلاد فارس بعد أن توضع في أطباق فخارية ليست عميقة يبلغ قطر الواحد منها عشر بوصات. وتصنع حلويات مماثلة لهذه في بلاد الشام مستخلصة من عصير العنب ، وثمة نوع آخر أقل شأنا يصنع من شجرة الخرنوب حيث يغلى فيصبح شبيها بالعسل وهي المادة التي يقال بأنها كانت تكثر في بلاد (كنعان).

__________________

(١) كمثال على إتقانه اللغة الإنكليزية ، فإنني أقدم في الملحق في نهاية الكتاب الرسائل التي أرسلها إليّ. وعلاوة على أن هذه الرسائل تكشف عن موهبة طبيعية كبيرة ، إلا أنها غريبة من نواح عديدة. ويستفاد من عظم الجمل اللامع في الكتابة ، كما أنهم يستخدمون نوعا من الحبر سرعان ما يزول.

١٧٤

وفي بلاد الشام وفلسطين يكثر الكرم وعند ما يمزج بزيت الزيتون يصبح مادة غذائية تتناولها الطبقات الفقيرة. وإذا ما أضيف مسحوق السمسم ووضعت داخل فرن ذي نار هادئة تصبح حلوى لذيذة. وتصنع الثياب القطنية ذات النسيج الخشن والجنفاص داخل البيوت. ويقوم الرجال بصناعتها ومن أشهر هذه الثياب وأغلاها ثمنا ما يعرف باسم (لونجي) ويبلغ طولها عشرة أقدام وعرضها قدمان وست بوصات أو ثلاثة أقدام ، وتكون مخططة أفقيا بالأحمر والأزرق. وتستخدم إما بمثابة نطاق يلف به الخصر أو عمامة توضع فوق الرأس. ويختلف ثمنها ، إذ يتراوح بين خمسة إلى عشرة دولارات. وتقوم الإناث بمهمة غزل الخيوط. وشاهدت في قبيلة بني بو حسن سقيفة واسعة وحوالي ثلاثين حائكا يحيكون الحرير وكانت الألوان جميلة إلا أن الصناعة خشنة والتصاميم غير جميلة. وفي المناطق الشمالية تصنع البشوب ، إلا أنها أقل شأنا من حيث نوعيتها من البشوت المصنوعة في نجد.

وأتيحت لي الفرصة في أماكن أخرى أن أشاهد انعدام وجود الحرفيين في عمان إلا ما ندر. ففي المدن الرئيسة يصنع الحدادون رؤوس الرماح والخنجر المعقوف وبعض السكاكين الفجة. وتصنع الأواني والأطباق النحاسية أيضا من فئة أخرى من الحرفيين ، إلا أن الحدادين أكثر عددا من هؤلاء. وتصرف مبالغ كثيرة من النساء على شراء أدوات الزينة الفضية كما أن أطفالهن يرزحن تحت ثقل المصوغات الفضية. وقد تمكنت من أن أعد ما لا يقل عن خمسة عشر قرطا في كل أذن. أما رؤوسهن وصدورهن وأيديهن وكواحلهن فهي مزينة بأعداد كبيرة جدا منها.

ويوجد العديد من صاغة الذهب ، إلا أن المصوغات ليست دقيقة الصنع. ويظهر أن المعدن المستخدم من أفضل الأنواع.

ينبغي تصنيف السكان في (عمان) إلى صنفين : الأول يمثل أولئك الذين استوطنوا المدن والواحات. والثاني يمثل البدو الذين يعيشون في الصحراء القريبة. وسكان الصحراء هم خليط غير متجانس ويحتفظون بكل خصائص بني إسماعيل الحقيقية. أما سكان المدن والواحات فهم أحسن منظرا ويميلون إلى البدانة قليلا على الرغم من أن الفارق قلما يبدو

١٧٥

واضحا هنا بخلاف ما هو عليه الأمر في الأجزاء المتمدنة المستقرة الأخرى من الجزيرة العربية. وقد اختلط كلا هذين الصنفين من السكان مع الفاتحين الخوارج واعتنقوا مذهبهم وزالت جميع الفروق بين الاثنين. إلا أنهم احتفظوا بفارق آخر ، نسي أمره ، في بقية الأقاليم حسب علمي. فالمؤرخون العرب يعيدون سكان (عمان) الحاليين إلى نسبين اثنين : قحطان وهو ابن عابر وعدنان سليل إسماعيل. وفي عمان يلقب ، أحفاد الأول باسم (Ummari) وأحفاد الثاني باسم (Gaaffri) ). إلا أن هاتين التسميتين معروفتان محليا فقط لأن هناك مؤلفين عرب يطلقون على أحفاد الأول اسم العرب العاربة أو العرب الأصلاء فيما يطلق على أحفاد الثاني العرب المستعربة أو العرب الذين اختلطوا بغيرهم.

وتعامل كل فئة من هاتين الفئتين الفئة الأخرى بكراهية متبادلة. أما عرب المدن ، الذين لا يوجد بينهم مثل هذا الفارق ، فينقسمون إلى قبيلتين تحارب كل واحدة الأخرى مثلما تحاربان سكان الصحراء. وتطبق تطبيقا صارما القوانين الكريهة الخاصة بسفك الدماء والانتقام. وأصل هذه النزاعات يقوم على هذا الأساس أو بسبب الشيوخ الذين غالبا ما يكونون في حالة عداء موروث أو شخصي مع جيرانهم. وفي حال استمرار الأعمال العدائية ، فإنها تجري وفق نفس الأسس القائمة في الصحراء والمتمثلة بحسن النية. وهذه الأعمال لا تؤثر في الهدوء العام للمنطقة إذ في وسع الرحالة أن يجتاز أراضي القبائل المتناحرة دون خوف من انقطاع رحلته. والمهن الزراعية التي يمتهنوها لا تعد حقيرة الشأن كما هو الحال في أجزاء أخرى من الجزيرة العربية كما لا ينجم عنها الآثار المألوفة بتقليص الارتباط بالحرية ، فقد خسر الوهابيون مؤخرا المعركة مع سكان (بدية) الذين لم يتمكنوا إلا من حشد ثلث القوة التي تقدمت لمهاجمتهم. وفي ظل هذا التقييم الجيد ، لا أستطيع أن أدرج كل سكان الساحل البحري ، خاصة سكان (مسقط) الذين كثيرا ما اظهروا شدة جبنهم حتى إن كلمة مسقطي وكلمة جبان أصبحتا مترادفتين (٢).

__________________

(*) لعل المؤلف قصد بذلك اليمانية والغافرية.

(**) لا يمكن مقارنة قوة الشكيمة والبأس عند أفراد قبائل الصحاري والجبال بسكان المدن الساحلية لما في حياة المدن الساحلية من اختلاط ودعة وفردية تضعف العصبية القبيلة كما نبّه إلى ذلك العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة غير أن اطلاق المؤلف هذا الحكم العام المجافي للحقيقة أو تقبله له وتلقفه دون روّية مؤشر على ضعف الكثير من الآراء التي شذّ بها عمن سبقه أو لحقه من الرحالة.

١٧٦

العرب الذين يقطنون الواحات والمدن الواقعة فيما بينها عبارة عن شعب أبي ، سامي الأخلاق ، أقل فسادا من أولئك الذين انتقلوا من حياة الرعي إلى حياة الزراعة في مناطق أخرى من جزيرة العرب : فلم يجردهم ارتباطهم بالأرض وحياة الاستيطان التي اعتادوا عليها إلا من بعض الخصائص المميزة التي يملكها أشقاؤهم سكان الصحراء. وهم كرماء وشجعان عرف عنهم حسن الضيافة ، إلا أنهم في نفس الوقت محبون للانتقام وسريعو الغضب وحساسون جدا إزاء الإهانة.

وقد تسببت أشياء تافهة جدا في إحداث خصومات دموية رهيبة وسأذكر ، مثالا على ذلك ، حادثة شهدتها بأم عيني. فقد كانت إحدى الأسر من قرية مجاورة تزور أسرة أخرى في (بدية). وفيما كان ابنها وهو غلام في العاشرة من عمره ، يتشاجر مع صبي آخر من صبيان المدينة ، تلقى صفعة من والد الصبي الآخر الذي جاء لفض الشجار. فما كان من الصبي إلا أن ذهب باكيا إلى أسرته التي ثارت ثائرتها ورحلت عن البلدة وعادت إلى قبيلتها. وفي صباح اليوم التالي وصل وفد إلى (بدية) طالبا إيضاح سبب الإهانة. وجلس الطرفان في الساعة الثامنة لمناقشة القضية ، ونهض أعضاء الوفد مرات عديدة للانصراف دون توصل إلى حل مما يعني أن المعارك ستنشب بين الطرفين. غير أن وجهاء البلدة أقنعوهم بالجلوس ثانية ولم تسوّى القضية الخطيرة إلا بحلول مغيب الشمس. وفي اليوم التالي أقيمت وليمة دعي إليها ما يقرب من عشرين شخص من أبناء القبيلة التي تعرضت للإهانة وبذلك حسمت القضية.

وهناك فارق أيضا في السلوك الأخلاقي بين سكان المدن الساحلية وسكان المناطق الداخلية المأهولة وهو فارق شديد الوضوح في عمان مثلما هو كذلك في بقية أجزاء العالم. فالتهتك العلني في الأخلاق يميز الطبقات الدنيا من سكان المدن الساحلية. كما أن عادات بعض الطبقات العليا فاسقة ومنحلّة. لكن أرجو ألّا يفهم أنني أطبق هذا الكلام عموما لان العناية المبذولة للحيلولة دون ذيوع هذا الشذوذ ما هي إلا دليل كاف على أنهم ليسوا غير مكترثين البتة لحالة السلوك الأخلاقي. وبقدر علمي ، ليس هناك إلا أدنى التزام بحسن النية في الصفقات التجارية. كما أن الابتعاد عن حسن النية ومبادئها في العلاقات

١٧٧

التجارية لا يؤثر فيهم بأي قدر كان. فتأدية واجبات الضيافة تمارسها ممارسة تامة كل الطبقات في عمان كما هو الحال في بقية مناطق الجزيرة العربية ، كما أن الغريب يحظى دوما بالاحترام (١). وبما أنني عالجت موضوع ديانتهم في مكان آخر فإنني هنا أسجل فقط أن سكان عمان أكثر تسامحا من عموم المسلمين.

إن أبرز الصفات في شخصية العرب هي الصراحة والبساطة. وهاتان الصفتان لا تتوضحان في كل فعل من الأفعال ذات الصلة بالعلاقات التجارية حسب ، بل في محاكمهم ودوائرهم أيضا. إن هذا التحرر من الفخفخة والادعاء ، الذي يختلف كثيرا عن بقية الشرقيين ، يجعل صورتهم حسنة في عيون الأوروبيين وهو السبب الذي يجعلني أعتقد أننا نقدرهم كثيرا. وفيما يلي بعض من أساليب التحية عندهم :

ـ السلام عليكم. فيرد الشخص المقابل قائلا :

ـ وعليكم السلام. وتقال هذه الكلمات عند دخول المرء إلى غرفة أو عند المرور بجماعة من الناس على الطريق أو الانضمام إليها.

ـ صباح الخير.

ـ مساء الخير.

ـ في أمان الله.

ـ الله يحفظك.

وتقال أي من هذه العبارات في الزيارات العامة أو الاعتيادية. وعند دخول الضيف ، فإن المضيف ومن معه من الحاضرين ينهضون ويردون التحية ولا يجلسون إلا بعد جلوسه. وعند إلقاء التحية على الشيخ أو الحاكم ، فإنهم يضيفون كنيته بعد عبارات التحية الواردة آنفا. وإذا كان مقامه رفيعا ، يقبّلون يده. أما الأفراد الذين يلتقون بعضهم بعضا خارج البلاد فيصافح أحدهم الآخر ، بينما ينهض الإمام عند زيارة الأوروبيين له ويترك لهم مكانا ليجلسوا إلى يمينه.

__________________

(*) غالبا ما يستضاف المسافر في عمان في المسجد.

١٧٨

الفصل الحادي والعشرون

العادات والمناسبات

سكان الواحات والمدن مولعون أشد الولع بتسلية بعضهم بعضا ، وهي تسلية تستمر في بعض الأحيان ثلاثة أو أربعة أيام. وبخلاف غيرهم من أهل الشرق ، فإن مشاعرهم إزاء مباهج الطبيعة ليست معدومة بأي حال من الأحوال ، وهم يستقبلون ضيوفهم في مبان لطيفة (ينبغي لنا أن نسميها بيوتا صيفية) منفصلة عن أماكن سكناهم وتقع في مكان جميل تحت ظلال أشجار المانجو أو التمر الهندي. وبين جدران هذه البيوت يقضون نهارهم وهم في متعة بالغة ، أما لياليهم فيقضونها غالبا في السمر واللهو ـ هذا إن كانت الرواية صحيحة.

غالبا ما انضممت إلى هذه الحفلات في أثناء النهار ، لكن اقتراب الشمس من مغيبها ـ وهو الوقت الذي يذهب فيه الجميع لأداء فريضة الصلاة ـ كان ذريعة كي أنصرف فلا يسمح لي بالبقاء بعد ذلك. إن اشتراكهم في شرب الخمر المحرم عليهم لا يمكن إنكاره لأن كميات كبيرة يؤتى بها من منطقة التلال. وفي كل مرة يتم فيها تهريب مشروب (البراندي) وغيره من المشروبات الروحية على السواحل عند مسقط (حيث تعتبر سلعا محظورة) فإن الجزء الأعظم منها ينقل على الفور إلى المنطقة الداخلية. ولدى وصولي إلى (مسقط) وجدت سفينة قادمة من إنكلترا راسية هناك. وكان تنوع حمولتها فريدا بالنسبة إلى ميناء إسلامي لأن جزءا كبيرا من تلك الحمولة يتألف من لحم الخنزير والبراندي. إنني لا أعلم إلى أي حد ينجحون في نقل لحم الخنزير ، لكن البراندي كان يجد طريقه إلى الساحل بكميات كبيرة على الرغم من حظره حظرا تاما من الإمام. وقد سمعت منه شخصيا أن نصف سكان مسقط ثملون خلال الفترة التي يستغرقها وجود المشروب. بل إن أحد أقرباء الشيخ تجرأ على الظهور أمام الإمام وهو سكير. لكني وجدته في اليوم التالي وهو في طريقه إلى زنجبار وقيل لي أنه لم يكرر المخالفة. والمسلمون المتشددون لا يرون أن تذوق النبيذ وحده محرم حسب ، أو استخلاص العنب وتحويله إلى عصير ، بل إن شراءه

١٧٩

وبيعه والمال المكتسب من جراء بيعه محرم أيضا. وتصنع كميات كبيرة من النبيذ في (الجبل الأخضر) حيث يعب منه السكان بكل حرية وعلانية. وفي المدن الكبيرة التي يصنع فيها السكر ، يتم تقطير نوع من شراب الرّم من حثالة السكر ويباع على الفور في البلاد. أما المقامرة ، فعلى الرغم من تحريمها في القرآن الكريم ، فإن السكان ينغمسون فيها كما هو حالهم في لعب الشطرنج وبعض أنواع القمار الفارسية التي تلعب باستخدام الورق المستورد من الهند. أما بقية أنواع التسالي لديهم فقليلة جدا. فلديهم مثلا رواة الحكايات الذين يقومون بالغناء أثناء الاحتفالات والأعياد حيث يصدحون بالغناء بأعلى أصواتهم. أما العرافة أو الرجم بالغيب فيمارس بأساليب شتى. لقد ذكرت قبل الآن حرق عظم الكتف الذي يدعي العراف أنه من خلال ذلك يحصل على معلومات استثنائية تقدمها أرواح خفية تظهر بعد عملية حرق جزئي. وهناك أيام معينة في الشهر تحدد على أنها أيام نحس وفيها لا يحدث أي قتال ولا إنزال لأي جنود ولا إبحار. كما يلجأون إلى السحرة لمعرفة السارق ، ويتبع هؤلاء السحرة نفس خطط السحرة في الهند. ويحب كلا الجنسين المراجيح حبا جما حيث يجلسون فوق قطعة خشبية مربوطة إلى حبل مثبت بغصن إحدى الأشجار. ومما يدعو إلى الغرابة أن العرب وبرغم حظر القرآن ، قد عدّوا دوما من الأمم المحبة للغناء ، والعديد من البحوث كتبت بلغتهم عن تآلف الألحان ، إلا أنهم لا يملكون آلات موسيقية خاصة بهم وان مجرد الاحتفاظ بهذه الآلات في بيوتهم يعد أمر مشينا. إلا أنهم لا يمانعون من الإصغاء للإماء وهن يعزفن على الآلات الموسيقية التي تستورد من أفريقيا. وأبرز هذه الآلات ما يشبه آلة الغيتار لكنها بستة أوتار مثبتة فوق رق منشور على طاس خشبي ويصدر أصواتا مزعجة. أما الطبل ، وهو من ابتكار جزيرة العرب ، فلا يزال يستخدم من نفس الطبقة من الناس وهو عبارة عن جرة من الطين تستخدم بدلا من بطن الآلة. ويستخدم الطبل غالبا لدعوة الجند. كما يوجد قرن طويل مقوس إلى أعلى ويستخدم لنفس الغرض.

وفي (السويق) شاهدت الاحتفال بالعيد احتفاء بذكرى كفّ الله يد إبراهيم عليه‌السلام (١). والاحتفال هنا أقل أبهة مما شاهدت في أجزاء أخرى من الجزيرة العربية. ولما

__________________

(*) يشير بذلك إلى مناداة الله لسيدنا إبراهيم بالكف عن ذبح ولده سيدنا اسماعيل الذي ، كما نعلم ، فدي يكبش يذبح عوضا عنه ، والعيد المقصود هو عيد الأضحى.

١٨٠