رحلات في الجزيرة العربية

جي. آر. ويستلد

رحلات في الجزيرة العربية

المؤلف:

جي. آر. ويستلد


المترجم: د. محمّد درويش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجمع الثقافي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٠

الفصل الثامن

منح ونزوى

في الساعة الواحدة والنصف ، شاهدت من قمة مرتفعة الجبال المطلة على (صور) الواقعة إلى الشرق والجنوب. كان طريقنا إلى الغرب والجنوب حتى الآن ، ومن هنا فصاعدا بات يمتد إلى الشمال الغربي. كانت تمتد أمامنا تلال صغيرة كلسية ذات أشكال هرمية وسطوح جرداء ذات لون أسود تخلو من أي أثر للأدغال أو نباتات الصحراء. أما الوديان التي تتوسطها والسهول الواقعة بينها فكانت مرقشة بهضاب صغيرة معشوشبة وعند غروب الشمس دخلنا طريقا في غابة ، إلا أننا فقدناه بعد هبوط الظلام. ولكن الجمال اكتشفت الطريق ثانية على نحو غريزي ومن ثم بدت وكأن روحا جنونية استبدت بها. فرفعت أذيالها وأخذت تركض هنا وهناك ويصطدم أحدها بالآخر. وانتهى الأمر بأن فرّ جملان أو ثلاثة بعيدا وانقلبت الأمتعة من فوقها. بعد ذلك فكرت أنه من الأفضل التوقف. واكتشف البدو تجويفا فّضلوه على غيره من الأماكن لأنه يقيهم من الريح ويفيد في إخفاء النار التي يضرمونها. جمعنا إبلنا وأفرغنا عنها حمولتها لقضاء الليلة. كانت درجة حرارة المحرار تشير هذا المساء إلى ٥٦ فهرنهايت. ووجدنا أن النار ليست مريحة فحسب بل ضرورية أيضا. للبدو طريقة واحدة في النوم. فهم يخلعون ثيابهم ويحفرون حفرة في الرمال يرقدون فيها ويغطون أنفسهم بتلك الثياب وبكل ما يجدونه في متناولهم ، أما السيف والدرع والبندقية فتوضع إلى جانبهم على أهبة الاستعداد لاستعمالها.

على الرغم من أن هذا المكان بارد برودة المنطقة التي رحلنا عنها ، إلا أن الجو ليس صافيا ونقيا مثلها. إن الطقس في عمان (إنني استخدم هذه الكلمة بالمعنى الضيق الذي ألصقته به حتى على الخارطة) يعد طقسا غير مؤات للصحة في فصل البرد ، خاصة داخل الواحات. والبدو القادمون من الصحراء قلما يبقون ثلاثة أو أربعة أيام هنا دون الإصابة بحمى عنيفة وقد أكدت معاناتي التالية لسوء الحظ صدق رأيي. ويقال أن المناخ في

٦١

(الباطنة) و (بدية) صحي إلا أنّ (نجد) في هذا الصدد ، أفضل من أي مكان آخر في عموم جزيرة العرب. اكتشفنا اقتراب بعض البدو منا عند ما بدأ جوادي بالصهيل وفي لمح البصر كان الجميع يقفون على أقدامهم وبنادقهم على أتم استعداد. ولما انكشف أمر الجماعة وكانت مكونة من خمسة أو ستة أفراد ، شرعوا بالهرب ووجدت صعوبة في منع رفاقي من إطلاق النار عليهم. وبعد أن وضعنا أحد الحراس ، نمنا دونما إزعاج حتى صبيحة اليوم التالي. كان هدف زوارنا سرقة قطعة من متاعنا ولكننا اكتشفنا في وضح النهار أن شيئا لم يسرق.

الثلاثاء الخامس عشر من ديسمبر / كانون الأول : في الساعة السابعة والدقيقة الخامسة والأربعين واصلنا سيرنا على نفس الطريق المكسو بالأدغال كما في السابق. أشجار السمر في هذه المنطقة كبيرة الحجم وينضح منها الصمغ بكميات كبيرة. كنت أتجاذب أطراف الحديث مع (حمد) الذي كان يسير راكبا إلى جواري ، وكان الحديث يدور عن جماله. وذكر العديد من الحالات التي توضح مدى تعلق البدو بهذه الحيوانات النافعة. ولكي أحصل منه على معلومات أكثر أفصحت عن عدم تصديقي لبعض النقاط التي ذكرها. وفي هذه اللحظة ، صادف مرور جماعة بنا قادمة من الاتجاه المعاكس. فاقترح (حمد) اختبار مصداقية كلامه بما سوف أرى. فصاح بأقرب شخص من الجماعة وكان متقدما على رفاقة : «ليكسر الله ساق بعيرك» ودون لحظة تردد واحدة ، ألقى الغريب بنفسه من فوق جمله وتقدم مشرعا سيفه صوب (حمد) الذي لم يكن يملك إلا سبب واهيا لتهنئة نفسه على هذه التجربة لو لا قيام العديد من أفراد مجموعتنا بإلقاء أنفسهم أمامه وأوضحوا الأمر للغريب. بيد أن الغريب ظل متأثرا إلى حد كبير على ما يبدو وتساءل أمام كل التوضيحات التي قدمت له : «لماذا أهان الجمل ، وهل ألحق الجمل الأذى به؟» ثم تمت تسوية القضية ببعض الهدايا ووطدت العزم بيني وبين نفسي ألا أثق بكياسة أي أعرابي في تسوية مسألة من هذا القبيل.

في الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة والأربعين وصلنا وادي أثلى Ethelee حيث تنتشر فيه بعض آبار المياه العذبة كما تكثر فيه الظباء وطيور الحجل وغيرها من الحيوانات. وهنا نجحنا أنا (وسيف) وعند رحيلنا استمتعت الكلاب بوجبة من لحم ظبي تمكنت من صيده بعد مطاردة استغرقت عشر دقائق. وفي الساعة الواحدة وصلنا إلى الطرف الجنوبي الشرقي

٦٢

من بستان وبلدة (سمد) وفي الساعة الواحدة والنصف نصبنا خيمتنا على امتداد جدول ماء جميل يبعد مسافة بضع ياردات عن الأشجار.

الأربعاء ، السادس عشر من ديسمبر / كانون الأول : واحة (سمد) من الواحات الكبيرة لكن عدد سكانها لا يزيد عن الأربعمائة شخص حاليا. وهي مسقط رأس دليلي ورفيقي القديم (سيف) ووجدت لأسفي الشديد ، إنه سيتركني في هذا المكان. وفي المساء انضمّ إليّ على نحو لم أتوقعه الملازم (وايتلوك) الذي كان يقوم برحلته لتعلم العربية. واتفقنا على مواصلة السير معا لان ذلك يلائم هدفينا. وكان هو يرتدي الزي العربي في حين احتفظت أنا بالزي الإنكليزي (١).

الخميس ، السابع من ديسمبر / كانون الأول : زرنا بيت الشيخ بناء على دعوة لتناول طعام الفطور. كان البيت عبارة عن قلعة كبيرة متينة البنيان شيدت بنفس المواد التي تشيد بها البيوت الأخرى. كانت الغرف واسعة وعالية السقف لكنها تخلو من أي أثاث. وكانت الملابس والسروج وأغطيتها المزركشة معلقة بمشاجب بارزة عن الحائط بمقدار قدمين. وكانت السقوف مصبوغة بألوان متعددة ، أما الأرضية فمن الطين ولا تغطيها الحصران إلا جزئيا. وكانت النوافذ مزودة بقضبان حديد بدلا من أن تكون مزينة بأعمال زخرفة خشبية. وفي الليل ولوقاية النزلاء من قسوة الريح ، تغلق هذه النوافذ بشراعات خشبية. المصابيح مصنوعة من المحار وثمة ضرب من الرخويات البحرية تتدلى من السقف بشكل خطوط. إن كل شيء في هذا المكان يختلف عما شاهدته في أي جزء أخر من أجزاء جزيرة العرب. كان طعامنا سخيا وكثيرا. لكن بما أن العرب كانوا يتقيدون كثيرا بقوانين الضيافة فقد تطلب منا أن نتوسل كثيرا لإقناع مضيفنا وهو رجل كريم المحتد ، بأن يجلس بيننا. ويرجع هذا إلى اعتقاد سائد مفاده أنه إذ ما شارك الضيوف وجبة الطعام ، فإنه لن يكون لديه الوقت أو المزاج للسهر على متطلبات ضيوفه ولهذا السبب أصرّ على خدمتنا. ولم يقتنع بالانضمام إلينا إلا بعد أن أخبرته بأننا لن نبدأ تناول الطعام ما لم يشاركنا فيه ، وعندئذ تصورنا أن في مستطاعه

__________________

(١) الطريق الذي سلكه وايتلوك مثبت على الخارطة ، وهو يمتد بمحاذاة طريق ضيقة أخرى تمتد عبر براري جبلية. وقد مرّ ببعض المناطق التي يزرع فيها التمر ، إلا أن البلاد ، على وجه العموم ، عبارة عن أراض قفر تخلو من المياه.

٦٣

أن يؤدي دوره مثلما يؤديه أفضلنا. ولدى عودتي إلى الخيمة وجدت ، كما هو مألوف ، حشدا غفيرا وقد تجمّع فيها لكن النظام كان سائدا بينهم بفضل صبي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره ، كان لوالده نفوذ واسع في هذه البقاع ولكنه لقي مصرعه قبل سنوات قليلة على أيدي البدو. كان الفتى قد استولى على خيمتنا وحال دون دخول أي من أبناء بلده إليها إلا بإذنه وكان يحمل سيفا أطول من قامته وعصا كان يضعها إلى جواره بين الفينة والفينة. سررت كثيرا بهذا الفتى وبجاذبيته وأهميته وخاصة بعد أن بدا عالما بكل أعداد القبائل ومصادرها وتوزيعها. وكان حديثه في هذه الأمور وغيرها من الموضوعات حديثا طلقا لا يشوبه الحرج وعلى درجة عالية من الإمتاع. ويمكن على وجه العموم ملاحظة أن العرب ، لا سيما البدو ، يتركون أولادهم ليشاركوهم ثقة الرجال ومجالسهم منذ وقت مبكر. كما لاحظت في العديد من المرات الأخرى أن شبانهم يمارسون تأثيرهم على نحو يبدو عندنا مناف للعقل. إن جزءا من نظامهم التعليمي يتمثل في عدم معاملتهم كأطفال منذ وقت مبكر ولهذا السبب ترى هؤلاء يكتسبون رزانة الرجال وحسن سلوكهم في سن يكون فيها أولادنا منشغلين بالسعي وراء أمور عابثة ويتعرضون للضرب والتأديب كي يسلكوا سلوكا محتشما.

آثرت هذا المساء إمتاع الحاضرين المجتمعين بتجربة (بروس) الخاصة بإشعال شمعة خلال جزأين من لوح خشبي بسماكة إنش عند ما اقترحت عليهم اللعبة أعلنوا أن ذلك مستحيل ووافقهم رأيهم هذا صديقنا الصبي. لكن في وسعنا أن نغفر لهم عدم تصديقهم ودهشتهم ، فبعد نجاح اللعبة تجدنا نفكر بأن سنوات عديدة لم تمض بعد على ارتياب كل إنكلترا المتنورة باحتمال نجاح التجربة هذه ، وإن قصة (بروس) عن لعبة مشابهة كانت تعزى إلى «حبه للمعجزات».

السبت ، التاسع عشر من ديسمبر / كانون الأول : شرعنا بتقويض الخيمة وبعد معرفة المدى ، انطلقنا في الساعة الواحدة من بعد الظهر برفقة الشيخ وعدد من الحراس يقدرون بحوالي عشرين رجلا. واصلنا طريقنا على امتداد الوادي وفي غضون أربعين دقيقة وصلنا إلى (أم عسير) حيث توجد فيها قلعة وبيوت قليلة.

وفي الساعة الثالثة وصلنا إلى ممر يطلق عليه اسم عرف Urif ينحدر إلى أسفل واد ضيق

٦٤

قرابة مائتي قدم. تحتوي الصخور في هذا المكان على كمية مدهشة من كبريتور الحديد الذي يشع من على مسافة بعيدة. وفي الساعة الرابعة اجتزنا بلدة أسمها (جزى) واتجهنا إلى الجنوب والجنوب الغربي وعند بلوغ الساعة الخامسة والدقيقة الخامسة والأربعين وصلنا قرية (كثرى) وتوقفنا عندها. على بعد ميلين من هذا المكان ، وبالاتجاه الجنوبي والجنوب الشرقي ، ثمة بعض مناجم للنحاس ، بيد أن أدلاؤنا لم يأخذونا إليها ، كان العمل لا يزال جاريا فيها ، غير أن الكمية المستخرجة من المعدن الخام صغيرة جدا ولا تكاد تغطي تكاليف الإنتاج. إن (كثرى) قرية صغيرة وفيرة المياه في المناطق المجاورة. كان الليل كثير الغيوم وسقطت أمطار قليلة. غير أننا أمضينا الوقت داخل الخيمة بكل سرور ونحن نتحدث مع الشيخ ناصر ورجاله من البدو حتى ساعة متأخرة جدا.

الأحد ، العشرون من ديسمبر / كانون الأول : بعد أن استأذنا من الشيخ (ناصر) الذي أعدّه أذكى عربي قابلته حتى الآن ، استأنفنا رحلتنا في الساعة الحادية عشرة والنصف ، بحراسة حوالي سبعين رجلا ، إذ يقال أن الطريق من هنا وحتى (نزوى) يعج بقطاع الطرق الذين يهاجمون الجماعات الصغيرة في وضح النهار. كان طريقنا يمتد صوب الشمال الغربي ومررنا بعدد كبير من القرى. وفي الساعة الثانية والدقيقة العشرين توقفنا مدة خمس وأربعين دقيقة في (Okahi) لاصطحاب حرس جديد. كان الرجال الذين تم جمعهم من المتطوعين على ما يبدو وكانوا يحبون الاستمتاع بالسفر على الرغم من أنهم كانوا في بعض الأحيان يتقدمون وقد أشعلوا نيرانهم وبدوا مستعدين لأي هجوم. إن قطاع الطرق الذين يترددون على منطقة (جعلان) إنما يأتون من الصحراء الغربية جماعات جماعات يقدر عددها ما بين خمسين إلى مائة رجل يعتلون ظهور جمال سريعة. وليس هناك ما ينبئ بقدومهم ، وبعد أن يقوموا بغزوتهم يتراجعون بنفس الخفة. وفي أغلب الأحوال يستحوذون على عبيد من أفريقيا يملكهم أصلا عرب المدن الذين حصلوا عليهم بنفس الطريقة ، وفي كثير من الأحوال يقدمون على الزواج ببناتهم. ونادرا ما تزهق الأرواح في هذه المعارك على الرغم من أنني شاهدت عددا كبيرا من الناس يعانون من جروح أحدثها سيف أو إطلاقة بندقية. وقد حدثت لي حادثة عند ما أصبت بطلق ناري ، فمثل هذه الحوادث قد حدثت نتيجة طيش

٦٥

أصدقائهم. إن كل مسافر في مثل هذه الرحلات يحمل نارا متوهجة ولا يولون عناية أكبر من تلك التي يولونها لبنادقهم عند خلوها من الطلقات. ولذلك فعند ما يجتمع هؤلاء الرجال حال اقترابنا من بقعة تثير الشكوك ، فإنني دائما أفكر بأن ثمة سبب للخوف من الخطر من أصدقائي أكثر من الأعداء. في الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة والعشرين وصلنا (طلهات) حيث توجد قلعتان صغيرتان مشيدتان فوق قمتي تل يطل على البلدة. والبلدة مسورة وأشجار النخيل تنمو بكثافة قربها ، في حين يجري فيها جدول ماء رقراق. لقد تجنبت حتى الآن النوم في بساتين النخيل ، إلا أننا اضطررنا إلى النوم في إحداها هذه المرة وكانت النتيجة لذلك كما توقعت ، فقد هاجمت الحمى القاسية اثنين من خدمي ، إذ بلغت درجة الحرارة ٥٨ فهرنهايت.

الاثنين ، الحادي والعشرون من ديسمبر / كانون الأول : بدأنا رحلتنا الساعة العاشرة وفي الساعة الثانية عشرة اجتزنا أرضا صحراوية ومررنا ببلدة عند قدمات الجبل الأخضر تدعى (بركة الموز) وتقع إلى جهة الشمال وتبعد مسافة ثمانية أميال. في الساعة الثانية عشرة والنصف وصلنا إلى (محيول) ويقع على طرفها الجنوبي حصنان دائريان. في الساعة الواحدة والنصف دخلنا ضواحي بلدة (منح). تختلف هذه المدينة عن سواها من حيث أن المحاصيل تزرع في الحقول المستوية. وبينما كنا نجتازها ونشاهد ما فيها من أشجار اللوز الباسقة والبرتقال والكبّاد ذات الروائح العطرة التي تنتشر على كلا الجانبين انطلقت حناجرنا بصيحات الدهشة والإعجاب وقلنا : «أهذه هي جزيرة العرب؟ أهذه هي البلاد التي طالما نظرنا إليها على أنها صحراء؟» كانت الحقول المخضوضرة للحبوب وقصب السكر تمتد مسافة أميال طويلة أمامنا ، وجداول الماء تنتشر في كل الاتجاهات وتقطع طريقنا. أما ملامح الفلاحين السعيدة والراضية فكانت تساعد في ملء الصورة المبهجة برمتها. كان الجو كله صافيا نقيا ، وبينما كنا منطلقين في سيرنا مرحين ، نؤدي التحية أو نردها ظننت أننا قد وصلنا في خاتمة المطاف إلى (بلاد العرب السعيدة) التي ظننت دوما أنها موجودة في روايات شعرائنا ليس إلا.

عند الدخول إلى البلدة ، استقبلني بعض أقرباء (السيد سعيد) ، وقادني إلى بقعة مكشوفة

٦٦

حيث نصبنا خيمتنا. كان زعماء هذه المنطقة في حالة خصام مع جيرانهم من أبناء قبيلة (بني غافر) الذين يملكون حصنا منيعا قريبا من البلدة ولا يعترفون بسلطة الأمام.

يعد (الغافريون) من أنبل القبائل في عمان ومنهم ومن اليعاربة كان ينتخب الإمام بصورة متعاقبة في أوقات مختلفة. أما قوتهم الآن فقد أصبحت محصورة على عدد من القلاع التي ينطلقون منها بين الفينة والفينة للإغارة على المناطق المجاورة وإزعاجها. وقد أخبرني شيخ (منح) أنه تعب من المشاحنات المتواصلة التي يقوم بها جيرانه الذين تصعب السيطرة عليهم ولذلك السبب فقد عمد قبل وقت قصير إلى تقويض قلعتهم التي لا تبعد إلا بضع ياردات خارج أسوار مدينته ، وإنه في حالة تكرار الاضطرابات سيقوم بتدميرها نهائيا. كان ينبغي لي ألا أصدق الحكاية كل التصديق بسبب أسلوبهم في الحرب. ولو لم يعرض عليّ أن يذهب بي إلى الموقع ، لكنت قد علمتهم كيفية وضع شحنة البارود وإشعال خيط البارود الموصل للنار وهو ما كانوا يخشونه أنفسهم ، لكنني بالطبع فضلت عدم التدخل.

إن بلدة (منح) قديمة ويقال إنها شيدت في فترة غزو (أنو شروان) ، إلا أنها أسوة ببقية البلدان لا تحمل من الآثار ما يدل على قدمها. فبيوتها مرتفعة ، لكنها لا تختلف عن البيوت التي وصفتها في (سمد) و (إبرا). وفيها برجان مربعان يبلغ ارتفاع كل واحد منهما حوالي مائة وسبعين قدم. ويقع هذان البرجان في مركز المدينة. ويبلغ عرض جدار القاعدة قدمين لا أكثر ، أما طول كل جانب فلا يتجاوز ثمان ياردات. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار خشونة المواد المستعملة في البناء (التي هي عبارة عن حجارة غير مهندمة وإسمنت صلب على ما يبدو وخشن) فإن عدم تناسق الأبعاد ، ونقلها إلى الارتفاع الذي هم فيه عليه يعد أمرا مثيرا للدهشة. أما الحراس اليقظون دوما ، فإنهم يصعدون إلى أعلى بوساطة سلم بدائي يتكون من قضبان خشبية مثبتة بشكل مائل في إحدى الزوايا الجانبية داخل المبنى. الأراضي تمتد من حول هذه المدينة امتدادا مسطحا ومستويا ، والمشهد الذي في وسع المرء الحصول عليه من هذا الموقع العالي يساعدهم في ملاحظة اقتراب أي عدد من مسافة بعيدة. وعند ما قدمت للشيخ منظارا مكبرا (تلسكوب) ، تقبله بكل امتنان ، فهو ذو فائدة عظيمة لهم.

٦٧

الفتيات في هذا المكان يتصفن بالجرأة أيضا وهن أكثر عددا من الفتيات في (إبرا). ومع هذا ، وعلى الرغم من أن خيمتي كانت دوما تحتشد بهن ، وهن يحاولن بشتى الوسائل سرقة أشياء صغيرة مني ، فإنني لم أفقد حتى أتفه الحاجيات. وإنني لأرجو أن تكون فضائلهن الأخرى متساوية مع نزاهتهن. والحق إنني لم أشاهد من قبل مثل أولئك السيدات المرحات الضاحكات. فلم يهدأ لهن بال لحظة واحدة ، ولم يتوقفن عن الثرثرة.

الثلاثاء ، الثاني والعشرون من ديسمبر / كانون الأول : في الساعة التاسعة والدقيقة الأربعين ، غادرنا ضواحي البلدة ، وواصلنا طريقنا صوب الشمال فوق أرض مزروعة حتى وصلنا أخيرا إلى قاعدة سلسلة منخفضة من التلول تشكل جذور سلسلة الجبل الأخضر. في الساعة العاشرة والنصف ، تقدمنا في سيرنا ملتفين من حول رأس التلول وفي الواحدة والنصف وصلنا إلى حصن صغير وقريتي (روضة)(Rhodda) و (فرق)(Furk) ، واجتزنا أرضا تكثر فيها المستنقعات التي انتشر فيها القصب بكثرة ، حيث تصنع منه الأقلام العربية وفي تمام الساعة الثالثة والنصف وصلنا (نزوى). وسرعان ما اتجهت إلى مقر إقامة الشيخ الذي يتمتع بنفوذ كبير في هذه البقاع ، فوجدناه جالسا أمام بوابة القلعة ومعه حراس مسلحون يقرب عددهم من خمسين فارس يقفون على كلا الجانبين. كان أهل البلدة قد لحقوا بنا وتوقفوا عند هذا المكان. ولكن ما أن عرضت رسالة (السيد سعيد) وعرف الجميع هويتنا حتى بدءوا يتفرقون وعبّر الشيخ عن أسفه لأنني لم أرسل خبرا عن زيارتي التي عزمت على القيام بها لأنه كان يرغب في استقبالي عند الطريق مع مرافقين مناسبين. صحبناه إلى غرفة الاستقبال الواقعة داخل القلعة وكانت غرفة عالية ومؤثثة تأثيثا جيدا. وسرعان ما تم إعداد مكان للإقامة. وشعرت للمرة الأولى هنا منذ مغادرتي (مسقط) ، بسعادة غامرة لأنني أصبحت بمفردي دون رقيب يحسب علي حركاتي ، إذ كان الشيوخ والوجهاء في مختلف المدن التي مررنا بها في أثناء رحلتنا يعتقدون بأنهم يشرفوننا إذا ما أمضوا وقتا طويلا معنا. أمضينا النهار ونحن نتجول في المدينة والحدائق المجاورة وفي المساء توجهنا لزيارة القلعة التي يفترض أن تكون قلعة حصينة. دخلنا القلعة ، بعد احتفاء كبير بنا ، من خلال باب حديدي متين ، وبعد أن صعدنا ممرا مقوسا اجتزنا ستة أبواب أخرى ضخمة قبل وصولنا

٦٨

القمة. ولإضفاء مظاهر الأهمية على الزيارة سألنا حراس الأبواب عن فحوى الزيارة. وعند ما كنا نقول بأننا خدم السلطان ، يقوم الحارس بفتح الباب المزود بالسلاسل والأقفال ، وإذ ذاك ندلف إلى الداخل. القلعة دائرية الشكل ، وقطرها حوالي مائة متر وملئت حتى ارتفاع تسعين قدم تقريبا بكتل صلبة من الرمل والحجارة. وحفرت سبعة أو ثمانية آبار خلالها حيث يتزودون بالبعض منها بالماء الوفير أما الآبار الجافة فتستخدم مخازن للذخيرة.

وجدنا بعض البنادق القديمة ، إحداها يحمل اسم الإمام (سيف) والأخرى اسم (قولاي خان) القائد العسكري الفارسي الذي استولى على (مسقط) ويحيط سور يبلغ ارتفاعه أربعون قدما بالقمة ، فيصبح ارتفاع البرج مائة وخمسين قدم. ويبدو أن جهدا شاقا قد بذل في سبيل إنشائه وأنه يعود إلى زمن قديم جدا. لكن ، في هذه النقطة بالذات ، لم أستطع الحصول على معلومات مؤكدة. فالمواطنون لم يبالغوا في تقدير قوته. كما أن المدفعية والقذائف لم تكن ذات أثر قوي. ومن الصعب جدا تسلقه لشدة ارتفاعه حتى لو تم انتهاك السور العلوي. والطريق الوحيد الذي يمكنني تخيله أما محاصرة الحامية حتى يموت أفرادها جوعا أو تدمير المبنى بالألغام ، وهو أمر شاق.

ويوجد مجرى نهر جاف عند أسفل قاعدة القلعة ، التي شيدت عندها مجموعة من البيوت ، ولكنّ أمطارا غزيرة هطلت قبل ثلاث سنوات تقريبا فوق الجبال أدت إلى امتلاء المجرى بالماء على حين غرة ، واكتسحتها كما اكتسحت جزءا كبيرا من البلدة ، إذ لم يعهد أن يصل ارتفاع الماء إلى مثل هذا الحد منذ ثلاثين سنة.

تشبه (نزوى) من حيث مساحتها بلدة (منح) ، إلا أن البساتين فيها أكثر عددا. وتنمو كميات كبيرة من قصب السكر ويجري تكريره على نحو مشابه لذلك التكرير الموجود في الهند ويبدو أنهم قد اقتبسوا ذلك منذ فترة متأخرة جدا ، إذ لم يكن يوجد مثل هذا الشيء في (مسقط) سنة (١٧٦٠) عند ما زارها (نيبور). وأفضل أنواع الحلوى يمكن الحصول عليها في هذا المكان. كما تصنع فيها الأواني النحاسية بكميات قليلة إضافة إلى وجود بعض صاغة الذهب والفضة ، غير أنها تخلو من الحرفيين الفنانين لهذا تصل بقية البضائع من (مسقط). لكن لا ينبغي لي أن أتجاهل ذكر أن كميات كبيرة من الأقمشة وبعض الحصران الجيدة التي

٦٩

تصنع من نبات الأسسل الذي ينمو على طرفي الجداول. ويعد غزل القطن من المشاغل النسوية الرئيسية وفي فصل البرد يمكن مشاهدتهن وهن يخرجن من وسط البساتين بعد وجبة الفطور وهن يحملن مغازلهن للاستمتاع بأشعة الشمس. ويقوم الرجال وحدهم بأعمال الحياكة على النول. وعلاوة على الحصران ، تصنع الفتيات بعض السلال الجميلة من القصب. وتستخدم الحصر للنوم عليها في حين تستخدم السلال لوضع المشتريات عند الذهاب إلى السوق. وتصنع هنا العديد من البشوت كما يجلب البعض الآخر من (نجد) ويرتدي الشيوخ أفضل هذه البشوت ذات اللون البني الفاتح أو الأبيض وتباع بمبلغ أربعين أو خمسين دولارا. أما ذات اللون الأسود والأخرى الموشاة بخيوط بيض وبنية فيبلغ سعرها ثمانية أو عشرة دولارات. وتشكل هذه البشوت أهم ثيابهم وتدل نوعيتها على مكانة الشخص الذي يرتديها وحالته المادية.

٧٠

الفصل التاسع

تنوف وسيق وشيرازي

إن (نزوى) هي المدينة الوحيدة في عمان التي يجني فيها الإمام عوائد مالية ، ولكن هذه العوائد شحيحة لأنه لا يحصل إلا على حوالي ألف دولار في السنة. وفيما يأتي تفاصيل عن بعض النقود التي تستعمل في المدن في الداخل. إن هذه النقود ضربت جميعا زمن حكم الإمام (سيف) وتختلف عن النقود المتداولة الآن في (مسقط) وفي المنطقة الساحلية. وتحتوي كلها على كتابات ، إلا أنها تخلو من أي صورة من صور الطبيعة :

العملات الجديدة في مسقط

٢٠ قطعة نحاسية تساوي غازي

دولار إسباني يساوي ٢٠٠ بيسة أو غازي

٢٠ غازي يساوي محمدي

الباسي يساوي ٤٠ بيسة أو غازي

١٥ محمدي يساوي دولارا واحدا

المحمدي يساوي ٢٠ بيسة أو غازي

Shuk الشوك يساوي ٥ بيسة أو غازي

وفيما يلي جدول بأهم المواد الأساسية المعروضة للبيع وأسعارها مساوية تقريبا لأسعار مثيلاتها في مدن عمان الداخلية :

الرز

١٢ بيسة للرطل الواحد

القمح

١٢ بيسةذ للرطل الواحد

الشعير

١١ بيسة للرطل الواحد

الفاصوليا

١٠ بيسة للرطل الواحد

٧١

لحم الإبل

١٦ بيسة للرطل الواحد

لحم البقر

٢٠ بيسة للرطل الواحد

لحم الضأن

١٦ بيسة للرطل الواحد

لحم الجدي

١٤ بيسة للرطل الواحد

زيت حلو

٥٠ بيسة للرطل الواحد

السّمن

٥٦ بيسة للرطل الواحد

الجمعة ، الخامس والعشرون من ديسمبر / كانون الأول : في الساعة الحادية عشرة صباحا غادرنا القرية في زيارة إلى (الجبل الأخضر) الشهير. كانت حافات التلال إلى شمالنا عند ما بدأنا نجتاز العديد من السهول المجدبة التي ليس فيها ما يستحق الملاحظة. وفي الساعة الثالثة وصلنا إلى مدينة (تنوف) حيث يقيم الشيخ الذي يمتد نفوذه إلى عموم الجبال. بعد توقفنا ، مكثنا أولا في المسجد الذي يستخدم بمثابة نزل ، وهو أمر غريب ، في عمان على وجه العموم. ولما كنت أخشى ألا يسمح لنا بالسير فيه ونحن نحتذي أحذيتنا ، وان البرد شديد لا يسمح لنا بأن نخلعها ، فإنني طلبت البحث عن مسكن آخر. وهنا انضم إلي الشيخ الذي جاء برفقة عدد آخر من الرجال وحاول إقناعي بعدم زيارة الجبال. وصوروها لي بأكثر الصور إثارة للهلع ، وأعتقد أنهم ظنوا أننا لم نزر من قبل منطقة جبلية ، وهذا الظن يشاركهم فيه العديد من أبناء بلادهم الذين يقضون حياتهم في السهول. ووصفوا لي سكان الجبال على أنهم أفضل بقليل من الوحوش وأنهم يكرهون زيارة الغرباء. ولكن عند ما وجدوا أن كل حججهم لا تكفي لإقناعي بالعدول عن رأيي ، انطلقوا عائدين من حيث أتوا يجرون أذيال الخيبة إلى حد ما.

تحتوي (تنوف) على حصنين صغيرين يفيدان في السيطرة على مدخل الوادي. أما فيما خلا ذلك ، فهي قرية عديمة الشأن تحيط بها بعض المزارع.

٧٢

السبت ، السادس والعشرون من ديسمبر / كانون الأول : في باكورة النهار ، وضع الشيخ والسكان كل عقبة للحيلولة دون توغلنا ولم تتم تسوية المسألة إلا بعد أن هددتهم بالعودة إلى (نزوى) واصطحاب الشيخ معي. وبعد انطلاقنا بوقت قصير ، فعلت بعض الدولارات فعل السحر في نفوس أولئك الذين تقرر أن يرافقوننا دون اعتراض ، وفي الساعة الواحدة والنصف واصلنا ارتقاءنا الجبل ونحن على بعد مسافة ميل واحد من القرية. كانت الحمير التي ترافقنا كبيرة الحجم ، ولما كانت تواظب باستمرار على عبور هذه المرتفعات فقد اكتسبت خطوة ثابتة موازية لخطوة البغال. واصلت السير سريعا مسافة ستين أو ثمانين ياردة ومن ثم كانت تتوقف لالتقاط أنفاسها لتندفع بعد ذلك من جديد. وبهذا المعدل استطعنا أن نرتقي سريعا السلسلة الجنوبية ، وكنا في بعض الأحيان نقترب خطوات قليلة من أحد الوديان الغائرة عميقا في الأرض. في أحد الأقسام إلى يسارنا ، حيث تزداد مخاطر طريق ضيق بفعل منحدر ينتهي بجرف ، كانت أقدامنا المتدلية تهتز من فوقه ، وإذ ذاك أدركت أن المعلومات التي قدمها لنا السكان المحليين لم تكن مبالغا فيها كثيرا ، وهو ما ظنناه بادئ الأمر. في الساعة الثانية خرجنا من السلسلة الجبلية لنرتقي بعدها سفح الجبل. وبات طريقنا بعد ذلك ممتدا فوق كتل مستوية من حجر الكلس حتى الساعة الثالثة والنصف وعندئذ توقفنا في واد ضيق قرب آبار ماء. كانت التلال في هذه البقعة خالية من الأشجار والأدغال ، لكن بعض الأعشاب تبدو منتشرة هنا وهناك. أما الوهاد التي تقطعها فكانت رغم قعرها الصخري تحتوي على أشجار الطرفاء (١).

لم يكن متسلقو الجبال الذين يرافقوننا اجتماعيين أو مرحين. وبعد حلول الظلام شاهدت وجود خمس نيران مختلفة ، وكان يجتمع من حول كل نار مجموعة من البدو.

السابع والعشرون من ديسمبر / كانون الأول : في الساعة الخامسة والنصف ، كان المحرار يشير إلى ٥٣ فهرنهايت. غير أن الشمس لم تشرق بما يكفي لبعث الدفء في أو صالنا حتى الساعة السابعة وعند ذاك يتمكن المرشدون من مواصلة الرحلة. واصلنا صعودنا في نفس المنطقة كما فعلنا يوم أمس ، وكلما تقدمنا أكثر شحت النباتات والأعشاب حتى اختفت

__________________

(١) لم أكن أعلم أن المن يستخرج هنا من هذه الشجرة كما هو الحال في المنطقة القريبة من جبل سيناء.

٧٣

نهائيا. وفي التاسعة والنصف وصلنا قمة السلسلة وهناك حصلنا على منظر جيد للخطوط العامة للتلال التي تشكل الجزء الأكثر ارتفاعا في السلسلة. وكانت تظهر بنفس صفات وخواص التشكيلات الكلسية فترتفع بانحدار يصل إلى ٣٠ درجة باتجاه الأفق وتنتهي في الجهة الجنوبية بجرف شديد العمق. واستمر طريقنا مسافة لا بأس بها على امتداد سطح إحدى هذه التشكيلات. كان الطريق أشبه بسلالم ناتئة تبرز من وجه الجرف وتبدو معلقة بكتل صخرية خطرة ، في حين تغور إلى أسفل مسافة سبعمائة أو ثمانمائة قدم. ولما كان هذا الطريق شديد الضيق لا يسمح للحمار بأن يمر فيه وهو محمل بالأمتعة كما هو مألوف ، فقد حمل راكبو الحيوانات ما لم تستطع الأخيرة حمله.

واصلنا الآن هبوطنا عن طريق ممر شديد الانحدار والانزلاق حتى إننا اضطررنا إلى خلع أحذيتنا. ولكن على الرغم من ذلك استمرت الحمير في تقدمها وهي تخطو خطوات سريعة دون أن تخطئ موضع قدم. ولكن قبل هذا بوقت قصير ، انفصل أحد الرجال عن جماعته وطلب مني اللحاق به. فامتثلت له. وبعد أن سرنا مسافة قصيرة باتجاه اسفل الجرف متشبثين بالأغصان وجذور الأشجار ، استدرنا فجأة من حول إحدى الصخور ووجدنا أن الطريق يمتد على طول النتوء الضيق مسافة مائتي ياردة تقريبا. بدأ الطريق أملس كالزجاج ، ولم يزد عرضه في كثير من الأحيان عن قدم واحدة ، يحف به جرف شديد الانحدار من كل جانب. لم يعرف أن كان يتوقع مني أن أقلد ما قام به بالسير في طريق مختصر ، أو أن كان يريد أن يظهر عدم خوفه ومثابرته. غير أننا سرعان ما أصبحنا أمام المشهد ، وهنا توقف واستفسر مبتسما إن كان في وسعي أن أتقدم أكثر ثم خطا خطوات حذرة على امتداد الطريق معتمدا على كلتا يديه في الأماكن التي تبرز فيها الصخرة فتضطره إلى ثني جسده فوق الجرف ، وفي غضون دقائق عديدة كان يجلس بأمان فوق الطرف المقابل يؤشر لي ويناديني بأن أحذو حذوه. غير أن ذلك لم يكن في مستطاعي لذلك عدت أدراجي لمرافقة الآخرين وسلوك الطريق الأكثر أمانا.

في الساعة الثانية والنصف مررنا ببعض القرى المنتشرة انتشارا يفتقر إلى الانتظام ، وكانت الأكواخ مشيدة بحجارة غير مبنية بأحكام وفي الساعة الثالثة وصلنا إلى وادي

٧٤

ومدينة (سيق). حتى الآن ، ومنذ أن غادرنا بلدة (تنوف) ، لم نصادف أي بشر. أما في هذا المكان فقد احتشد السكان بأعداد غفيرة للترحيب بنا ونحن نمر بهم. طلب البعض من الأهالي البقاء تلك الليلة في القرية. إلا أنني كنت تواقا إلى مواصلة السير صوب (شيرازي) الذي وصف بأنه أكثر الوديان كثافة ووفرة بالنبات. ومع هذا ، فإن الاستقبال الذي حظينا به هناك جعلني فيما بعد أندم لأنني لم أستفد من العرض السخي الذي قدمه القرويون ، إذ لا يمكن تصور وجود منطقة فريدة ببراريها ورومانسيتها كالمنطقة التي تمتد أمامنا هنا. هبطنا الجانب المنحدر لأحد الوهاد الضيقة عن طريق سلم. وكان عمق الوهاد يبلغ أربعمائة قدم ومررنا في طريقنا بالعديد من المنازل المتربعة فوق حدبات الأرض أو فوق صخور شديدة الانحدار ، وكانت الجدران مبنية في بعض المناطق على نحو تبدو معه كأنها استمرار للجرف. لقد شيد المواطنون هذه البيوت الصغيرة المحكمة البناء على ما يبدو الواحد فوق الآخر بحيث أن منظرها من اسفل الوهاد معلقة في الهواء يقدم للناظر أجمل صورة ممكنة. ووجدناها هنا وسط الأنواع المختلفة من الأشجار والفواكه الرمان والليمون الحامض واللوز والجوز وجوز الطيب وأشجار القهوة والكروم. وفي فصل الصيف ، لا بد أن تعطي هذه الأشجار والفواكه عبقا طيبا وتبدو منظرا رائعا مؤثرا يغمره الاخضرار. لكن الوقت الآن شتاء ، وباتت مجردة من أوراقها ومظهرها لا يوحي بالبهجة. كان الماء يتدفق من أماكن كثيرة ، من أعالي التلال فتتلقفه الخزانات الصغيرة الموجودة إلى أسفل ، ومنها يتم توزيعه على جميع أرجاء المنطقة. على أية حال ، الماء شديد البرودة ، حتى أنني رغم شدة ظمئي ، لطول المسافة التي قطعناها ، لم نتمكن من شرب أكثر من جرعة قليلة. وفي المنطقة الضيقة لهذا الوهاد وشدة انحدار جوانبه ، فإن الأجزاء السفلى منه فقط هي التي تتلقى دفء أشعة الشمس ولو لفترة قصيرة في أثناء النهار. وحتى في الوقت الذي وصلنا فيه المكان ، وجدناه شديد البرودة حتى أننا بعد توقف قصير أحسسنا بالسعادة ونحن نواصل الرحلة. بدأنا صعودنا من الجهة المقابلة من الوادي عن طريق سلالم أيضا واجتزنا أرضا وعرة غير مستوية وبعدها عبرنا طريقا مستويا ينمو عليه العليق والشوك. وفي الساعة الرابعة والنصف وصلنا مدينة صغيرة تدعى (هودن) ، حيث وجدنا النباتات منتشرة فوق السهول المستوية. كانت

٧٥

حقول الحبوب في هذه البقاع تقدم صورة مناقضة للمظهر المجدب والموحش للسطح العام للسلسلة. تبدو المياه وفيرة ، وبعض أشجار الفواكه كبيرة الحجم. ويقوم المواطنون بصنع حزوز في العديد من ثمر الرمان الذي ينمو متجمعا في نفس الغصن ويضعون تحتها طوس كبيرة يستمر العصير بالسقوط فيها. وبعد ذلك يتم مزج العصير بعصير العنب لصنع الخمرة.

بعد أن هبطنا مضيقا آخر يصل إلى سبعمائة قدم ، وصلنا مدينة ثالثة تدعى (شيرازي). كانت الأراضي المحيطة بها غير مستوية وعلى درجة كبيرة من الوعورة حتى إننا لم نجد مكانا ننصب فيه خيمتنا. ولما كانت الليالي في هذا المرتفع شديدة البرودة ، فقد كنت تواقا إلى الحصول على بيت ليكون ملاذا لنا. وبعد أن تم اقتيادنا من بيت لآخر ، والسكان يرفضون السماح لنا بالدخول بحجة عدم وجود غرفة شاغرة ، عثرنا في نهاية المطاف على منزل صغير منخفض وقذر حيث مكثنا مع أمتعتنا. لم نجلس وقتا طويلا حتى ظهرت لنا امرأة عجوز ومعها قطيع من الخراف والماعز. واكتشفنا أن السكان أرشدونا إلى هذا البيت رغبة منهم في تسلية أنفسهم مع صاحبته السريعة الغضب. ولم يخب ظنهم ، إذ ما أن لمحت المرأة العجوز المتطفلين حتى انفجرت غاضبة وانتابتنا السعادة عند ما قفلنا راجعين بأمان. على الرغم من أن الإنهاك أخذ منا كل مأخذ ، إذ كنا قد سرنا طيلة النهار تقريبا ، وكنا غير مسرورين لأننا طردنا ، فإننا ما أن جلسنا تحت إحدى الصخور التي وقتنا من حدة الريح وأضرمنا النار لإعداد طعام العشاء ، حتى بدت لنا المسألة برمتها مسلية ورحنا نضحك من أعماق قلوبنا. إلا أن العربي الذي كان يعمل دليلا لنا لم يكن كذلك. ففي مثل حالتنا بدا من الواضح إنه يتعاطف معنا رغم أنه كان يبوح بالعكس. غير أن ذلك الرجل المؤمن حقا ، والشيخ الذي يتبعه خمسون رجلا ، كان لا يحتمل البتة أن يلقى مثل ذلك الإهمال والافتقار إلى حسن الضيافة. وبينما جلس يرتجف من شدة البرد ، انصبت لعناته العديدة المتنوعة على رؤوس «شاربي الخمر الكفار» ولا أدري كم مضى من الوقت وهو يستمتع على هذا النحو. وبعد أن جمعنا كل الملابس التي معنا واخترنا أكثر منطقة ناعمة استطعنا العثور عليها ، رحنا في نوم عميق.

في صباح اليوم الباكر تجمهر السكان من حولنا واستفسروا عن كيفية قضاء ليلتنا. ولما

٧٦

وجدوا أننا لم نتبرم من المأوى ولا من حدة البرد ، طلبوا من (علي) أن يخبرهم عن هويتنا والبلد الذي جئنا منه. بيد أنه التزم الصمت. بدا واضحا أنهم كانوا يتوقعون أن نكون قد تعذبنا مثلما تعذب سكان المناطق المنخفضة الذين زاروهم. لهذا السبب كانت دهشتهم عظيمة عند ما استفسروا بعد ذلك من خادمي وهو شخص ماكر يتكلم العربية بطلاقة كبيرة وعلموا بأننا قد جئنا من بلاد أشد برودة من بلادهم حيث «يوجد الثلج لستة أشهر في بلادنا بدلا من أن يكون لعدة أيام في السنة في هذا المكان» وبعد أن أصغوا إلى هذه الإيضاحات ، غابوا عنا بعض الوقت وأعدوا ملاذا صغيرا لاستقبالنا سبق أن كان يستخدم زريبة للماشية. أخذونا إلى ذلك المكان وبعدها قدموا لنا وجبة طعام مؤلفة من التمور والحليب والفواكه المجففة.

تحتوي (شيرازي) على حوالي مائتي بيت صغير مشيدة عند بداية الوادي الذي يمتد إلى الجنوب والجنوب الشرقي حيث تقع السهول أسفله. كانت البيوت عبارة عن مبان صغيرة الحجم ، مربعة الشكل ، متينة البنيان على ما يبدو ، وشيدت ، على وجه الخصوص ، لمقاومة الأمطار والعواصف التي تكتسح في هذه المناطق كل شيء أمامها. وثمة فتحات في الجدران تعمل عمل النوافذ ، أما الباب فصغير جدا. ولا يحتوي أي من هذه المباني على أكثر من طابق واحد. وعلى الرغم من أن سكانها يضطرون باستمرار إلى إيقاد النار داخلها طلبا للدفء ولإعداد الطعام ، إلا أنها تخلو من المداخن أو أي منفذ آخر للدخان باستثناء الباب أو النافذة. ومع هذا فإن الإزعاج ليس بتلك الدرجة الكبيرة التي يمكن تخيلها طالما أنهم يصنعون كميات كبيرة من الفحم الذي يستخدم على نطاق واسع ، مع نوع آخر من نبات الخث الذي يحصلون عليه من بعض الأراضي السبخة في الجزء الأسفل من الوادي. ولا أعرف إن كان أعداد هذا الفحم يعود إلى غرابة في طبعهم ، لكنني لم أعلم البتة بوجود أي حادثة بسبب استعماله على الرغم من أن الغرف التي يحرق فيها باستمرار منخفضة ومحصورة وإن الأبواب والنوافذ تغلق ليلا.

أمضينا الأيام الثلاثة التالية ونحن نقطع الأقاليم بمختلف الاتجاهات وسأقدم الآن نتيجة ملاحظتنا عن شكل السلسلة الجبلية ومنتجاتها. يحتل (الجبل الأخضر) مساحة من الأرض

٧٧

تقدر من الشرق إلى الغرب بمسافة ثلاثين ميلا ، وهذا هو طول السلسلة. وفي الجهة اليمنى تتقاطع الجبال مع وديان ضيقة عميقة تسير فيها التيارات المائية والسيول عند فصل الأمطار ، فتضيع مع التربة الرملية التي تغطي السهول أو تصب مياهها في المحيط. ويبلغ الحد الأقصى لعرض السلسلة أربعة عشر ميلا ، والمنحدرات الجنوبية والشمالية شديدة. وعلى وجه العموم ، ومن خلال وصفي للطريق ، فإن هذه السلسلة لا تستحق الوصف الذي توصف به «الأخضر» لأن جزءا عظيما من سطحها عبارة عن صخور كلسية جرداء تشكل في بعض المناطق كتلا مسطحة عارية ، وفي أحيان أخرى ، أي في المناطق الضحلة نجد ترسبات طينية في التجاويف مجدبة مثلها مثل أسوأ السهول. إلا أن الوديان ذات التجاويف العديدة مزروعة بكثافة وفاكهتها وفيرة حتى أن بعض الكتاب عدّوها من الأمور الشائعة في السلسلة ، ومن هنا جاء النعت الذي وصفت به. وأهم المنتجات فيها الكروم التي تمتد على طول الوادي مسافة أميال ، وتنمو هذه على شكل مدرجات وتلتف من حول أعمدة يبلغ ارتفاعها ستة أقدام وتروى هذه المزروعات بالجداول الاصطناعية وتبدو التربة غنية وخصبة. والفواكه متعددة الأنواع ، ويصنع النبيذ من العنب الأبيض في حين يستعمل العنب الأسود الكبير الحجم للتجفيف.

يعد العرب شجرة اللوز عمانية الموطن. وحجمها كبير جدا يفوق حجم مثيلاتها الموجودة في السهول. ويبلغ طول بعضها ثلاثين إلى أربعين قدم ، ويوجد النوعان الحلو والمر ، وفي الوقت الذي يكون فيه اللوز المر من المقبلات ، فإن النوع الأول يدخل في عمل جميع الأطباق سواء كانت من الحبوب أو المربيات أو طعام الحيوانات. ويكثر الجوز والتين وجوز الطيب أيضا ، وتكون الثمار الأخيرة أصغر حجما من تلك التي تستورد من الجزر الشرقية إلا أنها موازية لها من حيث النكهة. أما التين فطعمه لذيذ لكنه صغير الحجم جدا وأقل شأنا من حيث الحجم والنكهة من ذلك التين الذي يستورد من تركيا. ويجفف التين ويباع في جميع المدن بكميات كبيرة. كما تنمو كميات قليلة من البن ، لكن بسبب العناية القليلة التي تولى لها ، فإن نوعيتها أقل شأنا من قهوة اليمن. يضاف إلى ذلك تنتج جميع الفواكه والحبوب المعروفة في المناطق السهلية بكميات كبيرة. وتحصل (مسقط)

٧٨

وغيرها من موانئ ساحل عمان البحري ورأس الخيمة والشارقة والموانئ الجنوبية الواقعة على الخليج العربي على ما تحتاجه من هذه الموارد من هذه السلسلة.

من خلال تجربة المحرار اكتشفت أن الماء يغلي في (شيرازي) بدرجة ٧٥ و ٢٠٠ فهرنهايت. وهذا يعني أن الارتفاع يبلغ ستة آلاف ومائة وسبعة وثمانين قدم. وقد تأكد لي من خلال مجموعة من الملاحظات الأخرى أن المنطقة تنخفض عن قمة الجزء الأعظم من السلسلة بمقدار ثمانمائة إلى ألف قدم. وبعد سقوط الأمطار في هذا الفصل ، يكثر سقوط الثلج لكنه قلما يبقى على سطح الأرض أكثر من بضع ساعات. وبقدر ما ساعدتني استفساراتي ، فإن المناخ في فصل الصيف لا بد أن يكون معتدلا جدا ، ويقول السكان المحليون إنه ليس بأدفأ من السهول الواقعة أسفل المنطقة. وفي الوقت الراهن ، فإن الريح الحارة التي طالما يكثر هبوبها هناك غير معروفة هنا تماما. لهذا السبب لم أتمكن إلا من الاستنتاج بأن هذا المكان يشكل محل إقامة جميلا عند ما يكون كل شيء متفتحا. والماء الذي يتدفق دوما من ينابيع عديدة لا ينضب. وفي (شيرازي) يوجد جدول ماء غزير ، وبعد أن يتجه إلى خزان عميق وواسع وبكميات كبيرة لإرواء مجمل نباتات الوادي ، فإنه ينساب إلى اسفل بكميات كبيرة ويزود قرية (بركة الموز) الواقعة عند نهايته.

في بعض الوديان الواقعة إلى الجهة الجنوبية الشرقية من السلسلة ، حيث تكثر نباتات العليق والأجمات الكثيفة ، توجد الخنازير البرية والثعالب والضباع بأعداد كبيرة كما يقال. وقد شاهدنا الثعالب والضباع ، لكننا لم نكن محظوظين بمشاهدة الخنازير.

٧٩
٨٠