رحلات في الجزيرة العربية

جي. آر. ويستلد

رحلات في الجزيرة العربية

المؤلف:

جي. آر. ويستلد


المترجم: د. محمّد درويش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجمع الثقافي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٠

يرقصن فعلا أمام الناس ويخرجن دون حجاب. وظنوا أنهم أفلحوا في إحراجي وراحوا يضحكون بخبث في انتظار إجابتي. اعترفت لهم بصحة ذلك ولكني أخبرتهم أيضا أننا لا نعتبر ذلك من قلة الاحتشام ، كما هو شأنهم. وقلت إن نساءنا لسن في عزلة البتة وإنهن يتلقين علما جيدا ومفيدا ويتمتعن بالحرية نفسها التي يتمتع بها الجنس الآخر. وأننا وجدنا فائدة في ذلك لأن النساء أصبحن بذلك رفيقات ولسن مجرد هدف لتحقيق رغبة جنسية. وهنا لم احصل على تأييد أي فرد منهم.

وقالوا : «اتركوا النساء للعمل والقيام بالواجبات البيتية ، لكن ما فائدة القراءة والكتابة اللتين لا تفيدان إلا الملالي؟» وقال أحد الوجهاء الكبار في السن : «النساء للأعمال النسوية والرجال لسيوفهم». كانت لحيته بيضاء وكان على ما يبدو يردد مثلا سائرا كرره جميع الحاضرين. كنت أتمنى لو أن بعض نسائهم يصغين للحديث فلربما أبدين رأيهن بنغمة مخالفة.

تتمتع النساء في هذه القبيلة بقدر كبير من التأثير في كل المجالس وفي حالة غياب الشيخ ، الذي سافر لأداء فريضة الحج في مكة المكرمة ، تتولى زوجته وشقيقته ، في هذه اللحظة ، مقاليد الحكم في القبيلة. وكانت ملاحظاتهن عن بعض عاداتنا مثيرة للاهتمام جدا. كن يقلن : «لاحظنا إنكم عند ما تجلسون إلى المائدة ، فإن أمام كل رجل قدح صغير وآخر كبير. لماذا تستخدمون القدح الصغير غالبا بينما يجنبكم ملء القدح الكبير الكثير من العناء وعندئذ في وسعكم أن تشربوا منه على الفور؟ لماذا نرسل السيدات بعيدا عنا قبل الفراغ من شرب الخمرة ثم ننهض عند ما يغادرن المكان؟».

ظل أحد العبيد يدق القهوة منذ اللحظة التي وصلنا فيها المكان. وفي مثل هذه المناسبات يعمد إلى الدق بأن تضرب يد الهاون جوانب الهاون وقعره على نحو يماثل قرع الأجراس. وعادة ما يقوم العبد بالغناء في أثناء ذلك. وواصلنا الحديث وشرب الرجال قهوتهم حال وصولها ولم نفترق حتى ساعة متأخرة جدا (١).

__________________

(١) كان لدي بعض السيجار لكنني كنت أعرف كره تلك الطائفة للتبغ لذلك امتنعت عن إخراج السيجار وتدخينه. إلا أن البدو اكتشفوا على نحو ما أنني أملك مثل هذا السيجار فأصروا على أن أدخنه. ولكي أتجنب إلحاحهم عمدت إلى التدخين.

٤١

السبت ، الخامس من ديسمبر / كانون الأول : عند ما استيقظت في هذا الصباح وجدت رجلا ينحني إلى جواري وبيده طاس من الحليب. شربت الحليب ثم خرجت مع مرافقي وأخذنا نسير فوق السهل حيث كان البريطانيون قد أقاموا مخيمهم وزرت المكان الذي اندحر فيه النقيب (تومسون). لكن آثار تلك المواجهة العنيفة كانت قد اختفت تماما. أشار مرافقي بوجود بعض القبور ، ولكن لم يكن هناك أي «شاهد عليها» يفيد إن كان الموتى من فريق المنتصرين أم من فريق المهزومين. وربما كان من المفيد الملاحظة بأن أجساد الذين لقوا مصرعهم في الهجوم الأول كانوا مستلقين على الرمال دون أن يلمسهم الدود ولا يظهر عليها أي تفسخ مما يدل على شدة نقاء وجفاف المناخ بتلك المنطقة (١).

لم يظهر البدو أي امتعاض من ذكر الحرب. وتحدثوا عن هزيمتهم وخسائرهم حديثا لا يخلو من الفكاهة. وكانت ملاحظاتهم تنم عن نفس الفكاهة وهم يتحدثون عن الإنكليز خلال إقامتهم في (جعلان) ، وانتقدوا انتقادا شديدا أسلوب هجومهم وأسلحة الجنود وتجهيزاتهم. إن العربي الذي يدخل الحرب دون أن يكون معه أكثر من ناقته يستطيع التقدم أو التراجع معها ولا يحمل شيئا سوى سلاحه وحقيبة صغيرة من العجين وقربة ماء ، لهذا فإن كمية الأمتعة التي يحملها جنودنا لا بد أن تثير دهشتهم. إلا أن الشيء الذي أثار دهشتهم أكثر من أي شيء آخر هو أننا نحمل معنا براميل الكحول للرجال. هذه الحادثة يتردد ذكرها كثيرا في عمان.

__________________

(*) يصعب تصديق رواية المؤلف هذه بعض مضي نحو ١٤ عاما من الحادثة.

٤٢

الفصل السادس

مضارب بني بو علي

توجهت وقت الظهيرة بمرافقة سلطان ، ابن شيخ القبيلة ، لزيارة زوجة الشيخ العجوز وشقيقته ، وكان الشيخ غائبا آنذاك بسبب ذهابه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج. اجتزنا فناء قذرا تحتشد فيه قطعان الحيوانات ودخلنا منزلا صغيرا بعد أن ارتقينا درجة عند مدخله. كانت هذه الدرجة بمثابة حاجز يحول دون المتطفلين ، إلا أنها كانت غير كافية كما يبدو ، لأن العديدين تمكنوا من القفز من فوقها ولكنهم طردوا حال وصولنا. لقد وجد بدو الصحراء أن من الضروري الإبقاء على قطعانهم قريبة منهم لأسباب أمنية. ولما كان هؤلاء آخر من يترك عاداته من الناس في العالم ، فإن الشيء نفسه يفعلونه عند ما يكونون في المدن. قبل بضعة أشهر ، وعند ما احتلت قبيلة عسير (Mocha) (المخا) ، فإنها أبقت على أغنامها معها في الأجزاء العليا من بيوت شاهقة في تلك البلدة. استقبلتني السيدتان وهما جالستان فوق دكة ترتفع حوالي قدمين عن سطح الأرض وكانتا مبرقعتين من قمة الرأس حتى أخمص القدمين ، ولم يكن في المستطاع رؤية إصبع واحدة طيلة المقابلة. ولكن تعويضا عن خيبة الأمل هذه ، بقيت في الحجرة بعض الفتيات الحبشيات للسهر على خدمتهن وكن في غاية الجمال. وعبرت السيدتان عن بالغ سرورهما لأنهن قابلن أخيرا رجلا إنكليزيا. إلا أنهما تحدثتا عن (السيد سعيد) بازدراء ولم تخفيا رغبتهما في التخلي عن الرابطة الواهية التي تربطهما به الآن. وقالتا : «إن ما نريده هو حماية الإنكليز لنا. وإذا ما وفرت حكومتك لنا ذلك ، ورغبت بعد ذلك بأن يكون لها ميناء على الساحل ، تستطيع من خلاله القيام بالتجارة مع (عمان) ، وبقية البلاد ، فإننا على استعداد لتوفير ذلك بكل سرور». وعند ما ازدادت ثرثرتهما ، وجدت صعوبة في منعهما من إرسال من يأتي ببقية أفراد القبيلة من الجبال.

أشير عليّ أن أنظر إلى مجموعة من الخيام وبعض الحاجيات الأخرى التي أرسلتها حكومتنا هدية لهم. على الرغم من إننا قد نضمر الآن عاطفة مغايرة إزاء هجومنا الأول على

٤٣

هؤلاء الناس ، وبات معروفا أن عضوا من أعضاء الحكومة رفيع المستوى يضمر حقا مثل هذه العاطفة ، فإن المسألة برمتها غدت تناسب ذوق البدوي فلم أسمع في هذا المكان ولا في غيره سوى كيل المديح للإنكليز. وقالت السيدتان : «لقد قاتلنا ، ومن جانبكم قمتم بتعويضنا كليا عن أولئك الذين لقوا مصرعهم ، ولهذا ينبغي لنا أن نصبح أصدقاء الآن». إلا أنهما لم تغفرا البتة للسيد سعيد.

بدأ إعداد وجبة طعام مؤلفة من لحم الإبل ، وأحد الخراف ، وأطباق كبيرة من الأرز. وسرعان ما قدم الطعام فانسحبت السيدتان تاركتين (سلطان) بمفرده معي لتناول الطعام. ولدى رجوعي إلى الخيمة ، وجدت هناك القبيلة كلها ، بني بو علي ، وقوامها مائتي وخمسين رجلا ، تجمعوا لأداء رقصة الحرب. كانوا قد شكلوا حلقة ودخل فيها خمسة أو ستة رجال منهم. وبعد أن ساروا قليلا على مهل ، تحدى كل واحد منهم الواقفين بأن مسّه مسا خفيفا بسيفه. وسرعان ما يتقدم الخصم وتبدأ معركة وهمية. ولم يصب الاثنان إلا بجرحين ، الأول في الرأس والثاني في الساق. ولا يتفادى الخصمان الضربات بالسيف أو الدرع بل بالقفز أو التراجع إلى وراء. يبلغ طول نصل السيف ثلاثة أقدام ، وهو سيف مستقيم ورفيع ذو حافتين مزدوجتين وحاد كالموسى. وعند ما يحملون السيف منتصبا أمامهم ، فإن حركة مدهشة من رسغهم تجعله يهتز على نحو مثير له أبلغ الأثر عند ما يكونون مجتمعين بأعداد كبيرة. ويرتبط الدرع بالسيف بوساطة سير جلدي ، ويبلغ قطره حوالي أربع عشرة بوصة وفائدته تفادي ضربة الرمح. وكان من مكملات اللهو إطلاق النار من البنادق صوب ساقي أحد المتفرجين الذي يبدو مهتما بمشاهدة اللعبة فلا ينتبه لاقترابهم ، وإذا ما بدرت من هذا الشخص أي إشارة تدل على خوفه دون أن يدري يزداد فرحهم. وكانت موسيقاهم الوحيدة تتكون من طبل صغير يضرب عليه أحد العبيد.

وبعد ممارسة مهارتهم في إطلاق النار صوب أحد الأهداف يبدأون بالتفرق. ومع حلول المساء ، يبدأ عدد كبير من أفراد قبيلة (جنبه) بالتوافد ، وتبدأ ناقتان من عندهم بالسباق مع ناقتين من (بني بو علي). ولما لم أكن قد شاهدت من قبل في حياتي سباقا للإبل ، فقد شعرت بسعادة كبيرة وأنا أشاهد ذلك. كانوا يمتطون الإبل ويمسكون باللجام إلا أن الحيوانات لم

٤٤

تكن على ما يبدو مهتمة بالرياضة مع أسيادها لأنها لم تنطلق إلا بعد مشقة كبيرة وأصبح بعد ذلك من المتعذر اللحاق بها. كانت سرعتها القصوى غير كبيرة ، وربما كانت تصل إلى أقل من سرعة الجواد بمقدار الثلث. وإذا ما تم حثها للركض بسرعة أكبر ، فإن الحيوانات تبدو في منتهى الارتباك.

وجدت الشيخ الذي يرافق الجماعة شخصا ذكيا ومرحا فاقترحت عليه أن أقوم بجولة في منطقته لبضع أيام. وبعد أن أستفسر عن دوافعي من وراء ذلك ، وأكتشف أن السبب لا يعدو العيش معهم في تلك الفترة ، وافق من أعماق قلبه. وعند حلول السماء ، زارني ، كما هو مألوف ، جمع غفير ، واشتركنا في غناء بدوي.

السادس من ديسمبر / كانون الأول : وجدت الشيخ وجماعته التي يصل عددها إلى خمسين شخص قد اعتلوا جميعا ظهور الإبل ، كانوا في ذلك الصباح على أهبة الاستعداد للبدء بالتجوال وسرعان ما ابتعدنا عن ضواحي المدينة وبتنا نقطع الصحراء. كان الهواء باردا ونقيا ، والشمس عالية إلى الحد الذي ترسل فيه دفئا مقبولا ، في حين أضفت حركات أصدقائي البدو ومظهرهم القوي إثارة جديدة فيّ ، حتى أن وحشة المكان الشديدة أثارت بهجة أكبر. كنا نقطع تلك الأراضي المقفرة والموحشة التي لا حد لها والتي كانت بالرغم من خلوها من الأشجار والجبال والمياه أو أي ملامح أخرى تشترك بها مع الأقاليم الأخرى الأكثر مدعاة لراحة النظر ، ذات صفات بسيطة كانت المنطقة الجرداء الشاسعة قد ذكرتني بالمحيط الذي لم يطرقه أحد وأثارت في نفسي شعورا بالسمو. وكانت ملامح رفيقي تناسب تماما صفات بلاده الغريبة. وكان شكله القوي وأطرافه النظيفة المحكمة يكشف عنها رداؤه الخفيف ، بينما أضاء شعاع عينيه اللتين يلوح منهما العزم والتصميم ملامحه الدكناء الضاربة إلى الحمرة. وكان سلوكه نزيها وصريحا في حين دل مظهره الخارجي كله على ازدرائه الرجولي بالشدائد.

قال الشيخ : «لقد رغبت في مشاهدة بلاد البدو ؛ هذه هي». ثم أردف وهو يضرب رمحه في الرمال الصلبة : «هذه هي بلاد البدو». لم يكن الشيخ ولا أي من رفاقه يرتدون سوى مئزر صغير لف حول وسطهم ، في حين بدت بقية أجسادهم عارية. أما شعرهم الذي

٤٥

تركوه ينمو ليصل إلى خواصرهم وأشبعوه بالمادة الدهنية ، فكان يقيهم إلى حد ما حرارة الشمس الشديدة. ولم يستخدموا أي غطاء آخر. بعد مغادرتنا البلدة ظلوا يلازمون بعضهم بعضا ، أما الآن فقد باتوا يتحركون في جميع الاتجاهات يطارد أحدهم الآخر بصرخات مدوية عبر الحقول. واصلنا تقدمنا على هذا النحو فوق أرض مستوية ، تقطعها آثار تيارات ماء عديدة ، حوالي أربع ساعات بعدها عبرنا سلسلة ضيقة وواطئة من تلال كلسية. وفي غضون ساعتين أصبحنا وسط بعض الهضاب التي نمت فيها بكثرة أشجار الصمغ العربي. ولا يتم إلا جمع القليل من هذه المادة في هذا المكان لأن البدو تذمروا من أن سعره في مسقط لا يوازي عناء جمعه. وفي الساعة الرابعة والنصف توقفنا قرب بعض آبار الماء المالحة قليلا. كان طريقنا يتجه حتى الآن صوب الجنوب والجنوب الغربي وقطعنا منها اثنين وأربعين ميلا. كانت هناك مجموعة من السكان المحليين انضموا إلينا حال توقفنا فأرسلوا لجلب الرز والتمور. في هذه الأثناء أضرمنا النار تحت شجرة ضخمة. وانتظرنا عودتهم لطبخ الطعام وعند رجوعهم بدأ أعداد الطعام بعد أن تأخروا حتى غروب الشمس. كان الطعام شهيا جدا. لم يكن عندي خادم ولا أمتعة وكنت أفكّر بأن تحقيق أهداف رحلتي ، وأنا بينهم حتى لوقت قصير ، إنما يكون بمسايرتهم في أسلوب معيشتهم. ولم تخيب النتائج ظنوني. فوسط هذه القبائل كلها ثمة سحر موروث تكون فيها تفاصيل الحروب والغزوات التي يشتركون فيها والتي أشترك فيها أجدادهم جزءا مثيرا وجذابا جدا. كما تذكر مآثر جواد أو جمل أثير بنفس الدرجة من الحماس. جلست أحتسي القهوة وأصغي لسردهم هذه الحكايات حتى ساعة متأخرة جدا. وفي أثناء الليل ظلت بعض كلاب الحراسة ساهرة حول المخيم (١).

__________________

(١) لا يزال البدوي يحتفظ بحب جياش للغناء ، وهو مما يتميز به أهله. وسواء أكان العربي يرعى القطيع أو يزجي الوقت في رحلة مملة أو يجلس حول النار بعد تناوله طعامه وشرابه في السماء ، فإنه يطلق دوما عقيرته بالغناء ويكون موضوعه إما الحب أو الحرب. وغالبا ما كنت أصغي تحت ظلال نخلة ما لإحدى هذه الأغنيات مسليا نفسي ساعات طويلة. ولا يصاحب هذا الغناء إلا ربابة. وعلى الرغم من أن لا شيء أكثر من هذا يمكن أن يكون بعيدا كل البعد عن فكرتنا عن الغناء ، إلا أن عواطفهم وتعبيرهم تناسب المشهد الذي يصفونه إلى حد يثير الإعجاب ، كما أن ذلك يعبر تعبيرا دقيقا عن الطبيعة الغريبة التي تتميز بها أذهانهم. وتتميز موسيقاهم بالجمع بين ما هو خشن وفظ في حين أن حركاتهم بطيئة ورزينة وفي أحيان أخرى مفعمة بالحيوية والنشاط. ويظهرون الوقار والتفكير الحزين تارة بينما يتقافزون غالبا ويشكلون جوقة تصدح بأعلى الأصوات تارة أخرى. ولم أعثر على أسلوب أكيد لإثارة المشاعر الودية تجاهي ، عند ما أكون وسط هؤلاء القوم الذين يتصفون بالخشونة ، إلا الإصغاء بكل اهتمام لما يؤدون.

٤٦

الأحد ، السابع من ديسمبر / كانون الأول : مع اقتراب الليل من منتصفه بدأت الأمطار تهطل بغزارة واستمرت دون انقطاع حتى الفجر. كان الجو شديد البرودة ، قارصا ، ولما لم نتمكن من الحصول على أي مأوى ، فقد تبللنا كليا. فرح البدو بذلك فرحا لا حد له لأنهم باتوا واثقين الآن بأن الكلأ سيتوفر لبعض الوقت. وفي ضوء النهار بدأنا نقفز ونتسابق لتخليص أطرافنا من خدرها حتى تذكرت لعبة قفز الضفدع الإنكليزية. كان هذا التحول كبيرا بالنسبة للبدو ، حتى أعلن عن إحضار طعام الفطور المؤلف من التمر والحليب. وبعد الفطور جمعنا حوائجنا وواصلنا رحلتنا. وفي الساعة الثامنة صباحا ، واصلنا سيرنا صوب الغرب والجنوب الغربي وسط هضاب رملية كما فعلنا يوم أمس. وفي الساعة الرابعة عصرا وصلنا إلى مخيم صغير تقيم فيه زوجتا الشيخ. وبعد وقت قصير أرسلت السيدتان في طلبي ووجدتهما في كوخ صغير قمعي الشكل مشيد بالأعمدة ومسدود من الأقسام العليا بحبال جلدية ومغطى بالجلود. كان الكوخ صغيرا جدا بحيث يكفي لملء مساحته وجود شخصين يستلقيان على أرضيته ، كانت السيدتان تجلسان فوق سجادة قديمة جدا قرب نار دافئة وطلبتا مني الجلوس بينهما. كانتا غير مبرقعتين وسرعان ما انطلقتا في الحديث بحرية معي. وبعد أن أجبت عن مائة سؤال عن الإنكليز وعن بلادها ، قدمت القهوة والحليب. قدموا الحليب في طاس صنع من غلاف ثمرة جوز الهند. وكان هذا الغلاف محبوكا حبكا لا يسمح بتسرب الحليب منه. لم يكن هناك أي أثاث في الكوخ سوى بعض الجلود لحفظ التمور أو قرب الماء ، علاوة على إبريق فخاري لإعداد القهوة ووعاءين أو ثلاثة أوعية نحاسية للرز وبعض الحصران الممزقة والجلود التي ينامون عليها. ثمة كومة من سمك مملح في أحد أركان الكوخ. وبعد أن قدمت لهما بعض الهدايا التي فرحتا بها فرحا شديدا استأذنت بالانصراف وخرجت مع الشيخ بحثا عن أنواع من النباتات وقد وجدتها تنتشر بكثرة. لاحظت هنا وفي أجزاء أخرى من جزيرة العرب أن الأشجار الظليلة تكون التربة تحتها مباشرة وأنها تكون رطبة حتى في أشد الأجواء جفافا مما يجعل القطعان ترعى فيها بنهم. وربما كان مرد هذا بعض الصفات الغريبة التي تتمتع بها أوراقها وتتمثل في خزن قطرات الندى المتساقط التي تكون في الصحراء أكثر منها في أي مكان آخر ، لأنني لاحظت

٤٧

غالبا في الصباح أن أشجار السمر مقعرة وفيها قطرة أو قطرتان من الندى. وفي الوقت الذي تحمى فيه الشمس تأثيرها ، تبقى هذه على شكلها الطبيعي ويتم خزن الرطوبة في التربة. وتحت ظلال هذه الأشجار تستمد نباتات أخرى تنمو بعد هطول الأمطار غذائها منها وبعد ذلك بوقت قصير تبدو جافة وذابلة. ومع هذا ، فإن مما يثير الدهشة نمو النباتات الغضة جدا في مثل هذه المناطق التي تتعرض لأشعة الشمس القاسية.

إن بني (جنبة) عبارة عن قوم منتشرين يقدر عدد أفرادهم بحوالي ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل يحتل القسم الأعظم منهم في الأراضي الواقعة جنوبا من (بني بو علي) وحتى رأس أصيله ، إلا أن هناك العديد من الأسر التي تحيا حياة اختلاط مع البدو الآخرين في الأراضي القفر المحصورة بين الصحراء الكبرى وحتى المنطقة الغربية وكذلك في واحة (عمان) مع بعض البدو الذين يعيشون مع شيخهم في بلد صور. ويلجأ الأفراد إلى هذا الشيخ لفض كل منازعاتهم ويكون مسؤولا أمام الإمام عن سلوك القبيلة العام. ولأبناء قبيلة (بني جنبة) بعض الخصائص الغريبة التي تجعلهم ، إلى حد ما ، يختلفون عن غيرهم من البدو ورغم أنّ أعدادهم ، كما لاحظت ، ليست كبيرة إلا أنهم ينتشرون فوق مساحة شاسعة من البلاد وأنهم ينقسمون إلى قسمين : أولئك الذين يعيشون على صيد الأسماك والذين يعملون في الرعي. وسننظر أولا في القسم الأول.

من الحقائق المدهشة وجود أعراق في كل بقعة من بقاع ساحل الجزيرة العربية ، وحتى على امتداد السواحل الشمالية الشرقية للهند وما كراو. وفي بعض المناطق ، على سبيل المثال ، تلك الواقعة إلى الشمال من جدة في البحر الأحمر ، ينظر إليها كعرق منفصل ومنحط لا يتناول البدو طعامهم وإياهم ولا يتزاوجون أو يرتبطون فيما بينهم ، ولكن مع هذه القبيلة وبعض القبائل الأخرى ، لا يوجد مثل هذا التمييز. فالساحل كله تنتشر فيه الأسماك ، ولما كان الأهالي لا يملكون إلا القليل من القوارب الصغيرة ، فإنهم يستعيضون عنها بالفلك المصنوع من القرب المنفوخة قربة واحدة أو اثنتان توضع فوقهما قطعة من لوح خشبي. ويجلس صياد السمك على هذا الفلك الهش فيرمي بشبكته الصغيرة أو يصطاد بالصنارة. ولا بد من ظهور تسلية بين الفينة والفينة عند ما تلتهم الطعم أسماك القرش الكبيرة التي تنتشر

٤٨

بكثرة في المكان. إذ كلما حدث مثل هذا الشيء ، إلا إذا قطع الصياد خيط صنارته ، وهو ما لا يرغب القيام به لأن القرش أثمن من أي سمك آخر ، لا شيء يحول بين فلكه وبين اللحاق بالقرش. ونتيجة لذلك ، يضطر الصياد في بعض الأحيان إلى الانجراف بعيدا في عرض البحر. ولصيد هذه الوحوش لا بد من بذل جهود جبارة لأنها تناضل بشدة من أجل التخلص عند ما تجذب قريبا من السطح. وإذا حدث وإن قلبت الصياد من مكانه ، فإن هذه الوحوش كما يقال تندفع صوبه على الفور. إنني أعرف بأن حوادث كثيرة كهذه قد وقعت ، لكن إن نجح الصيادون في جره على امتداد الفلك ، فإنهم يتمكنون من قتله ببضع ضربات على الخطم. وبعد أن يجلب السمك إلى الساحل ، فإنه إما يجفف أو يملح. أما إذا زاد عن الحاجة فيتم نقله إلى عمق البلاد ويقايض بالتمور والقماش. وفي موسم البرد يقيم العرب الرعاة من أبناء هذه القبيلة في المناطق الساحلية ، بحثا عن كلأ أفضل ، فيسكنون في خيام صغيرة ، كما لاحظت ، تقام بواسطة الأعمدة وتغطى بالجلود. ولكن مع اقتراب الرياح الموسمية الجنوبية الغربية ، ينسحبون إلى التلال ويصبحون أشبه بسكان الكهوف المنعزلين. وهناك يستقرون في أكثر الوديان عزلة مع قطعانهم ، حيث يكون الكلأ فيها أفضل من السهول. وسمعة هذه القبيلة سيئة وسط جيرانها ويقال أنها لا تتورع عن نهب الزوارق التي قد تقع في أيديهم لسوء الحظ. وهذه القبيلة هي التي اقتربت من المركب الأمريكي (الطاووس) عند ما أوقف قرب (مصيره)(Mazura) سنة (١٨٣٥) بهدف نهبه ، كما يفترض. غير أنهم ينكرون هذا الشيء بشدة. ويشكل الحليب والتمر والسمك غذائهم الرئيس. ولما كان الماء غير عذب. فإنهم يحتسون كميات كبيرة من الحليب. ويحصلون على التمور من البساتين العامرة في بني بو علي ، وهي القبيلة التي يرتبطون بها برابطة الدم.

وتتباهى منطقتهم بكونها ذات مناخ ملائم جدا للصحة. وغالبا ما يأتي المرضى من مسقط للاستشفاء فيها فيبقون شهرين أو ثلاثة أشهر يشاركون سكانها طعامهم البسيط ويقال أن هناك فائدة كبيرة من وراء ذلك حتى في الحالات المستعصية. أما فيما يخص أساليب العقاب عندهم ، ففي حالة سرقة جمل أو خروف وما أشبه ، فإن العقوبة تكون التعويض عن الشيء المسروق شرط أن تكون هذه السرقة هي الأولى. وإذا تكررت السرقة تفرض غرامة ،

٤٩

وفي المرة الثالثة يقيد السارق بالأغلال ويسجن. كما تفرض الغرامات على الكلام البذيء. أما في حالة القتل والقتل غير العمد ، فكما هو الحال عند القبائل الأخرى ، يتم الانتقام من القاتل بواسطة أهل القتيل.

الثلاثاء ، الثامن من ديسمبر / كانون الأول : في الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم بدأنا نستعد للعودة إلى (بني بو علي) عن طريق آخر يتجه أكثر إلى جهة الغرب. وقد ندمت ندما شديدا لاضطراري إلى ذلك لأنه كان في وسعي ، وبمعية مرافقي ، أن أتوجه إلى مضارب بدو مهرة دون أن أخشى أي مقاطعة. لكن عمان الأكثر جاذبية كانت أمامي. ظل المظهر الطبيعي للأراضي التي مررنا بها حتى الساعة الواحدة والنصف كما هو مثلما وصفته من قبل. إلا أننا عبرنا بعد ذلك بعض الحقول الجافة التي تخلو من الأشجار أو الأدغال ولا تنتشر فيها إلا كتل الملح أو الحصى. وعند غروب الشمس ، توقفنا بعض الوقت لإطعام جمالنا ، ومن ثم استأنفنا الرحلة إذ كان الليل لطيفا. وفي الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخامسة والأربعين ، وبعد سفر طويل وشاق وصلنا مخيم بدو صغير بتنا فيه ليلتنا. إن القدرة على النوم فوق ظهر ناقة تعد إنجازا يستحق الحسد! في الوقت الذي وصلت فيه محطة وقوفنا كنت شديد الإنهاك. وباستثناء الشيخ الذي كان راكبا على مقربة مني ويتحدث إلي ، فإن بقية أفراد الجماعة راحوا في نوم عميق.

التاسع من ديسمبر / كانون الأول : انطلقنا في صباح هذا اليوم في رحلتنا. وبعد أن قطعنا مسافة جيدة ، وصلنا إلى مضارب (بني بو علي). وهناك وجدت العدد الأكبر من أفراد القبيلة وقد اجتمعوا من حول الخيمة وبعد الاستفسار اكتشفت أن بعض البدو من القبيلة المجاورة ، وهي قبيلة (بني بو حسن) ، قد تقدموا في أثناء الليل وسرقوا معزة أرسلها شيخ (كامل) قبل يوم واحد هدية لي. وبعد أن سمح الخدم الخاص بي لرئيس القبيلة بالتعرف إلى المعزة ، أخذوا ينتظرون وصولي للرد على اللصوص بالاستيلاء على بعض قطعانهم ، غير أنني أفلحت في إقناعهم بالعدول عن ذلك بمشقة بالغة. إن أبسط الحوادث التافهة وسط هذه القبائل المولعة بالحرب كافية لأن تبذر الشقاق بينهم وقد قيل لي إنه قلما تمر سنة لا يضطر فيها الإمام إلى إرسال أحد الأعيان لتسوية خلافاتهم.

٥٠

الفصل السابع

بديه

الخميس ، العاشر من ديسمبر / كانون الأول : غادرت مضارب (بني بو علي) صباح هذا اليوم قبيل الظهيرة. طلب مني الرجال العودة مرة أخرى وقضاء شهر وإياهم ووعدوا إن جئت ببناء بيت «يشبه بيوت الهند» والسهر على راحتي وطلبت النساء نفس الشيء ورافقتني القبيلة برمتها حتى ضواحي قرية (بني بو حسن). وقال (سلطان) الصغير : «لو زرتنا في السنة القادمة ، سيكون أبي قد عاد من مكة وسأرافقك مع مجموعة من رجالك ومن بدو (جنبة) حتى حدود المهرة». وعدته بذلك إن سنحت الظروف وبعد مصافحة الجميع ، وهي من عاداتنا التي تعلموها (١) ، افترقنا والأسى يرتسم على وجوه الطرفين. إنني لا أستطيع نسيان المودة الصادقة التي عرفتها من هؤلاء الناس البسطاء وسأظل أتذكر الأسبوع الذي أمضيته وإياهم ومع جيرانهم باعتباره من أحسن أيام رحلاتي.

وفي الساعة الواحدة والنصف اجتزنا حدود قبيلة بني بو حسن. لا يوجد سوى عدد قليل من البيوت المتناثرة هنا كما هو الحال في أرض بني بو علي وقد شيدت هذه على نموذج فظ وتبدو صغيرة. ويقطن السكان في أكواخ مختلفة الأشكال مشيدة بسعف النخيل. دخلنا الآن واديا ضحلا يدعى وادي (Betha) تنتشر على جانبيه أشجار الغاف والسمر التي تنتج كميات كبيرة من الصمغ. كما تنتشر أيضا أشجار النبق في قعر الوادي وبكميات كبيرة. ويبدو للناظر كوخ بدوي من تحت الأشجار بينما تحدق بعض القطعان وهي ترعى الكلأ الذي ينمو تحتها.

في الساعة الرابعة والنصف مررنا ببلدة الكامل وفي الساعة السابعة توقفنا لقضاء الليلة وسط بعض المنحدرات الرملية التي يبلغ ارتفاعها خمسين قدما. كانت الليلة صافية والجو نقيا والنجوم متلألئة على نحو ساطع لا تجد له مثيلا حتى في مصر ، ولاحظت أن هذا الشيء

__________________

(*) كذا ينسب عادة المصافحة لقومه مما يدل على محدودية فهمه.

٥١

من الظواهر العامة في المناطق الرملية. لكن ما سبب كثافة الندى؟ وما سبب برودة الليل في الصحراء؟ كان أثر قطرات الندى كثيفا مما ترك الانطباع بهطول مطر خفيف على الأرض. ومهما كانت حرارة النهار شديدة وقاسية فإن برودة الجو ، بل حتى الليالي الباردة تلي ذلك.

الجمعة ، الحادي عشر من ديسمبر / كانون الأول : استيقظت هذا الصباح في وقت مبكر وتسلقت قمة أحد التلال الرملية العالية كي أظفر برؤية المناطق المحيطة ، لكني لم أشاهد على مد البصر وفي الأفق الكئيب والموحش سوى الهضاب الرملية المتموجة القادمة من الصحراء كأنها موجات بحر حتى تصطدم بالحاجز الذي أقف عليه. وعند الاستفسار ، لم أتمكن من معرفة أن الصحراء تتقدم واضطرتني ملاحظتي إلى الاعتقاد بعكس ، ذلك لأنني بعد أن عاينت المكان جيدا وجدت أن التلال التي كانت تشكل عائقا لتقدمها ، إنما كانت مغطاة بالأراك ونباتات صحراوية أخرى تغور جذورها في التربة وتتشابك محدثة أثرا كذلك الذي تحدثه (عشبة النجيله) في إنكلترا. وتقف شجيرة (١) واحدة من هذه الأشجار حجر عثرة أمام تقدم الرمال وتحيلها إلى هضبة. وهنا تنمو بقية الشجيرات فوقها وتستمر على هذا النحو بتلقي طبقات الرمل المنفصلة والنباتات المتزايدة بالتعاقب. ولو لا هذا لكان طوفان من الرمال قد غمر البلاد منذ زمن بعيد حتى قدمات الجبال المواجهة للبحر. ولما لم يكن هناك سوى القليل من الماء وراء هذا الحاجز ، إذ يبعد البئر الواحد عن الثاني مسيرة أيام ، فإن البدوي قلما يتجرأ على اجتيازه ، لأن التلال ، كما يقال ، تغيّر من ملامحها ، بل حتى تغير من مواقعها مع كل نسمة قوية تهب ونتيجة لذلك تفقد علاماتها وتحدث حوادث مؤسفة جدا في غالب الأحوال. ففي الليلة الماضية أخبرني (حمد) بأنه واجه ـ عند ما كان شابا ـ مع والده وحوالي عشرين من أفراد قبيلته في هذا المكان بالذات مجموعة من الوهابيين استطاعوا أن يلحقوا الهزيمة بهم ويرغموهم على الهرب مع زوجاتهم اللواتي كن في رفقتهم. وعبرت العديد من قبائلهم الصحراء للذهاب إلى بعض الآبار تبعد مسيرة ثلاثة

__________________

(١) هذه الشجيرة يطلق عليها أسم Cissus Arborea الأراك وتستخدم أصغر أغصانها في جزيرة العرب بمثابة فرشاة أسنان وتحظى بمكانة رفيعة عند قدامى العرب والمصريين حتى أن الشعراء هناك يحتفون بها.

٥٢

أيام عن الحاجز ، وكانت غنية بالماء والكلأ. كان هدفهم البقاء حتى رحيل المجموعة المعادية وبقاء الطريق مفتوحة لعودتهم. لكن هبت في اليوم الثاني ريح صرصر من الجهة الغربية أزالت معها كل أثر من آثار الطريق وامتلأ الهواء بالغبار امتلاء عجزوا معه عن رؤية الأشياء التي تبعد عنهم أكثر من بضع ياردات. وفي حالة الطوارئ ، هذه التفوا جميعا من حول شجرة ، ولم يكن لديهم أي خيار آخر سوى الاحتماء بها حتى تتغير الظروف نحو الأحسن. إلا أن الريح استمرت دون هوادة ثلاثة أيام. وفي اليوم الثالث من مغادرتهم الحاجز ، وكان ماؤهم القليل قد نفد منذ اليوم الأول ، ذبحوا الجملين اللذين كان في وسعهما الاستغناء عنهما ، إلا أن كمية الماء التي حصلوا عليها سرعان ما نفدت وسط العديدين منهم. وفي صبيحة اليوم الخامس ، توفيت اثنتان من النساء ورجل شاب هو شقيق (حمد). وفي اليوم السادس وصلوا إلى الآبار. وهنا يمكن تخيل الرعب الشديد الذي استبد بهم عند ما وجدوا أن الآبار مليئة حتى السطح بالرمال (١). وقال حمد : «إننا لا نعلم بوجود أي آبار أخرى لا تبعد عنا سوى مسيرة ثلاثة أيام ، لكن بما أننا في حالة ضعف شديدة ، فإنه لا يسعنا سوى أن نستلقي ونموت. إنني لا أتذكر أي شيء ، بعد تلك الليلة حتى وجدت نفسي وقد حملت فوق ظهر أحد الإبل ووالدي إلى جواري يقودها. وعرفت منه أن أمرنا أكتشف في صباح اليوم التالي من جماعة أخرى من قبيلتنا فرغت توا من ملء قربها من بئر لا يبعد أكثر من نصف ميل عنا وإننا في طريقنا ، برفقتهم ، إلى قريتنا الصغيرة».

__________________

(١) الماء وفير في عمان حتى أننا لم نضطر إلى حمله معنا إلا نادرا. وعند ما كنا نحمله معنا ، فإنه كان يوضع في أكياس جلد تسمى القرب ، وكانت جلود الأغنام والماعز التي نذبحها في أثناء رحلتنا يحتفظ بها لهذا الغرض. وتستخدم جلود الحملان للحليب والأكبر منها للخمرة أو الماء ، وتتم دباغة هذه الجلود بلحاء الشجر. وعلى العموم تترك الأجزاء التي تحتوي على الشعر دون تنظيف. وتتم خياطة الثقوب الخاصة بالساقين في حين يتم استخراج السوائل عن طريق فتحة في العنق ومن ثم يتم غلقها بخيط جلدي. وتعلق بالإبل ، وإذا ما شعر البدوي بالظمأ فإنه يشرب منها وهي معلقة. وفائدتها أكثر من فائدة الجرار لأنه إذا ما اصطدم الجمل بإحدى الأشجار أو بغيره من الحيوانات في القافلة فإنها لا تنكسر ، وبسبب التبخر المستمر ، يبقى الماء باردا تماما. ولكن عند ما تكون هذه القرب جديدة لا تبذل جهود كبيرة في تنظيفها ، لهذا تظل محتوياتها ذات طعم ورائحة غير مستساغين. كما يبدو الماء بداخلها يشوبه الزيت لأن العرب تدهن الجوانب الداخلية من القرب بالزيت للحيلولة دون نفاذ الماء. كم هي ثابتة عادات أهل الشرق! فهذه هي القرب التي طالما أشارت إليها قصص الكتاب المقدس وفي كتاب Antiquities of) (Herculaneum ، الجزء السابع ، ص ١٩٧ ، ثمة لوحة تصور فتاة تسكب الخمرة في وعاء من الجلد يشبه إلى حد كبير ما أتيت على وصفه هنا.

٥٣

في الساعة السابعة غادرنا مخيمنا واستأنفنا رحلتنا على امتداد وادي (Betha) الذي لا يزال ضحلا فنمت عليه بعض الأدغال القصيرة. وفي الساعة العاشرة مررنا بنقطة توقف تدعى (Roocsat) ويوجد فيها ماء ، ومن هناك قطعنا سهلا وأراضي صحراوية انتشرت على سطحها وهاد ضحلة كثيرة. وعند سقوط الأمطار على الجبال فإن هذه القنوات تزود الجدول الرئيس الذي يجري على امتداد قعر الوادي بقوة وعنف ومن ثم يصب في البحر قرب رأس (مصيرة)(Mazura). ولما كانت السلسلة الجبلية التي تنبع منها ذات شكل بدائي والأراضي التي يجري فيها بالتالي ذات طبيعة رملية وجافة ، فإنه لا يوفر عن طريق الآبار أي قدر من الخصوبة. ولكن على الرغم من ذلك فإن الماء الذي يتغلغل في القناة خلال مجراه القصير يوفر ، عن طريق الآبار ، كميات كبيرة في فصول السنة الأخرى.

في الساعة الرابعة عصرا ، توقفنا عند قرية حدودية في منطقة (بدية). وقد قدرت المسافة من بني بو علي وحتى هذا المكان بمسيرة ست عشرة ساعة يكون فيها السير بطيئا ، أو حوالي اثنين وأربعين ميلا. ولما كان الطريق لا يلتوي إلا قليلا فإن هذه المسافة تعد صحيحة وهو ما وجدته ينطبق مع ملاحظاتي. ويطلق العرب على ذلك الجزء من البلاد الممتد بين بني بو علي وحتى هذه النقطة بمنطقة جعلان.

تتألف (بدية) من مجموعة من القرى الواقعة عند عدد كبير من الواحات ، وتحتوي كل واحدة منها على مائتين أو ثلاثمائة بيت ويقام السوق في القرية الوسطى. وفيما يخص موقعها النسبي ، فإنني أحيل القارئ ، إلى الخارطة التي وضعت في الأساس على مقياس كبير وساعدتني في تقدمي لملء وصف الأرض عليها. ومن السمات الأساسية لهذه القرى وقوعها في منطقة منخفضة فقد شيدت فوق أراض ضحلة اصطناعية حفرت إلى عمق يقدر بست أو ثمان أقدام ، ويترك الرمل الناتج عن الحفر بهيئة تلال صغيرة. كانت تلك الواحات هي الأولى التي أشاهدها في هذا المكان ، ولهذا السبب فإن انتباهي أنشد إليها انشدادا قويا. واكتشفت أن هذه الواحات وكل المدن في داخلية عمان تدين بخصوبتها إلى سلوك السكان عند ما كانوا يعمدون إلى جلب الماء إليها بأنفسهم ، وهذا أسلوب خاص يميز هذه البلاد ويتم ببذل الكثير من الجهد والمهارة ، وهما صفتان صينيتان أكثر منهما عربيتان.

٥٤

الجزء الأعظم من البلاد يخلو من غدران الماء الجارية على السطح ولهذا بحث العرب عن الينابيع وعيون الماء تحت الأماكن المرتفعة. ولا أعرف بأي أسلوب استطاعوا أن يكشفوا فيها عن هذا الماء ، لكن يبدو أنه ينحصر بطبقة معينة من الرجال الذين يقومون بالتجوال في البلاد لهذا الغرض. وقد وجدت بعض هذه الينابيع يغور إلى عمق أربعين قدم ومن فتحة العين أو الينبوع هذه يتم حفر قناة تتجه صوب المكان المطلوب مع ترك فتحات على مسافات متساوية للسماح بنفاذ الضوء والهواء إلى الأشخاص الذين يرسلون بين الفينة والفينة للمحافظة على نظافتها. وبهذا الطريقة يأخذ الماء بالجريان من مسافة تقدر بستة أو ثمانية أميال ويتم الحصول على كميات غير محدودة. ويقدر عرض هذه القنوات بحوالي أربع أقدام وعمقها بقدمين وتحتوي على جدول ماء سريع الجريان ونظيف وتحتوي القليل من هذه المدن الكبيرة أو الواحات على أربعة أو خمسة وهاد أو أفلاج تجري في داخلها. وبهذا تمتلك الأراضي المعزولة التي ينقل إليها الماء بهذه الوساطة على تربة غاية في الخصوبة بحيث أن كل أنواع الحبوب أو الفواكه أو الخضروات المعروفة في الهند أو الجزيرة العربية أو بلاد فارس تنمو هنا في نفس الوقت. ولم تعد الحكايات التي تدور عن الواحات من قبيل المبالغات لأن خطوة واحدة تنقل المسافر من وهج الصحراء ورمالها إلى طريق خصب ترويه مئات الجداول الصغيرة وتحتشد فيه أنواع الخضروات والنباتات وتظلله أشجار باسقة تحجب تماما أشعة شمس الظهيرة القاسية. وأشجار اللوز والجوز والتين ذات أحجام كبيرة أما عناقيد الفواكه فتنمو بكثافة في أشجار البرتقال والليمون حتى أنني لا أصدق بإمكانية جمع عشرها فقط. وفوق هذا كله تنمو أشجار النخيل باسقة مضيفة ظلالها إلى المشهد المعتم. وربما أمكن تكوين فكرة عن كثافة هذا الظل من خلال الأثر الذي يحدثه في تقليل الإشعاع الأرضي. فالمحرار الموجود داخل البيت ويشير إلى ٥٥ درجة فهرنهايت وهو على بعد ست بوصات من الأرض ، ينخفض إلى ٤٥ درجة فهرنهايت. ولهذا السبب ، ولتوفر المياه بكميات كبيرة ، فإن المكان مشبع بالرطوبة ، وحتى في حرارة النهار ، يتصف ببرودة رطبة. والحق أن مثل هذه البقاع توفر مشهدا فريدا وغريبا لا يوازيه أي مشهد آخر في مختلف أنحاء العالم ولا يمكن أن نعطي فكرة واضحة عن هذا الأمر أكثر من النظر إلى قائمة المنتجات التي تنمو بأنواع مختلفة معا فوق ارض لا يتجاوز قطرها أكثر

٥٥

من ثلاثمائة ياردة. وإني لواثق أن أي بقعة أخرى في العالم مساوية لمساحة هذه البقعة يمكنها أن توفر مجموعة كثيرة ومتنوعة من النباتات كهذه.

السبت ، الثاني عشر من ديسمبر / كانون الأول : السكان هنا أقل فضولا مما هو متوقع خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار إن من المشكوك فيه أن يكونوا قد رأوا أي أوروبي من قبل. فهم يمرون أمامي ويلقون نظرة واحدة عليّ ويتركونني وشأني. واكتشفت في هذا اليوم أن ارتجاجات الإبل عطلت آلة الكرونومتر التي أقيس بها الوقت بدقة شديدة على الرغم من أنها كانت مغلفة بعناية فائقة. ونتيجة لذلك اضطررت إلى العودة إلى استتار النجوم بفعل القمر كوسيلة لمعرفة الطول. وبالنسبة للشخص المستقر والساكن فإن الأمر هيّن ، ولكن بالنسبة للرحالة ، تظهر على الدوام ظروف جديدة كثيرة تجعل من احتمال الاعتماد عليه أقل مما يجب. واكتشفت عرض المكان عن طريق ملاحظة منتصف النهار وتوسط العديد من النجوم بمقدار ٢٢ درجة و ٢٧ دقيقة ، والاختلاف بين الملاحظة الصباحية والمسائية كان ٧ ، ٢ غربي.

الأحد ، الثالث من ديسمبر / كانون الأول : قدمت إلي هذا المساء العديد من الطلبات التي يرغب أصحابها في تلقي العلاج. وكانت معظم الحالات تتلخص بالحمى والبثور المنتشرة على السيقان. ويبدو أن كلتا الحالتين قد نجمتا عن برودة بيوتهم ورطوبتها ، وكانت هذه مشيدة في منطقة قريبة مشبعة أرضها بالرطوبة باستمرار. وفي الساعة الثامنة صباحا تقدمنا صوب الشمال الغربي على امتداد وادي (Betha) ومررنا بالعديد من القرى الصغيرة المنتشرة على جانبي الطريق. وفي الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة والأربعين وصلنا السوق. ويجري الاحتفال فيه بهزيمة الوهابيين مرتين ، الأولى في سنة (١٨١١) عند ما كانت قواتهم بقيادة (عبد العزيز) (١) ، والثانية بعد مرور بضعة أشهر على زيارتي في المرة الأولى ، لقي الشيخ (مطلق) (٢) مصرعه وكان أبنه (سعد بن مطلق) معه في ميدان القتال وهو لا يزال

__________________

(١) فيما يلي نسب رؤساء الوهابيين : فيصل ، الإمام الحالي ، ابن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بن عبد العزيز بن سعود الذي أصبح سنة ١٧٤٧ من أنصار المصلح عبد الوهاب. وعبد العزيز الذي يشار إليه هنا هو الشخص الذي نهب سنة ١٨٠١ بلدة الإمام حسين وضريحه وذبح دون تمييز كل الرجال والنساء والأطفال الذين وقعوا في أيديه.

(*) مطلق المطيري كان قائدا لذلك الجيش عام ١٨١٣ م.

٥٦

صبيا. ولما كانت مشاعر الانتقام تشكل ملمحا بارزا من ملامح شخصية العرب ، فإن الشيخ الشاب استمر منذ تلك اللحظة يكن أشد مشاعر الحقد للقبيلة وعند ما عينّ في هذه السنة لقيادة قوة الوهابيين الحدودية في (البريمي) ، فإنه تقدم على حين غرة على رأس قوة قوامها ثلاثة آلاف رجل باتجاه (بدية) ، على الرغم من أن الوهابيين كانوا في حالة سلم مع الإمام. بيد أن القبيلة التي كان مصمما على القضاء عليها تلقت أخبار تحركه قبل ساعتين من وصوله فما كان منها إلا أن جمعت ثمانمائة رجل ، وهو كل ما كان يتوفر من الرجال آنذاك لمقاومته. وكان هؤلاء الرجال مسلحين تسليحا جيدا (وشكلت تهديدات الشيخ بن مطلق باستئصال القبيلة بلا هوادة ولا رحمة ، دافعا قويا لهم بأن يبذلوا قصارى جهدهم). وعلى الرغم من قلة عددهم ، إلا أنهم هاجموا الوهابيين هجوما عنيفا غير متوقع وأرغموهم على الانسحاب من الميدان. وبعد أن ذبحوا العديد منهم أرغم الباقون على الفرار والنجاة بأنفسهم. وجن جنون الشيخ بن مطلق للهزيمة التي لحقت به وبات الخطر يتهدده من كل جانب ولو لا ولاء القليلين الذين أسرعوا بإخراجه من الميدان لكان قد لقي المصير نفسه الذي لقيه والده في هذه البقعة بالذات. وبعد توقف قصير في هذه القرية في انتظار جمالنا ، واصلنا رحلتنا صوب الشمال والشمال الغربي حتى الساعة الثانية عشرة وإذ ذاك وصلنا إلى (القابل)(Cawbi) التي يحيط بها سور تنتشر عليه القلاع. استقبلني الشيخ عند إحدى البوابات ورافقني سيرا على الأقدام داخل البلدة. وبدا تواقا جدا لأن أتوقف في هذه البلدة لكني كنت راغبا في السير نحو (إبرا). كانت سطوح المنازل ونوافذها تحتشد بالناس الذين تجمهروا لمشاهدتنا. في الساعة الواحدة مررنا ب (دريز) وفي الواحدة والنصف وصلنا (Modera) وهاتان واحتان صغيرتان وفيهما قريتان. وفي الساعة الثانية بدأت المنطقة تغير من طبيعتها بعد أن كانت عبارة عن سلسلة من السهول. وأخذت تقطعها تلال واطئة كلسية لا يزيد ارتفاعها عن مائة وخمسين قدم. وكانت بنات آوى والضباع تحتل الكهوف العديدة التي تنتشر فيها. وفي الساعة الخامسة والنصف غيرّنا اتجاهنا من الشمال والشمال الغربي إلى الغرب والشمال الغربي وبنفس اتجاه وادي (Betha) حتى وصلنا مدينة (إبرا).

نصبت خيمتي في قعر مجرى ماء جاف على بعد بضع ياردات من بستان نخيل يحيط به

٥٧

جدول ماء عذب رقراق جلست على حافته العديد من الفتيات اللواتي كن يسبحن فيه شبه عاريات على الرغم من اقترابي منهن. وهناك فتيات أخريات كن يغسلن الثياب أو أواني الطبخ النحاسية وكن يضحكن ويتجاذبن أطراف الحديث على نحو مهذار. وبعد توقفنا بقليل قدم لنا خروف والعديد من طوس الحليب. أما في المساء فلم يزرني إلا القليل من الناس.

الاثنين ، الرابع عشر من ديسمبر / كانون الأول : رافقني (سيف) لزيارة البلدة التي كانت يوما ما ذات شأن. إلا أنها باتت اليوم في حالة يرثى لها. وينتاب المرء إحساس بتغير الجو عند ما يأتي من الصحراء إلى البستان ، فالهواء عليل ورطب ، والأرض مشبعة بالرطوبة المنتشرة في جميع الجهات ، ومن كثافة الظلال ، يبدو كل شيء ، مظلما وكئيبا. ثمة بعض البيوت الجميلة لا تزال قائمة في (إبرا) ، غير أن طراز البناء يظل يشكل طابعا فريدا في هذا الجزء من الجزيرة العربية. فلأجل أن يتخلص السكان من الرطوبة والحصول على أشعة الشمس بين وقت وآخر من خلال الأشجار ، قاموا ببناء البيوت العالية. وحاجز الشرفة الذي يحيط بالطابق العلوي ذو أبراج ؛ بل أن مدافع نصبت فوق البيوت الكبيرة. أما النوافذ والأبواب فذات أقواس إسلامية ، وكل قسم من أقسام المبنى تحتشد فيه النقوش والزخارف الجصية البارزة ، وكان بعضها ينم عن ذوق رفيع. وكانت الأبواب مؤطرة بالبرونز ومزودة بالحلقات وغير ذلك من النقوش الكثيرة من نفس المعدن.

ويقام في هذا المكان سوق يومي تباع فيه الحبوب والفواكه والخضروات حيث يأتي البدو وسكان القرى القريبة للشراء بأعداد كبيرة. وتكون المنصات التي تعرض عليها البضاعة مشغولة في ساعات البيع فقط. وهذه عبارة عن منصات مربعة الشكل ، صغيرة ، يحيط بها حاجز واطئ ومسقفة ومفتوحة من الأمام وأرضيتها ترتفع حوالي قدمين عن مستوى سطح الشارع. وعلى مقربة من (إبرا) ، وعلى مسافة لا تزيد عن مائتي ياردة ، ثمة بلدة صغيرة أخرى ، إلا أن سكانها في حالة عداء والناس الذين لحقوا بنا من المدينة الأولى لا يملكون الجرأة لدخول أراضي البلدة الثانية. وتنتصب فوق المرتفعات الجرداء ذات القمم القريبة من هذه البلدة والبلدات الأخرى المجاورة بعض الأبراج المدورة تشكل

٥٨

حصونا منيعة في النزاعات الداخلية أو الغزوات الأجنبية. وتوجد في العديد منها آبار ماء وفيها مؤن كافية ، ولهذا ، فإن هذه الأبراج تستطيع المقاومة زمنا طويلا في بلاد قلما تستخدم فيها المدفعية. هذا وتشتهر (إبرا) بجمال فتياتها وبياض بشرتهن. واللواتي رأيناهن في الشارع قلما أظهرن الخجل. ولدى عودتي إلى خيمتي وجدتها تحتشد بالعديد منهن. وكن في حالة جذل شديد لما يرون من حولهن. فقد قلبن كل صندوق من ممتلكاتي لمعرفة ما فيه ، وكلما أظهرت محاولة لمقاومة ما يقمن به ، يضعن أيديهن فوق فمي لإسكاتي. جلس (سيف) في إحدى الزوايا وظل ساكنا وبدا عليه الهلع تماما مما يراه أمامه. وفي إحدى المرات ، فاق مزاحهن العابث حدود صبره ، وكان يوشك أن يستخدم سوطه في تفريقهن بكل قسوة لو لا أن منعته من ذلك ، وعند حلول المساء انصرفت السيدات الجميلات وامتلأ المكان بزوار أقل إثارة للمتعة بكثير وكانوا من الملالي الكبار في السن المتعصبين علاوة على بعض الشبان الأجلاف المثيرين للإزعاج. تخلصت من الملالي ـ الذين جاءوا بهدف الجدل ـ بالموافقة على كل ما قالوه ، في حين أفلح نفوذ (سيف) في خلاصي من المجموعة الثانية.

بعد أن عرفت خط التصنيف أننا في خط العرض ٢٢ درجة و ٤١ دقيقة غادرنا مخيمنا. وفي أثناء مرورنا بالبلدة ، نهض العديد من المتشردين ـ يساعدهم في ذلك كل الأطفال ، واخذوا يصيحون بأعلى أصواتهم وضربونا بالحجارة حتى إن حجرا أصاب ذراعي. وعندئذ التفت إلى جماعة من كبار السن وسألتهم إن كانت البلدة هي بلدة (السيد سعيد) ، وبذلوا محاولة للتدخل ، ولكن بدا عليهم حقا أنهم كانوا مستمتعين وليسوا مستاءين بالتظاهرة. وفي نهاية المطاف ، داهمني الخوف على خدمي الذين كانوا يسيرون على بعد مسافة مني إلى الوراء وفكرت في الانضمام إليهم. ورآني الناس وأنا أحمل السلاح وظنوا أنني سألجأ إلى استخدامه فما كان منهم إلا أن فروا في كل الاتجاهات. استفدنا من هذا الهلع الذي دب فيهم ووصلنا البوابة ولم يحاولوا اللحاق بنا. إن مثل هذه الاضطرابات هي التي تزرع كل الخوف في نفس الرحالة ، لان الدهماء إذا ما تجمعوا في مدينة من مدن الشرق سرعان ما يقومون بأعمال عنف ، إلا أنني يجب أن أقر بأن هذا هو المكان الوحيد الخاضع لسلطة الإمام ولم أحظ فيه باهتمام شديد. ولو كان الشيخ معنا لما جرت إهانتنا بهذا الشكل.

٥٩
٦٠