رحلات في الجزيرة العربية

جي. آر. ويستلد

رحلات في الجزيرة العربية

المؤلف:

جي. آر. ويستلد


المترجم: د. محمّد درويش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجمع الثقافي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٠

الفصل العاشر

قبيلة بني ريام

استحوذت قبيلة (بني ريام) التي تقطن هذه السلسلة من الجبال على جلّ اهتمامي في أثناء إقامتي هناك. أظن أن هناك الكثير من الأسباب التي تدعو إلى الاعتقاد والتصديق بتوكيدهم بأنهم لم يعرفوا في حياتهم سيدا عليهم. ولما لم يملكوا الجرأة البتة في الذهاب بعيدا إلا جماعات صغيرة للتخلص من مختلف البضائع عن طريق بيعها ، ولا يتوغلون في السير إلى ماوراء قدمات الجبال ، حيث توجد الأسواق المنتظمة ، فإنه يمكن عدهم قوما منعزلا لا يرتبط بغيره من القبائل العديدة المنتشرة في السهول الممتدة إلى أسفل. إن الطبيعة القاسية والوعرة والمنحدرة التي تتميز بها طرقاتهم التي غالبا ما تؤدي إلى شعب لا يندفع فيها سوى عدد ضئيل من الرجال الأشداء من بين كل ألف رجل ، والمواقع الحصينة التي اختاروها ليشيدوا عليها قراهم ، تكفي كلها لضمان استقلالهم.

إن أعدادهم لا تتجاوز أكثر من ألف نسمة. كما أن الوعي بهذا الضعف في قلة عددهم جعلهم يدركون أن أواصر الاتحاد القوية من مستلزمات بقائهم. فهم يفخرون بالقول إنه في الوقت الذي كانت فيه الأراضي المنخفضة قد عانت في فترات متباينة من غزوات أجنبية أو سادتها الفوضى والقلاقل الناجمة عن المشاجرات الداخلية ، فإنهم كانوا يزرعون الكروم والحبوب بسلام دون خوف أو انقطاع. وعلى الرغم من أنهم اشتهروا بالثراء ، إلا أن الأئمة لم يتمكنوا البتة من فرض أي رسوم عليهم. ومن الناحية الشخصية ، وعلى الرغم من أنهم يتصفون بأجسام رياضية أقوى من أجسام جيرانهم سكان السهول ، فإنهم لا يتمتعون بالمنظر الصحي والنظرة القوية التي يعرف بها سكان الجبال. على العكس من ذلك ، تجد وجوههم مغضنة كثيرة التجاعيد وتبدو وكأن أصحابها يعانون من تقدم في السن سابق لأوانه.

ومنذ اللحظة الأولى التي ذكرت لي فيها هذه الجبال ، سمحت لخيالي أن يعتمد على

٨١

المعاملة الطيبة التي يمكن أن أتوقعها من استفساراتهم وقد تصورت ، من خلال الاعتقاد البسيط جدا بقصص العرب المبالغ فيها ، سلسلة من التلال المخضوضرة التي تغطيها النباتات وتزينها غابات الأشجار الباسقة ويسكنها قوم بسطاء يثيرون الاهتمام تشكل عاداتهم وظروفهم واستعمالاتهم ميدانا مناسبا للبحث. وأمام القارئ أضع نتائج مثل هذه التوقعات.

النساء يتجولن بلا خمار وحيثما التقيناهن ، كن يؤدين أعمالهن في رعاية الكروم أو يقمن بأعمال أخرى ذات صلة بالزراعة أو يحملن الماء فوق رؤوسهن بعد أن يأتين به من الينابيع في أواني تشبه تلك المستعملة في الهند. كما أن المشي المستمر في الهواء الطلق منح مشيتهن مرونة وحرية كما منحت بشرتهن صفاء وحمرة لم نصادف مثلها عند الإناث في المناطق السفلى. لقد جعلت هذه الصفات ، علاوة على صفة المرح والقوام الممشوق الفارع ذي التقاطيع الجميلة ، جعلت منهن موضوعا مثيرا للانتباه أكثر من أزواجهن الشرفاء. لقد ندمت أكثر من مرة ـ عند ما كنت أتجاذب أطراف الحديث معهن ـ بأن القدر لم يمنحهن مصيرا أقل خشونة من هذا على الرغم من جمال وجوههن وقوامهن. ومع هذا فإنهن يشتركن مع غيرهن ـ لأسباب محلية وغيرها ـ في وجودهن في أسفل سلم الظروف الاجتماعية ، فيبدو عليهن الرضا لما آلت إليه أمورهن وربما نشك في إمكانية أن يزيد أي تغيير من مقدار سعادتهن العامة.

الخميس ، الحادي والثلاثون من ديسمبر / كانون الأول : بات من الضروري لنا الآن العودة إلى نزوى إذ كنت أتوقع رسائل تخص مواصلة رحلتي ، إلا أن عقبة غير متوقعة برزت أمامي فأثارت انزعاجي كثيرا. فقد شكا الناس الذين أتينا بهم من (تنوف) من شدة البرد وكانوا يرغبون في العودة بعد وصولنا (شيرازي) مباشرة ، وقد أيدهم وشجعهم في هذا المسعى دليلنا العربي. وفي يوم أمس باتوا أكثر إلحاحا على نحو غير مألوف ، لكنهم ، بعد أن رأوا لا مبالاتي ، انتهزوا فرصة غيابنا عن البيت واخرجوا كل محتويات الحقائب التي وضعنا فيها ما لدينا من متاع وكسروا بعض الحاجيات ورحلوا. أصبحنا بهذا لا نملك ، ونحن في طريق عودتنا ، أي وسيلة للخروج ولما كنا ندرك مدى ولع القرويين بالمشاجرة ، فإنني رغبت في

٨٢

الرحيل قبل أن يحدث ما يدفعهم إلى مزيد من الإزعاج. لهذا السبب ، توجهت في هذا الصباح إلى الشيخ الذي لم يظهر أي رغبة في مساعدتنا ، لكن بعد حديث استمر ساعتين ـ لأن العرب لا يقومون بأي عمل مهما كان تافها إلا بعد حديث مطنب ـ وافق ، لقاء تقديم هدية له ، بأن يزودنا بالحمير ومرافقتنا إلى (بركة الموز). تم إعداد كل شيء في الساعة الثامنة والنصف وعندئذ استأنفنا هبوطنا إلى (نزوى) سالكين طريقا أخرى تدعى (درب مويدن) Moidien ويقع اتجاهها على درجة ١٣ شرقا. غير أنني لا أرى ضرورة لأن أصف بالتفصيل إلتواءات ومنعطفات ذلك الطريق الذي سلكناه.

كان يبرز أمامنا ومن وسط الوادي تل هرمي الشكل يقع على قمته برج مهدم ذو أبعاد عظيمة وبناء ضخم. ويقال أن هذا المبنى كان في السنوات الأخيرة يستخدم مسجدا. ولم أتمكن من التأكد من تاريخ بنائه لكن التقاليد تؤكد بأنه يستخدم مكانا للعبادة من الأجداد الوثنيين. على أي حال ، لو كان الأمر صحيحا في كلتا الحالتين بأنه كان يستخدم لذلك الغرض ، فإن متسلقي الجبال لا بد قد اندفعوا بدافع الحماس الديني أكثر مما هم عليه الآن ـ إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار وعورة الطريق إلى القمة وشدة انحداره.

بعد أن سرنا باتجاه الجانب الغربي من الوادي ، وكان الطريق يؤدي في بعض الأحيان إلى عدد من التلال الأخرى والكثير من الأراضي غير المستوية التي تمتد مسافة لا بأس بها من ورائه ، ويصل في أحيان أخرى إلى مكان قريب من الحافة ، وصلنا في الساعة العاشرة والنصف إلى قمة أحد الممرات ومن هناك شاهدنا منظرا مدهشا للوادي من تحتنا. كانت الكروم والأراضي المدرجة تمتد ثلاثة أو أربعة أميال من (شيرازي) والى الأسفل من ذلك ، كانت ثمة أراض مزروعة تظهر هنا وهناك على مد البصر. كما كانت هناك سلسلة من برك الماء الفسيحة وكانت البركة الواحدة الجميلة التي تجتمع وتتألف مع البركة الأخرى تشكل نقيضا تاما لخط الظلال الهادئ الذي تشكله الجدران الرائعة أو الصخور المعلقة على كلا الجانبين. استغرق وصولنا قاع هذا الممر وقتا ، حيث وصلنا في الساعة الثانية عشرة بعد أن غذذنا السير إليه. لم يكن هناك سبب يدفعني إلى الهبوط إلى أسفل ، وكان ينبغي لي أن أفكر بأن ما من مخلوق يتمتع بكامل قواه العقلية على استعداد لمحاولة القيام بهذا الهبوط ، إلا أن

٨٣

دليلنا العجوز الشيخ ، وبعد أن قطع نصف المسافة بلغ به الإعياء كل مبلغ ، وعلى الرغم من احتجاجنا كلنا ، اعتلى ظهر حماره وبهذا أكمل بقية المسافة. وقلت له : «صديقي سعد! لو أنك حاولت ذلك لدققت يقينا عنقك». فرد علي : «ربما يحدث ذلك ، لكن الله أكبر. إنني منهك».

كانت الدرجات المصنوعة من حجارة غير مهندمة والتي يبلغ عرض الواحدة منها ثلاثة أقدام قد اصطفت على امتداد الحافة المنحدرة ، بارزة من وجه جرف عمودي تقريبا. في هذه الأماكن التي يكون فيها عرض الصخور غير كاف ، فإنها باتت شديدة الانحدار. وإذا ما أخذنا هذا الأمر بنظر الاعتبار ، إضافة إلى العديد من الصعوبات الأخرى التي تم التغلب عليها بمثابرة ملائمة ، فإنه لا مناص من القول بأن العقل الذي استطاع أن يفكر في عمل كبير كهذا وينجزه لا بد وأن يكون ، في بلاد كالجزيرة العربية حيث الأشغال العامة الضخمة تكاد تكون غير معروفة تماما ، إنّ عقلا كهذا لا بد وأن يكون من نماط غير عادي. أصبحنا الآن نهبط داخل (وادي مويدن) الذي يمتد محتفظا باسمه من شيرازي وحتى (بركة الموز) وفي كل المناطق التي سرنا فيها ، لم يكن عرضه يتجاوز مائة خطوة. أما التلال فترتفع ارتفاعا عموديا يصل في بعض الأحيان إلى حوالي ٢٠٠٠ إلى ٣٠٠٠ قدم. وبهذا فهي تشبه جرفا عظيما وكانت لدينا فرصة طيبة لدراسة البنية الجيولوجية لهذه السلسلة. ويبدو أن جميعها كانت تتكون من :

١ ـ صخور كلسية شاهقة.

٢ ـ صخور رملية حمراء قديمة ذات عروق زجاجية.

٣ ـ طبقات من العروق الزجاجية والغرانيت.

وقد انشطرت كتل عظيمة من جوانب هذه السلسلة وسدت قصر الوادي مما اضطرنا إلى السير من حولها أو من فوقها. وثمة جدول ماء كبير يقطعها في الوسط ، كما انتشرت بعض القرى الصغيرة وبساتين النخيل ومساحات من أراض مزروعة هنا وهناك ، حتى وصلنا أخيرا في الساعة الخامسة إلى قرية بركة الموز الواقعة عند مدخل الممر حيث ينفتح بعد ذلك باتجاه السهل.

٨٤

وعند ما كنا نتناول طعامنا في المساء ، لم نستطع منع أنفسنا من أن يهنئ أحدنا الآخر لعودتنا من الرحلة ، التي جعلتنا بفضل توكيد العرب المستمر الذين أخبرناهم بها ، نصدق باستحالة تحقيقها إلا بعد بذل جهد جهيد وتحمل مخاطر شديدة. في البركة أو (بركة الموز) ثمة حصن يحتوي على قلعة فسيحة الأرجاء جميلة المظهر يملكها شيخ (السويق) وينتشر من حولها العديد من البساتين الكبيرة والمزارع الواسعة. والأشجار في هذه البقعة لا تعد ولا تحصى ، ومن هنا جاءت التسمية. وثمة نهر كبير يدعى (الفلج) يزود المنطقة بالمياه ، وتتمتع البركة ، بسبب موقعها بجو بارد جميل تهب نسماته من الجبل الأخضر وتشتهر بكونها ذات مناخ صحي جدا.

الأول من يناير / كانون الثاني : بعد أن كافأت الشيخ بالهدية الموعودة ، التي فرح بها أشد الفرح ، حصلنا على عدد جيد من الحمير وانطلقنا إلى (نزوى). وبعد مغادرتنا المكان بوقت قصير ، استقبلنا شيخ المنطقة بحرس من خمسين رجلا يعتلون صهوات الإبل. وعلى الرغم من أن الشيخ كان يبدو متعاليا في سلوكه مع أتباعه وأشد تباهيا من الزعماء الآخرين في ردائه عند ما يكون في المدينة ، إلّا أنه هنا ، وبالمقابل ، يشترك مع أتباعه في لبسه ، إذ لا يرتدي أكثر من قطعة قماش ملفوفة حول وسطه ويضع عمامة فوق رأسه. ولما سألته عن سبب ذلك أجاب بأن المرء إذا ما ارتدى ثيابا تجعله يبرز بين بقية الأفراد ، فإنه سرعان ما يميزه رماة البدو من بين رفاقه باعتباره القائد أو الزعيم ، وسيكون على الأرجح أول الذين يلقون مصرعهم. كان هذا الكلام مسليا. إلا إنني اضطررت إلى أن أعزو ذلك إلى سبب آخر. فالأشخاص الذين يعيشون في المدن والواحات المنتشرة انتشارا واسعا في الصحراء ، لا يفقدون ـ بسبب رحلاتهم المتكررة من مكان إلى آخر ـ إلا قدرا قليلا من ارتباط البدوي الحقيقي بالعيش في الصحراء أو التنقل في أرجائها ، بل وتبدو عليهم مظاهر الفرح الشديد عند ما تضطرهم مناسبة أو حادثة للقيام بذلك. وكما لاحظت في مثل هذه المناسبات ، فإن أفعالهم تتجه كلها إلى التشبه ـ إلى أبعد حد ممكن ـ بالبدو في الملبس والسلوك. إن التبدل من حيث المظهر بدءا برزانة البدوي المقيم وحسن تصرفه لينتهي بالضحك والمرح والنزوات الجامحة عند البدو المتنقّل ، إنما يبعث على السرور كثيرا.

٨٥

بعد أن شاهدت جماعتنا وقد امتطى أفرادها الحمير ، لم أستطع منع نفسي من الاستفسار من الشيخ عن السبب الذي يحول بينه وبين تطبيق إجراءات فعالة ضد جماعات اللصوص الذين يكثرون في المنطقة. قال ابن عريش : Arish «إن جمالنا ، كما ترى ، حيوانات لطيفة جدا ، ولا املك سببا يجعلني أرتاب في شجاعة رجالي. لكن اللصوص يقتربون جماعات جماعات تتألف كل واحدة منها من ثلاثين أو أربعين شخص ، ويأتون بالعديد من الجمال التي توضع فوقها السلع المسروقة قبل أن تكون هناك فرصة لإعداد قوة لمقاومتهم ، ومن ثم يهربون إلى الصحراء. ولما كنا لا نعرف الأماكن التي يرتادونها ، فإننا لا نستطيع اللحاق بهم. علاوة على ذلك ، كلما حاولنا مطاردتهم ، وجدنا أن ابلنا لا تستطيع مجاراتهم في العدو. ولو كان لدي مجموعة من ثلاثين جوادا ، فإنني سأحارب ستة أشهر ليتمان المرور الآمن للذهب خلال أي جزء من أجزاء الأراضي المجاورة».

خلال رحلتي في هذه البلاد ، بغرض التعرف على سلوك البدو وحياتهم الداخلية ، فقد اختلطت بكثرة معهم ، وطالما نمت وعشت في أكواخهم وخيامهم. وفي جميع المناسبات ، استقبلوني استقبالا وديا ، وأحسنوا ضيافتي في جميع الأحوال بما هو فوق طاقتهم. وقد أثبتت صفتي كطبيب فائدة كبيرة لي على الرغم من أنني لا بد من أن أعترف بأنني كنت كثيرا ما أتعرض للإحراج في حالات لا تستوجب ذلك أو لا طائل من ورائها. وللعرب أفكار فريدة تخص الدواء ـ الدواء بالمعنى العام الشامل ـ طالما أنهم لا ينظرون إلى أي نتائج محدودة من استخدام دواء ما ، بل يلتهمون بشراهة كل ما يعطى لهم من أدوية. ففي صباح يوم من الأيام رميت خارج الباب بعض الحافظات المتضررة التي تحتوي على حبوب الحديد والراوند. لكن العرب الذين شاهدوني وأنا أتناول هذه الحبوب من داخل الصندوق الذي أحمله دوما معي لأرميها خارجا ، كانت لديهم فكرة أخرى ؛ وبعد أن تدافعوا إلى المكان وانضمت إليهم بعض الفتيات ، جمعوا الحبوب وشرعوا بالتهامها. لقد كان لدي دوما مرضى من غير البشر كالجياد والإبل والحمير وفي بعض الأحيان القطط. إن من الأخطاء التي كان يرتكبها الأوربيون هي عدم القيام بمهمة التطبيب للحيوانات ، لأن العربي لن يفهم السبب الذي يجعلك تقدم العلاج لعبد من العبيد يمكن تعويض خسارته

٨٦

بمبلغ لا يتجاوز الثلاثين أو الأربعين دولارا ـ بينما لا تفعل ذات الشيء بالنسبة للحيوانات التي هي أكثر قيمة وأهمية إنه لأمر مقبول ويتماشى مع الأفكار الأوروبية أن نتحدث عن رفعة الإنسان على الحيوان ، إلّا أن الرجل الآسيوي لن يفهم السبب الذي يدفعك إلى عدم علاج الحيوان. برهنت ممارستي للتطبيب أن مجاله واسع جدا ، فإذا لم نكن في سفر ، فإن الجزء الأول من النهار مخصص لعلاج. كنت دوما أحمل معي كميات كبيرة جدا من الحبوب المصنوعة من العنبر المخطوط بالأفيون واكتشفت ـ استنادا إلى خاصية العنبر التي يفترض أنها موجودة ـ بأنني لا أستطيع أن أقدم للعربي هدية أفضل منها. ومع اقتراب وقت الظهيرة ، خرجت للسير بمفردي مصطحبا معي بندقيتي بعد أن دونت ملاحظاتي ، ثم رافقني بعد ذلك حشد من الصبيان الذين كانوا يجمعون الأزهار والأعشاب الصحراوية. ولكي أتجنب شكوكهم ، عزوت بعض الخصائص الطبية للمواد التي كانوا يحملونها ، وهنا لم يندهش العرب البتة لعنايتي المفرطة بهم.

كل الشرقيين ينهضون مبكرا. فالعرب يأوون إلى مضاجعهم في الساعة العاشرة تقريبا وينتهي نومهم الأول بعد منتصف الليل بوقت قصير. الطبقات الفقيرة ترقد فوق حصران مفروشة على الأرض. أما الذين يعيشون في ظروف أفضل ، فينامون فوق هيكل سريري فظ بأربعة أرجل تقطعه الحبال. وعلى الرغم من أنني عرفت بدويا في إحدى رحلاتي عبر الصحراء يسافر ثلاثة أيام والعديد من الليالي دون أن يغمض له جفن باستثناء غفواته وهو على ظهر جمله ، إلا أن مثل هذا البدوي ينام القسط الأعظم من النهار في المدينة أو المخيم دون أن يجد في ذلك عقبة تحول دون نومه في الليل ويعبر عن دهشته لأنني لا أحذو حذوه. وحالما يبزغ الفجر ، يبدأ العربي بأداء شعائر الصلاة قائلا : «لا اله إلا الله ، محمد رسول الله» ، ومن ثم يبدأ بإيقاظ أولئك النائمين من حوله (إذ أنهم ينامون على شكل جماعات في الصحراء وعلى ظهر السفينة) ويدعوهم إلى الانضمام إليه في صلاته التي يبدأها عادة بتلاوة آيات من القرآن الكريم مشيرا إلى أن الصلاة خير من النوم. ويتناولون أول وجبة طعام ويسمونهاel moza (المزّه؟) بعد ذلك مباشرة. وإذا كان الشيخ حاضرا ، فإن طعام الفطور يتكون من القهوة والرز والسمك والخضروات. أما الطبقات الأكثر فقرا فتكتفي بالتمر

٨٧

والخبز اليابس. وتتناول الطبقة الأولى من السكان وجبة أخرى في منتصف النهار ، تتكون من لحم مطبوخ بعدة أشكال وفواكه. إلا أن الوجبة الرئيسية عند كل الطبقات هي تلك التي يتناولها السكان وقت غروب الشمس. كان عشاؤنا يتكون من حمل أو خروف مسلوق بكامله ومحشو بالرز والبهارات. وتمتلئ الأطباق بعظام لحم الضأن والمرق والكاري. وليس ثمة حاجة للكراسي أو المناضد هنا ، بل يؤتى بجميع المأكولات وتوضع فوق حصران دائرية الشكل فوق الأرض مباشرة. ويتخذ الناس مجلسهم من حول هذه الحصران دون أن يعيروا اهتماما لأي قاعدة من قواعد الأفضلية. كل ما هنالك أن أحدهم يطلب إليه البدء بتناول الطعام ، ومن ثم يقول «بسم الله» فيرددها الجميع من بعده وعندئذ تمتد عشرات الأيدي في الأطباق. ولا تقدم المشروبات في أثناء تناول الطعام لكن جرعة واحدة من الماء تعقب الانتهاء منه ، ومن ثم يقول الجميع «الحمد لله» وينهض الضيوف في حين يترك بقية الطعام للعبيد والخدم.

يقدم سلوك البدوي بعض التناقضات الفريدة. فهو شخص كسول على الرغم من قدرته على القيام بأعمال تتطلب جهدا شاقا. وهو يبقى ضمن نطاق مخيمه أسابيع عديدة ، يأكل ويشرب القهوة ويدخن النرجيلة ومن ثم يمتطي صهوة بعيره وينطلق صوب الصحراء في رحلة يقطع خلالها مائتين أو ثلاثمائة ميل. ومهما عانى من الحرمان أو التعب ، فإنه لا ينطق بكلمة تذمر واحدة. وإزاء هذه العادات الكسولة في أوقات أخرى ، يمكننا ملاحظة أن القرآن الكريم يحرّم كل أنواع ألعاب الحظ ، وان تصرفاتهم البسيطة والفظة تحررهم تماما من مباهج الحياة الأكثر تمدنا (١). وفي خلال وصفي لإقامتي مع بدو بني بو علي ، قدمت وصفا لرقصة الحرب التي يؤدونها ، وهي رقصة رشيقة وجميلة. أما بقية أنواع التسلية لديهم فهي تافهة وتختلف كل الاختلاف عن تصرفاتهم الرزينة. وأحد هذه الأنماط من التسلية يتمثل في لعبة الرجل الأعمى التي يلعبها الأولاد في إنكلترا. وثمة لعبة أخرى تتمثل في إخفاء

__________________

(*) هذا الوصف غير الدقيق لشخصية البدوي رغم احتكاك المؤلف المباشر بها وإقحام موضوع تحريم القرآن لألعاب القمار يدلّان على أن المؤلف ينطلق من أحكام مسبقة طابعها النظرة الاستعلائية والعداء الديني مما شكل حاجزا بينه وبين من عرفهم من البدو على عكس رحالة أو روبيين لا حقين مثل Bent وDoughty وThesiger كانوا أكثر قربا إلى فهم طبيعة سكان البادية.

٨٨

خاتم ، أو أي أداة زينة أخرى ، تحت واحد من الأكواب المقلوبة. ويكمن سر اللعبة في اكتشاف مكان وجود الخاتم. وهناك طلب كبير على رواة الحكايات المعترف بهم. وقد شعرت غالبا بدرجة عظيمة من المتعة وأنا أشهد أثر حكاياتهم في الناس الذين يصفون إليها. وهم لا يقدمون بأي فعل ، وقلما يبدو عليهم الحماس أو الكلام بصوت أعلى مما يجب ، لكن اختيار مجموعة المفردات التي تنساب بلا أي جهد ، بل بقوة وطلاقة وتفرد وبقوة ذاكرة لا يبدو عليها الوهن ، يحدث من الآثار ما يجعل أعظم خطيب فخورا بذلك. فكل المشاعر التي يرغب في ظهورها تبرز في مثل هذه المناسبات.

وفي حالة غياب وسائل التسلية الأرقى من هذه ، وبغياب الأدب والفنون ، وبسبب حرمانهم من حكومتهم وطبيعة بلادهم من أي فرصة تؤدي إلى التطور العقلي ، فإنه مما لا يدعو إلى الدهشة أن نفس أنماط الخرافات والسذاجة ـ التي كانت سائدة قبل قرون قليلة في أوروبا ـ لا تزال باقية في الجزيرة العربية. ويعتقد الكثيرون بوجود قوة للسحرة وأن السحر يتمثل في تحويل البشر إلى ما عز. وثمة زعم يفيد بأن هناك علامات تشير إلى وجود مثل هذه الأشياء التسعة. وإذا ما أراد البدوي أن يقدم على شراء شاة ، فإنه يتحرى تلك العلامات بجد ورزانة. ومع هذا لم أستطع إقناعهم رغم إلحاحي بأن يكشفوا لي عن طبيعة تلك العلامات. وهناك قصص أخرى رويت لي ذات طبيعة مشابهة ، ولكن بما أنها لم تكن مثيرة للاهتمام فإنني أمسك عن الحديث عنها. وتعزى قوة طلسمية إلى بعض الكلمات لهذا يضع هؤلاء العمائم والتعاويذ كغيرهم من المسلمين لكن استخدامها ليس شائعا وسط عرب المدن.

٨٩
٩٠

الفصل الحادي عشر

بركة الموز ـ سمائل ـ السيب

من خلال ما شاهدته حتى الآن من البلاد ، وما خلصت إليه من العديد من العرب والشيوخ الذين قطعوا الطريق مرات عديدة ، لم أجد سببا يدفعني إلى القيام بأي شيء سوى التقدم صوب (الدرعية) عاصمة الوهابيين بعد أن فرغت من تقصي الجزء الشمالي من عمان. لهذا السبب رتبت بأن يواصل الملازم (وايتلوك) طريقة إلى (مسقط) للحصول على الأموال اللازمة لرحلتنا إضافة إلى البحث عن شخص له نفوذ واسع يرافقنا وهذا هو السبب الذي دفع به إلى السفر في وقت مبكر من صباح اليوم الثالث من يناير / كانون الثاني ، بينما قمت أنا بإشغال نفسي بملء الخريطة الخاصة بطريقي من (صور). ومن هذا التاريخ وحتى الثاني عشر من نفس الشهر كنت منهمكا كل الانهماك بالخريطة وبالقيام برحلات قصيرة إلى المناطق المجاورة. وفي أثناء عودتي من إحدى هذه الرحلات في صباح الثامن من يناير / كانون الثاني ، وجدت أخبارا غير متوقعة في انتظاري.

فعند ما قدمت طلبا للحكومة للحصول على إجازة والقيام برحلتي الحالية ، طلبت إعلام الوكيل البريطاني في مسقط (روبن بن أصلان) ، وهو شخصي يهودي ، بأن يدفع لي مبلغا من المال حيثما وجدت ذلك ضروريا ولكن بسبب خطأ ما ، ناجم عن ضغط في الأعمال عند مرور رسالتي بالقنصل ، لم يتم أي رد بخصوص تلك الفقرة بالذات. لكن لدى الإشارة إلى مكتب الوزير ، ساد الاعتقاد ـ عند ما زودت بشهادة توضح أنني أقوم برحلتي بموجب تعليمات من الحكومة البريطانية وتطالب بتسهيل مهمتي وتقديم كل مساعدة ممكنة لي من أولئك الذين يرغبون في الاحتفاظ بصداقتهم معها ـ بأنها ليست ذات أهمية كبيرة ، وأنني عند ما كنت في مسقط حصلت على مبلغ كبير من المال. لهذا السبب ، فإن دهشتي كانت عظيمة لما علمت من (وايتلوك) في هذا الصباح أن الوكيل رفض دفع قوائم حساباتي إلا إذا حصل مسبقا على موافقة نائب القائد (جي. بي. آينز) المسؤول عن السفينة (بالينوروس)

٩١

الراسية آنذاك في الميناء والتي صدرت إليه التعليمات ـ وكنت أظن أنه في بومباي ـ بأن يقدم كل مساعدة ممكنة ، لكنه ، لدوافع لم أفهمها ، لم يوافق هذه المرة.

كما أن العديد من التجار في (مسقط) رفضوا تزويدي بالمال اللازم ، وكان يحثهم على ذلك الوكيل نفسه. وفي خضم هذه المعضلة غير المرضية وغير المتوقعة ، لم يكن في وسعي أن أعرف كيف أواصل الرحلة لو لم أستلم رسالة من الإمام يوضح فيها إنه علم بما آلت إليه أموري فأصدر أوامره بأن تكون مصروفات إقامتي من خزانته الخاصة. إن المعارضة التي صادفتها في أماكن غير متوقعة نهائيا (وقد نشرت خارج البلاد على الفور) لم تخلق الشكوك إزاء نزاهة آرائي فحسب ، بل أيضا أثارت الأسئلة حول ما إذا كنت الشخص المؤتمن حقا الذي حاولت أن أظهر به. لهذا السبب ، كانت مشاعر الامتنان غير اعتيادية عند ما وجدت نفسي وقد تخلصت من النتائج المحتملة لهذه الظنون بكرم من الأمير. وعلى أي حال ، فإن التأخير الذي تسببت فيه هذه الحادثة أدى إلى نتائج أكثر خطورة وعرقلت عرقلة تامة أهداف رحلتي مؤقتا.

مرت بضعة أيام قبل أن تصل رسائلي إلى الملازم (وايتلوك). وفي أثناء هذه الفترة حذرني الشيخ مرارا بأنني أعرض صحتي للخطر ببقائي فترة طويلة في نزوى. إن الغرباء القادمين من أي منطقة من عمان قلما يمكثون ثلاثة أيام أو أربعة إلا وتهاجمهم حميات خطيرة. إلا أنني كنت واثقا من صحتي العامة التي كانت بحالة ممتازة فلم أعر نصائحهم إلا القليل من الأهمية.

في اليوم العاشر ، أصيب جميع خدمي بالمرض وفي اليوم الثالث عشر أصبت بالمرض بدوري. كانت الحمى قاسية جدا وفريدة ، وكانت النوبة تحدث مرتين في اليوم ولا تترك المريض في بعض الأحيان يومين اثنين. لقد هاجمتني الحمى ونجم عن ذلك هذيان لثمان وأربعين ساعة بعد ظهورها أول مرة. لم يكن أحد يشرف علي فبت وحيدا كئيبا وحتى اليوم الثامن عشر ، كنت لا أدري ما يدور من حولي. وأظن أن بعض العرب الذين أرسلهم الشيخ اهتموا بي بعض الوقت. وصلت الحمى في الليلة السابقة أقصى درجاتها ، ثم بدأ يطرأ تغير نحو الأحسن. وسرعان ما بدأ الدم البارد يسري في عروقي ثانية واستعدت ملكاتي ورويدا

٩٢

رويدا تحسنت أحوالي على الرغم من أنني كنت ضعيفا وواهنا جدا.

في اليوم العشرين ، انضم إليّ الملازم (وايتلوك) الذي لم يكن حظه بأسعد من حظنا. فقد كان يعاني بدوره من الحمى التي ألمت به في (مسقط) فتركته في منتهى الضعف حتى لم يعد يقوى على السير أو الوقوف على قدميه دون مساعدة. وكان قد جمع مبلغا ضروريا من المال وعقد اتفاقا مع أحد الشيوخ ، بحضور الإمام ، يقضي بتزويدنا ، لدى وصولنا إلى (البريمي) ، بمائة من أتباعه يصحبوننا إلى (الأحساء) ومن هناك إلى (الدرعية). ولكن في الوقت الراهن كان من الضروري التخلي عن كل خططنا. فمواصلة الرحلة ونحن بهذا الوضع الصحي مستحيل. كما أن البقاء في نزوى يعني القضاء على الفرصة الوحيدة في شفاء بقية المرضى الذين بدأت صحتهم تتدهور تدهورا سريعا. وهنا تخليت عن كل رؤياي العظيمة وعزمت ، رغم وخز الضمير القاسي ، على مواصلة التقدم والسفر على الفور إلى (السيب) الواقعة على ساحل البحر حيث كنت أظن أن الجميع سيستعيدون عافيتهم نظرا لظروفها الصحية الجيدة.

في الثاني والعشرين من يناير ، غادرنا (نزوى) بصحبة الشيخ وحوالي خمسين رجل من أتباعه في ظروف تختلف إلى حد ما عن الظروف التي صاحبتنا عند دخولنا أول مرة. فقد كنا في تلك المرة في تمام الصحة والعافية ، وكنا نبتهج بفكرة زيارة أماكن مجهولة. أما الآن ، وبعد أن هدّنا المرض وأنهك كاهلنا ، بات مظهر رفاقنا ووضعهم لا يدعو إلى الحسد. فقد أخذ أحد الخدم يسقط من على ظهر حماره باستمرار واضطر البدو في نهاية المطاف إلى وضعه فوق ظهر أحد الجمال.

بعد أربع ساعات وصلنا (بركة الموز) التي سبق أن لاحظت بأنها تتميز بمناخ حسن. وهنا وجدت استحالة مواصلة الرحلة بسبب حالة الجماعة ، لهذا نصبت الخيمة وقررت المكوث بضعة أيام. استمرت صحتي ومعنوياتي بالتحسن في بركة الموز ، إلا أن بقية الأفراد لم تتحسن صحتهم إلا قليلا. كان العرب لطيفين وزودونا بكل ما هو ضروري ، وفي السادس والعشرين من يناير / كانون الثاني ، قمنا بتقويض الخيمة واستأنفنا رحلتنا بعد أن ساد الاعتقاد بأن الجماعة باتت في وضع قوي يكفي لمواصلة السير.

٩٣

بعد أن غادرنا بركة الموز في الساعة الحادية عشرة صباحا ، واصلنا سيرنا مدة أربعين دقيقة وسط بستان من النخيل وفوق أرض مزروعة بعدها دخلنا في واد صخري ضحل انتشرت على سطحه هنا وهناك بعض نباتات السّنط. وفي الساعة الواحدة والنصف مررنا بقرية (أزكي) ، ذات النخيل الوفير ، والموقع الخلاب ، إذ كانت تستقر في تجويف تحت بعض التلال التي انتشرت فيها مدن أخرى. وفي الساعة الثانية مررنا بقرية صغيرة تدعى (Karrut) وفي الساعة الثالثة من بعد الظهر وصلنا بلدة (إمطي) حيث توقفنا لقضاء الليل.

الأربعاء ، السابع والعشرون : في الساعة الحادية عشرة صباحا غادرنا بلدة (إمطي) التي تضم حوالي ثلاثمائة منزل. وكانت على مقربة من هذه البلدة قرية مساوية لها من حيث الحجم تدعى (تهامة). ومن هذه المنطقة بدأ طريقنا على امتداد أحد الوديان الصخرية يدعى وادي (رويحة) تحف به التلال على ارتفاع خمسمائة قدم من كلا الجانبين ثم مررنا ببعض القرى الأخرى وبساتين النخيل وكنا نشاهد المياه والمزروعات الكثيفة طيلة النهار. كما شاهدنا العديد من القوافل المؤلفة من ثلاثين إلى أربعين ناقة وهي تمر بنا محملة بالأسماك الطازجة ، وبخاصة القرش ، في طريقها إلى المدن الداخلية. لقد كان اقتراب رتل طويل من الإبل وهي تمشي الهوينا في هذه الوديان الوعرة والضيقة من أكثر المشاهد جمالا وتأثيرا. وقبل أن نبزغ من وراء أحد رؤوس التلال ، كنا نسمع أولا حادي العيس وهو يكسر طوق الجو الشديد الحرارة فيغني بعض الأغاني التراثية بصوت عال. كان لكل ناقة راكبها الخاص بها. ولما بات منظر القافلة كلها مكشوفا ، كانت البنادق والسيوف تدل على انعدام الأمن في مجمل البلاد ، في حين أن أغطية الإبل المزركشة وألوانها الفاتحة والخيوط الصوفية الطويلة المتدلية من السروج المتعددة الألوان والتي تكاد تلامس الأرض ، تبرز بروزا واضحا من بين الصخور الدكناء الكئيبة المنتشرة من حولها. كان النسيم عليلا والسماء تعطيها السحب السوداء طيلة النهار. في الساعة الرابعة توقفنا في قرية (بيا)(Byah).

الخميس ، الثامن والعشرون : أحدث أصحاب الإبل هذا الصباح جلبة شديدة. وبسبب نزوة من نزواتهم ، أنزلوا كل الحاجيات من فوق ظهور الإبل بعد أن كانوا قد حملوها توا ورفضوا مواصلة الرحلة وفي الساعة الحادية عشرة صباحا كانوا يوشكون على العودة إلى (نزوى)

٩٤

وتركنا نتدبر أنفسنا بأنفسنا. وفي هذه اللحظة بالذات وصل شيخ عجوز أرسله شيخ (نزوى) على افتراض أن مثل هذا الأمر قد يحدث. وسرعان ما أعاد النظام إليهم وفي الساعة الثانية عشرة غادرنا القرية. كانت البلاد التي نقطعها تمتد بمحاذاة واد وهي تشبه المناطق التي أتيت على وصفها يوم أمس. كانت القرى والمياه العذبة وفيرة. وتظهر هذه كلها على الخارطة ، ولن يفيد أي هدف مجرد وضع أسمائها لأنها لا تتميز بأي ميزة خارقة. كانت التلال الممتدة على الجانبين مكونة من صخور متبلورة ومتساوية في الارتفاع تقريبا. وكانت تبدو من حيث الشكل ذات مظهر هرمي ووعرة ودكناء وفيها عروق ذات لون رصاصي فاتح. ومع هذا فثمة تغير كبير في مظهر التربة. ففي حين أخذنا نقترب من الساحل ، كانت تبدو رملية أكثر وذات لون فاتح. وبدلا من أن نجد البساتين في السهول المنبسطة وفي داخل الواحات ، بدأنا نشاهدها هنا في الوديان الضيقة وبدلا من الأفلاج ، شاهدنا غدران الماء كلها المؤدية إلى البساتين فوق سطح الأرض. الفواكه والحبوب أخذت تشح أكثر فأكثر ولم يعد ما يمكن رؤيته سوى أشجار النخيل. في الساعة الخامسة توقفنا في الطرف الجنوبي الشرقي من بلدة (سمائل) التي تعد محطة في منتصف الطريق بين (مسقط) و (نزوى). واتخذنا أحد الأكواخ الصغيرة جدا والنظيفة في آن واحد مأوى لنا. كان ثمة غدير من ماء عذب يترقرق من أمام الباب. وبسبب الإنهاك والوهن من مشاق رحلتنا في ذلك اليوم ، ولكي أستمتع بعذوبة نسيم الماء العليل ، فرشت سجادتي تحت إحدى الأشجار. وفي هذه الأثناء مر أحد الأعراب وتوقف أمامي وهو يحدق بي ، فبان عليه التأثر لحالة الحزن البادية على ملامحي وسلم علي وأشار إلى غدير الماء النقي الذي كان ينساب قرب قدميّ وقال : «أنظر أيها الصديق : الماء الجاري يفرح النفس» ثم انحنى قليلا وتركني بعد أن وضع كلتا يديه فوق صدره ، وهي التحية الصامتة التي يتبعها أهل الشرق. كنت في وضع يمكنني من أن أخمن مقدار العاطفة. وقد كشف سلوك ابن الصحراء الكثير من مشاعر العطف حتى أنني لا أرجع إلى الحادثة على الرغم من تفاهتها دون أن تستبد بي العاطفة. حظينا بالكثير من الاهتمام والمجاملات من لدن شيخ البلدة. وعبر عن بالغ قلقه لرؤيته وضعنا الصحي وتوقع بثقة عالية أن نسترد عافيتنا تماما في السيب. الأكثر من هذا ، أنه عرض علينا السماح الاثنين من عبيده بمرافقتنا حتى الساحل ،

٩٥

وهذا ينم عن تحرر شديد لأن القليل من المسلمين يرغبون في إعطاء عبيدهم للنصارى.

الجمعة ، التاسع والعشرون : في الساعة العاشرة والدقيقة الخمسين تركنا محطتنا المريحة ولم نصل الطرف الآخر من (سمائل) حتى الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخمسين. وعلى امتداد المسافة كلها ، كانت المياه وفيرة. وفي المرتفعات القائمة على كلا جانبي الوادي ، الذي يبلغ عرضه قرابة ربع ميل ، شيدت الأبراج للمراقبة على مسافات متباينة وكان منظرها وهي متربعة فوق قمة صخرية وعرة خلابا. وعند نهاية بستان (سمائل) ، وجدنا بستانا آخر مساويا له في الكثافة يقطعه على نحو عرضي ووراء البستان ، وباستثناء قرية صغيرة ، يغدو الوادي صحراء قاحلة حتى وصلنا في الساعة الخامسة والدقيقة العشرين إلى (Furza) حيث يوجد حصن صغير مشيد فوق أحد التلال الغريبة ومن حوله العديد من البيوت الجميلة. تعذبنا كثيرا بسبب حالتنا الضعيفة الراهنة من حرارة الجو التي كانت في بعض الأحيان لا تطاق في هذه الوديان الضيقة. وفي مثل هذه الحالات ، غالبا ما كنت أعبر عن إعجابي بصبر البدو الذين كانوا يسيرون طيلة النهار إلى جوار إبلهم لا ينتعلون سوى صندل رث لا يقيهم حرارة الرمال الشديدة ورؤوسهم عارية معرضة لأشعة الشمس الحارقة ، ولا تند عنهم كلمة واحدة تنم عن التذمر أو نفاد الصبر ، وفي المساء يكتفون بعشاء مؤلف من التمر والماء. وإذا ما هاجمهم المرض أو الألم ، تراهم يظهرون نفس روح الصلابة والثبات الموروثة فيهم. وفي هذه المرة كان يصحبنا رجل عجوز يعاني من ألم باطني مما دفعه مرات عديدة إلى الترجل من على صهوة ناقته ليتلوى على نحو مؤلم جدا فوق الرمال. ومع هذا ، فما أن تنتهي النوبة حتى تجده راضيا لا ينطق بكلمة واحدة تنم عن سخطه. ويعوّد هؤلاء البدو أولادهم من مرحلة مبكرة على كبت كل شكل من أشكال العواطف ومهما كانت شدة مصيبتهم ، فإن كل ما يقولونه هو : «الله أكبر».

السبت ، الثلاثون : في الساعة العاشرة والنصف واصلنا رحلتنا مرة أخرى ، وكان سطح الأرض أجرد ، مجدبا كما كان حاله يوم أمس وفي الساعة الثانية عشرة والنصف ، وصلنا وادي (خور) ، الذي كان يجري فيه جدول ماء كبير جدا ويصب في البحر ؛ كان جدول الماء جميلا ورقراقا ، ويبلغ عرضه في بعض الأحيان عشرين قدما ، مع برك ماء غير منتظمة يبلغ

٩٦

عمقها ستة إلى ثمانية أقدام في حين تمتد بساتين النخيل على كلا الجانبين. بعد ذلك ارتقينا أرضا مرتفعة وشاهدنا البحر. وبعد أن واصلنا رحلتنا فوق السهل البحري وصلنا في تمام الساعة الثالثة والدقيقة الخمسين مدينة (السيب) حيث أقمنا في حصن دائري صغير قرب ساحل البحر. لم تكن هناك أي مبالغة في جو مدينة السيب ، إذ بعد أن استرحنا من عناء الرحلة ، استرد جميع أفرادنا عافيتهم على جناح السرعة. ولكي نضمن عدم انتكاسة صحتنا ، وهو أمر يخشى منه في مثل هذه النوبات أكثر من المرض نفسه ، فقد قررت البقاء حتى اليوم العشرين. ولما وجدت بعد ذلك أننا بتنا كلنا في صحة جيدة ، كتبت رسالة إلى الإمام في (مسقط) طالبا منه تزويدنا بأحد المرشدين ليدلّني على البريمي ، نقطة الوهابيين الحدودية. وعلى الرغم من أن موسم القوافل قد مرّ أغلبه ، فإنه لم يكن لدي سوى سبب بسيط لأن أرتاب في قدرتي على الوصول مع قافلة صغيرة إلى الدرعية. لهذا السبب ، كانت خيبة أملي شديدة عند ما عرفت من جواب سعادته بأن الوهابيين قد قاموا قبل بضعة أيام بغارة مفاجئة على الأجزاء الشمالية من عمان وأنهم استولوا على العديد من المدن قرب (صحار) ونهبوها وأحرقوها ، وأن سكان مدينة (عبري) ، الواقعة على الطريق المؤدية إلى (البريمي) ، اندلعت المعارك بينهم وبين جيرانهم ، وان سعادته يفضل ألا استأنف رحلتي في ظل الأوضاع الحالية غير المستقرة. لم أفكر البتة بأنني أستطيع أن أكمل المهمة التي كلفت بالقيام بها دون مخاطرة. وهذه فرصة تتضمن دراسة وتقصي نصف الإقليم تقريبا ، وبدا هذا مبررا للاستمرار في رحلتي حتى نهايتها. كما أنني لم أشعر باليأس من قدرتي في الوصول إلى (الدرعية) إذا ما تمكنت من الوصول إلى (البريمي). لهذا السبب ، نقلت تمنياتي إلى الإمام وعبرت له عن شكري لمودته. ولسعادتي البالغة في صباح اليوم الرابع والعشرين أنني وجدت قرب خيمتي رجلا محترما جدا معروفا في جميع أرجاء البلاد على أهبة الاستعداد لمرافقتنا.

كانت البيوت في مدينة (السيب) متباعدة عن بعضها ومشيدة على شكل مجموعات من بيتين أو ثلاثة بيوت وسط أشجار النخيل. ويمكن الحصول منها على اللحوم الطازجة والفواكه والخضروات. أما السوق فكانت عامرة بالبضاعة قياسا إلى عدد السكان القليل. وعند سماع الإمام بنبأ وصولنا صدرت الأوامر حالا إلى الشيخ ليزودنا بكل ما نريد ، وقد

٩٧

امتثل الأخير كل الامتثال لتلك الأوامر. ومن وقت لآخر وصلتنا من الأمير نفسه بعض الهدايا الصغيرة المكونة من الفواكه المستوردة من بلاد فارس والمعلبات وغيرها من المواد التي فكروا أنها قد تكون ضرورية لنا في وضعنا الصحي الضعيف. وليس لدي أدنى شك في أن تماثلنا السريع للشفاء إنما كان يعود بالدرجة الأساس إلى الاهتمام الشديد الذي لقيناه.

هنا أود أن أعزو إلى نفسي صفة الأنانية بدلا من أن أغفل ذكر الحكاية التالية لأنها تدل على المشاعر الكريمة التي عزوتها في أماكن أخرى لهذا الأمير العظيم. لقد لوحظ سابقا خلال إقامتي في (مسقط) أن رجلا فرنسيا يحتضر في مركب قريب من المركب الذي كنت فيه. ومع هذا ، فإنني رغبة مني في ألا تفوتني فرصة احتمال شفائه من خلال تغيير المناخ ، قمت باستئجار قارب ونقله إلى (السيب) ، البلدة التي تتمتع بمناخ صحي أفضل من (مسقط) ومنحت الأشخاص الذين اشرفوا على عنايته بضع دولارات لسد تكاليف نفقاته في حالة بقائه حيا أو دفنه في حال وفاته. ولما ذكرت هذه الحالة للأمير ، ضرب عصاه المنحنية بقوة على الأرض وقال بعنفوان شديد : (إنه رجل).

عند ما نفكر بأن عادة تقديم الهدايا ، الشائعة عموما في بلاد الشرق ، مبعثها في معظم الحالات دوافع ظاهرية وليست سخية وان سموه لم يكن يجهل العداء القومي بين فرنسا وإنكلترا ، فإن الأمر يتطلب (في آسيا في الأقل) تلك المشاعر المجاملة ، وهي من صفاته البارزة التي ساعدته في تقدير الدوافع التي لا بد ـ استنادا إلى حكمه ـ أن يكون قد تأصل فيها ذلك الفعل الإنساني الذي ألمحت إليه باختصار وهنا في أوروبا لا يعرف إلا القليل عن هذا الأمير المتنور. وكانت هديته الأخيرة المناسبة لبحارنا ملك سفينة الحرب الكبيرة المزودة بكل شيء ، ورغبته في إقامة تحالف أوثق مع بريطانيا العظمى قد جعلاه يبرز سياسيا في حين أن تشجيعه السخي للعلوم والفنون قد جذب أنظار المجتمع المثقف الواسع التأثير الذي منحه مؤخرا شرف العضوية فيه.

إن هذه الأحداث تافهة ولا بد من توضيح سبب ذكرها. الحق ، إنني إذا أردت أن أدرج كل عمل من أعمال الود والإحسان الذي لقيناه من الأمير خلال إقامتنا في عمان ، فإن هناك

٩٨

صفحات قليلة من هذا الكتاب يندر أن تذكرها. إن القول بأن أفعاله قد قوبلت بمشاعر مختلفة وأكثر سموا من تلك المشاعر التي عادة ما ننظر بها إلى حسنات العظام ، إنما يعبر تعبيرا ضعيفا عن رأيي به وذكرياتي عنه. إلا أن هذه الأفعال إذا ما أيقظت مثل هذه المشاعر فإنها قد تنقل فكرة إلى الآخرين عن المزاج والروح اللذين تصدر عنهما.

٩٩
١٠٠