رحلات في الجزيرة العربية

جي. آر. ويستلد

رحلات في الجزيرة العربية

المؤلف:

جي. آر. ويستلد


المترجم: د. محمّد درويش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجمع الثقافي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٠

١
٢

٣
٤

تقديم

د. أحمد عبد الرحمن السقاف

يندرج هذا الكتاب ضمن سلسلة الرحلات الغربية الإستكشافية التي حاولت التوغل داخل شبه الجزيرة العربية والتعريف بما يعتبر بالنسبة للغرب آنذاك ، أي ثلاثينيات القرن التاسع عشر الميلادي ، أصقاعا مجهولة من بلاد العرب. وكان من أهم تلك البقاع المجهولة صحراء الربع الخالي والأجزاء الداخلية من حضر موت وعمان وأنحاء من نجد والأفلاج.

أما مؤلف الكتاب الملازم أول ج. آر ويلستد (١٨٠٥ ـ ١٨٤٢ م) الشاب الإنجليزي الطموح فقد كان يأمل في أن يحالفه الحظ في اختراق جزيرة العرب المجهولة من خلال مخططين اثنين رسمهما لنفسه. الأول كان الإنطلاق من مسقط والتوجه داخل جزيرة العرب حتى (الدرعية) قاعدة نجد. والمخطط الثاني كان من خلال مرافقة جيش محمد علي في بلاد عسير عام ١٨٣٥ م ثم التوجه نحو بلاد حضر موت الداخلية وواديها الشهير والمحرّم دخوله على الأجانب في ذلك الوقت. وعلى الرغم من اخفاق المؤلف في تحقيق أي من مخططيه بالكامل : إذ أنه لم يتمكن في انطلاقته من مسقط نحو الدرعية من تجاوز ما هو أبعد من بلدة (عبري) ، كما لم ينجح في مسعاه الثاني بسبب تعثر حملة محمد علي في بلاد عسير. وعلى الرغم من كل ذلك إلا أن ما قدمه من وصف ومعلومات عن المناطق التي تجول بها داخل عمان وعلى السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة العربية وعلى امتداد الساحل الشرقي للبحر الأحمر تضمن الكثير من الإستكشافات الجديدة في عصره وبالتحديد فيما يخص مناطق عمان الداخلية وكذلك اكتشاف الكتابات الحميرية في منطقة نقب الهجر وميناء حصن الغراب في بلاد الواحدي الواقعة غربي حضر موت. وقد خصص المؤلف الجزء الأول من كتابه لتلك الاستكشافات الجديدة ويوميات رحلاته داخل عمان وتجواله في السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة العربية وقصة اكتشافه للكتابات الحميرية.

٥

أما الجزء الثاني من كتابه فقد تناول فيه وصفا تفصيليا لمسوحاته لسواحل البحر الأحمر بوجه عام وساحله الشرقي بوجه خاص بدءا من السويس والطور وخليج العقبة وانتهاء بباب المندب. ثم عرّج المؤلف في الفصول الأخيرة من كتابه على السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة العربية فوصف عدن وبلاد الفضلي وساحل شقرة وأحور ثم حصن الغراب والمكلا والشحر وقشن ومرباط وأورد بعض المعلومات المضطربة عن مدن واحدي حضر موت.

والكتاب في مجمله يحتوي على معلومات مسحية وجغرافية وآثارية مهمة وجديدة بالنسبة لعصر المؤلف وقد حاول المؤلف أن يعطي لقرّائه الإنطباع بأنه باحث متعمق في كل جوانب الدراسات المتعلقة ببلاد العرب والشرق عموما من خلال عدم اكتفائه بتناول الوصف الجغرافي والسكاني فحسب بل الخوض في مسائل العقائد والمذاهب والعادات والتقاليد والتاريخ والأنساب غير أن جهله بمرتكزاتها وخلفياتها قاده إلى ارتكاب أخطاء جسيمة وجعله عرضة لنقد عنيف من رفاقه ومعاصريه ولا حقيه. فقد كانت معرفته باللغة العربية ضعيفة كما كان حاد الطبع وشديد البخل في تعامله مع مرافقي رحلاته من المحليين. كما اتهّم بنسبة إسهامات رفاقه مثل وا يتلوك وهلتون وكرتندن إلى نفسه وغمط مشاركاتهم في انجاز بعض المسوحات والاستكشافات. وهذا لا يعني أنه لم يقدم شيئا يستحق الثناء لكنه رغم تهيؤ الظروف له بشكل استثنائي وحصوله على الدعم الكبير من سلطان عمان إلا أن ما أنجزه لا يجعله في مرتبة سابقيه مثل نيبور وبوركهات وسيتزن ، فقد جاء المؤلف إلى جزيرة العرب حاملا في رأسه صورة نمطية مترسخة في عقله ترسم العربي كبدوي يسكن الخيام ويجوب الصحراء على ظهر جمله ، بدائي في تفكيره وسلوكه وجاهل في عقيدته مقارنة بالغربي المتحضر والمستنير.

وعموما فالرحالة الغربي خلال تجواله في بلاد العرب قد ينجح في التنكر والتخفي من حيث الاسم واللبس والمظهر واللغة والديانة إلا أنه غالبا ما يفشل في فهم واستيعاب وتقبل الآخر وحضارته وعقديته ، ويصعب عليه النظر إلى ذلك الآخر دون اختزاله أو التقليل من شأنه.

٦

٧

٨

الفصل الأول

الوصول إلى مسقط

قورنت شبه الجزيرة العربية مقارنة مناسبة بطبقة إفريز محاطة بالذهب لأن البقاع الخصبة أو التي يمكن زراعتها تقع ضمن حدودها ، أما الأراضي الوسطى فهي أراض قاحلة ورملية. ودرست معظم حدودها السورية أو الشمالية. فقد وصف بركهاردت ، من خلال ملاحظاته الشخصية الأماكن القريبة من مكة والمدينة في الحجاز ، ووصف (نيبور) ، جزءا صغيرا من اليمن ، في حين ظل كل من إقليم حضر موت وإقليم عمان والجانب الغربي الذي يحد الخليج العربي مجهولا لم يكشف عنه شيء بعد (١).

وفي أثناء عملي قبل بضع سنوات في إجراء المسوحات على سواحل شبه الجزيرة العربية الجنوبية والغربية ، كان اهتمامي يتجه دوما إلى الحصول على معلومات عن الأقاليم المجاورة لها. إلا أن الفرصة لم تسنح لي آنذاك في التغلغل داخل البلاد ـ التي قدمت فرصة طيبة للنجاح ـ حتى بداية سنة ١٨٣٥ عند ما اضطر محمد علي بفعل مزاجه الذي لا يعرف السكينة ولا حدودا للطمع إلى إرسال قوة من مصر للاستيلاء على بلاد القهوة. وسرعان ما حظي اقتراحي بمرافقة جيشه إلى هذه النقطة ومن ثم محاولة الوصول إلى حضر موت بموافقة الحكومة الهندية. ولكن قبل وصول الموافقة إليّ وصلت أنباء تفيد أن جيش الباشا اضطر إلى دخول ممر ضيق في إقليم عسير وألحقت به هزيمة منكرة ، ولم تصل إلّا ثلة بائسة إلى ساحل البحر.

وبسبب من إحباطي في هذا الجزء ، وجهّت اهتمامي ، لدى عودتي إلى بومباي ، صوب عمان التي تحظى بسمعة ليست أقل إثارة للاهتمام من بقية الأقاليم ، إلا أن الذي كان يردعني

__________________

(*) يعتبر المؤلف وزميله وايتلوك F.WHITELOCK من أوائل الرحالة الأوروبيين الذين تمكنوا من التوغل داخل عمان في عامي ١٨٣٥ و ١٨٣٦ تلاهما عالم النبات الفرنسي ريمي او شرايلوي عام ١٨٣٨. أما بالنسبة لحضر موت فقد قام المؤلف وزميلان له هما كرتندن وهلتن باستكشاف ساحل حضر موت ولم يتوغلوا إلى الداخل حيث وادي حضر موت بمدنه الشهيرة مثل شبام وتريم وسيؤن.

٩

في هذا الشأن هو طبيعة مناخها المعروف بأنه غير صحي والطبيعة العدوانية المفترضة في سكانها وأن أي رحالة أوروبي لم يسبق له حتى اليوم دخولها وأن شعبها والبلاد التي يسكنها ظلوا مجهولين تماما بالنسبة لنا. وفي متابعة هذا الموضوع اضطررت إلى أن أتمنى أن تظل العلاقات السياسية بين حاكمها الليبرالي المتنور وحكومتنا ذات طبيعة لا تترك إلا قليلا من الشك في أنه سيوفر كل التسهيلات القادر عليها لهدف هذه البعثة. وبعد الحصول على الإذن الضروري لهذا الغرض ، قضيت بضعة أيام في الحصول على الرسائل (١) اللازمة والهدايا الضرورية. وفي التاسع من نوفمبر / تشرين الأول ١٨٣٥ اعتليت ظهر السفينة (Cyrene) قاصدا (مسقط) ذلك الميناء الذي وصلنا إليه بعد رحلة جميلة في الحادي والعشرين من الشهر نفسه. وبعد وصول السفينة ورسوها على الشاطى خرجت منها واتجهت ناحية الساحل وقمت بزيارة الإمام. ولكني لما وجدت ديوانه ممتلئا بالناس ، استأذنت في طلب رخصة لزيارته زيارة خاصة صباح اليوم التالي ، فأجيب طلبي على الفور.

الثاني والعشرون من نوفمبر / تشرين الثاني : لم أجد أحدا في صحبة سموه (٢) هذا الصباح سوى ابنه. وبعد تقديم الهدايا ، كانت بضع كلمات كافية لتوضيح أهداف رحلتي المقترحة. ولما كنت أدرك حرية (السيد سعيد) المميزة في الموافقة على هذه الأهداف ، فإنني دهشت أيضا كلّ الدهشة لما أبداه من رغبة في تعزيز آرائي وقال : «إن مناسبات كهذه هي التي تمنحني متعة حقيقية طالما أنها تساعدني ـ من خلال تلبيتي رغبات حكومتك ـ في أن أثبت شدة ولائي لها». ثم أضاف بلهجة تنم عن الأخلاق التي لا يرقى إليها أي شك : «ليس

__________________

(١) فيما يلي صورة لإحدى هذه الوثائق الرسمية :

القسم الفارسي ، رقم ١٧ سنة ١٨٣٥.

بهذا نشهد بأن الملازم (ولستد) يتنقل بموافقة الحاكم الشريف في مجلس بومباي في مختلف أرجاء شبة الجزيرة العربية وأن كلّ من يرغب في الاحتفاظ بأواصر الصداقة مع الحكومة البريطانية مطالب بإظهار كلّ الاهتمام والاحترام له.

بأمر من الحاكم الشريف في المجلس دبليو. اتش. واتن الوزير في الحكومة قلعة بومباي ٧ نوفمبر ١٨٣٥.

(*) سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي حكم في الفترة (١٢١٩ ـ ١٢٧٣ ه‍ ١٨٠٤ ـ ١٨٥٦ م) من أبرز الشخصيات في أسرة البوسعيد ويعتبر عهده الذي امتد قرابة نصف قرن من بين أكثر العصور إزدهارا لعمان.

١٠

هذا كلام اللسان ، بل هو كلام القلب». وبعد محادثة ليست بالقصيرة تلقيت فيها كلّ عون من خلال معرفته التامة بالبلاد ، اتخذت الإجراءات على أساس أن أتوجه أولا إلى (صور) طالما أنه لا توجد إلّا طريق واحد يؤدي إلى الجنوب ـ مما جعلني أشعر بعدم وجود أي رغبة لدي في السير فيه مجددا ـ وبعد الوصول إليها أتقدم صوب (بني بو علي) وبهذا أعبر خطا يوازي ساحل البحر نحو (الجبل الأخضر) الذي يوصف بأنه مرتفع كثيف السكان وكثير الفاكهة. وبعد ذلك أنهي ذلك الجزء الخاص من (عمان) ومن هناك أتوجه إلى عاصمة الوهابيين (الدرعية) (١) إذا كان الطريق سالكا. ثم نوقشت بعض الموضوعات الثانوية الأخرى وتم إعدادها ومن ثم استأذنت بالإنصراف مسرورا جدا بآفاق النجاح الذي ينتظرني.

الثالث والعشرون من نوفمبر / تشرين الثاني : تلقيت هذا الصباح من سموه جوادا نجديا ممتازا للقيام برحلتي علاوة على زوج من كلاب القنص وسيف مذهب وتصريح رسمي يؤكد أن أفضل ما تنتجه البلاد ينبغي أن يكون ملكا لي طالما أنا في (عمان) ، وأن كلّ النفقات المصروفة على الإبل والأدلاء وغيرها سيتحملها هو شخصيا ، وأن هناك رسائل يتم إعدادها بتوجيه مباشر منه موجهة إلى زعماء مختلف المناطق التي سأضطر إلى اجتيازها طالبا منهم فيها استقبالي بكل حفاوة ممكنة. وإذا وضعنا جانبا كلّ احتمال يمكن أن يكون قد دفع هذا الأمير إلى تعزيز ما كان يظن أنه يمثل آراء حكومتي ومن ثم يقوم بخدمتي ، فقد كان أسلوبه ومزاجه اللذان أظهرهما في هذه المناسبة ينطويان على روح تتفق كلّ الاتفاق مع الأخلاق النبيلة الحقة التي كان يتمتع بها.

يبلغ (السيد سعيد) الثانية والخمسين من العمر ومضى على حكمه سبعة وعشرون عاما. وهو طويل القامة ، ذو شكل مهيب ، ملامحه هادئة ، لكنها آسرة. أما أسلوبه في الحديث وخصاله فكانت دمثة وحييّة ومبجلة. واحتفظ الإمام بعاداته الشخصية وببساطة جذوره البدوية. وهو مقتصد غير مسرف ، لا يتزين بالمجوهرات في حين لم يكن ملبسه بأفضل من ملابس الشخصيات المهمة إلّا من حيث نعومة القماش. ولم تكن خدمته محاطة بأي أبهة أو خيلاء. وقد لاحظ العرب ـ كمثال على حرارة عواطفه ـ أنه يزور أمه يوميا وكانت

__________________

(١) وتقع في وادي بني حنيفة وهو أحد الممرات الضيقة التي لا يمكن إلا بوساطتها دخول نجد.

١١

لا تزال على قيد الحياة وينفذ رغباتها في جميع الأمور. أما في علاقته بالأوروبيين ، فكان يظهر دوما كلّ الاهتمام والعطف. وإذا كان من الممكن أن يطلق على أي أمير من الأمراء المحليين صفة صديق الإنكليز حقا ، فإن مثل هذا الأمير هو إمام مسقط. وحتى من جانبنا ، فإن الارتباط السياسي به يبدو منطويا على عنصر الإخلاص على نحو أكبر مما هو متوقع.

تمتاز حكومة هذا الأمير بغياب كلّ الضرائب الثقيلة الوطأة وكل العقوبات العشوائية كما تمتاز بإعطاء الأمير كل الاهتمام للتجار من أي بلد كان ، ممن يأتون للإقامة في مسقط ؛ وكذلك بالتسامح العام الذي يعم مختلف الطوائف. من جهة ثانية ، فإن استقامته ونزاهة عقوباته وتساهله فيها والاهتمام الشديد الذي يوليه لرفاهية رعاياه ؛ كلّ ذلك جعله موضع إعجاب واحترام شديدين من عرب المدن مثلما جعله تسامحه وشجاعته الشخصية موضع اعتزاز البدو. لقد جعلته هذه الخصال الحميدة يكتسب في عموم الشرق صفة عمر الثاني.

(السيد سعيد) هو (ابن سلطان) الابن الثالث (لأحمد بن سعيد) الذي أنقذ بلاده من نير الفرس سنة (١٧٣٠ م). وعلى الرغم من أن الأفراد الذين ينتمون إلى هذا النسب ليسوا من قبيلة اليعاربة الأزدية التي احتفظت بالسيادة على (عمان) قرابة مائتين وخمسين سنة وورث الإمارة فيها (أحمد بن سعيد) و (سيف) من اليعاربة فإن السلالتين تنحدران من الجد نفسه (أزد) الذي يمثل الكنية العامة للقبيلة التي ينتمي إليها الفخذان. وعلى أي حال ، فالحاكم في (عمان) اليوم ليس إماما اجتمعت على تسميته العرب إذ إن الحصول على هذا اللقب يستوجب على صاحبه عند انتخابه أن يكون قد امتلك درجة دينية كافية تؤهله لأن يخطب أمام حشد من الزعماء الذين انتخبوه وأمام أتباعهم. كما يتعين عليه عدم ركوب متن سفينة. إلّا أن هذا الشرط الأخير تم التغاضي عنه عند ما استولى (سيف) على موانئ تقع على السواحل الإفريقية وعلى مخيماتها. إلا أن الشرط الأول كان ينظر إليه على أنه ملزم وضروري حيث إن (السيد سعيد) الذي لم يكن يمتلك الدرجة الكافية أو هكذا كان تصوره ، استغنى عن الاحتفال بتنصيبه كليا ونتيجة لذلك لم يتلق من رعاياه سوى لقب سيد أو أمير.

١٢

سأؤجل إلى فصل لاحق الحديث عن تفاصيل مرتبطة بالحكومة وتنطبق عموما على الجزء الأعظم من المدن في (عمان). أما الآن فسأقدم وصفا لمدينة مسقط ومن ثم أبدأ بسرد رحلاتي. ثمة ملاحظات مختلفة عن هذه المدينة يمكن العثور عليها في الصفحات التي دونها (نيبور) و (هاملتن) وغيرهما. إلّا أن معظمها تعود إلى فترة بعيدة فلما تنطبق عليها الآن نظرا للتغيرات الكبيرة التي شهدتها ظروفها وتجارتها في ظل حاكمها الحالي. لهذا السبب ، سأستعرض نتائج ملاحظاتي وأبحاثي بشيء من التفصيل.

يبدو أن قدامى الجغرافيين عرفوا منذ زمن مبكر موقع مسقط (١) وربما كانت هي Moscha أحد موانئ حضرموت الذي ذكره (بطليموس) ولاحظ ذلك أيضا (آريان) في كتاب الPeriplus (دليل الملاحين في البحر الأرثيري) بوصفها مركز التجارة الضخم بين الهند وبلاد فارس وشبه جزيرة العرب (٢). لكن على الرغم من هذا الدليل ، فإن مسقط لم تكن تبدو مركزا تجاريا مهما إلى أن استولى البرتغاليون على المدينة سنة (١٥٠٨) وحولوها إلى ميناء متوسط يمكن لسفنهم أن تحصل منها على المؤن والأطعمة وهي في طريقها من مستعمراتهم الهندية إلى جزيرة (هرمز) في الخليج العربي وبسبب هذه النظرة إلى (مسقط) عمدوا إلى تعزيزها بالمال والجهد. ولما تم استيلاء الفرس على المدينة الثانية في السادس والعشرين من نيسان / أبريل سنة (١٦٢٢) في عهد الإمبراطور (شاه عباس) ، لجأ عدد كبير من أثريائها إلى (مسقط). وفي سنة (١٦٥٨) استعاد العرب المدينة من البرتغاليين وقضوا على كلّ

__________________

(١) يكتبها الإدريسي مسكه.

(*) MOSCHA ليست مسقط وإنما هو ميناء على ساحل ظفار يقع على بعد نحو ٤٠ كم إلى الشرق من صلالة في الموقع الذي يسمى حاليا (خور روري) وتطلق عليه النقوش الحضرمية المكتشفة فيه ـ والتي يعود تاريخها إلى القرن الثاني أو الأول ق. م ـ (هجرن / سمرم) أو (هجرن / سمهرم) أي مدينة (سمر / سمهر) كما تطلق تلك النقوش على تلك المنططقة الساحلية (أرض / سأكلن) أو (أرض / سأكلهن) أي أرض (السأكل) وتحكي تلك النقوش إنشاء تلك المدينة عند ما جهز ملك حضرموت العزيلط قوة استيطانية من سكان عاصمته (شبوه) ضمت مخططين وبنائين تحت قيادة (أبيشع سلجن بن ذمر علي) الذي أنجز تلك المهمة وبنى ذلك الميناء الذي اشتهر وكان اللبان يجمع فيه ثم يرسل بحرا إلي ميناء حضرموت الرئيس (قنا) ومنه برا إلى شبوة أبو برا إلى العاصمة (شبوه) مباشرة مرورا بوادي حضرموت. وقد ذكر المؤلف اليوناني المجهول لكتاب الPARIPLUS والذي عاش في القرن الأول الميلادي ميناءMoscha كما أطلق على المنطقة الساحلية الساكليت (Sachalite) وهي إشارة واضحة إلى (أرض الساكل) التي وردت في النقوش أما المؤرخ اليوناني آريان ARRHIANOS الذي نسب إليه المؤلف خطأ كتاب الPeriplus فقد ألف كتابا قدم فيه وصفا لحملة الإسكندر عرف باسم (الأناباز).

١٣

أفراد حاميتها ولم يبق من آثار احتلالهم سوى القلاع وكنيستين باتت إحداهما اليوم مجرد أطلال وتحولت الثانية إلى قصر للإمام. ومنذ ذلك الحين وحتى وصول (السيد سعيد) إلى الحكم ، لم يزر الأمراء الحكام (مسقط) إلّا بين حين وآخر. وكان ينظر إلى (الرستاق) على أنها عاصمة (عمان) (١).

تقع مدينة (مسقط) في الطرف الأقصى من خليج صغير ينتهي بممر ضيق يأخذ بالاتساع كلما توغلنا إلى الداخل. وتمتد التلال على جانبي الممر وعلى ارتفاع يصل ما بين ثلاثمائة إلى خمسمائة قدم وهي مطلة على البحر وتبدو وقد انتشرت عليها القلاع التي كانت تبدو في حالة تسمح بترميمها إذا ما أخذنا بالحسبان موقعها المجاور لبلدة عربية. وقد شيدت هذه القلاع وأكثرها مهابة على جانبي المضيق في الجزء الداخلي منه. وفي ذلك المكان ، وفي الجهة الغربية منه يوجد السجن. ويسيطر حصنان هلاليا الشكل على المدخل حيث تبدو المدافع متمركزة والحراس يقظين دوما. أما المسافة الفاصلة بين قلعة وأخرى فتصل إلى نصف ميل وبهذا يصعب القيام بهجوم مفتوح في وضح النهار عليها إذا ما كانت معززة جيدا.

تبدو مدينة (مسقط) للأشخاص القادمين من جهة البحر وكذلك قلاعها والتلال المجاورة لها ذات منظر خلاب وغريب. فلا توجد شجرة أو دغل أو أي نبتة أمام أعين الناظرين. أما سطوح البيوت البيض والقلاع ذات الأبراج القريبة منها فتختلف اختلافا كثيرا عن مظهر الكتل الصخرية المسودّة والمحروقة من حولها. وهي تبدو من حيث المظهر مشابهة لمعظم المدن الشرقية عند ما ينظر إليها عن بعد. فهناك السطوح المتساوية للبيوت وأماكن السكن وقباب الجوامع ومنائرها الشامخة وغير ذلك من السمات البارزة. ويبقى المشهد محتفظا بهذه السمات الجذابة حتى نصل إليها وعندئذ يتلاشى الوهم. فالشوارع الضيقة المزدحمة والأسواق القذرة التي يعيق الحمالون الحركة فيها ، وهم يحملون حمولات التمر والحبوب وغير ذلك ، والأكواخ البائسة تختلط بالبيوت الواطئة الحقيرة

__________________

(*) نشير إلى أنه من الرستاق انطلقت دولة اليعاربة وعقدت لمؤسسها ناصر بن مرشد الإمامة سنة ١٠٣٤ ه‍ / ١٦٢٤ م ، ومنها أيضا حكم عمان أحمد بن سعيد مؤسس الدولة البوسعيدية (١١٥٧ ـ ١١٩٨ ه‍ / ١٧٤٤ ـ ١٧٨٣ م) وتنسب المصادر التاريخية العمانية إلى حفيده حمد بن سعيد بن أحمد (١١٩٣ ـ ١٢٠٧ ه‍ / ١٧٧٩ ـ ١٧٩٢ م) نقل العاصمة من الرستاق إلى مسقط.

١٤

التي يجلس أصحابها فوق دكك صغيرة أمام أبوابها لا تحميها من حرارة الشمس سوى مظلات من قماش ممزق. وثمة بيوت أخرى آيلة للسقوط ، إلّا أن هناك من يسكنها رغم ذلك ، وهي منتشرة في كلّ اتجاه. على الرغم من ذلك ثمة بيوت جذابة داخل المدينة. فقصر الإمام والقصور التي تعود لأمه الأميرة العجوز وللحكام ولآخرين غيرهم هي من الصنف الثاني. كما يختلف شكل هذه المباني اختلافا كليا عن المباني التي تشاهد في مدن اليمن والحجاز وتبدو في طرازها أقرب إلى طراز العمارة الفارسية.

إن (مسقط) مشيدة فوق أرض منحدرة ترتفع ارتفاعا تدريجيا عن مستوى البحر حتى إن البحر يكاد يرتطم بالجزء الأسفل من البيوت. ولا توجد أي دفاعات في هذا الجانب. إلّا أن الجوانب الأخرى محمية بسور يبلغ ارتفاعه أربعة عشر قدما إضافة إلى خندق جاف. ويتم الدخول إليها عبر بوابتين تغلقان عند غروب الشمس.

١٥
١٦

الفصل الثاني

وصف لمسقط

على الرغم من مظهر (مسقط) الخارجي الذي لا يعد بشيء ، إلا أن هناك أجزاء قليلة يمكن الحصول منها على مؤن بكميات أكبر أو بنوعية أفضل. فلحوم الأبقار والأغنام والدواجن والفواكه متوفرة طوال أيام السنة والأسماك جيدة ومتعددة الأنواع. وتزود مسقط بالمياه بوساطة بئر عميق على مقربة من إحدى القلاع التي ينتصب فيها أحد الحراس في زمن الحرب للحيلولة دون قيام الآخرين بقطع الماء. وثمة قناة أنشئت حديثا لنقل الماء إلى المدينة ، غير أنه ماء عكر ونوعيته ليست بالجيدة ولا بالرديئة. يزخر خليج مسقط بالأسماك الجيدة والمتنوعة.

الغالبية العظمى من سكان مسقط ينتمون لأعراق مختلفة. فالذين ينحدرون من أصل عربي وفارسي وهندي وسوري ـ عن طريق بغداد والبصرة ـ وكردي وأفغاني وبلوشي انجذبوا إلى (مسقط) بسبب اعتدال حكومتها فاستقروا فيها إما بهدف التجارة أو لتفادي استبداد الحكومات المجاورة. وندرك أن الأمر كان على ذلك الحال منذ زمن قديم جدا. فقبل قرنين على ولادة الرسول محمد (ص) لجأت إحدى القبائل القوية التي كانت تقطن سواحل الخليج العربي إلى هذا المكان هربا من اضطهاد الفرس. وفي سنة (١٨٢٨) استقبل الإمام بكل عطف وحنان مجموعة من اليهود لم يعد في وسعهم تحمل ضرائب (داود باشا) وطغيانه. كما جعل بعض الأفغان من مسقط مقرا دائما لهم والذين يشاهدون في المدينة هم في غالبيتهم من الحجاج القاصدين مكة أو العائدين منها. لهذا السبب قلما يقومون بمضاربات تجارية ، والأكثر من هذا أنهم ، ينأون عن بقية الطبقات. أما البلوش ، فهم على العكس من ذلك ، ويتميزون بفقرهم الشديد عامة. وهناك عدد لا بأس به من هؤلاء البلوش يعملون مجندين في حراسة الإمام. والبقية الباقية تعمل في الحمالة ، وهي مهنة تؤهلهم لها أجسادهم الرياضية في حين أن القليلين جدا يعملون في الملاحة على ظهر السفن (البغلة) (١)

__________________

(١) البغلة : وصف عام لسفن ذات حمولات متباينة تتراوح بين خمسمائة إلى ثلاثمائة طن.

١٧

حيث يحظون بالاحترام بسبب حيوتهم ونشاطهم. وبسبب اختلاف المذاهب ، فإن العرب والفرس في (عمان) قلما يتزاوجون فيما بينهم. إلّا أن العرب أقل حساسية إزاء التزاوج مع البلوشيين الذين يحصلون غالبا على زوجات عربيات ويقيمون باستمرار هنا إذ هناك احتمال في أن تغدو الإماء عندهم أمهات. وقد غضّ العرب مؤخرا الطرف عن خيانة الفرس الأخيرة. ففي عهد الإمام سيف (١) سمح لحامية لهم بالدخول إلى المدينة ولكن لما كان الأمير غارقا في الشراب ، استغلوا الفرصة واستولوا على القلاع ذات يوم وخلعوه واغتصبوا الحكم. ولكن بعد الإطاحة بهم لم يسمح لهم البتة بعد ذلك بالإقامة بأعداد كبيرة في المدينة. ولكن منذ زواج الإمام بأميرة (شيراز) أوقف العمل بذلك الأمر وبعدد آخر من القيود. الأكثر من هذا ، إذا ما ارتكب أحد الفرس مخالفة سواء أكانت ذات طبيعة مدنية أو إجرامية ، فإنه يسمح له بالمثول أمام قاضيهم الخاص بهم واستنادا إلى تقريره ، فإنه قد يعاقب أو يخلى سبيله. غالبية الفرس في (مسقط) هم من التجارة الذين يتعاملون بالبضائع الهندية والقهوة والنارجيلة وماء الورد. أما الآخرون من (بندر عباس) و (لار) و (MENON) فيصنعون الأسلحة كالسيوف والبنادق التي يكثر الطلب عليها داخل البلاد.

وبسبب انحداهم من أعراق مختلفة وبسبب عادة التزاوج مع الإماء من (زنجبار) و (أثيوبيا) فقد أصبحت ملامح هذا الرهط من السكان متباينة تباينا شديدا. لكن الطبقات الأرفع مستوى التي احتفظت بنقاء أصلها العربي دون أن تشوبه شائبة لا تزال تحتفظ بالخصائص المميزة لجنسها إلى درجة كبيرة. والأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الطبقة نحيلون في الغالب ويميل لون بشرتهم إلى البني الفاتح الذي يشير إلى تمتعهم بالصحة. وقلما يعانون من الحمى على الرغم من أن مناخ مسقط ، في هذا الخصوص تحديدا ، مناخ قاتل للغرباء ولم يتمكن أي أوروبي حتى الآن من العيش هناك وقد حدثت حالات موت عديدة في سفننا مما اضطرها إلى البقاء بضعة أيام. أما الذين ينتمون إلى الطبقات الأدنى فيتميزون بقوة أبدانهم ذات الأطراف الرياضية ويبدو بعضهم أفضل نموذج للقوة وتناسق الأجسام. لهذا لا يوجد سوى فارق ضئيل في العادات والنزعات والصفات الأخلاقية عند

__________________

(*) سيف بن سلطان اليعربي استنجد بالفرنسي في عهد نادر شاه وذلك في عام ١١٥٠ ه‍ / ١٧٣٧ م

١٨

العرب الذين يقطنون المدن الساحلية ولهذا أفضل أن أكرس للحديث عنهم جزءا خاصا. ولكن تظل هناك طبقتان أخريان من الأجانب في مسقط تجدر ملاحظتهما.

ففي هذا المكان توجد أعداد من الهندوس (البانيان) أكثر من أي مكان آخر من شبه الجزيرة العربية. وفي الفترة الزمنة التي حدثت فيها زيارتي ، قدّر عددهم بألف وخمسمائة فرد. وفي ظل الإدارة المعتدلة للسيد سعيد يفترض أن عددهم ازداد زيادة سريعة. ولديهم معبد خاص بهم ويسمح بالاحتفاظ بعدد محدد من الأبقار وحمايتها وحرق موتاهم وممارسة شعائرهم الدينية. ولا توجد قيود على الثياب التي يتعين عليهم ارتداؤها مثلما هو الحال في مدن اليمن. إنهم يبدون هنا وهم يملكون كلّ امتيازات الرعايا المسلمين باستثناء شيء واحد. فإذا قتل المسلم هندوسيا فإن أقرباءه يمكن أن يضطروا إلى القبول بتعويض عن دم المقتول. أما إذا كان المقتول عربيا فالمسألة تخضع للاختيار.

ويأتي هؤلاء (البانيان) عموما من (بور بندر) والمقاطعات الواقعة في شمال غربي الهند وبسبب من أعمالهم التجارية يضطرون في أغلب الأحيان إلى البقاء مدة تتراوح بين خمسة عشر إلى عشرين عاما. وهم لا يصطحبون نساءهم معهم. وعلى الرغم من أنهم يقيمون في بعض الأحيان علاقات غرامية سرية مع النساء العربيات إلّا أن هناك حالات استثنائية لبقاء معظمهم غير متزوجين طوال تلك الفترة. ومن الحقائق المتصلة بتاريخ هذه الطبقة أن بعض أفرادها يتخلون عن ديانتهم الهندوسية ويشهرون إسلامهم. وعلى الرغم من ندرة مثل هذه الحالات ، إلّا أن المسلمين لا يبدو عليهم الافتخار بهؤلاء المهتدين. وقد ألف هؤلاء عادة تتمثل في إشهار إفلاسهم وهو أمر يعد انحرافا كبيرا في نظر العرب. وإذا ما أراد أحد هؤلاء ممارسة هذه العادة تراه يجلس أمام محله في وضح النهار وقد أوقد شمعة. وما إن يراه الدائنون حتى ينهالوا عليه سبا وشتما وفي بعض الأحيان ضربا. غير أنه لا يتعرض إلى مضايقة بعد هذه الفورة حتى يعود إلى عمله ويخلّص نفسه وعندئذ يبدأ الإلحاح عليه مجددا وبهذا لا يخلصه إخفاقه من التزاماته السابقة.

وفي يوم ما توجهت بصحبة تاجر عربي وبعض البدو لإلقاء نظرة على الأبقار التي

١٩

تملكها هذه الطائفة. كانت هناك قرابة مائتي بقرة في ساحة واسعة يحيط بها سياج. كانت الحيوانات تبدو حسنة التغذية وعليها أمارات الصحة وميالة للأذى. ولما كنت أنا والتاجر غير مسلحين ، فقد سمح لنا بالدخول بينما منع البدو لأنهم كانوا مسلحين وظن الهندوس أن البدو لن يترددوا في استخدامها إذا ما أصابهم الأذى من الحيوانات. وسرعان ما تربع رفاقي مع آخرين تجمعوا من حولهم فوق السياج وبدا عليهم السرور وهم يشاهدون طقوس العبادة التي يؤديها الهندوس لقطيعهم. وعند ما تصاب الحيوانات بمرض ، فإن الهندوس يعيرونها كلّ الاهتمام وإذا لم تظهر عليهم أي علامة تشير إلى الشفاء يتم إرسالها إلى الهند كما هو شأن كلّ المدن الواقعة على أطراف أخرى من الساحل. وعلى أية حال ، فإن عادات هذه الطبقة من الناس معروفة جدا وليست بحاجة إلى مزيد من التفاصيل هنا.

يشكل (البانيان) في مدينة (مسقط) مجموعة من أهم التجار الذين يحتكرون احتكارا شاملا تقريبا مجمل تجارة اللؤلؤ من الخليج العربي والتي تقدر سنويا بخمسة عشر لاك (١) دولار. كما يقومون باستيراد الحبوب من الهند ويعقدون معظم الصفقات الخاصة بالملابس والبضائع الهندية.

وهناك عدد قليل من اليهود في مسقط وصل معظمهم إليها سنة ١٨٢٨ بعد أن خرجوا من بغداد ، كما أشرنا آنفا ، بفعل أعمال (داود باشا) الوحشية وابتزازه لهم. وقد اضطر هؤلاء إلى الهرب ، فلجأ البعض منهم إلى بلاد فارس في حين آثر آخرون ، كانوا في طريقهم إلى الهند ، البقاء هنا. وكان التسامح الذي يعامل به أبناء جميع الطوائف قد امتد ليشمل بني إسرائيل دون تمييز ، كما هو الحال في سوريا ومصر. ولم يكونوا مرغمين ، كما هو شأنهم في مدن اليمن ، على السكن في أماكن نائية منفصلة عن المدينة. كما لم تكن القوانين تقضي بأن يسير اليهود إلى جهة الشمال عند ما يمرون بالمسلمين. وهو ما يحدث في بلاد فارس. ويعمل هؤلاء في مختلف المهن في مسقط حيث يشتغل الكثيرون بصياغة الفضة أو في فصل العملة الرديئة عن العملة الجيدة في المصارف بينما يتاجر قليلون منهم بتجارة الخمور.

__________________

(١) لاك : عدد يساوي مائة ألف في الهند.

٢٠