رحلات في الجزيرة العربية

جي. آر. ويستلد

رحلات في الجزيرة العربية

المؤلف:

جي. آر. ويستلد


المترجم: د. محمّد درويش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجمع الثقافي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٠

يعيش فيها شيخ القبائل. قبل سنوات قليلة ، كان هذا الشيخ واسع النفوذ لا في المناطق المجاورة حسب ، بل في وسط أقوى القبائل النجدية أيضا. بيد أن سلطته أصبحت تقتصر اليوم على بلدة (العينين) حيث يعيش داخل أسوار قلعتها. قادنا طريقنا إلى وسط البلدة ولاحظت أن الزراعة تتركز في مناطق محصورة توازي بقية المناطق في عمان. بعض الأشجار باسقة ، ولا بد من ملاحظة الفرق الشاسع بين الظلال والعتمة اللذين بدأنا نتوغل الآن وسطهما وغبار الطريق وحرارته الذي افترقنا توا عنه. وبعد أن مررنا ببلدة أخرى مشابهة ، وصلنا في الساعة الثالثة والدقيقة الخمسين بلدة عبري. وما أن اجتزنا السوق حتى ساروا بنا إلى فسحة مكشوفة أمام بيت الشيخ حيث بقينا ننتظر مع أمتعتنا مجيئه. وعند غروب الشمس زارنا الشيخ ، وفكرت أن في وسعي أن أتصور من خلال نظرة خاطفة شخصية الرجل الذي سنتعامل معه. وعلى وجه العموم ، يمكن القول إن شيوخ المدن في عمان هم أشخاص جذابون جدا ، مهابون وذوو سلوك يبعث على الرضا. إلا أن هذا الشيخ كان على عكس ذلك تماما إذ ليس فيه ما يوحي بمظهر الشيخ ولا صفاته. وعند ما أخرجت رسائل الأمام شرع في قراءتها وانصرف دون أي رد. وبعد مضي ساعة من الزمن أرسل رسالة شفوية تفيد بأن علي ألا أضيع أي وقت وأن أغادر البلدة على الفور ، لقد ظن ، وهو يخبرني ، بأنني لم أدرك بأن البلدة تحتشد بحوالي ألفين من الوهابيين. كان هذا يشكل نبأ بالنسبة لنا. فقد أصبح لقاؤنا بهم في وقت مبكر أكثر مما كنا نتوقعه. لكننا لم نظهر إلا الهدوء وتصرفنا بكل برود. وفي هذه الأثناء ، أعددنا العدة لنصب خيمتنا ، وبعد أن أكملنا ذلك ، أرسلنا رسولا إلى الشيخ ليخبره برغبتي في رؤيته. في حوالي الساعة التاسعة صباحا ، جاءني الشيخ بصحبة بعض الدهماء قال : أنهم من أقربائه. وبعد ذلك وجهت الحديث مباشرة إلى الموضوع واستفسرت عنه عن عدد الرجال الذين في وسعهم أن يطلب منهم مرافقتنا إلى (البريمي). ثارت ثائرته وأقسم بأن الطريق خطر جدا وأنه لا يستطيع أن يزودني ولو برجل واحد. كنت غير مستعد لسماع رفضه ، إلا أنني حاولت بكل وسيلة ممكنة أن أثنيه عن قراره ، وأوضحت له أن مخاطر الطريق يعرفها جيدا (السيد سعيد) عند ما كان يحرر الرسائل وأنه سيغضب غضبا أكيدا عند ما يعلم أن أوامره لم تنفذ. وألمحت إلى أنني سأكافئه إذا ما رضخ لمطالبي ، إلا أنه ظل ثابتا لا يتزحزح عن موقفه. وأخيرا أخبرته أنني لا

١٢١

أستطيع التفكير بالعودة إلا إذا أعطاني رسالة إلى الأمام توضح موقفه الحالي. واستفسرت منه أن كان حقا قد أرسل رسالة شفوية تطلب مني مغادرة البلدة ، فأنكر ذلك لكنه كرر ذلك بصورة غير مباشرة بعد عشرة دقائق وانصرف. إننا لم نألف منه عروض المساعدة والتجهيزات أو توفير محلات الإقامة التي كنا نألفها من شيوخ عمان الآخرين ، إذ كان هدفه يتمثل في إخراجنا من بلدته بأسرع ما يستطيع. وكل ما سمعته وشاهدته أعطاني سببا واهيا لأن أؤخر إرغامه في هذا الصدد. كان الوهابيون قد أخذوا يحتشدون بأعداد غفيرة من حولنا وبدوا في انتظار أي مبرر للبدء بالشجار. في مثل هذه الحالات الطارئة لا أتبنى إلا خطة واحدة وهي أن أبعد أي قطعة سلاح عن متناول الأشخاص الذين يرافقونني. كنا أنا و (وايتلوك) مسلحين وكنا ندرك كل الإدراك العواقب التي قد تنجم نتيجة الاستخدام المتسرع للأسلحة. كان عدد الرجال قليلا عموما ، ولم تكن ثيابهم بأكثر من وزرة ملفوفة على وسطهم. كانت ملامحهم دكناء وشعرهم طويل. ولم أدرك إلا بعد وقت ليس بالقصير أن هؤلاء ليسوا سوى مجموعة تابعة ل (سعد بن مطلق) الذي ذكرت أفعاله المتوقعة ومن ثم هزيمته في التفاصيل التي أوردتها عن (بدية). لهذا السبب كانت وضعيتنا محفوفة بالمخاطر والفرصة الوحيدة في هربنا تتمثل في الاعتماد على ثباتنا وسلوكنا لأنهم كانوا آنذاك يتقدمون للهجوم على أجزاء من مقاطعة الشيخ وكان هو أملنا الوحيد بالنجاة.

أعلن (علي) الذي يملك فكرة رهيبة عن معارفنا الجدد بأنه لا يستطيع النوم وأن الوهابيين كانوا يحومون من حول الخيمة وأننا إما سنتعرض إلى السرقة أو القتل حتما قبل بزوغ الفجر. وهنا انتابت مترجمي الفارسي المتين البنية الذي تبلغ قامته ستة أقدام ، نوبة من الخوف. ثمة سبب لمخاوفه ، لأن الوهابيين يكرهون الفرس باعتبارهم من شيعة الأمام علي أكثر مما يكرهون أي طائفة أخرى من المسلمين. وعند ما عاد الشيخ وقدم لي رسالته إلى الإمام ، أدركت أن من العبث الذي لا طائل من تحته محاولة بذل أي جهد آخر لثنيه عن قراره. لهذا السبب لم أقم بالمحاولة. وفي هذه الأثناء ، انتشرت الأخبار في كل مكان بأن إنكليزيين قد توقفا في البلدة ومعهما صندوق مليء بالدولارات ، إلا أنه لا يحتوي في الواقع إلا على بضعة ثياب نحملها معنا. واجتمع الوهابيون وغيرهم من القبائل للمداولة في الموضوع في حين أخذت بقية فئات المجتمع الدنيا تخلق الفوضى والضوضاء. لقد كان

١٢٢

الشيخ أما يفتقر إلى التأثير أو أنه كان خائفا من ممارسته ومن الواضح أن أتباعه كانوا يرغبون في الإسهام في السلب والنهب. لقد آن الأوان للقيام بعمل ما.

ناديت على (علي) وطلبت منه ألا يقوم بأي ضوضاء ولا أي فوضى وأن يجمع الإبل دون تأخير. في هذه الأثناء كنا قد قوّضنا الخيمة بينما كان الحشد يزداد عددا كل دقيقة. كانت الإبل على استعداد فما كان منا إلا أن اعتلينا ظهورها. كان حادي الإبل يريد الآن تقديم مسوغ لهم كي ننطلق ، فلحقوا بنا وهم يحدثون مختلف الأصوات ، لكننا تمكنا أخيرا من الاندفاع إلى الأمام بينما ظلوا هم يرموننا ببعض الحجارة. وصلنا ضواحي البلدة دون حدوث أي إزعاج. لقد كنت أسمع دوما عن السلوك غير اللائق لسكان هذه المنطقة. وكان العرب الذين يعيشون على مقربة من المكان يقولون بأن المرء إذا أراد الدخول إلى (عبري) فإن عليه أن يكون مدججا بالسلاح أو أن يكون شحاذا يرتدي وزرة تلف وسطه ، ومصنوعة من نوعية غير جيدة. وهكذا ، تنتهي للمرة الثانية آمالنا في الوصول إلى (الدرعية) من هذا المكان. إلا أنني على الرغم من ذلك لم أشعر باليأس ، بل عقدت العزم على التقدم إلى الأمام صوب (السيب) وحط الرحال فيها والسعي من ميناء (شناص) إلى التوجه إلى (البريمي). كانت لدي رسائل موجهة إلى زعيم الوهابيين ، ولو كان في مستطاعي الوصول إليه لما بات لدي شك في مواصلة رحلتي بأمان إلى المدينة الأولى.

تعد (عبري) واحدة من أشد المدن ازدحاما بالسكان في عمان. القليل من سكانها ، ممن ينتمون إلى قبيلة (Yaknah) ، يمارسون الأعمال التجارية بمختلف أنواعها ، ويقتصرون في مقايضتهم على ضروريات الحياة ويعيشون على ما تنتجه بساتين النخيل وحقول الذرة التي يملكونها. أن الأعمال الزراعية في أجزاء أخرى من العالم تتصف بأنها تضفي طبيعة إنسانية على سلوك الناس وتلين عريكتهم. أما في هذه الأماكن ، فإنها لا تحدث مثل هذا الأثر ، حيث أن المزارع يسعى من خلال التظاهر بالعنف بقمع أو كبت كل المشاعر الرقيقة. أنني أتخيل أنهم اضطروا إلى ذلك بسبب رغبة ـ عند اجتماعهم بجيرانهم من البدو ـ في التعويض عن النظرة الدونية التي ينظر بها أولئك الجيران إلى كل من يمتهن مهنة أقل مدعاة للهدوء والسلامة من مهنتهم.

١٢٣

وتعد النيلة والتمور والسكر من أهم صادراتهم ، أما الرز والتوابل والقماش القطني الأبيض الذي يرسل لغرض صبغه باللون الأزرق فهي أهم الواردات. مررنا بالعديد من المناطق المزروعة بالشعير ، وعند هبوط الظلام توقفنا قرب مخيمنا القديم في قرية (Ayal).

بخلاف توقعات (علي) ، أمضينا الليلة ولم ينقص منا إلا بعض الحاجيات التافهة التي نستحق أن نفقدها لأنها تركت خارج الخيمة.

الرابع عشر من مارس / آذار : ظلت القرية برمتها تقريبا تحرسنا الليلة الماضية بناء على تحريض من (علي). ذبحت ثلاثة أو أربعة أغنام لهم. غير أن بندقية وسيفا وبعض الحاجيات الأخرى سرقت منا أما لأنهم كانوا تواقين جدا للعشاء أو لسبب أخر. من خلال أسلوب سفرنا الحالي لم يكن في وسعنا الاستغناء عن هذه الحاجيات ، لهذا السبب طرحت المشكلة على الشيخ فطرحها بدوره على وجهاء البلدة. وبعد جلبة شديدة وجدال حاد ، تقرر إعادة الحاجيات.

عند ما حلّت المشكلة ولتحويل العار والعقوبة الناجمة عن ذلك فيما بعد عن السارق الذي أعتقد لأسباب أفترضها بأنه من أقرباء الشيخ ، فإن هذا أصدر تعليماته بأن المواد المسروقة ينبغي وضعها في غضون نصف ساعة في مكان غامض من البستان. وهناك تم العثور على الحاجيات في الوقت المحدد.

١٢٤

الفصل الخامس عشر

صحار ـ شناص ـ دبا

في بلد يميل فيه السكان إلى العدوانية ، فإن الرحالة سيحسن صنعا أن لم يعد من نفس الطريق التي جاء منها إذا استطاع إلى ذلك سبيلا. ففي المرة الأولى التي يمر فيها ، فإن مروره ذاك يكون قبل أن يستفيق السكان من أثر مفاجأة الزيارة. أما في الزيارة الثانية ، فإنه سيغدو موضوع حديث طويل واستفسار ، وإن كانوا ميالين إلى الشر ، فإنهم سيبحثون عنه طويلا حتى يجدوه. أن أحداث اليوم والأمس ، علاوة على العديد من الأحداث التي وقعت فيما مضى ، أثبتت لي صحة وجهة نظري.

ففي طريقنا إلى (عبري) ، مررنا ب (العينين) دون إثارة دهشة كبيرة. لكن أخبار عودتنا كانت قد سبقتنا ، ونتيجة لذلك فقد استقبلنا وسار من وراءنا العديد من الشبان والأطفال عند مدخل البلدة وفي أثناء اجتيازنا لها ، وهم يصرخون ويرجموننا بالحجارة. حتى الشيخ نفسه ، الذي كان مجاملا في زيارتنا الأولى ، لم يرغب في تركنا نواصل الرحلة دون أن نقدم له الهدايا ، إضافة إلى الهدية التي قدمتها له لقاء إزعاجه. لهذا لم يكن أمامي أي خيار سوى الرضوخ. وتجدر الإشارة إلى أن هي المرة الأولى التي فقدت فيها شيئا تافها ، أو تعرضت فيها إلى الابتزاز ، في مجمل عمان ، باستثناء بعض المواد التي فقدت في (عبري).

في ظهيرة اليوم التاسع عشر من مارس / آذار ، وصلنا مرة أخرى إلى (السويق) ، حيث استقبلنا (السيد هلال) بكل المودة التي سبق له أن استقبلنا بها. وضحك كثيرا ، ولم يندهش ، للاستقبال الذي لقيناه في (عبري) ، وكانت دهشته الوحيدة على ما يبدو أننا نجونا بجلدنا. واكتشفت أنه بعد أن تلقى أنباء عن حركة الوهابيين إلى أمام ، أرسل رسولا يطلب منا العودة إليه ، لكن ذلك الرسول أخطأنا ومرّ بنا ولم يتعرف علينا في الطريق.

لم يشجعني الشيخ على مواصلة الاستمرار في الرحلة إلى (البريمي). وقال : «ومع هذا ، أن كنت راغبا في بذل آخر محاولة ، فإنني سأزودك بقارب ينقلك إلى (شناص) وسنخبر

١٢٥

الشيخ هناك أن يرسلك إلى غايتك مع أحد الحرس».

في الثاني والعشرين من مارس / آذار ، انطلقنا للسفر إلى ذلك الميناء ووصلناه بعد ظهر الخامس والعشرين. كان الساحل الممتد بين هاتين البلدتين تكثر فيه المدن والقرى الصغيرة وتساءلت أن كانت هذه المنطقة واحدة من أكثر المناطق ازدحاما بالسكان. وكانت أهم المدن وأكبرها هي (صحار).

أما فيما يخص الناحية التجارية ، فإن (صحار) تأتي بالمرتبة الثانية بعد (مسقط). وفيها حوالي أربعون سفينة تعرف باسم (البغلة) ، كما أن علاقاتها التجارية مع بلاد فارس من جهة ، والهند من جهة ثانية جيدة جدا. ويقدر عدد السكان بحوالي تسعة آلاف نسمة ، إلا أن بعض هؤلاء السكان ، الذين يعيشون في قرى مجاورة ، يعدّون من ضمن هذا العدد. أن (صحار) مدينة قديمة ومنها انطلقت السفن العربية ومن موانئها صوب الصين في غابر الأيام. ووجدت أن العديد من المؤلفين القدامى قد أتوا على ذكرها. وكانت المدينة معروفة باسم (صحار) عند البرتغاليين. وفي سنة ١٨٢٩ ، وخلال حكم القاصر (لأحمد (١) بن عزّان) ، شيخ البلدة الحالي ، احتفظ الإمام بحكم المقاطعة لنفسه ، وكان يميل إلى الاحتفاظ بها ، كما كان الاعتقاد سائدا ، إلا أن مشاريعه باءت بالفشل على يدي الشيخ الشاب الذي لجأ إلى الخديعة واستولى على الحصن ومنذ ذلك الوقت احتفظ بها على الرغم من المحاولات العديدة التي بذلها الإمام لإخراجه منها. ثم أعقب ذلك إعلان السلم بينهما ، لكن بما أن أراضي هذا الزعيم تمتد بهيئة شريط ضيق باتجاه الجنوب الشرقي من (صحار) إلى (الرستاق) ، وداخل أراضي الإمام ، فإن (السيد سعيد) لا يزال ، كما يعتقد ، ينظر إليه نظرة حسد ، وأنه يتحين الفرص للإطاحة به. أن حكومة هذه المقاطعة لينة ومنتظمة وتشبه في عناصرها حكومة (مسقط) ، غير أن حاكمها يتميز بالجرأة والتهور والتقلب. وكلما تحدث الإمام عنه لقبه بلقب المجنون.

هناك عشرون أسرة يهودية تقريبا في (صحار) ولديها معبد صغير. وهذه الأسر من نفس

__________________

(*) كذا في الأصل الإنجليزي وصوابه حمود بن عزان.

١٢٦

طبقة يهود اليمن ، ويقيمون أودهم بإقراض المال بالفائدة مثل يهود اليمن. ويسميهم العرب ب (أولاد سارة) ويشمئزون منهم كل الاشمئزاز ، ويجفف الليمون هنا ويصدر بكميات كبيرة إلى الخليج العربي.

في أثناء زيارتي ، كان الشيخ منهمكا في نزاعه مع الوهابيين الذين نهبوا العديد من مدنه وأرغموه على البقاء داخل حصنه في (صحار). وكان الإمام يرغب في رؤية قوة الشيخ وقد ضعفت وأهينت ، لهذا السبب لم يتدخل ولم يقدم أي مساعدة ، لكنه جعل رجاله يمتلكون عزما موازيا لعزم زعيمهم ، لأن الصراع سيتقرر عمّا قريب. سكان ساحل البحر محاربون لا يكترثون لشيء ، وما أن يصولون صولتهم في قلب قوات العدو عند ظهورها حتى يجد نفسه قد تخلى عنه معظم جنوده الذين كانوا يشكلون أفرادا من هذه الفئة ، ولم ينجح في الهرب إلا بعد شجاعة تنطوي على التهور. ومنذ ذلك الوقت تعلم أن يكون أكثر حذرا.

يسود الاعتقاد بأن (الشيخ هلال) كان يتطلع إلى السيطرة على (عمان) كلها. ويعتقد الكثير من أبناء الطائفة الأباضية ـ لأسباب ذكرتها في مكان آخر ـ بأن الإمام الحالي قد خرج عن العقيدة الصحيحة ، وعلى هذا الأساس ، فإن (حمود بن عزّان) يتخذ مواقفه. وهو يتظاهر بالورع الشديد. وقد منحه الله موهبة البكاء ، ولهذا السبب يشاهد وهو يبكي ساعات طويلة دون أن يكلم أحدا. كما أنه يتطلع إلى روح النبوة ، وهو رقيق كحجاب المرأة ونجح في أن يخلق وسط العديد من الناس الذين تكلمت وإياهم نفس المشاعر التي يرغب في أن يخلقها.

إن العوائد المالية التي يحصل عليها (حمود بن عزّان) تتأتى عن طريق ميناء (صحار) الذي يدر عليه عشرة آلاف دولار سنويا. كما أنه يفرض رسوما على مدينة (الرستاق) تقدر بخمسة آلاف دولار. غير أن هذا ليس إلا أكثر من نصف المبلغ الإجمالي الذي يحصل عليه (السيد سعيد) عند ما كان يسيطر على البلاد لأن (حمود) كان يدفع قسما من المال لقاء اعترافهم بسلطته. يلاحظ أن ساحل عمان الممتد من (مسقط) إلى (شناص) يخلو من الموانئ ، ولا يوجد من ملاذ على امتداد هذه المسافة كلها سوى بعض الخلجان المائية الملحية الضيقة أو الأخوار ، كما يسميها العرب ، وهي ذات عمق يكفي لمرور السفن

١٢٧

الصغيرة. ولهذا السبب لا يملك السكان إلا عددا قليلا من المراكب الكبيرة التي يمكن دخولها في الخور ، أو سحبها إلى الشاطئ ، وفي موسم التمور ، تتبع نفس الخطة حتى إكمال عملية الشحن ، ومن ثم تنطلق نحو وجهتها. غير أن المواصلات مع مختلف الموانئ يتم برا أكثر منه بحرا على وجه العموم. ولهذا السبب ، يكثر الطلب على الحمير والإبل. ويبلغ سعر الحمار الجيد حوالي خمسة عشر إلى ثلاثين دولار ، وتتصف الحمير بأنها أسرع من الإبل في العدو ، حيث تبلغ سرعة الحمير ثلاثة أميال ونصف الميل في الساعة بينما تبلغ سرعة الإبل ميلين وثلاثة أرباع الميل في الساعة. وتكون خطوات الحمير قصيرة وسريعة خلال الجزء الأعظم من اليوم. وعدد الحمير في عمان يوازي عددهم في البحرين ، ويتم تصدير عدد كبير منها إلى جزيرة فرنسا عن طريق البحر.

أما (شناص) فهي بلدة صغيرة ذات حصن وبركة ماء ضحلة وفي وسع القوارب الصغيرة فقط الرسو فيها. ويقال أنها تسلم الإمام ثلاثة آلاف دولار سنويا ، غير أن هذا المبلغ لا يكفي لإطفاء نفقاتها. ففي غضون الحملة ضد (رأس الخيمة) في سنة ١٨٠٩ خسرت قواتنا (١) في هجومها على الحصن العديد من الرجال. وقام سلطانها في تلك السنة بالتخلص من نير الإمام وانضموا إلى القراصنة ، واحتشدوا في مدخل الخليج بضعة أشهر. لكن ما أن سقطت (رأس الخيمة) حتى عادوا إلى حكمه وسمح الحصن فيها بدخول مجموعة من الجنود البلوش الذين أبقاهم عنده لقاء أجر. وجدت أن الشيخ غائب ، ولم نستطيع الحصول من أولئك الباقين معه على أي إجابة لأسئلتنا ، كما لم نحظ بالمجاملة. إلا أنني عند ما هددت بترك الميناء وإخبار الإمام بالاستقبال الذي جرى لنا ، انتابهم الذعر ، ومع حلول المساء ، ساعدوني في إرسال رسالة الإمام إلى (السيد بن مطلق) زعيم الوهابيين ؛ وقد كان لدي أسبابي التي تجعلني أعتقد أنه موجود في (البريمي). كما أرسلت أيضا رسالة قلت فيها إذا كان يرغب في استقبالي فإنني أود أن يرسل قوة صغيرة لمرافقة الجماعة من ساحل البحر وحتى موضع إقامته لأن المناطق الواقعة ضمنها تشهد حالة كبيرة من عدم الاستقرار والاضطراب. أمضيت الفترة الزمينة التالية على إرسال

__________________

(*) أي قوات حكومة الهند البريطانية.

١٢٨

رسائلنا في جمع المعلومات ومعاينة المنطقة المحيطة بنا التي سأقدم لكم وصفا لها.

ثمة تشابه شديد في الملامح العامة لهذا الجزء من عمان ، ولهذا فليس من الضروري الدخول في تفاصيل دقيقة. لهذا سأقدم وصفا عاما للبلاد وسكانها مبتدئا بساحل البحر.

وبالنسبة للمنطقة الممتدة من (شناص) إلى (رأس مسندم) ، الذي يمثل الطرف الشمالي الشرقي من الجزيرة العربية ، (وهو ما أطلق عليه الإغريق اسم (Maceto) و (Acabo) بينما يسميه العرب (رأس الجبل) أو (رأس التلال) فإن الاتجاه العام للساحل هو الشمال الشرقي. وعلى امتداد هذه السواحل تكثر الخلجان العميقة والمغاور والجزر الصغيرة التي تزداد عددا ويزداد عدم انتظام ملامحها العامة عند اقترابها من الرأس. ويستمر هذا الحال حتى على الجانب الغربي من قنة الجبل. وثمة قمة جبلية ضيقة لا يتجاوز عرضها خمسمائة ياردة تفصل بين (خليج خصب) و (غبة قريعة). وربما لا توجد في العالم سوى مناطق قليلة جدا تتسم بمثل هذا اللا انتظام الذي تتصف به المنطقة الواقعة بين هذا البرزخ والرأس.

تمتد سلسلة من القرى وبساتين النخيل من (شناص) وحتى (دبا) ، وهي المنطقة التي يبدأ منها السهل البحري والمسماة بالباطنة على الخريطة. وللإمام في (دبا) حصن ، وكان فيما مضى من الزمن يحصل من القرية على عوائد مالية قليلة تقدر بأربعة آلف دولار. ويمكن الحصول من هذه المنطقة على الماء والخضراوات وقطعان الماشية بجميع أنواعها. وفي المنطقة قوارب قليلة تستخدم في جلب الحبوب من شواطئ بلاد فارس. ويتشابه كل من (خورفكان) و (خور كلبا) في مساحتهما وفي الإنتاج الذي يوفرانه ل (دبا).

وهناك سلسلة جبلية تمتد من (دبا) وحتى الجهة الشمالية ، وترتفع هذه السلسلة ارتفاعا مباشرا عن البحر وفي أماكن كثيرة تبدو خلابة آسرة. والشاطئ الوحيد الذي يصادفه المرء هو الواقع عند طرف الكهوف حيث توجد رمال أو مخلفات من المحار والمرجان المكسر الذي قذفته قوة الرياح والموج. ومن سلسلة الجبال الرئيسية ، التي يبلغ معدل ارتفاعها حوالي ألفين وخمسمائة قدم ، وفي منتصف الطريق تقريبا بين الساحلين الشرقي والغربي لسلسلة الجبال الداخلة وسط البحر ، تمتد الوديان الجانبية باتجاه البحر. ويمكن

١٢٩

الوصول إلى (البريمي) عن طريق (شناص) بوساطة (وادي الخور) و (وادي Uttar). وثمة طريق آخر من (الفجيرة) يمتد عبر السلسلة باتجاه (الشارقة) التي يستغرق الوصول إليها يومان ونصف اليوم. وتنتشر بعض غابات النخيل على ضفاف الأنهار التي تلتف على امتداد القعر. أما فيما عدا ذلك ، فلا توجد سوى القليل من المزروعات ، ويشكل خط الواحات الممتد من (عبري) وحتى (البريمي) حدود المساحات الزراعية في ذلك الجزء من عمان. ومن هناك وحتى شواطئ الخليج العربي ، فالأرض عبارة عن امتدادات من الرمال القاحلة. وعلى مسافة رحلة يومين من (شناص) على بعد أميال جنوب وادي (tuttar) على الطريق المؤدية إلى (البريمي) توجد مجموعة من ثلاثين قرية يطلق عليها اسم (بلدان بني كعب) وقد أخذت اسمها من اسم القبيلة التي تقطنها. ويبلغ عدد السكان حوالي ألفا وخمسمائة فرد ؛ وعلى الرغم من أن هؤلاء السكان هم من الوهابيين ، إلا أنهم يوفرون الحماية لكل من يلجأ إليهم مهما كان دينهم ومهما كانت جريمتهم.

وإلى الجنوب من هذه المنطقة الصغيرة توجد مدينة (البريمي) التي تشبه في ملامحها العامة ومساحتها بلدة (بدية) ، وتحتوي على بضعة قرى وترويها الجداول الكثيرة. ويوجد حصن فيها أيضا ، نصبت فوقه بعض المدافع الصغيرة تعود لقبائل (الغافرية) التي وترفض الاعتراف بسلطة الإمام. ويقدر عدد السكان بألفين ، لكن بتدفق الوهابيين عليها ، ازداد عدد السكان خلال هذا الموسم ثلاثة أضعاف. ويتصف هؤلاء السكان بالهمجية ويكرهون زيارة الغرباء. وعلى الرغم من أن حرارة فصل الصيف شديدة جدا ، إلا أن مناخ (البريمي) يعد أفضل مناخ في عموم عمان ، ويساوي مناخ نجد الذي يقول عنه الجميع أنه أفضل مناخ في الجزيرة العربية.

ومن (دبا) وحتى (رأس مسندم) ، والمنطقة ذات التلال المحصورة بين السلسلة الرئيسية والبحر ، يبدو المكان مجدبا وخاليا من الماء. أما الماء الذي يتم الحصول عليه من ساحل البحر فغير مستساغ. أمّا مجموعات أشجار النخيل الوحيدة التي تبرز أحيانا من داخل أحد التجاويف أو الأماكن المنعزلة ، فتبدو صورة مناقضة تماما لصورة التلال الكئيبة المعتمة ، إذ تبدو يانعة مخضوضرة. ولا توفر الأعشاب القليلة النامية في قيعان الوديان

١٣٠

الرملية والأعشاب الطبية والشجيرات الغريبة عن الصحراء إلا كلأ بسيطا لقطعان الماعز الكثيرة التي نصادفها دوما. وتوجد أيضا الشجرة التي تدر الحليب ، وتنمو وسط شقوق الصخر ، وعلى الرغم من الطبيعة المرة للعصير المستخلص من هذه الأوراق ، والذي يتصف بالقدرة على كشط البشرة إذا ما وضع عليها ، فإن الماعز والإبل تتغذى عليه (١). الأغنام قليلة وهي تسرح فوق الصخور دون راع ، إلا أنها تعلم متى تعود عند المناداة عليها عند ما يصبح من الضروري حلبها. والمسافة التي يظل فيها أصحابها قادرين على مناداتها بعيدة جدا ، ويستطيع هؤلاء الحديث مع بعضهم بعضا دون صعوبة عبر التجاويف التي يبلغ عرض بعضها مسافة نصف ميل.

يسكن عموم المنطقة قوم يتحدثون بلهجة تختلف عن لهجة القبائل (٢) التي تسكن المناطق الأخرى من عمان ، وهم يبعثون على الدهشة في تمسكهم ببراريهم الموحشة ، وهم لا يغادرونها إلا نادرا باستثناء الحالات التي يتم فيها تشغيلهم لقاء أجر في موسم حصاد التمور على ساحل (الباطنة) وفي زياراتهم لجزيرة (لارك) حيث توجد جماعة صغيرة منهم تعمل في صيد الأسماك وتمليحها. كما أنهم ينأون عن جيرانهم وقد استفسرت عنهم في المدينة بلا طائل. وقبل أن تقوم سفن المسوحات بزيارتها ، لم يسبق لهم مشاهدة أي أوروبي ويظهرون الدهشة لرؤية النظارات الطبية والساعات اليدوية وغير ذلك من الحاجيات المثيرة التي كان في وسع أكثر المتوحشين من هولندة الجديدة عرضها أمامهم (٣). وهم عموما فقراء جدا لا يسترون أنفسهم إلا بوزرة صغيرة ، ويسكنون في أكواخ دائرية صغيرة مشيدة بالحجارة ، ويبلغ ارتفاعها حوالي أربعة أقدام ، فوق شريط ساحل البحر. وهناك أماكن سكن أخرى ضمن المناطق المحمية ببعض الصخور التي تشكل عائقا طبيعيا ، وتكون الواجهة والجانبان مشيدين في هذه المناطق ، أما العدد الأكبر منهم فيسكن في الكهوف والتجاويف. وفي إحدى المرات ، عند ما تقدمت إحدى سفن المسوحات كثيرا من الساحل ، وساد الخوف من إمكانية جنوحها ، احتشد الرجال

__________________

(*) هي شجرة العشر.

(**) يتناول المؤلف هنا قبيلة الشحوح.

(***) المقصود بهولندا الجديدة هو أستراليا حاليا وقبائلها الأصلية تعرف ب (الأيورجين).

١٣١

المسلحون فوق التلال ، بعد أن كانت هذه قبل بضع دقائق خالية من أي بشر ، وزحفوا إليها من كهوفهم للحصول على حصتهم من الغنيمة المتوقعة.

وتشكل التمور غذاءهم الرئيس إضافة إلى السمك المملح. أما الرز فلا يكاد يكون معروفا عندهم ، غير أنهم يحصلون على الشعير والقمح بكميات قليلة. وقد أكّد البعض بأن هؤلاء السكان لهم بشرة أقل سوادا ويتكلمون لغة تختلف عن لغة سكان الإقليم. إلا أن كلا الرأيين خاطئ. فالذين التقيت بهم كانت بشرتهم أكثر سوادا من بقية العرب ، ولا تختلف لغتهم عن اللغة المستعملة في عمان ، بل هي تختلف اختلاف لهجة اليمن عن لهجة الحجاز. وقد استوطنت جماعة من الفرس في (كمزار) وفي (خليج خصب) ، ولا يزال أحفاد أولئك الأسلاف يعيشون فيها حتى الآن وربما خلق هذا الافتراض أولئك الذين شاهدوا أولئك الأحفاد.

ويسكن في المنطقة الصخرية الموحشة هذه عدد كبير من الناس لا يقل بأي حال عن خمسة عشر ألف نسمة. وتمتد على الشواطئ الشرقية والغربية العديد من القرى. وفي وسع شيخ خصب أن يخضع تحت سيطرته خمسة آلاف رجل. أما شيخ (بخا) فلديه حوالي ألفي رجل ، كذلك فإن لدى زعماء بقية القبائل أعدادا مساوية لهذا العدد من الرجال. ويربون الدواجن داخل بيوتهم بما في ذلك البط الذي لا أتذكر أنني شاهدته من قبل في أي جزء من أجزاء الجزيرة العربية.

١٣٢

الفصل السادس عشر

ساحل القراصنة

بقي لنا أن نتحدث عن القراصنة (١) ، وهم قوم غير معروفين هنا إلا قليلا ، إلا أن قوتهم وتأثيرهم كانا ولا يزالان يرتبطان ارتباطا وثيقا بالأحوال السياسية للقبائل في هذا الجزء من الجزيرة العربية. وهم يحتلون جزءا من الساحل ضمن الخليج العربي وينحصر بين سلسلة الجبال وساحل البحر ويمتد هذا الجزء باتجاه (خصب) وحتى جزيرة (البحرين) وهي مسافة يبلغ طولها ثلاثمائة وخمسين ميل. وتحمل هذه المنطقة على الخريطة اسم (ساحل القراصنة).

يمكن إرجاع تاريخ هؤلاء القراصنة إلى عهود موغلة في القدم. ففي تفسير (ابن حوقل) للقرآن الكريم (٢) ، يخبرنا المؤلف بأنه قبل إطلاق سراح بني إسرائيل من الأسر المصري ، استولى رعايا أحد ملوك القراصنة في هذه البقاع على كل سفينة ثمينة تمر بهم. وقد ساعدهم امتلاكهم عددا قليلا من الموانئ في مدخل الخليج العربي وقربه ـ حيث لا يتجاوز عرض المسافة أكثر من ثلاثين ميل ـ على رؤية كل السفن القادمة ومهاجمتها. ولم يقتصر سلبهم ونهبهم على هذه المنطقة حسب ، إذ لم تستثنى مجمل الحدود الجنوبية للجزيرة العربية والحدود الشمالية للهند من عملياتهم التدميرية. وأثبتوا للبرتغاليين في أثناء إقامتهم القصيرة في الهند بأنهم مصدر قلق واضطراب مثلما كانوا كذلك بالنسبة لنا (٣) في الربع الأخير من القرن الثامن عشر.

ظل إمام (مسقط) في حالة حرب دائمية مع هؤلاء اللصوص. ففي سنة (١٨٠٥) واجههم

__________________

(*) يقصد المؤلف هنا قبيلة القواسم والتسمية تعكس حدة المواجهة التي أبداها سكان الخليج العربي تجاه الأطماع الاستعمارية ورفضهم للوجود الأجنبي على مياههم وسواحلهم البحرية.

(**) كذا في الأصل الإنجليزي ولا يعرف للمذكور تفسير للقرآن فقد كان جغرافيا ورحالة ومن أشهر كتبه (صورة الأرض) توفي عام ٣٦٧ ه‍ / ٩٧٨ م.

(***) أي للانجليز.

١٣٣

(السيد سلطان) وهو عم (١) الأمير الحالي ، قرب (لنجه) وبعد معركة حامية الوطيس لقي مصرعه. أما السيد سعيد فقد ساعدنا في كل محاولاتنا لاستئصال شأفتهم.

ليس من الضروري هنا الآن البحث في الدوافع التي حدت بالحكومة الهندية إلى تحمل أعمال النهب والسلب التي كان يقوم بها أولئك اللصوص. وربما أمكننا أن نعزو السبب إلى الصراعات التي كنا نشتبك فيها مع مختلف القوى في الهند. لكن إذا كان الأمر كذلك ، فإن من المؤكد أن البحرية الهندية ـ التي تشكل قوة الغرض من تأسيسها قمع القرصنة والقضاء عليها ـ تلقت تعليمات مفادها ألا تكون عدوانية بأي حال من الأحوال ، بل أن يقتصر دورها على صد أي هجوم يشن ضدها. وتفيد الحكاية التالية في توضيح العلاقة الفريدة التي كانت قائمة بيننا.

كانت هناك سفينتان من سفن (القواسم) ترسوان في منطقة (بوشهر) في الخليج العربي قد أوضحتا للمقيم البريطاني في ذلك المكان بأنهما بحاجة إلى بارود المدافع ، فما كان منه إلا أن أصدر تعليماته إلى إحدى السفن الراسية في الميناء بتزويدنا بالكمية التي نحتاجها استنادا إلى التعليمات التي كان يلتزم بها من حكومة الهند بضرورة الاحتفاظ بعلاقات هادئة معهم. وما إن استلمت السفينتان البارود حتى بدأ الهجوم على تلك السفينة التي كانت محملة بالمؤن والبضائع على ظهرها وراسية في الميناء. إلا أن هذه السفينة التي كانت بإمرة ضابط شاب وشجاع (الذي يؤسفني ألا أستطيع ذكر اسمه) قطعت حبل مرساتها وأفلحت في القضاء عليهم بعد دفاع مستميت.

سأضيف حالتين أخريين ، تكشفان عن أسلوب تقدمهم عند ما ينجح في القبض على إحدى السفن :

في سنة ١٨٠٨ ، هو جمت سفينة صغيرة تدعى (سيلف) ، لا تزيد حمولتها عن مائة طن ومتجهة من (بومباي) وحتى (بوشهر) وعلى ظهرها أحد الوزراء الفرس ، قرب جزيرة

__________________

(*) كذا في الأصل الأنجليزي وصوابه والد الأمير وليس عمه والحادثة جرت في ٣٠ نوفمبر / تشرين الثاني عام ١٨٠٤ م أما (قيس) عم السيد سعيد فقد قتل في معركة خورفكان عام ١٨٠٨ م ولعل الأمر اختلط على المؤلف.

١٣٤

(كنج) ، بوساطة سفينتين كبيرتين من سفن (البغلة) على متن كل واحدة منهما طاقم مكوّن من حوالي مائتي رجل. وبعد معركة قصيرة ولكنها حاسمة ، تم اقتياد السفينة وعندئذ بدأ العرب بقتل الناجين منها. إلا أن هذه العملية توقفت لحسن الحظ عند ظهور سفينة صاحب الجلالة (نيريد) التي أطلق قبطانها النار على السفينتين بعد أن رأى ما جرى ، وأغرقها بمن فيها. أما الحادثة الأخرى ـ وهي حالة من بين العديد من الحالات الموجودة أمامي ـ فتشير في تفاصيلها إلى صورة أكثر فظاعة ونفورا للهمجية المتوحشة.

فقد كانت السفينة التجارية (منيرفا) تتقدم باتجاه (بوشهر) عند ما صادفت أسطولا كبيرا في نفس البقعة تقريبا. وبعد معركة مستمرة استغرقت يومين اقتيدت هي الأخرى ، كما هي العادة ، بالصعود على ظهرها. وحاول القبطان (هو بكود) الذي أدرك المصير القاسي الذي ينتظره أن ينسف السفينة لكنه أخفق لسوء الحظ ، وهنا بدأ ذبح الضحايا. كان أول ما فعله القراصنة هو تنظيف السفينة بالماء والعطور ولما فرغوا من ذلك تم ربط الأفراد وقدموا الواحد تلو الآخر باتجاه الممر حيث أقدم أحد القراصنة على حز رقابهم وهو ينادي بالعبارة التي يطلقونها عادة عند ذبح القطيع : «الله أكبر» وكانوا ينظرون إلى ذبح هؤلاء على أنه تضحية لاسترضاء نبيهم. ولإظهار هؤلاء البؤساء الخارجين عن القانون يحملون بعض الصفات المدهشة للشخصية الوطنية التي جعلت من العرب شاذين في تاريخ الأمم المتوحشة ، فإن بعض الصفات الأكثر نبلا امتزجت بوحشيتهم القاسية. إن شخصية النساء وفضيلتهن كانت دوما موضع احترام ، وكان من شأن تصرف معاكس أن يجلب عليهن العار وعلى قبائلهن الخزي. وكان أحد الضحايا من المسلمين فأبقوا على حياته بعد أن جردوه من ثيابه وسلبوه ما يملك ، إلا أن الموت كان ينتظر الكافرين بالمرصاد. ولا بد من أن أضيف القول بأن وحشيتهم تزداد سوءا ، كما أوضحت ، عند ما يواجه انتقامهم مقاومة تكلفهم بعض الخسائر في أرواح رفاقهم (١).

إن الشجاعة التي ليس لها نظير هي بلا شك شجاعتهم وإذا تم أسرهم ، فإنهم يتقبلون

__________________

(*) يبدو أن هذه الحادثة كانت رد فعل وانتقام لتصرفات شنيعة تعرض لها وراح ضحيتها مجموعة من أقاربهم غير أن تاريخ القرصنة الأوروبي في حوض البحر الأبيض المتوسط وما فعله البرتغاليون أمثال ألفونسو دلبوكرك ما هو أفظع ممارسمه المؤلف لنا هنا.

١٣٥

المصير الذي ألحقوه بغيرهم. وعند ما يقعون في أيدي الفرس ، أو أية أمة أخرى من الأمم التي تحيط بهم ، فلن ينجو منهم أحد. فبعد تدمير واحد من حصنهم ، اقتيد العديد منهم إلى ظهر سفننا وهم أسرى. ولما كانوا لا يعرفون ما سيحل بمصيرهم ، وقبل أن تضمد جراحهم ، سئلوا عن المعاملة التي يتوقعونها. فكان الرد الحازم المميز : «نفس الموت السريع الذي كنا سنلحقه بكم لو كنا في مكانكم».

واليوم قلّة هي تلك السفن التجارية التي تغامر بالإبحار بين الهند والخليج العربي دون أن تواكبها سفينة حربية لحراستها على الإبحار بين الهند والخليج العربي في حين باتت مراكب المواطنين عرضة للسلب والنهب. وقد توقفت الكثير من العمليات التجارية ونفد صبر الحكومة أخيرا.

في سنة (١٨٠٩) أرسلت حملة ضدهم بقيادة القبطان (وينرايت) في سفينة صاحب الجلالة (شيفون) وترافقها عدة سفن من البحرية الهندية وكتيبة من الجيش من بومباي بقيادة العقيد (سمث). وتم اقتحام معقلهم الرئيس (رأس الخيمة) والاستيلاء عليه ، كما أحرقت خمسون من أكبر سفنهم أو دمرت. كما تم إخضاع (لفت) على جزيرة (قشم) إضافة إلى إخضاع العديد من الموانئ الأخرى. وعلى الرغم من أن هذا العمل قد أوقف نشاطهم برهة من الزمن ، إلا أنهم سرعان ما شرعوا ببناء موانئهم من جديد ، وعادوا تدريجيا إلى ممارساتهم القديمة.

في هذه الفترة الزمينة ، اضطرت أعداد كبيرة من الوهابيين بسبب نجاح (محمد علي) وجيشه في جزيرة العرب وسقوط عاصمتهم (الدرعية) إلى الهرب إلى ساحل البحر حيث كانت القبائل هناك بعض القبائل قد اعتنقت مذهب مؤسس الطائفة. وبالنسبة لذلك البدوي المترحل والمتمرد فإن حياة التجوال والمغامرة لدى القرصان ، تحمل له الجاذبية والسحر. إنها مجرد نقل مسرح العداء البدوي لبقية أبناء جنسه من البشر من رمال الصحراء إلى مياه البحار وقد نجم عن ذلك أن انضم إليهم عدد كبير وأصبحت قوتهم ضاربة حقا.

لقد كانوا ينطلقون من موانئهم على الجزء الجنوبي من الخليج العربي في سفن كبيرة

١٣٦

وسريعة تزن الواحدة منها ما بين مائتين إلى أربعمائة طن ، ويقدر عددها اليوم بمائة سفينة. وكان انطلاقهم بشكل أسطول كبير وكانوا يجعلون جميع سواحل الجزيرة العربية ومدخل البحر الأحمر وشواطئ الهند الشمالية في حالة دائمية من الذعر والإثارة. وكانت المعارك التي تحدث بين فترات مختلفة معارك يائسة وكثيرة تنشب بينهم وبين سفن البحرية الهندية التي اضطرت الآن إلى سلوك طريق آخر يختلف عن الطريق الذي كانت تسلكه فيما مضى من الزمن. وعلى الرغم من أن هجمات القراصنة كانت تصد أو تهزم أو يتم اجتياح معاقلهم الرئيسية ، لكن لا يبدو أن عزيمتهم قد خارت ولا معنوياتهم في أي وقت من الأوقات. إذ سرعان ما كانوا يبنون السفن الجديدة أو يقومون بشرائها ، ويشيدون الحصن الجديدة وبعد فاصل قصير يشنون هجماتهم من جديد.

استحوذت الأحداث المرتبطة بعملياتنا في الهند ضد المهراجات على اهتمام الحكومة وأموالها إلى الحد الذي لم يعد فيه ممكنا توفير القوة العسكرية اللازمة لمعاقبة القراصنة ، في بعض الأحيان ، إلّا بصعوبة كبيرة. لكن ما أن تنتهي عملية حتى يظهروا من جديد. وتفاصيل حملة سنة (١٨١٩) معروفة جيدا ولا ضرورة لإعادة سردها من جديد. لكن يكفي القول بأنه عند ما سقطت بأيدينا (رأس الخيمة) والشارقة وغيرهما من الموانئ ، فإن جميع قواربهم تم حرقها أو بيعها وأزيلت قلاعهم من على وجه الأرض. وتم الحصول على معلومات تفيد بأن أساطيلهم تمكنت من الهرب من أمام سفننا وذلك بأن لجأت إلى العديد من المغاور التي تكثر في هذا الجزء من جزيرة العرب ، وكان الخوف من المخاطر المجهولة هو الذي حال بيننا وبين اللحاق بهم. وعند ما نقل هذا النبأ إلى الحكومة الهندية ، قررت وجوب دراسة الأمر دراسة دقيقة. ولما كنت لفترة من الوقت أعمل ضمن فريق الدراسة ، فقد سنحت لي أطيب الفرص في جمع المعلومات التي سأفصلها الآن.

إن العلم مدين لهذه الحملات بسبب المسوحات الممتازة في الخليج العربي. وعلى الرغم من الصعوبات والحرمان الذي لقيته هذه السفن عند مواجهتها الطبيعة الخطرة للملاحة والطبيعة الغيورة والعدوانية التي يتصف بها السكان المحليون. والمؤثرات المناخية القاسية التي تبلغ فيها درجة الحرارة حدا لا يطاق ، فإنها ـ سفن المسوحات ـ

١٣٧

واظبت على مهمتها بنجاح. وكانت النتيجة مرضية كل الرضا لا من حيث إضافة المعلومات إلى ما نملكه من مخزون المعلومات في الجغرافية فحسب ، بل أيضا في تزويد الحكومة بتفاصيل دقيقة عن العديد من القبائل وأحوالها ومصادر ثروتها مما دفعها في خاتمة المطاف إلى دراسة معظم سواحل الخليج العربي على نحو مماثل. ومع هذا ، فإن حصر أنفسنا في هذا الجزء ، فإن أفضل أسلوب لتفريق القراصنة إنما يمكن في ترك أماكن سكناهم مكشوفة لنا ، إذ طالما ظلت هذه مجهولة عندنا ، فإن إحساسا بالأمان الحقيقي أو الزائف ، سوف يدفعهم إلى ممارسة أفعالهم السابقة. إلا أن واقعة مسح السفن الإنكليزية لشواطئهم تكفي وحدها لإعطائهم فكرة عن أننا ينبغي أن نحصل على معلومات تامة عنها. لهذا السبب ، فإن النتيجة أعطت مسوغا للتوقعات ، إذ ما أن أكملت المسوحات وأسس نظام المراقبة الدقيق ، حتى تحولت أساليبهم ومصادرهم ، كإجراء ضروري ، من حياة القراصنة إلى التجارة (١). لا تزال تحدث بعض النزاعات القليلة الشأن من حين لآخر بين قوارب مختلف القبائل المتنافسة ، لكن معظم سفنهم شرعت الآن بالتجارة في الخليج العربي وبسلام من ميناء إلى آخر ومن هناك إلى الهند أو إلى البحر الأحمر. وربما أمكن طرح السؤال بأن هذا الجزء من جزيرة العرب ـ ومنذ زمن قديم عند ما بدأت التجارة والملاحة ، على أيدي الفينيقيين ، بمحاولاتها الأولى في البحار الهندية ـ هل قدّم حماية مماثلة لرسو التجار عند إبحارهم على امتداد سواحلها (٢)؟

على أي حال ، ثمة سبب يدفع إلى الاعتقاد بأن مثل هذا الأمن لم يعد قائما طالما أننا نواصل سياستنا الراهنة إزاء الزعماء العرب. فلو سحبنا أسطولنا البحري من الخليج مدة موسم واحد فقط ، فإنهم سرعان ما يظهرون ثانية. فقد أعادوا بناء جميع مدنهم وربما كانت أكثر كثافة عن ذي قبل. وعند ما انتهت سنة (١٨٣٥) مدة الاتفاقية التي وقعناها سنة (١٨١٩) والتي تعهدوا بموجبها الامتناع عن القتال بحرا مع بعضهم البعض ، خاطبوا الحكومة الهندية بضرورة أن يلجؤوا إلى تسوية خلافاتهم بالطرق السابقة ، وهي خلافات

__________________

(*) هكذا يحاول المؤلف اقناع القارئ بأن مسوحات سفينة صنعت معجزة هي في الحقيقة من خيالات أوهامه.

(**) طرح مثل هذا السؤال ينبئ عن جهل المؤلف بتاريخ منطقة الخليج العربي وجنوب الجزيرة العربية ودورها الكبير في التجارة الدولية البحرية في العصور القديمة ويكفي دليلا على ذلك ما ذكره الكتّاب الإغريق والرومان عن بلاد العربية السعيدة.

١٣٨

نشبت مجددا فيما بينهم. ولما كان الجميع يعرف بأن هذا ليس إلا مبررا لشن هجماتهم على جيرانهم المسالمين ، فقد رفض طلبهم. لكن قبل ذلك ببضعة أشهر ، قام مركب قراصنة يعود لقبيلة بني ياس بالاستيلاء على مركب هندي ونهبه في أثناء تقدمه إلى (بوشهر). لكن مركب القراصنة واجه بعد ذلك مركبا وحيد الصاري ، فانتظروا اقترابه منهم وأعدوا العدة للهجوم على ظهره دون أن يردهم رادع. لكن ما أن انطلقت على جوانبهم المهلهلة دفعة من الكرات والإطلاقات النارية حتى أدركوا قوة العدو الذي تحدوه. ولما كانوا على بعد ياردات قليلة من بعضهم بعضا ، فإن الكثيرين منهم لقوا مصرعهم. ونتيجة لذلك تم اقتياد قائد السفينة العربية إلى الهند وقدم إلى المحاكمة في المحكمة العليا وحكم عليه بالسجن أربع عشر عاما يقضيها في المنفى. لقد كان القسم الأول من هذه القضية مفهوما جيدا لدى العديد من القبائل على امتداد الساحل ، إذ لم يتكرر وقوع مثل ذلك الحادث. إلا أن العقوبة التي بدأ يسري تنفيذها أثارت حيرتهم كثيرا. وخلال رحلاتي جرى تحذيري مرارا وتكرارا بعدم الاقتراب من أراضي هذه القبيلة التي هددت بالانتقام وبأن تحرق بالزيت أول أوروبي يقع في قبضتهم.

وهنا كما في أجزاء أخرى من جزيرة العرب ، وجدت صعوبة شديدة في تحديد عدد السكان ، إذ لا يمكن الاعتماد إلا قليلا على شهادة زعماء القبائل الذين يرغبون دوما في تعزيز قوة قبيلتهم والحط من شأن بقية القبائل. وعدد المقيمين فعليا متذبذب بسبب مسعاهم في البحر وارتباطهم بصيد اللؤلؤ. أما عدد أكواخهم فلا يوفر دليلا أكثر مدعاة للثقة لأن هذه الأكواخ غالبا ما يهجرها سكانها وتبقى فارغة بعد أن تدمرها الرياح لأنها مشيدة من سعف النخيل دون عناء كبير. ولكن بسبب استفساراتي العديدة ، فإنني أميل إلى أن أحدد عدد السكان بحوالي عشرين ألف نسمة باستثناء النساء والأطفال. القبائل الرئيسية هنا هي : (القواسم) و (المناصير) و (بني ياس) و (Mahama) ) ، وتعد القبيلة الأولى أقوى هذه القبائل ، إذ هي لا تملك معظم الموانئ الرئيسية على الساحل العربي فحسب ، بل استقروا على الساحل الفارسي أيضا حيث أصبحت لهم مدن كبيرة وقرى نامية. واسم القبيلة مأخوذ من اسم (ولي) الذي سكن في لسان من الأرض منخفض ، وسميت فيما بعد باسم (رأس الخيمة) تلك البقعة

__________________

(*) كذا ولا شك أنه تصحيف إذ لا توجد قبيلة بهذا الاسم في المنطقة.

١٣٩

من الأرض التي شيّد عليها أتباعه خيامهم فصارت فيما بعد بلدة صغيرة حملت نفس الاسم نفسه ، وسرعان ما اعتنق أفراد هذه القبيلة المذهب الوهابي الذين كانوا متحالفين معهم تحالفا وثيقا ولهذا السبب يمكن أن نعزو كراهيتهم الشديدة لأمراء عمان. ويعد زعيمهم اليوم شخصا سياسيا ماكرا ، وهو يتمتع بقدرات حربية عظيمة إلا أنه يفتقر إلى الشجاعة والجرأة التي تميز العربي. وقد دمرت عاصمته (رأس الخيمة) سنة (١٨١٩) لكن أعيد بناؤها فيما بعد وربما كانت جذابة أكثر ويقطنها عدد أكبر من الناس عن ذي قبل. ولو لم تظل سفننا في حالة صلة معهم باستمرار ، فإن مما لا شك فيه أن يقوم ببعض الاضطرابات.

القبيلة التي تأتي بعدها في الأهمية هي قبيلة (بني ياس). وكان زعيمها الراحل الشيخ (طحنون) (١) شخصية كبيرة ويتمتع بقدرة فائقة وله قوة اعتيادية مؤلفة من أربعمائة رجل مدججين بالسلاح والعتاد. وعلى الرغم من أن عدد هؤلاء يبدو قليلا ، إلا أنه يكفي لأن يمنحه نفوذا واسعا على خصومه وأن في وسعه حشد أربعة آلاف مقاتل في ميدان القتال.

لقد حظيت سفن المسوحات سنة (١٨٢٨) باهتمام كبير من لدن هذا الزعيم الذي كان شديد الولع بالعديد من الألعاب التي كان الضباط والرجال يقضون أوقات فراغهم فيها عند ما كانوا يتعاملون معه ، وكان سعيدا إذ يشارك الضباط رجاله في تلك الألعاب. وكانت روح الدعابة سائدة آنذاك. ففي أحد الأيام تقرر أن يتسابق أحد الضباط مع (طحنون) الذي كان أقصر قامة لكنه بالغ الحيوية ، محب للتسلية. وبعد بدء العدو بوقت قصير ، أصبح الضابط في المقدمة ، لكن عند اقترابه من الهدف وجد أن الشيخ الصغير يوشك أن يتجاوزه ، فما كان منه إلا أن رمى بنفسه في طريقه ، فسقط هذا وسط صيحات الضحك من قبيلته. لكنه لم ينزعج ، بل نهض وهنأ منافسه على حيلته. وفي المصارعة والقفز وغير ذلك من التمارين الرياضية ، كان العرب بارعين فيها ، بل كانوا يتفوقون على الأوروبيين.

إن السلطة التي يمارسها هؤلاء الزعماء لا تختلف إلا قليلا عن السلطة التي تتمتع بها حكومة الشيخ التي سأتحدث عنها الآن. إن سلطة الزعماء ـ وبسبب الطبيعة العنيفة والقاسية التي يتصف بها المحكومون ـ لا بد أن تكون بالضرورة ذات طبيعة استبدادية ،

__________________

(*) الشيخ طحنون بن شخبوط حكم في الفترة (١٨١٨ ـ ١٨٣٣ م).

١٤٠