رحلات في الجزيرة العربية

جي. آر. ويستلد

رحلات في الجزيرة العربية

المؤلف:

جي. آر. ويستلد


المترجم: د. محمّد درويش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجمع الثقافي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٠

الفصل الثاني عشر

بركاء ـ المصنعة ـ السويق

الخامس والعشرون من فبراير / شباط : في الساعة الثانية والدقيقة العاشرة غادرنا مخيمنا. كانت حياتنا في هذه البقعة في منتهى الكآبة والرتابة مما دفع الجميع إلى عدم الشعور بالحزن لمفارقتها. ولغرض عدم إغراء القبائل المتهورة التي سنوشك على الاختلاط بها بنهب ما نملك ، فقد قللنا من متاعنا حتى بات عبارة عن صندوق واحد والجزء الداخلي من الخيمة. وبهذا انخفض عدد الإبل إلى خمسة وهو نفس عدد أفراد المجموعة.

بعد مغادرتنا ضواحي القرية ، واصلنا حتى الساعة الرابعة والنصف اجتياز سلسلة من الحدائق والمناطق المزروعة بالنباتات الكثيفة. وكانت حقول القمح والشعير تبرز من بين التربة السوداء. وفي الساعة الخامسة والنصف ، داهمتنا عاصفة شديدة فشعرنا بالسعادة عند ما حصلنا على مأوى في مبنى بائس يدعى حصن Bedowih. هطلت الأمطار بغزارة ، وكان البرق والرعد شديدين حقا. في بعض الأحيان انقلبت العاصفة إلى إعصار وبان الهلع على الإبل حتى أنها ، رغم أنها تجولت بعيدا بحثا عن العشب ، تجمعت من حول الباب كلما انفتح وسعت إلى الدخول. كانت بعض النساء اللواتي لحقن بالجماعة من (السيب) يبكين طيلة الليل من شدة الخوف والبرد ، إذ كان السقف في المكان الصغير الذي احتشدنا فيه يسمح بنفاذ الماء في كل اتجاه ، وكان كل واحد منا مبللا تماما. وشعرت بسعادة غامرة عند ما انبلج الصبح وسمح لنا بالخروج من جحرنا وتدفئة أو صالنا المتشنجة.

الجمعة ، السادس والعشرون من فبراير / شباط : ملأت أمطار الليلة الفائتة قيعان جميع الجداول الجافة. وبعد أن فاضت المياه فوق ضفافها ، بدأت تندفع اندفاعا شديدا صوب البحر. وتمكنا بسهولة من قطع جميع هذه الجداول ونحن على ظهور الإبل ، لكن في حالات كثيرة ، كانت أقدام الحمير البائسة التي تسير أمامنا ، تزل في عنف التيار وتوشك على الهلاك. كان كل جزء من أجزاء الطريق يمتلئ بمياه الفيضان ونتيجة لذلك أضعنا أي أثر

١٠١

للطريق وبعد التخبط والتعثر إلى الحد الذي غطتنا فيه الأوحال ، أقنعت (علي ابن ميغاتي)(Megati) بالتوجه إلى ساحل البحر. كان الفلاجون الذين صادفناهم في طريقنا في سعادة غامرة يتوقعون حصادا وفيرا وكلأ غنيا ترعى فيه قطعانهم. والحق أن مما يثير الدهشة الشديدة ملاحظة التحول الذي تحدثه زخة مطر واحدة في سطح هذه البلاد. فأكثر البقاع الجرداء والمجدبة تصبح مكسوة بطبقة رقيقة من الشعب مما يغير معه وجه البلاد. إلا أن هذا لا يدوم طويلا ، لأن قطرات الندى في الليل توفر الغذاء لفترة قصيرة من الزمن وتعقبها حرارة الشمس الشديدة التي تحيل كل شيء بعد أسبوع أو عشرة أيام إلى قفر وجفاف كما في السابق.

كانت (بركاء) في السابق مصيفا للإمام ، وفيها تخلص الإمام بواسطة خدعة بارعة من خاله شديد المراس سيف بن Buddu (*).

تشتهر (بركاء) حاليا بحصنها الذي يبدو واضحا من جهة البحر نظرا لارتفاعه الشاهق وحجمه الضخم. وقد نصبت فوقه ثلاثون قطعة مدفعية ، إلا أنها لا تلقى عناية كبيرة مما يتعذر إطلاق نار نصف عددها. ومع هذا فالعرب يعتقدون أن الحصن منيع ، ولكن بقدر ما يتعلق الأمر بهم فإنهم على خطأ لأن الجهل المطبق في مثل هذه الحالات يشترك فيه المهاجمون والمحاصرون ، وتكفي الوسائل التي يمتلكها الطرف الأول لقهر المزايا التي يمتلكها الطرف الثاني. كانت امرأة (السيد هلال) موجودة في هذا المكان أثناء زيارتي ولهذا السبب لم يسمح لنا بالذهاب إلى ما هو أبعد من أحد الأبراج القريبة من المدخل. ومن قمة هذا البرج ، حصلت على مجموعة قياسات دقيقة ومنظر جميل للمدينة والمناطق المجاورة لها. كان الحصن محاطا ، وعلى بعد مسافة مائتي ياردة من كل جانب ، بسور ذي أبراج مستدقة ، وفي المنطقة المحصورة بينهما ـ أي السور والحصن ـ بعض البيوت الجميلة.

وشاهدت أن العديد من هذه البيوت ذات أعمدة في مقدمتها وتدعم رواقا غير مهندم

__________________

(*) كذا في الأصل الإنجليزي وصوابه ابن عمه بدر بن سيف. وقد حدث ذلك عام ١٨٠٧ م في قرية تسمى (نعمان) وفقا لما ورد في المصادر التاريخية العمانية. تجدر الإشارة إلى أن بعض المصادر التاريخية العمانية تذكر أن بدر بن سيف كان خال السيد سعيد وابن عمه في نفس الوقت.

١٠٢

البناء. لم يسبق لي ملاحظة مثل هذا الطراز في أي جزء من أجزاء جزيرة العرب. أما بقية المنازل فهي عبارة عن أكواخ تضم بين جدرانها العدد الأكبر من السكان.

يبلغ عدد سكان المنطقة حوالي أربعة آلاف نسمة بما في ذلك النساء والأطفال. ويشتغل عدد كبير من هؤلاء السكان ، كما هو شأن بقية الأجزاء الساحلية ، في الصيد ، في حين يهتم الآخرون برعاية أشجار النخيل. أما السوق فمزدحم ويتقاطر عليه البدو من مختلف المناطق المجاورة لشراء الحبوب والأقمشة ، كما أن كل ما يتوفر في (مسقط) تجده متوفرا هنا. والمرسى في (بركاء) عبارة عن مكان مفتوح لرسو السفن لا يوفر أي حماية من الرياح. وتنطبق الملاحظة نفسها على سكان كل مدينة تقريبا في الساحل ، ولهذا لا نجد إلا عددا قليلا من مراكب (البغلة) تقوم بمهام تجارية على امتداد الساحل. ويتم نقل البضاعة من (مسقط) وإليها بوساطة قوارب صغيرة حمولتها تتراوح بين ثلاثين إلى أربعين طن. ومع ازدياد الأحوال الجوية سوءا ، فإنه يسهل جذب مثل هذه الزوارق الصغيرة إلى الساحل لتتفادى هيجان البحر.

وتبلغ العائدات الإجمالية في (بركاء) ما بين ثلاثمائة إلى أربعمائة دولار سنويا. وتأتي هذه العوائد بالدرجة الأساس من التمور التي تفرض عليها رسوم تقدر بعشرة بالمائة شأنها شأن كل الصادرات والواردات. ويحتفظ الإمام بقوة صغيرة تقدر بمائتي رجل تدفع رواتبهم جزئيا من هذه الضرائب.

الأحد ، الثامن والعشرون : أمضينا النهار ونحن نستمع إلى بعض قضايا المحاكم ذات الصلة أساسا بالديون والمخالفات البسيطة التي يحكم فيها القاضي. هطلت الأمطار مدرارا طيلة اليوم ، وتعذر علينا السفر ، إلا أننا استمتعنا استمتاعا كبيرا ونحن نراقب المشاهد الكثيرة التي تحدث في السوق. فالبائع يضع مختلف حاجاته في كومة أمامه ويجلس إلى جوارها. وإذا ما اقترب أحد المشترين ، فإنه يتم التوصل إلى اتفاق بين الاثنين بعد كلام قصير. لكن انظر إلى الاختلاف. فعلى مسافة بضع ياردات ، تجلس امرأة تبيع الحبوب ، فتقترب منها إحدى النساء بهدف الشراء ، فتتواصل حرب الكلمات بين الاثنتين إلى قرابة نصف ساعة دون أن تبدو أي بارقة أمل بالتوصل إلى نتيجة. وثمة غلام ومعه سلة تمر يضعها فوق رأسه وهو يرزح

١٠٣

تحت ثقلها وينادي على بضاعته ونوعية التمر الجيدة وسعره. وثمة رجل يعتمر عمامة يسير جيئة وذهابا وهو يحتذي صندلا في قدميه. وعلى مسافة قريبة بعض القصابين الذين يوزعون لحم البقر والضأن على الناس المتجمهرين من حولهم بعد أن يزنوها بميزان خشبي فج تستخدم فيه الحجارة بدلا من المعايير المألوفة.

الاثنين ، التاسع والعشرون من فبراير / شباط : بعد أن غادرنا (بركاء) في الساعة الثامنة ، شرعنا باجتياز مختلف القرى والمدن الواحدة تلو الأخرى ، وقد أوردتها كلها على الخارطة. يتم صيد الأسماك في هذه البقعة بكميات كبيرة باستخدام شباك يبلغ عمقها عدة مئات من الأقدام ، ويتم نقلها بالقوارب. ويثبت الجزء العلوي منها بقطع خشبية صغيرة تصنع من سعف النخيل في حين أن الجزء الأسفل مثقل بالرصاص. ويرتبط بكل جانب من الشبكة حبل ويفيد في سحبها إلى الساحل بثلاثين أو أربعين رجلا. وبهذا فإن كمية السمك الذي يتم اصطياده عظيمة جدا. وبعد أن يستهلكوا حاجتهم منه ، يتم تمليح القسم الباقي ونقله إلى الداخل. وعند ما تكون الشباك ملكا عاما للقرية كلها ، وهذا أمر مألوف ، فإن الإنتاج يوزع بين أفراد القرية جميعا ، حيث يقتسمونه بالتساوي. أما إذا كانت ملك أشخاص معينين ، أو ملك إحدى الشركات ، فإن أولئك الذين يسهمون بالمساعدة يحصلون على ما يوازي جهدهم في الصيد.

عند وصولنا أول مرة إلى (المصنعة) ، توجهت بادئ ذي بدء إلى منزل الشيخ ، وبعد انتظار قرابة ساعة في الفناء وسط عبيده ودون أي حماية من الشمس ، انتابني الغضب إلى حد ما ، وتوجهت إلى بستان نخيل صغير يبعد قرابة ميل من المدينة حيث نصبنا خيمتنا.

في صباح اليوم التالي زارني الشيخ الذي جاء مستفسرا عن سبب مغادرتي البلدة دون رؤيته. وحاول أن يبدو بمظهر أو بحالة سيئة بقدر ما تسمح له به هيئته وأخذ يروح جيئة وذهابا أمام أتباعه الذين كان يبلغ عددهم حوالي ثلاثين رجلا. وبعد أن جلس ، وأوضح سبب زيارته ، شرحت له ببساطة إنه ليس من عاداتنا المألوفة أن نظل واقفين في انتظار أي شخص أمام بابه مدة طويلة كالمدة التي قضيتها في انتظاره عند باب بيته ، وقلت له إنه إذا كان يدرك ذلك فإنني أشعر بالأسف حقا لأنه لم يعر أهمية تذكر لشخصية ضابط إنكليزي

١٠٤

كما فعل هو ومن ثم يفترض أن هذا الضابط في وسعه تحمل مثل هذه المعاملة ، وإنه إذا كان عبيده خدمنا ، فإنهم سيلقون عقابا صارما نتيجة تقصيرهم. وهنا عبّر عن شدة دهشته لكل هذا الذي تظاهر بأنه يسمعه أول وهلة ، وقال إنه كان يؤدي فرض الصلاة وإن الأمل يراوده في ألّا أفكر ثانية بالمسألة. ثم استأذن بالانصراف بعد ذلك مقسما على أن ينتقم من خدمه ـ وهذا ادعاء زائف كله ـ إذ كان هؤلاء أنفسهم يقفون من حوله. لكن من الإنصاف القول إن مثل هذا التصرف ليس شائعا على أي حال ، إلا إذا كان الشيخ عديم الشأن والأهمية ، كما هو الأمر في مثل هذه الحالة ، ويحاول إضفاء الهيبة على نفسه أمام عيون أتباعه فيترك الأشخاص ، مهما كان موقعهم ، ينتظرونه طويلا عند زيارتهم له (١).

تشكل أشجار النخيل على امتداد هذا الساحل بستانا واحدا مستمرا حتى (خور فكان) ، وهي مسافة تقدر بمائة وخمسين ميل ، ويقول العرب إن المسافر قد يسير على امتداد هذه المسافة كلها دون أن يفقد الظلال. وتشكل التمور صادرات عمان الرئيسية ، وتصدر كميات كبيرة جدا إلى الهند حيث يستخدم القسم الأعظم منها في صنع العرق الحكومي. ويهوى أبناء الطبقة الوسطى من السكان المسلمين والهندوس التمور إلى درجة كبيرة ، حيث تستورد أفضل أنواعها من البصرة والبحرين ، أما التمور العمانية فتأتي في المرتبة الثانية. وثمة طرق عديدة لحفظ التمور ، فالبعض يتم تجفيفه ببساطة وينظم في خطوط. أما الطريقة الأخرى فتتمثل في حفظه داخل سلال. وعلى الرغم من أعداد النخيل الهائلة ، إلا أن لكل نخلة مالك خاص بها ، ونتيجة لذلك ، فإن الخلافات بين أقرباء أحد المتوفين المالكين للنخلة شائعة إن لم يحرر المتوفى وصية يحدد بها من يرث نخلته. ومع اقتراب وقت الظهيرة ، غادرنا مخيمنا ، وواصلنا رحلتنا على امتداد الساحل ، ونحن نمر بالقرى والمدن الصغيرة. ويبدو أن المكان يكثر فيه الحطب ، الذي يجمع على شكل حزمة كبيرة توضع على امتداد الشاطئ حتى تتمكن القوارب المارة من الرسو لشرائه وتحميله على الفور. وفي تلك البقعة مررنا بهيكل عظمي لأحد الحيتان وبعدد كبير من جذور الأشجار والأخشاب

__________________

(*) يتضح للقارئ من هذه الحادثة غطرسة وصلف المؤلف وجهله بأن طبيعة العلاقة بين السلطان في مسقط وشيوخ القبائل ليست علاقة سيد بعبيده وبالتالي على الرحالة الأجنبي أن يقيم جسور علاقة ودية مع هؤلاء الشيوخ وأن يتحلى بالصبر والحكمة لكن أنّى لشاب مغامر وجريء أن يتصف بهذه الصفات في أوقات المحن والشدائد.

١٠٥

المهملة وأنواع عديدة من الشوك البحري. لقد كان ساحل البحر يتكون بالدرجة الأساس من أجزاء متناثرة من المحار الممتاز ولهذا جمعت عددا من الأنواع الجميلة جدا منها.

في الساعة الثالثة والنصف وصلنا إلى (السويق) ووجدنا الشيخ غائبا يبحث عن الوهابيين الذين كانوا على مقربة من المكان كما قيل. غير أن زوجة الشيخ استقبلتنا بكل حفاوة وأمرت بإعداد بيت ومأوى لنا في الحال. وكانت أوامر هذه السيدة دقيقة وواضحة. فقد قالت مخاطبة عبيدها : «اسهروا على راحة هؤلاء السادة ، ولا تتركوهم بحاجة إلى أي شيء وإلا فسوف تقطع أعناقكم». وعلى هذا الأساس حظينا بكل أنواع الطعام الطيبة التي قدمها لنا مطبخ الشيخ.

وعند الغروب عاد الشيخ بعد رحلة بحث خائبة. كنت قد أتيت برسالة إلى هذه الشخصية المتميزة من حكومة بومباي ، إذ كان يعتقد بأنه ذو نفوذ واسع على البدو في المنطقة الشمالية من عمان. وربما لم يبعث في نفسه شيء من السرور والارتياح قدر ما بعثته هذه الرسالة ، ولهذا فإنه لهذا السبب من جهة ، ولطبيعته المحبة لضيافة الآخرين عن جهة أخرى ، سهر على راحتي خلال إقامتي.

يبلغ (السيد هلال) (١) وهو ابن عم (السيد سعيد) الخامسة والثلاثين من العمر. أما من حيث شخصيته فهو يأتي بالمرتبة الثانية بعد الأمير نفسه. وهو شخص ذو قامة فارعة ، وشخصية مهابة وبارع في كل الفنون الحربية. ويحب الصيد وبقية أنواع الرياضة حبا شديدا. وعلى الرغم من هزاله ، فإنه يعد أقوى بني قومه إضافة إلى رشاقة حركته. كما أنه شديد السخاء. وقد سمعت العرب في مسقط يذكرون أنه عند زيارته الإمام تلقى هدية منه مقدارها ثمانمائة أو ألف دولار. وما أن مضت ساعتان على استلامه الهدية حتى وزعها كلها بين أتباعه.

عند ما كانت المراكب تزور هذا الساحل سنة (١٨٢٨) ، كان جزء كبير من المناطق المحيطة به ، بما في ذلك بساتين كثرى Kothra الواسعة وغيرها من العديد من المدن على

__________________

(*) هو هلال بن محمد بن أحمد بن سعيد البوسعيدي ابن عم السيد سعيد. اغتيل سنة ١٨٦٢ م في مكيدة خطط لها وراح ضحيتها قيس بن عزان كما تشير إلى ذلك المصادر التاريخية العمانية.

١٠٦

ساحل البحر ، تابع لهذا الزعيم. ولكن بعد مرور وقت قصير على استيلاء شيخ (صحار) (١) على أراضي الزعيم ، بأمل زيادة عدد قواته حتى يتمكن من العمل بكفاءة أكبر ضد الإمام ، قام بتقديم عرض إلى العديد من الشيوخ الصغار وأتباعهم يفيد بأنهم إذا انضموا إليه وتخلوا عن (السيد هلال) ، فإنه سوف يلغي جميع الرسوم والضرائب التي فرضها عليهم ذلك الزعيم. كان العرض مغريا تصعب مقاومته ، وفي غضون أيام قليلة وجد (السيد هلال) نفسه وقد انتزعت منه كل أراضيه وعائداته وسلطته وأصبح بالنسبة إلى الإمام كمن أحيل إلى التقاعد بعد أن كان يملك نفوذا قويا حتى في مواجهة الإمام نفسه. وحدثت حادثتان تتصلان بهذا الصراع الذي يكشف عن قوة النساء العربيات ونفوذهن على نحو ينبغي عدم التغاضي عنه.

لقد اضطر (السيد هلال) قبل بضع سنين ـ إثر وعد بالحماية ـ إلى السير إلى (مسقط). ووجهت إليه بعض الاتهامات بمحاولة تخريب سلطة الإمام وذلك بتحريض البدو على التمرد. وما أن تناهى ذلك إلى سمع زوجة الشيخ وهي أخت (السيد سعيد) حتى أرسلت الرسل لجميع القبائل البدوية التي كانت تحت نفوذ زوجها وأعدّت العدة لتزحف شخصيا على مناطق نفوذ الإمام. لكن قبل وصول أي مساعدة ، أرسل الإمام قوة إلى (السويق) للاستيلاء على الحصن مؤكدا أن الشيخ سيكون مصيره الموت ما لم يستسلم الحصن. ولما وصلت الرسالة إلى المرأة الجريئة قالت : «عد أدراجك. عد أدراجك نحو أولئك الذين أرسلوك وأخبرهم بأنني سأدافع عن الحصن بكل ما أملك من قوة ، وإن شاءوا تقطيعه إربا أمامي ، فإن ذلك لن يغير شيئا من عزيمتي». وهكذا دافعت عن الحصن ببسالة ومهارة عظيمتين مما حدا بقوة الإمام إلى رفع الحصار والمضي نحو (مسقط) بعد أن تكبدت خسائر في الأرواح وإضاعة في الوقت. وبعد مضي عدة أشهر. بات الإمام واثقا من بطلان التهم الموجهة إلى الشيخ وسمح له بالعودة إلى مقر ولايته.

وكشفت أخت الشيخ (٢) عن سلوك مماثل عند ما كانت مسؤولة عن نفس الحصن أثناء

__________________

(*) لعل المؤلف يعني بشيخ صحار حمود بن عزان بن قيس إذ ثار في عام ١٨٣١ م واستولى على صحار وشناص.

(**) يتخبط المؤلف في شخصية هذه السيدة فقد سبق أن ذكر أنها زوجة السيد هلال وهنا يجعلها أختا له والمصادر العمانية تذكر للسيد هلال أختا اسمها جوخة دافعت عن حصن (السويق) المذكور فلعلها المتقصودة هنا. وربما أراد المؤلف أن يتحدث عن شخصيتين الأولى زوجة السيد هلال والثانية أخته والله أعلم.

١٠٧

تعرضه لهجوم مباغت شنه شيخ (صحار). كان شيخ (صحار) في طريقه إلى (الرستاق) على رأس قوة مؤلفة من مائتي رجل تقريبا دون أن تبدو منه بادرة تشير إلى إنه سيشن هجوما عليها. لكنه استدار بغتة ووضع كل قوته أمام الأسوار. على الرغم من أن الشيخ كان غائبا ، فإن المكان كانت تسهر على أمنه هذه السيدة التي أغلقت البوابات وجمعت رجال الحامية وألقت فيهم خطبة رنانة. وفي نهاية المطاف استخدمت المدافع المنصوبة فوق الأبراج استخداما جيدا مما حدا بالشيخ إلى التخلي عن كل مشروعه بعد أن مكث ثلاثة أيام وبذل العديد من المحاولات الفاشلة لقيادة جنده ثانية لشن الهجوم.

ويقال إن (السيد هلال) يكن شديد الاحترام لهذه السيدة التي يخشاها والتي يخشاها والتي لو لا نصيحتها وتعاونها لما كانت له أي أهمية.

١٠٨

الفصل الثالث عشر

شيخ السويق

يعيش (السيد هلال) في أبهة أكبر من أبهة أي زعيم آخر التقيته في عمان. فعدد العبيد الذي يعملون في منزله يتجاوز المائة كما يقال ، يرتبط عشرون أو ثلاثون منهم به شخصيا ويرتدون زيا أنيقا. وتم إعداد وجبة طعام في مطبخه تتألف من مختلف الأصناف وتكفي لثلاثين أو أربعين شخصا ، قدّمت في أطباق نحاسية كبيرة. وكان مثل هذا الطعام يقدم لنا مرتين في اليوم منذ وصولنا. وكانت ثياب الجميع على الطراز الفارسي الأنيق. وفي مثل هذه المناسبات ، تنتشر الأواني الصينية الزرقاء المذهبة ، والأطباق الزجاجية ودوارق الماء التي وضع فيها الشربت وغير ذلك من الأدوات الثمينة. وكان الشيخ يقضي ساعات طويلة معنا بعد العشاء. وكنت أحب كثيرا أن ادفعه للحديث عن مختلف الموضوعات ذات الصلة بالقبائل في المنطقة الشمالية من عمان. وقد زودتني أحاديثه بالكثير من المعلومات الممتعة والقيّمة.

ذات مرة كان برفقة أحد الرواة ، وكان يبدو مفضلا عنده. وقال الشيخ : «كلما أحسست بالحزن أو بالاضطراب ، فإنني أرسل في طلب هذا الشخص الذي سرعان ما يعيدني إلى حالتي النفسية المألوفة». ومن خلال طبقة الصوت العالية التي كانت تلقى بها الحكاية ، فإني لم أتمكن من متابعة خيط القصة وعند ما ذكرت له هذا الأمر ، أرسل لي الشيخ مخطوطة القصة التي استفاد منها الراوي. ومع اختلاف بسيط ، وجدت أن القصة تماثل قصة السندباد البحري المعروف جيدا لدى قراء (ألف ليلة وليلة). وعند ما قرأت هذه الحكايات المدهشة أول مرة بلغتي الأم ، فإنني لم أفكر يوما ما بأن قدري سيجعلني مستقبلا أصغي إلى القصة الأصلية في مكان متجانس جدا معها وبعيد.

مدينة (السويق) عبارة عن مدينة صغيرة مسوّرة تضم حوالي سبعمائة منزل. أما الحصن فهو متين البيان وضخم نصبت على أبراجه بعض المدافع ويكاد يتوسط البلدة ويسهر على

١٠٩

حمايته عبيد منزل الشيخ. ومن عادة العرب أن يحتفظوا بقطعتين أو ثلاث قطع من المدفعية خارج مدخل الحصون. وبينما أمر من أمام هذه ذات يوم بصحبة الشيخ ، استفسرت منه عمّا إذا كان وضع هذه المدافع بهذا الشكل أمام الحصن يشكل نقطة ضعف لان الحصن قد يباغت بهجوم وتستولي القوة المهاجمة على هذه المدافع وتتمكن على الفور من نسف البوابات وتدخل بيسر وسهولة. وهنا قهقه الشيخ وقال : «إن حروبنا تختلف إلى حد ما عن حروبكم. فقد سنحت لي فرصة المشاهدة في (بني بو علي). ففي المقام الأول ، فإن العرب ، وفي جميع الاحتمالات ، لا يفكرون في القيام بمثل هذا العمل. وحتى إذا قاموا به ـ إذ أننا لا نحمل مدافع عند ما نذهب للحرب ـ فإنني ارتاب في إمكانية قدرتهم على امتلاك كمية كافية من البارود ، وحتى إذا امتلكوها ، فلا أعتقد أنهم يعرفون كيف يحشونها بعد ذلك».

يقطن العدد الأكبر من سكان (السويق) في أكواخ صغيرة خارج الأسوار ويصنعون العمائم ، بيد أن القسم الأعظم منهم يشتغل في الصيد أو الزراعة شأن بقية المناطق الساحلية. وسكان البلدة خليط من أقوام عدة ، إلا أن التسامح يسود فيها كما هو الحال في (مسقط) حتى أن للشيعة مسجدهم الخاص بهم.

الجمعة ، الرابع من مارس / آذار : في الساعة العاشرة والدقيقة الخامسة والأربعين غادرنا المدينة برفقة الشيخ وحوالي أربعين فارسا. وبعد أن خرجنا من البساتين وأصبحنا في السهول الشاسعة ، عمد هؤلاء إلى تسليتنا بعرض لأساليب هجومهم في المعارك. وفي أثناء هجومهم وتوقفهم فجأة ، أظهروا سيطرة عالية على جيادهم وكانوا يستخدمون في ذلك أداة قاسية جدا. ولم تكن الجياد مزودة بركاب (١) ولا بسروج بل استعاضوا عن الأخيرة بقطعة قماش محشوة بالقطن توضع على ظهر الحيوان.

ويعد الرمح سلاحهم الرئيس المدهش الذي يبلغ طوله حوالي خمسة عشر قدما تزينه عند أحد طرفيه خصلة من ريش أحمر وأسود. ولا يترك الفارس سلاحه هذا بل تراه يحمله

__________________

(*) الركاب : حلقة معدنية تعلق على جانبي السرج يضع الشخص فيها رجله.

١١٠

بنفس الأسلوب الذي كان يحمله به فرسان أوروبا القدماء. وكانت الثياب الجميلة المزركشة من (نجد) تبدو رائعة عند ما تعدو الجياد بكامل سرعتها فوق السهل وبمختلف الاتجاهات. وفي هذه المناسبة ، تراهم يناورون حيث يمسك كل فارس بفخذ الآخر ويسير معه جنبا إلى جنب مما يدفع الجواد إلى الانطلاق بأسرع ما يستطيع. واصلنا طريقنا مسافة خمسة أو ستة أميال بصحبة هذه المجموعة المرحة التي كانت في أوج النشاط والإثارة. كان (السيد هلال) يعتلي صهوة جواد جميل تقدر قيمته بثلاثة آلاف دولار ، وكان جواده دوما في مقدمة الجياد في كل تمرين. في هذا المكان ترجل عن صهوة جواده وودّعنا وقد انتابه القلق على مستقبلنا ونحن نطرق أراضي جيرانه الذين تصعب السيطرة عليهم. صافحنا جميع أتباعه ومن ثم سرنا في طريقنا كما يقول (جون بنيان) (١).

تمتد البساتين والأرض المزروعة لمسافة تبعد عن الساحل بمقدار ثلاثة أميال. أما فيما وراء ذلك ، فإن السهول تكتنفها عدة جداول ماء ضحلة تكونت أصلا وسط التلال خلال الأمطار الأخيرة. وكانت أشجار السمر الضخمة تزين سطح الأرض. ويمكن مشاهدة راع من رعاة الغنم العرب وقد جلس يستريح تحت ظلالها في غالب الأحيان مع عدد كبير من كلاب ضخمة لمساعدته في السيطرة على القطيع الذي يأكل الكلأ من حوله. لكن مزماره وعصاه غائبان. وعوضا عنهما تراه يحمل رمحا وبندقية.

في الساعة الواحدة وصلنا مخيم البدو الكبير في (Kothra) ، وكان طريقنا يتجه من (السويق) صوب الشمال الغربي. كان المخيم عبارة عن بيوت مشيدة بالطين ولوقاية السكان من زخات المطر ، فإن سقوفها شيدت على شكل هرمي يشبه مخازن الضلال الإنكليزية.

أخبرني دليلي (سيد ابن مطلك) (٢) بأن الوهابيين اقتربوا من هذه البلدة ليلا قبل أربع سنوات تقريبا وهم يضمرون هجوما عليها ، وإضرام النار فيها كما هو دأبهم. لكن بسبب مشاجرة السكان المستمرة من جهة وتوقع هجوم من جهة أخرى في نفس الليلة ، فإنهم

__________________

(*) John Bunyan (١٦٨٨ ـ ١٦٢٨) كاتب إنجليزي ولد في ايلستو ببدفورد شاير من أشهر مؤلفاته (The Pilgrims Progress)

(**) كذا في الأصل الانجليزي وصوابه (علي بن Megati).

١١١

ظلوا في حالة استعداد دائم ، ولم يكتشفوا هوية عدوهم الذي هاجمهم إلا بعد أن كبدوه خسائر كبيرة. لقد كانت أعمال العنف عند هؤلاء المتطرفين تثير هلعا شديدا مما كان يدفع بالسكان إلى نسيان كل خصومهم عند اقترابهم منهم ؛ وتتحد جميع القبائل للدفاع المشترك. ولم تكن هذه الغزوات بلا فائدة ، فقد أثبتت في العديد من المرات ، كما في هذه المرة ، إنها وسيلة للجمع بين قبيلتين من القبائل ظلتا سنوات طويلة في حالة صراع وبعد ذلك يحدث التزاوج فيما بينهما وينعقد بذلك تحالف وثيق لا تنفصم عراه.

لقد باتت الآن قبائل (آل سعد) و (آل بو سعيد)(Sheid) و (آل هلال) متحدة اتحادا كونفدراليا ويقدر عددها الإجمالي بثلاثة آلاف رجل. وتملك هذه القبائل أعدادا لا عد لها ولا حصر من بساتين النخيل ومزارع الحبوب والسكر والقطن والنيّلة. وفي وسط هذه البساتين يوجد عدد من الحصون. فقد كان أفراد هذه القبائل يصعب انقيادهم ولا يعيرون اهتماما (للسيد سعيد) أو شيخ (صحار). وعلى الرغم من أنهم كانوا يدفعون ضريبة العشر إلى شيخ (السويق) ، إلا أنهم اصبحوا الآن في حالة عداء غالب معه.

وكانت التوقعات تفيد بأن خلافا ما سيؤدي في هذه الفترة إلى حدوث اضطرابات ، ولهذا السبب ، سلكت جماعتنا طريقا دائريا طويلا لتجنب مضاربهم. وقد تم تسوية الخلاف قبل عودتي لأننا مررنا بهم دون أي مشكلات. وفي الساعة الرابعة غيرت المنطقة من ملامحها. فقد أخذت الوديان العميقة والضيقة تقطع التلال ، وكانت كثيرة العشب ترعى فيها أعداد كبيرة من الأغنام. وفي الساعة الخامسة والدقيقة الخامسة والأربعين وصلنا إلى قرية (الفلج).

بدت المنطقة كلها في حالة من الذعر الشديد بسبب توقع هجمة يقوم بها الوهابيون. وكان (علي بن نجاتي)(Megati) يستفسر باستمرار عن أخبار كل من التقينا به في الطريق. من جهة أخرى ، كان ظهورنا وسطهم عبارة عن مشهد مسل من الذعر والفوضى. فالأولاد والبنات يصرخون ، والرجال يهرعون إلى سلاحهم ، والكلاب تنبح بلا انقطاع بينما هرعت النساء وهن يحملن أطفالهن بين أيديهن وصرخاتهن تضفي نغمة جميلة على مختلف الأصوات التي رحّبت بنا. وعبثا حاول علي رفع صوته ليعرّف بنا ، إلا أن ذلك لم يكن إلا

١١٢

سببا لزيادة الفوضى. عندئذ اقترحت أن تتوقف الجماعة عند ما وصلنا إلى مرتفع من الأرض وأرسلنا عبدا واحدا لتهدئتهم وتوضيح الأمور لهم ، فتحقق الأمل المنشود ، وما هي إلا دقائق قليلة حتى تحلق من حولنا الرجال والنساء وهم يثرثرون ويقهقهون بمتعة توازي ذعرهم السابق. بعد ذلك أرسلوا لنا وجبة طعام من لحم الضأن المسلوق والرز يكفي لمعظم أفراد الجماعة.

السبت ، الخامس من مارس / آذار : وجدنا في هذا الصباح أن حارسنا رحل خلال الليل مع الإبل والرجال وحمار (علي) على الرغم من التعليمات التي تلقوها من (السيد هلال) في (السويق) التي تقضي بمرافقتنا حتى (عبري). غير أنني سعدت لما أظهره الشيخ من غضب وما صبّه من لعنات عليهم وعلى آبائهم وأجدادهم ، حتى أنني نسيت وضعنا البائس وتأخرنا الاضطراري. لكننا طلبنا من الشيخ بعد تناول فطورنا بأن يتوجه إلى إحدى المدن الصغيرة القريبة منّا حيث اعتقدنا أن قافلة ما مرّت بها يوم أمس وأن عددا من أفرادها ربما أمكن اصطحابهم معنا. وعند الظهر ، عاد الشيخ وبمعيته عدد كبير منهم.

تقع بلدة (الفلج) في تجويف خلاب جدا ولا يزيد عدد بيوتها عن مائتي بيت تتوسط الأشجار التي تلقي بأوراقها الخضر اللامعة عليها ومن حولها حتى لم يعد يشاهد منها إلا جزء قليل. ولا يكفي الوصف المجرد وحده لإعطاء فكرة عن الأثر الفريد الذي يحدثه هذا التجويف الذي تحف به الخضرة إذا ما قورن بمظهر التلال ذات اللون الأبيض أو البنّي الفاتح التي تحيط به. في الساعة الواحدة والدقيقة العاشرة غادرنا (الفلج) مع ثلة من الحرس لا تزيد عن ستة أفراد ، أصرّ الشيخ على أن يرافقوننا. بدا أصدقاؤنا الجدد بمظهر اللامبالاة على الأقل في ثيابهم. كما أن بنادقهم علاها الصدأ. أما فيما خلا ذلك ، وفيما يخص المعدات وتنوع الأعمار والأشكال ، فإنهم لم يكونوا نماذج رديئة ممن جنّدهم (فولستاف) (١). يضاف إلى ذلك ، أنهم كانوا يمتطون ظهور حميرهم التي كانت صغيرة الحجم هنا إلى حد ما. وكان التناقض الذي يمثلونه إزاء أولئك الذين يمتطون ظهور حيوانات رائعة وأرسلوا لغرض حمايتهم لم يغب حتى عن ناظر علي الرزين والهادئ ، إذ ما

__________________

(*) جون فولستاف (١٤٥٩ ـ ١٣٧٨) ضابط انجليزي استطاع في عام ١٤٢٩ ه‍ إلحاق الهزيمة بجيش فرنسي في معركة «الرّنكة».

١١٣

تبين أن من شأنه السفر وإياهم حتى ترك حماره الذي أعطي له عوضا عن الحمار الذي فقده ، واعتلى صهوة أحد الإبل. كان طريقنا يمتد مسافة لا بأس بها على حافة أحد الوديان ويطلق عليه اسم (وادي الكبير) وكان قاعه مبللا في الوسط بفعل أحد الغدران فتشكلت على الجانبين بعض البرك الضحلة. اجتزنا اليوم بعض أعشاب الحنظل كما مررنا بنوع من الأدغال القصيرة ذات فاكهة صغيرة حمراء اللون تشبه في حجمها ونكهتها ضرب من التوت البري الذي يعشقه البدو. وفي الساعة الرابعة دخلنا وادي (رصة الخروص Russut El Kutoos بعد أن هبطنا في أحد الممرات وفي الساعة الخامسة والربع توقفنا عند قرية (سيدان)(Sidan) ، وهناك فرحنا بمحل إقامتنا الذي كان عند فتحة الممر حيث يبدو وسط مجموعة من الجبال الشاهقة. كانت القمم الوعرة المدببة لهذه الكتل الظليلة ، وهي تبرز بالتعاقب أمامنا ، مكسوة بآخر ما تبقى من شعاع الشمس الآخذة بالمغيب. أما بقية السلاسل الجبلية المنخفضة فكانت قد ضاعت وسط كآبة المغيب. وكان في وسعنا مشاهدة سيل جبلي عرضه خمسون ياردة يبرز من وسط السلسلة ثم يأخذ طريقه على امتداد الوادي وبين الصخور ومن فوقها علاوة على عقبات أخرى تحدد قعره. وسرعان ما أضرمنا نارا كبيرة على ضفته وأعددنا طعام المساء. بدأنا نفكر في المستقبل ونحن نجلس من حول النار نستمتع بدفئها وبحيويتنا ومعنوياتنا المألوفة كما من قبل ، ذلك المستقبل الذي تظهر آفاقه عفويا عند ما يستعيد الذهن مرونته وإيقاعه بعد أن أنهكه المرض لحين. إنني أعتقد ، وأنا تحت تأثير رد الفعل الغريب هذا ، بأن أي حادث أو مغامرة ، مهما كانا خطرين أو عنيفين ، لن يكونا ضارين بنا شريطة أن يوفرا قدرا من الإثارة.

السادس من مارس / آذار : بعد أن أخذنا صورة سريعة لمدخل هذا الممر والجبال المجاورة له ، واصلت رحلتي في الساعة العاشرة والنصف بين أرجاء الوادي. لم يكن هناك أي طريق باستثناء السير على امتداد قعر جدول الماء الذي كان في بعض الأماكن عميقا وسريعا جدا في بعض الأحيان مما كاد يتسبب في زلة قدم جوادي. وكانت تنتشر على كلا الجانبيين بعض بساتين النخيل ومجموعة متناثرة من الأكواخ. وفي الساعة الثانية من بعد الظهر ، صادفنا فرع جدول ماء إلى جهة الغرب وعلى امتداد وادي ثلة (Thilah). أصبحنا

١١٤

الآن وراء سلسلة الجبال الواطئة في طريقنا صوب القسم الرئيسي منها ، وهي سلسلة ترتفع ارتفاعا شديد الانحدار وتشكل جروفا يبلغ علوها ما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف قدم ، وتنتهي بأشكال مدببة وحادة. وتتكون هذه الجبال من مواد كثيرة كالميكة والإردواز والفلسبار مما جعلني أصرف وقتا طويلا في معاينة التواءات الميكة الفريدة. وكانت الألوة والأدغال القصيرة والأعشاب العطرية التي ترعى فيها بعض الأغنام هي العلامات الوحيدة التي صادفناها وتدل على حياة النباتات. وفي الساعة الخامسة والنصف توقفنا فوق قمة تل صغير. وبدا واضحا أن كل مخاوف علي إزاء الوهابيين قد أخذت بالازدياد إذ أنه أوقف حارسا محملا ببنادق محشوة للسهر طيلة الليل. وأدركت من خلال بعض الأسئلة العرضية التي وجهتها له بخصوص الموضوع بأن مخاوفه كانت ناجمة عن ظروف الطريق الذي نسلكه حاليا والذي لا يسيطر عليه (سيد سعيد) بل يسيطر عليه خصمه (محمد) (١) في (صحار).

الاثنين ، السابع من مارس / آذار : في تمام الحادية عشرة والنصف استأنفنا رحلتنا على امتداد وادي ثلة (Thilah) واجتزنا مداخل عدد من الوديان الجانبية. وبات طريقنا الآن شديد الالتواء والانحراف مما يصعب وصفه. في الساعة الثانية والنصف ارتقينا أحد التلال وكان ارتفاعه حوالي ثمانمائة قدم ، إلا أنني لم أتمكن من مشاهدة أي شيء من قمته سوى تلال وصخور مجدبة وكئيبة. وبعد اجتيازنا هذا الوادي ، وصلنا أراضى (بنو كلبان) الذين أفرح إقرارهم بسلطة الإمام صديقي سيفا الذي عبّر عند ترجله لأداء الصلاة عن رضاه بأن قدّم لناقته أكثر من نصف تجهيزاته من التمور. واصلنا الرحلة لمسافة ثلاث ساعات على امتداد الوادي الذي يدعى وادي (كلبان) ، وهو اسم السكان الذين يقطنون فيه ، واجتزنا مجموعة كبيرة من أشجار الألوة التي تشبه إلى حد كبير مثيلاتها من الأشجار في الهند أكثر مما تشبهها في (سوقطرة). في الساعة الخامسة والدقيقة الخمسين توقفنا في المنطقة المسماة (مسكن) قرب بعض مناطق القمح المسيّجة التي بدت بمنأى عن دخول قطعان الحيوانات بعد بناء سياج من أغصان شجرة السدر الشائكة. إن مسكن قرية صغيرة ويبدو إنها أخذت

__________________

(*) كذا في الأصل وصوابه (حمود بن عزان).

١١٥

اسمها من توسطها بين التلال. وقد سعدت كل السعادة وأنا ألاحظ وسط هذه البساتين أن المراحل المختلفة لنمو النباتات تبود أمامي لكل نوع على حدة. فأشجار النخيل ، مثلا ، تظلل أوراق السنة. أما السدر والمانجو وموز الجنة والتين فقد جددت خضرتها. أما أغصان الكروم فلا تزال عارية بلا أوراق ، في حين انشغل الفلاح على مقربة منها بحصاد ذرته. وهكذا نرى أمامنا الآثار المميزة لكل فصل ، والتي نتجت لأسباب مختلفة ، مجتمعة في آن واحد.

١١٦

الفصل الرابع عشر

مقنيات ـ الدريز ـ عبري

الأربعاء ، التاسع من مارس / آذار : أخذ تقدمنا في هذا الجزء من البلاد يبدو شاقا وبطيئا بسبب انقسامه إلى مقاطعات منفصلة ، كل واحدة منها تبدو مستقلة عن الأخرى ، ولا تعترف إلا قليلا بأي سلطة. ولما كان أولئك الذين يوفرون الإبل لمقاطعتهم نفسها لن يسمح لهم بالتقدم مسافة أبعد ، فقد نجم عن ذلك أننا تأخرنا في عقد صفقة للحصول على تجهيزات جديدة لدى دخولنا حدود المنطقة الأخرى. إن هذه المسألة التي استغرقت في بعض الأحيان ساعتين أو ثلاث ساعات من حرب الكلمات التي لا تنقطع ، جعلتني سعيدا ، وأنا أحيلها إلى (علي) الذي قام بواجبه على خير وجه وبكل ما يملكه العربي من موهبة في الجدل والمناظرة. إن صبر الشخص الإنكليزي ـ بصرف النظر عن كثرة رحلاته ـ سوف يخونه بلا ريب في مثل هذه المناسبات بعد مرور بضع دقائق. وبهذا لن يتمنى العربي الماكر ما هو أكثر من هذه الفائدة. كانت الصفقات تبدأ عادة بصوت واطئ إذ يعلن أحد الأطراف عن قيمة البضاعة التي تكون عادة عشرة أضعاف السعر الذي يريد أن يتقاضاه أو يتوقع من الطرف الآخر أن يمنحه إياه. فيكون الجواب عبارة عن استهجان ونظرة تعجب مصطنعة ، وبعدئذ يغدو الجدال أكثر إثارة وتحوّل الجماعات مقاعدها من مكان إلى آخر. في بعض الأحيان كان صوت (علي) يسمع وهو يصرخ فيطغي على صوت منافسه ، وفي أحيان أخرى ، يتضاءل حتى لتحسبه خائفا. وكنت بالكاد أسمع صوته بنغمة تدل على الرثاء أو التأنيب أو الاعتراض أو التوسل. وفي نهاية المطاف ، ينهض وينسحب ويصب اللعنات والسباب على جشعهم الذي لم يعرفه أحد من قبل ، إلا أن شخصا ما أو شخصين من المتفرجين يلحقان به ويعيدانه إلى حيث يتكرر المشهد نفسه حتى تسوّى القضية. لا بد لي من أن أكرر أيضا بأن أي مخلوق ، باستثناء العربي ، في ميسوره أن يتحمل التجربة التي يتعرض إليها صبره وهو ينظم هذه الصفقات المطولة جدا. وحتى عند ما يبدو للجميع أن

١١٧

المسألة قد حسمت ، فإن هناك أمرا ما يظل بحاجة إلى الابتزاز ، إن كمية إضافية من التمور لهم شخصيا ، أو علفا لقطعان ماشيتهم ، هو من أفضل ما كانوا يطالبون به. إنني غالبا ما تأخرت ساعات طويلة في أثناء رحلتي هذه ، بدلا من أن أعطي ربع دولار ، وهو المبلغ المطلوب كما كان (علي) يقول. عند ما كنت في (جعلان) حاولت أن أتبع خطة مغايرة أول الأمر. إلا إنني سئمت الدفع قبل أن أطالب بالمال. الحق أن تجربة أيام قليلة أقنعتني بأن أي تنازل يؤدي إلى المطالبة بمبلغ أكبر من الذي أقدمه. وعلى وجه العموم ، فإن الحمالين من بين البدو كانوا دوما مجموعة من الناس المخادعين والكذابين والجشعين. إلا أنهم على الرغم من ذلك لديهم خصال حميدة ، ومن بين هذه الخصال نفورهم من السرقات التافهة. فأنا لم أفقد أي قطعة مهما كانت عديمة الشأن من بين متاعي ، كما إنني رأيت بأنهم يبحثون عن أي شيء مفقود بقلق أكبر بكثير من قلقي. وفي أثناء توقفنا ، فإنهم كانوا على استعداد دوما لجلب الحطب والماء والقيام بغير ذلك من الواجبات.

ثمة طبقة من الرحالة الذين يقومون برحلاتهم في بلد ما وقد وطدوا العزم على إغماض عيونهم عن كل ما من شأنه ألا ينسجم مع أفكارهم الخاصة بهم. وهم أما يتجاهلون أو لا يذكرون إلا قليلا النقاط غير المستحبة عند شخص ما ، كما إنهم عموما رفاق أكثر مدعاة للسرور من الرجال الذين ينشدون اتجاها معاكسا. إن التقدير الصحيح لسلوك أي شعب لا يمكن معرفته إلا من خلال معرفة تامة برذائل كل ذلك الشعب وفضائله على حد سواء. ومن شأن نتيجة البحث أن تكون الرذائل والفضائل موزعة توزيعا متساويا ، وهو أمر قد لا يظهر أول الأمر. إنني بعد أن نظرت للمسألة بهذا المنظار ، وأدركت إن من غير الحكمة إصدار الأحكام التعميمية ، فقد حاولت دوما أن أدوّن بإخلاص انطباعاتي عن أولئك الذين ألقي بي في وسطهم سواء كان ذلك التدوين يشير إلى صفات جيدة أو رديئة. أنني لم أفكر البتة بأن القارئ من شأنه أن ينظر إلى الحسنات والسيئات عندهم إلا على أساس النظرة التجريدية ، وليس على أساس إعطاء صورة قومية تكون ، حسب الوصف الذي قدمته ، غير منصفة مثلما يكون من غير الإنصاف تقييم السلوك الإنكليزي على أساس سائق مركبته أو عربته.

١١٨

العاشر من مارس / آذار : في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الثلاثين رحلنا عن (مسكن) باتجاه (مقنيات) وفي الساعة الخامسة توقفنا قرب القلعة حيث يقطن الشيخ وزيرWasser ) زعيم قبيلة (بني كلبان). وفي غضون دقائق قليلة ، جاء الشيخ لاستقبالنا على الرغم من أنه بدا يشكو من التهاب في العينين. وعند ما قدمت له رسائل (السيد سعيد) ، التي كانت مكتوبة بلهجة شديدة ، وتتضمن طلبا عاجلا بأن يسهّل لنا المرور ، بدا عليه الاضطراب الشديد وقال : «في كل يوم تقريبا ثمة أفراد يسافرون وحدهم إلى (عبري) ويتعرضون لسرقة ملابسهم الرثة التي يسترون بها ظهورهم ، ورغم ذلك يطلب مني أن أقودك بأمان في حين أن اسم الإنكليزي وحده يكفي لاجتذاب العديد من قطاع الطرق». وأخبرته بأنني أدرك المخاطرات التي قد تواجهني في رحلتي قبل أن أبدأ بها بزمن طويل وعلى هذا الأساس ، فإنني سأسعى إلى تحمّل أي أذى عن طيب خاطر. كنت بكلامي هذا صادقا كل الصدق ، حيث أننا لم نجلب معنا أي شيء باهظ الثمن.

أمضينا هذا المساء ومعظم اليوم التالي ونحن نفاوض الشيخ ، ولما وجد أنه ليس في وسعه الحيلولة دون استمرار الرحلة ، وافق على أن يزودنا في الصباح بأفضل الحراس وأكثرهم عددا مما قد تسمح به الظروف عنده.

على الرغم من أن (مقنيات) كانت مدينة كبيرة ، إلا أن شأنها تضاءل حتى باتت غير مهمة منذ الصدمة التي تلقتها إثر غارة الوهابيين عليها سنة ١٨٠٠. فقد استولى الوهابيون على القلعة واحرقوا المنازل ودمروا العدد الأكبر من الأشجار. استطعت أن أحدد موقع (مقنيات) من خلال ملاحظة وقت الظهيرة وتحولات النجوم بأنها تقع على خط عرض ٢٣ درجة و ٢١ دقيقة و ٢٥ ثانية شمالا. وقد دهشت هنا ، مثلما دهشت في العديد من الأماكن الأخرى من عمان ، للعناية القليلة التي يبذلها السكان في دفن موتاهم. فبعد أن يتم غسل الميت ، يلف بقطعة قماش ويدفن بمراسيم غاية في البساطة. ولا يزيد عمق القبر عن ثلاثة أقدام ، وبعد الدفن ، توضع صخرة فجة ، بلا أي كتابة ، عند رأسه ، وأخرى عند قدميه.

__________________

(*) كذا قلت لعله تصحيف وصوابه (ناصر).

١١٩

خلال إقامتي في هذا المكان ، توفيت امرأة من أقرباء الشيخ. فسار هو وجميع الأقرباء من الذكور في الجنازة حتى القبر. في هذه المدن لا توجد ندّابات ، إلا أن النساء من جارات المتوفاة يجتمعن ويواصلن على مدى ثمانية أيام ، من شروق الشمس حتى غروبها ، العويل والبكاء.

الحادي عشر من مارس / آذار : كانت سلسلة (الجبل الأخضر) تمتد إلى الجنوب والجنوب الشرقي ، كما كانت تبعد مسافة خمسة وثلاثين ميلا. ووجدت أن الشيخ قد جمع حرسا قوامه سبعون رجلا قلما يشير مظهرهم إلى احترام أكثر من الاحترام الذي يتصف به أولئك الذين رافقونا من (مسكن) ، رغم أن خيولهم أفضل. في الساعة العاشرة والنصف غادرنا ضواحي البلدة وتقدمنا غربا بسرعة كبيرة ونحن نجتاز الحقول. أرسل مرافقونا بعض المستطلعين إلى جهتي الشمال واليمين علاوة على مجموعة أخرى تتقدمنا في السير. وعلى الرغم من كل مخاوفهم ، فقد وصلنا إلى قرية (هيال؟ Ayal) في الساعة الواحدة والنصف دون أن نصادف في طريقنا إنسيا واحدا. كان طريقنا يمتد بمحاذاة واد عريض تحف به التلال من كلا الجانبين ، وهي تلال ذات سفوح منحدرة أو تمتد منفصلة مكونة بذلك تلالا هرمية منعزلة بعضها عن بعض مقطوعة من الجزء الأعلى ، إلا أنها بنفس الارتفاع والاتجاه الذين تتصف بهما السلسلة المتصلة من التلال. بعد مغادرتنا القرية وحصولنا على حارس آخر ، دخلنا واديا آخر عريضا يجري في وسطه غدير ماء ضيق. وفي الساعة الخامسة والدقيقة الثلاثين أمضينا ليلتنا في قرية صغيرة تسمى العارض.

الثاني عشر من مارس / آذار : في الساعة العاشرة اصطحبنا حارسنا الذي أمضى الليلة داخل أسوار القرية وانطلقنا في رحلتنا ونحن نعبر مجموعة من السهول الرملية المجدبة تشبه السهول التي عبرناها يوم أمس. كانت الريح ساكنة تماما. وفي حين كنا نجتاز بين الفينة والفينة الوديان الضيقة التي كانت تعترض طريقنا كان تركيز درجة الحرارة فيها لا يطاق تقريبا.

في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخمسين مررنا ببستان وبلدة (الدريز) التي كان سكانها في حالة عداء مع الجماعة التي ترافقنا. ونتيجة لذلك درنا من حولهما دون أن نضطر إلى دخولهما. في الساعة الواحدة والدقيقة الخمسين وصلنا بلدة (العينين Inan) التي

١٢٠