رحلات في الجزيرة العربية

جي. آر. ويستلد

رحلات في الجزيرة العربية

المؤلف:

جي. آر. ويستلد


المترجم: د. محمّد درويش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجمع الثقافي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٠

أقدر عدد سكان (مسقط) و (مطرح) بستين ألف نسمة. ومن شأن هذه المدينة أن تتبوأ مكانة عالية بين مدن الشرق لا بوصفها مركز التجارة المهمة بين شبه الجزيرة العربية والهند وبلاد فارس وحسب ، بل لكونها ميناء (عمان) المهم بسبب كثرة ما تستورده البلاد أيضا.

وتقدر الضرائب في مسقط بنسبة خمسة بالمائة على كلّ البضائع المستوردة ويبلغ مجموعها في مدينة (مسقط) مائة وخمسة آلاف دولار ، وفي (مطرح) تقدر بستين ألف دولار وهذا يعني أن قيمة الاستيراد تبلغ ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف دولار سنويا أو ما يعادل تسعمائة ألف جنيه إسترليني. ولا تفرض أي رسوم على الصادرات. وعلى الرغم من أن هذا لا يبدو مؤثرا مقارنة بموانئ الهند أو أوروبا ، إلا أنه بالغ الأهمية في جزيرة العرب إذ إن معظم الواردات من الأقمشة والذرة. والحق أن هذه المبالغ تفوق مثيلاتها في أي مدينة أخرى في البلاد باستثناء (جدة).

إن المواد الأساسية التي تستورد من الخارج ومن ثم يعاد تصديرها من (مسقط) ولا تفرض عليها أي رسوم هي القهوة واللؤلؤ. ولأجل نقل القهوة تستخدم ثمانية أو عشرة قوارب كبيرة ـ أو ضعف ذلك العدد من القوارب الصغيرة ـ ما بين اليمن ومسقط : وتقوم هذه القوارب برحلة واحدة سنويا يزن بعضها مائتين وخمسين طنا فأكثر. وتسير السفن محملة بالتمور والتبغ الفارسي والسجاد ومليئة بالحجاج على امتداد سواحل بحر العرب ومن ثم إلى البحر الأحمر فجدة حيث يترجل منها الحجاج إضافة إلى من يرغب من أفراد طاقم السفينة للتوجه إلى مكة لأداء شعائر الحج. وهناك يبقون مدة شهر أو شهرين حسبما يسمح به الوقت لعودة الحجاج. ولكن بعد مغادرتهم الميناء يقصدون (المخا) أو (الحديدة) حيث يبادلون الذهب الذي استلموه من الحجاج ثمنا لعبورهم بالقهوة وبهذا يتمكنون من مغادرة البحر الأحمر في مطلع أو منتصف شهر مايو / أيار ويتجنبون أول لفحة من لفحات الرياح الموسمية الجنوبية الغربية. ويتم التخلص من القهوة التي أتوا بها إلى هنا. أما التي لا يحتاج السكان إلى استهلاكها في المدينة أو التي سيتم بيعها إلى البدو في الأقاليم المجاورة فيتم شحنها في مراكب صغيرة إلى البحرين والبصرة والأقسام الجنوبية من الخليج العربي وكانت التجارة مع البصرة فيما مضى من الزمن واسعة جدا ، إذ كانت سوريا تتزود

٢١

كليا تقريبا من خلال هذا الطريق. أما استيراد القهوة من الهند الغربية إلى لبنان فقد حل محل استيرادها من المخا.

كانت تجارة القهوة في مسقط بأيدي الهندوس (البانيان) ويقال : إنها كانت تدر أرباحا وفيرة. وتقدر عوائد صيد اللؤلؤ في الخليج العربي بأربعين لاك سنويا. ويتم جلب ثلثي الإنتاج إلى هذا المكان بقوارب صغيرة ومن ثم تنقل إلى بومباي بوساطة السفن. وتصل الشحنات إلى (مسقط) مختومة ويطرح بعضها هناك. أما في (بومباي) فإن البارسيين هم الذين يشكلون غالبية المشترين الذين يقوم عدد كبير منهم بإرسالها إلى الصين.

ولا تصدر (مسقط) إلا بعض المواد القليلة التي لا تفرض عليها أي رسوم. وأهم هذه المواد التمور التي تشحن إلى الهند حيث يكثر عليها الطلب لصناعة العرق الحكومي ، أو تباع في مختلف الموانئ على ساحل جزيرة العرب ، والصبغ الأحمر الذي يتمتع بقيمة كبيرة من الهند ، وزعانف أسماك القرش التي تشحن إلى الصين حيث تستخدم لصنع الحساء ولأغراض أخرى ، والسمك المملّح الذي يهواه كثيرا أبناء الطبقات الدنيا في الهند. وتكون العوائد الناجمة عن بيع هذه المواد إما ذهبا أو قهوة. وترسل كلّ عام إلى جزيرة فرنسا (١) أعداد من البغال من بلاد فارس وأعداد من الحمير من جزيرة البحرين.

__________________

(*) هي جزيرة موريشيوس في المحيط الهندي الواقعة شرقي جزيرة مدغشقر.

٢٢

الفصل الثالث

مطرح

الثالث والعشرون من نوفمبر / تشرين الثاني : بعد أن حصلت من صاحب السمو في هذا الصباح على أحد الضباط لمرافقتي ، انطلقت لزيارة ينابيع الإمام علي الحارة الواقعة قرب ساحل البحر على بعد سبع ساعات غربي المدينة. وعلى الرغم من أن فصل الشتاء قد تقدم كثيرا إلا أن النهار كان شديد الحرارة والرطوبة. وعند ما سرنا بقاربنا صوب (مطرح) كان المضيف هادئا جدا على الرغم من النسيم العليل الذي كان يهب خارجه وكانت الحرارة التي تهب من جهة الجبال وعلى امتداد قدماتها التي كنا نسير بمحاذاتها لا تطاق. في هذه الأثناء كان البحر أملس ، زجاجيا يعكس على سطحه التلال السود والقلاع البيض والبيوت والسفن على نحو جلي كأنه مرآة. ولم تكن هنالك إلا حركة صغيرة ، من الأمواج غير المتكسرة التي تنساب بكسل وبطء داخل المضيق ، تكفي لمساعدة الناظر في أن يقرر الأجسام الحقيقية أو الوهمية. كانت المدينة وسكانها تحت أشعة الشمس المتوهجة هادئة وساكنة. وربما كان في المستطاع مشاهدة قارب طويل ونحيل كأنه نقطة فوق السطح عند ما يتربع فوق قمة إحدى الموجات في حين يجلس صياد سمك وحيد قرب المقود سعيا وراء مهنته الانعزالية في حين يحوم من حوله وينقض في بعض الأحيان لمشاركته «غنائمه المحرشفة» طائر البحر الضاحك وهو يطلق صرخته المدوية الثاقبة التي يمكن معرفتها حتى ولو من على مسافة بعيدة والتي اكتسب كنيته منها.

وعند ما انحرفنا من حول الصخرة ، شاهدنا قاربا هادئا. وهنا سأقدم المشهد الذي بدا لي عند ما وضعت خطواتي فوق ظهر القارب بأمل الحصول على بعض الرسائل. ليتصور القارئ قاربا مشوها ضخما حمولته أربعمائة طن على الأقل له مقدمة بارزة طويلة ومقود مزخرف زخرفة دقيقة وسارية واحدة وشراع واحد طوله مائة وخمسين قدما ويحتوي على قماش من القنب أكثر بكثير من ذلك الموجود في بحرية صاحب الجلالة. يبدو القارب

٢٣

مزدحما ببشر من كل لون ومن كل إقليم. فالفارسي يتميز بثيابه الفضفاضة الملونة ، والعربي بعباءته الخشنة ذات الخطوط العريضة والبلوشي بشعره الطويل وثيابه البيض والأرمني الذي يرتدي ثوبا يشبه رداء الإفرنج ، ويختلط بكل هؤلاء ويتدافع معهم بالمناكب الزنوج الأفارقة الذين لا يرتدون سوى قطعة قماش ممزقة يلفون بها وسطهم. ويؤلف هؤلاء الجزء الأكبر من الحشد الذي يصل عدده إلى مائة وخمسين فرد. ولأجل تشجيعهم وإمتاعهم ، ومتى ما كان العمل مستمرا ، يتم اختيار عشرة منهم للغناء للآخرين. ويقوم أحد الصبيان بقيادة الموسيقى بصوته الحاد فيرد عليه رفاقه بجرس عميق وترافق أصواتهم الموسيقى المنبعثة من العديد من الآلات الموسيقية والرقصات البدائية. كانت هذه الآلات فجة. فإحداها تشبه آلة الطبلة الهندية الصغيرة ، والثانية ، وهي أبسط منها تشبه الدف الأوروبي. ولاحظت أنهم في الوقت الذي لا تكون لديهم آلات موسيقية يستخدمون أواني الطبخ النحاسية. بالنسبة لأي شخص أوروبي لا يبدو خلط الأصوات ذا علاقة بالموسم يقابل هو من أبعد الأمور عنها. لكن هذه الأصوات كانت تبدو ذات أثر هائل في الأفارقة. فالأمارات المرتسمة على الوجه والتواء الأطراف والجسد والزعيق الذي يصاحب رقصاتهم والوقت الطويل الذي يستغرقه تمرينهم ـ الذي لا ينتهي إلا بسقوطهم أرضا من شدة التعب ـ كلها تشير إلى تعاطف شديد مع تلك الأصوات الغريبة عنا.

هب نسيم عليل. وعند ما مرت السفينة من إمام القلاع الشامخة على كلا الجانبين من المدخل ، أطلق مدفعان نيرانهما فكان أثر ذلك رائعا جدا مقارنة بالهدوء الذي كان يخيم على المكان. كان الصدى مقتصرا أول الأمر على الدوائر القريبة والداخلية من التلال وكان أعلى من صوت إطلاق المدفعين الأصلي وكان يسهل مقارنة الصدى بإطلاق العديد من المدافع النيران على نحو سريع وفوري. ولم يتلاشى الصدى عند ما كان يمتزج بالأصداء الأخرى التي كانت تتردد في الجبال البعيدة ، بل ظل كذلك حتى بدأ يخفت رويدا رويدا وانتهى إلى الصمت التام المطبق. حمل النسيم الدخان فوق التلال وسلّط ضوء ساطع على السفن في الميناء حتى بدت الصواري وحبال الأشرعة والحبال القصيرة الكسولة مشعة تلقي نورها على التلال المظلمة التي كانت تشكل المضيق. ولكن وبسبب الطابع الفريد

٢٤

لذلك المنظر ، لم تبد لي ضآلة الأعمال الفنية التي أبدعها الإنسان أمام ما أبدعته الطبيعة ، وبصورة مذهلة ، مثلما بدت لي في هذه البقعة. فالفرقاطات العديدة وأحواض السفن والصواري الشامخة كانت تضيع أمام أول سلسلة من الهضاب والتلال الواطئة وغير المهمة.

وبعد الاستدارة من حول الرأس الذي كان يشكل أقصى الطرف الشمالي الغربي من المضيق ، ندخل إلى خليج (مطرح) المجاور ونمر بمدينة جميلة تقع على إحدى الزوايا المنخفضة التي تشكل الملامح البارزة في المشهد في هذا الجزء من العالم. وفي المنطقة المحصورة بين البيوت وحافة البحر التي تشكل ما يشبه المتنزه الجميل أو منبسطا من الأرض ، ثمة حزام عريض من رمال ذات لون فاتح تمتد حتى الجروف العالية الكئيبة المطلة على كل طرف قصي من طرفي المدينة. يواجه المضيق النسائم الهابة وبسبب موقعه المكشوف لا يأتي إليه حاليا إلا القليل من السفن في بعض الأحيان ، فلا وجود لقارب صيد أو أي نوع آخر وكان غياب هذه القوارب يضيف وحشة أخرى للمكان لكنها وحشة لا تخلو من جمال.

باتجاه مدينة (مطرح) ، انتصبت أمامنا جزيرة صغيرة كانت جوانبها متشظية ومجزأة إلى قمم ذات أشكال غريبة تتربع عليها أبراج الحراسة تبدو لعين الناظر إليها صعوبة أن يضع المرء قدمه عليها. ومن فوق إحدى هذه القمم العالية ، كانت مجموعة من الجنود العرب تنظر إلينا ونحن نمر من تحتهم في حين كانت بنادقهم ورماحهم الطويلة تتألق تحت أشعة الشمس.

إن (مطرح) عبارة عن مدينة لا بأس بها أو هي على وجه الدقة مجموعة كبيرة جدا من الأكواخ تقع في أقصى المضيق وترتادها في الغالب سفن الإمام ، لكن قلما ترتادها سفن أخرى. وعلى الرغم من أن الطريق يبعد مسافة ميل واحد عن المدينة ، ويخترق سلسلة من التلال ، إلا أنه بالغ الوعورة ، كما أن المواصلات بين المدينتين تتم بوساطة القوارب. ويقدر عدد سكانها بعشرين ألف نسمة ويعملون أساسا في حياكة الأقمشة أو العباءات الصوفية التي يرتديها الناس عامة في الجزيرة العربية. وقلما تجد كوخا لا يحتوي على دولاب الغزل وأمامه تعمل بجد إحدى الإناث. وكانت وجوه النساء مكشوفة وتبدو ملامحهن منتظمة ، وفي كثير من الأحيان ، جميلة ، إلا أن أثر هذا الجمال يضيع إلى حد ما بسبب صبغ البشرة بالحنّاء. إن

٢٥

حرية تصرفاتهن ، مقارنة بتلك الموجودة في المدن العربية ، لا تقدم صورة مزيفة عن أخلاقهن.

زوّدنا بالإبل وبعد مسيرة ساعتين في أراض لا تثير الاهتمام البتة وصلنا قرية (روى) وكانت تحتوي على بعض البساتين وآبار الماء. مررنا بعدة قوافل للبدو كانوا ذاهبين إلى (مسقط) أو عائدين منها. كانت ملامحهم أكثر وسامة من ملامح أي عربي سبق أن قابلته ، وعلى الرغم من أن قاماتهم كانت قصيرة إلا أنها متناسقة. أما شعرهم الذي كان طويلا يصل الخصر فكان يضفي عليهم مظهرا مؤثرا جدا وشجاعا وخاصة عند جلوسهم مع سيوفهم ودروعهم فوق إبلهم. كانت عيونهم سود ، تفيض بالحيوية ومعبرة ، أما أنوفهم فدقيقة الشكل مثل أفواههم ، بينما كانت أسنانهم البيض تختلف اختلافا شديدا عن أسنان عرب المدن. يظهر عليهم أنهم جنس من البشر يتصف بالمرح والفكاهة والحديث الطلق. هكذا بدوا لي عند ما كنت راكبا وإياهم وهم يتحدثون عن بلادهم وسكانها. غير أنني وجت نفسي الآن وفيما بعد أواجه صعوبة في التفاهم بلا مترجم عند ما أتحدث مع بدو (عمان). كانت اللهجة المحلية التي أفادتني في أثناء حديثي مع القبائل على امتداد سواحل البحر الأحمر مفهومة. إلا أنها ليست كذلك في هذا المكان. ومع هذا ، فقد اقتنعت بأن مثل هذا الأمر لا يحدث إلا للمرء الذي ليست لديه سوى معرفة سطحية باللغة لأن المرء الضليع باللغة لن يجد إلا صعوبة قليلة في التعبير عن نفسه في أي جزء من البلاد.

بعد غروب الشمس واصلنا سيرنا وبين الحين والحين كنا نصادف بعض البدو الذين تنحوا إلى جانب الطريق وجلسوا من حول إبلهم بعد أن أضرموا النار. ويبدو أنه كان مألوفا في مثل هذه المصادفات إلّا يلقي أحد بالتحية على الطرف الآخر وهو أمر مخالف تماما لما يحدث في أثناء النهار حيث يتبادل الطرفان بضع جمل في أحاديثهم. وقبل ساعة من منتصف الليل ، تناهى إلى أسماعنا أصوات نباح كلاب الرعاة مما يدل على أننا نوشك الوصول إلى إحدى القرى التي دخلناها بعد ذلك ببضع دقائق بعد أن اجتزنا العديد من الأزقة التي تحف بها الأشجار من كلا الجانبين وتتدلى فوق الطريق. ثم دخلنا مبنى عظيما شيد من أجل الرحالة. ولما كان الليل باردا ، فقد أشعل أدلائي النار وأعدوا طعاما من الرز والسمك التهمناه التهاما. لم أكن طيلة رحلاتي العديدة كثير الوساوس إزاء المكان الذي سأرتاح فيه

٢٦

وقد سررت هذه الليلة سرورا كبيرا عند ما شاهدني البدو الذين كانوا يتحلقون من حول النار ، وقد لففت جسدي بعباءة واضطجعت فوق دكة انتصبت في الهواء الطلق في الحديقة بدلا من النوم قرب النار كما هو شأنهم.

في وقت مبكر من صباح هذا اليوم زرت ينبوع الماء الذي كان هدف رحلتي. كان الماء يندفع بقوة كبيرة من فتحة أسفل تل من حجر الحديد. كانت عروق حجر الكوارتز بادية على الصخرة باتجاه قطري. وكانت قطع كثيرة قد اقتلعت منها. وكان في وسعي ملاحظة وجود قليل من النحاس داخل الطبقات الصخرية ، إلا أنه لم تكن هناك أي علامات تدل على وجود نشاط بركاني. وعلى مقربة من المكان الذي كان يتدفق منه الماء أنشئ خزان مربع صغير الحجم لينعم بالراحة أولئك الذين يأتون لغرض الاستحمام. وكان ثمة محرار يشير إلى أن درجة الحرارة هي مائة وعشر درجات فهر نهايت ، أقل بدرجتين من الحرارة قرب الصخرة. وبعد محاولات كثيرة ، وجدت أن من الصعب عليّ أن أقرر إن كان لهذا الماء أي طعم أو رائحة خاصين. فكرت أول الأمر أنه مشرّب بأملاح الحديد إلى حد ما ، لكنني اعتقدت في لحظة أخرى أنه ليس أكثر من محلول مالح. إلا أنني في كلتي الحالتين لم أتمكن من إعطاء رأي جازم بذلك. وربما كان هذا هو السبب الذي جعلني أعتقد أنه يختلف اختلافا قليلا عن الماء الذي يمكن الحصول عليه من مناطق أخرى من البلاد. ويقول السكان هنا : إن هذا الماء ممتاز ولا يشربون غيره بعد أن يتركوه قليلا في أوان راشحة. ويبدو واضحا أن حرارة الماء أو أي صفة أخرى قد يتصف بها يمكن أن تحول دون سقي النباتات المجاورة به. أما في علاج الأمراض الجلدية وغيرها من الأمراض المحلية ، فإن لهذه المياه سمعة طيبة جدا وسط البدو وعرب المدن ، حيث يقوم البدو برحلات طويلة شاقة قادمين من مسافات بعيدة في عمق البلاد إلى هذا المكان الذي قد يمكثون فيه بضعة أيام ليتمكنوا من الاستفادة من مائه. وعلى الرغم من أن درجة الحرارة كانت عالية ، إلا أنني لاحظت العديد من المرضى وقد غطسوا في الماء لبعض الوقت. وشاهدت رجلا مسنا في الثمانين من عمره وقد بلغ به الإعياء أشده بسبب هذا العلاج القاسي حتى بدا أنه يحتضر. لكن قيل لي أنه لو بقي على قيد الحياة ، فإن العلاج سيتكرر بعد ساعتين اثنتين لأن السكان

٢٧

المحليين يؤمنون بأنه إذا لم يحقق الماء الفائدة المرجوة منه ، فسبب ذلك أن الماء لم يستخدم بما فيه الكفاية. وعلى مقربة من الحمّام كان ثمة جامع صغير يقيم فيه إمام عجوز على استعداد دوما لمساعدة من يحتاج إلى أي مساعدة بالتضرع والصلوات.

بعد مغادرة الماء للخزان يتجه صوب حوض كبير قليل العمق حيث يبرد قبل أن يترك ليصل إلى النباتات أو الأشجار حيث توجد الغدران الصغيرة الكثيرة التي تنقله إلى مختلف المناطق. إن الجزء الذي يرويه هذا الماء يشكل واجهة البحر أو أسفل التلال التي تمتد عبر سلسلة أخرى من تلال أعلى صوب عمق البلاد. لقد أشرقت توا وكانت درجة الحرارة الواطئة في الصباح منعشة. أما البحر فقد بدا على مسافة أربعة أو خمسة أميال وقد أكتسب بريقا ورديا مثلما اكتسبته أيضا جزيرة بركاء الممتدة أمامنا. كان الأفق واضحا كلّ الوضوح أمامنا حتى أنني ملت إلى الظن أنني شاهدت الساحل الفارسي.

يبدو أن معظم الفواكه والخضراوات التي تزرع في بقية أرجاء (عمان) موجودة هنا وتبدو الأشجار بحجمها ووفرتها مساوية لتلك الموجودة في الهند. كانت هذه البقعة بأيدي قبيلة صغيرة تدعى قبيلة (بني وهب) على مدى عصور طويلة. ولكن بسبب حرارة الجو العالية وخلال موسم الحصاد وصل العرب بأعداد كبيرة. وقد قيل لي إن سبعة آلاف أو ثمانية آلاف فرد استقروا في هذا المكان خلال ذلك الموسم الوفير وجلسوا تحت ظلال الأشجار وهم يقرأون آيات من القرآن الكريم أو يهجعون قليلا طلبا للراحة وحصلوا بذلك على الملجأ والمأكل.

ارتفع مقياس المحرار ظهر هذا اليوم حتى وصل إلى درجة تسع وأربعين في الظل ، وعلى هذا الأساس يمكن تقدير درجة الحرارة في موسم الحر. ولكن ما إن تتلاشى الشمس من وراء الجبال حتى تتحول هذه الحرارة الجافة إلى برد لاسع. ولا يرى السكان المحليين أي ضير في هذا التبدل المناخي ويرددون أن هذه البقعة هي من أكثر الأماكن الصحية في (عمان) إلا أن ذلك التبدل أثبت أنه قاتل لفرد أو أكثر في كل مجموعة أوروبية تجرأت على زيارة هذا المكان.

٢٨

الفصل الرابع

وصف لصور

الخامس والعشرون من نوفمبر / تشرين الثاني : بعد أن تم إعداد مركب لي ، سافرت من (مسقط) إلى (صور) بارتياح كثير. فقد كان مناخها طيلة أيام السنة غير ملائم لبنية أجسام الأوروبيين وكان غير ملائم للصحة في تلك الفترة بالذات كما أن عدد الموتى الذين يقضون نحبهم كل يوم ، حتى بين السكان المحليين ، كان كبيرا جدا. فأحد المساكين الأوروبيين الذي هرب إلى هنا بعد أن نجا من أكثر من مائة خطر في أعقاب هزيمة الأتراك في مقاطعة (عسير) كان يحتضر في مركب كنت قد تركته ، كما أن عددا كبيرا من طاقم سفينة إنكليزية كانوا صرعى مرض خطير.

بعيدا عن ثغرة الشيطان ، التي هي عبارة عن فتحة في سلسلة جبلية قريبة من ساحل البحر ، واجهتنا ريح عاتية. وغمر المركب بكميات كبيرة من المياه وفي إحدى المرات بتنا في وضع حرج. واصلنا رحلتنا في جو عاصف وكانت الأمطار تهطل بغزارة بين حين وآخر ، واتجهنا صوب (قلهات) التي رسونا على مقربة منها لبضع ساعات توجهت خلالها صوب الساحل لمعاينة الآثار.

إن (قلهات) مدينة قديمة جدا أتى على ذكرها العديد من المؤلفين العرب. تغطي بقاياها مساحة شاسعة من الأرض ، لكن كان هناك مبنى واحد في حالة مقبولة وهو عبارة عن مسجد صغير بدا من خلال الكتابات المدونة على مختلف أجزائه بأن المسلمين الهنود كانوا يزورونه. كان القسم الداخلي منه مكسوا بالآجر المزجج متعدد الألوان ونقشت عليه آيات من القرآن الكريم. وإلى الجهة الشمالية من هذه الآثار توجد قرية صغيرة يعمل سكانها في صيد الأسماك وكذلك في الحفر وسط الآثار بحثا عن النقود الذهبية حيث يعدّ الذهب في مسقط من أكثر الأنواع نقاء. ويحمل بعض تلك النقود اسم الخليفة هارون الرشيد.

٢٩

غادرنا (قلهات) وكان النسيم عليلا ووصلنا (صور) بعد غروب الشمس بقليل ورسونا في الميناء الداخلي الذي لا يبعد سوى بضع ياردات عن الساحل. كانت السلسلة الجبلية الممتدة من (مسقط) إلى هذا الميناء تقترب من البحر وشديدة الارتفاع. وكانت تسمى جبال (Syenne) و (Rackee) ويقطعها العديد من الوديان البعض منها يمتلئ بجداول ذات مياه عذبة. وعلى مقربة منها توجد بساتين النخيل. ولكن على الرغم من أن السهل مزروع ، إلا أن التلال كانت تخلو من الأشجار وخضرة النباتات.

الثامن والعشرون من نوفمبر / تشرين الثاني : وجدت الشيخ في هذا الصباح ينتظر على الشاطئ لاستقبالي. وبعد تناول طعام الفطور معه وكان يتكون من التمر واللبن ، سرنا صوب البلدة.

تقع بلدة صور وهي ميناء منطقة (جعلان) على شاطئ رملي واطئ يخلوا خلوا تاما من النباتات والأشجار. إنها عبارة عن مجموعة كبيرة من الأكواخ شيدت على جانبي بحيرة عميقة وتقطنها قبائل مختلفة. وقد شيدت هذه الأكواخ باستخدام سعف النخيل ، وكانت واسعة يتخللها الهواء الطلق. وكانت الشوارع نظيفة جدا مما جعل المظهر العام بهيجا وجميلا. ولا توجد حوانيت هنا ، إذ يبعد السوق مسافة ميل ونصف عن الساحل حيث يقطن عدد لا بأس به من السكان. انطلقت من هناك بصحبة الشيخ الذي أعلم بنبأ وصولي وشعرت بالامتنان لأن خيمتي نصبت في بقعة جميلة من القرية ووقف عليها الحرس واتخذت كل الاحتياطات اللازمة لحمايتي وحماية أمتعتي. وكان من المقرر أن أبقى في ذلك المكان حتى يتم تهيئة الجمال والأدلاء استعدادا للرحلة.

ثمة سوق يومي يقام في هذه البقعة تباع فيه الحبوب والفاكهة والخضراوات. كانت البيوت صغيرة غير إنها متينة البناء شيدت بالحجارة والإسمنت. وكان يقطن أكبر هذه البيوت الهندوس وأناس من (Cutch) ) يحتكرون قسما لا بأس به من التجارة. وفي القسم الغربي توجد قلعة كبيرة تتربع عليها بعض المدافع القديمة ، بيد أن القلعة والمدافع كانت في

__________________

(*) كتش أو كوتش مدينة ساحلية في شمال غرب الهند.

٣٠

حالة يرثى لها. كانت المناطق المحاذية لها مزروعة إلى حد كبير وكانت بساتين النخيل كثيرة وكثيفة. لكن أهالي البلدة كانوا يكرسون جل حياتهم للأغراض التجارية بالدرجة الأساس ولهذا كانوا يحظون بميناء جيد. وكانت لديهم مراكب وزوارق يبلغ عددها حوالي ثلاثمائة زورق من مختلف الأحجام تقوم بالأعمال التجارية ، في المواسم الصافية ، بين سواحل الهند وإفريقيا والخليج العربي وبحر العرب. والحقيقة أن صادراتها ووارداتها تافهة ، فلا تتعدى الصادرات التمور والأسماك المملحة في حين تتمثل الواردات بالحبوب والأقمشة. إلا أن الأرباح الناجمة عن تبادل مختلف المنتجات التي ذكرتها تكفي لأعالتهم في الفترات العصيبة من السنة. وهم يعترفون بالسلطة لكنهم لا يدفعون أي ضريبة للسيد سعيد. ويسود الاعتقاد أن هذه البلدة موغلة في القدم ويقال أن الشاميين كانوا قد احتلوها.

الأول من ديسمبر / كانون الأول : انطلقت في صباح هذا اليوم الباكر بصحبة أحد الأدلاء متوجها إلى سلسلة الجبال الشمالية. ولما كان الطريق لا يصلح لسير الجياد ، فقد لجأنا إلى استخدام الحمير التي أوصلتنا إلى قدمات التلال في بحر ساعتين ونصف الساعة. وعند تلك النقطة ترجلنا عن دوابنا وواصلنا طريقنا ونحن نسير على أقدامنا الواحد تلو الآخر. وبعد مرور ساعة من الإنهاك والتسلق في أماكن عديدة بدلا من السير سيرا اعتياديا توقفنا لاسترداد أنفاسنا قرب قرية صغيرة وبعد أن روينا ظمأنا قرب أحد الجداول العذبة التي كان يتدفق ماؤها وسط الوادي متجها إلى السهول الممتدة إلى الأسفل ، انطلقنا في سيرنا ثانية. سرنا مسافة أربع ساعات ، قطعنا في أثنائها العديد من الوديان الضيقة العميقة الوفيرة المياه التي تنتشر فيها أشجار النخيل والمساحات المزروعة. وأخيرا وصلنا إلى القمة. ولكن وراء المشهد الذي حصلنا عليه من البقاع المجاورة والجو البارد اللطيف ، لم نحصل إلا على القليل ثمنا لمتاعبنا. فقد انتشرت الأراضي المستوية والصخور الكلسية وأسفرت عن وجهها الكالح والكئيب في كل الاتجاهات. وكانت بعض قطعان الأغنام والماعز تبحث عن كلأ شحيح في البقاع المجاورة. أما في هذه البقعة بالذات ، فلم نعثر على آدمي واحد يكسر الصمت المطبق من حولنا.

وفي هذا المكان الذي يشكل الرأس ، أو أقصى الطرف الجنوبي الشرقي من السلسلة

٣١

الجبلية المواجهة للبحر وحتى الوادي القريب من (قلهات) ، كان الطريق الجبلي يطلق عليه اسم (فتلة). وفي الوديان الضيقة الموجودة فيها ، يقال أن هناك ستين قرية يقطنها حوالي ألف وخمسمائة نسمة يحملون كنية (بني خالد) و (بني داود). ويقطن حوالي ستمائة فرد من أبناء قبيلة بني خالد واديا يحمل نفس الاسم يقع في الجنوب الغربي من الجبال ويتميز هذا الجانب بضيقه الشديد وانحداره حتى أن أحد جوانبه لا يمكن اجتيازه إلا باستخدام الحبال. ولا تعتمد هذه المنطقة على الجداول والغدران العديدة التي تزود العديد من الوديان بالماء لان الأمطار فيها أكثر من أي بقعة أخرى ولا سيما السهول لهذا تزرع فيها كميات كبيرة من الحبوب والفواكه. ويحصل شيخ (صور) على نسبة مقدارها واحد بالعشرة من إجمالي ناتج الأرض.

وبعد مسيرة مسافة قصيرة على امتداد هذه السلسلة ، أحسسنا بوجود بعض رعاة الأغنام الذين لم يظهروا بادئ ذي بدء أي علامة تدل على الدهشة لرؤيتهم إيانا. لكن دليلي تبادل وإياهم بضع كلمات بعثت في نفسهم الطمأنينة مما جعلهم يوجهون الدعوة لنا لتناول طعام الغداء المكون من الحليب والتمر. كانت ثمة صخرة كبيرة جدا تقف شامخة وسط السهل تقيهم من الريح التي كانت تهب بقوة. ولم أجد عند هذه المجموعة من الناس أي فرق يميزهم عن جيرانهم في السهول باستثناء أنهم أطول قامة وأكثر وسامة. ولما فرغنا من تناول وجبتنا أصرّ أصدقاؤنا الجدد على أن أزور أكواخهم. كانت الأكواخ تقع في واد صغير قرب جدول ماء. وكانت دائرية الشكل شيدت جدرانها بالحجارة وسقوفها بالقصب الذي يتوفر بكميات كبيرة. إلا إن داخل هذه الأكواخ لم يكن فسيحا ولا مريحا. وما أن اتخذت مجلسي فوق جلود الحيوانات المفروشة على الأرض في أحد هذه الأكواخ حتى دخلت بعض الفتيات الشابات والجميلات وهن يحملن طاس كبيرة مليئة بالحليب. وللتعبير عن شكري لهن ، رشفت رشفة كبيرة. لا. هذا لا يكفي. أهو رديء؟ جرب ثانية. وثانية. وعبثا حاولت رفع الطاس عاليا ، إذ لم يكن مسموحا لي مقاومة شربه حتى أفرغ منه. وأقسمت بلحية النبي (١) بأنني لم اعد قادرا على شرب كمية أكبر. وعندئذ شعرن بالسرور والابتهاج

__________________

(*) لا يعرف هذا القسم عند المسلمين لكنه معروف ويستعمل حتى اليوم في اللغة الإنجليزية وبعض اللغات الأوروبية الأخرى.

٣٢

وبتنا أصدقاء حميمين. وبعد أن قدمت بعض الهدايا والعبارات الجميلة استطعنا مغادرة المكان والحسرة بادية على الطرفين.

كان طريق عودتنا أكثر وعورة وانحدارا من ذلك الطريق الذي جئنا منه. ونتيجة لذلك لم أصل إلى قدمات الجبال إلا بعد مرور وقت على غروب الشمس. كانت الحمير قد اختفت ، والليل حالك السواد يتخلله في بعض الأحيان سقوط المطر. وفقدنا طريقنا عدة مرات ولم نصل الخيمة إلا عند منتصف الليل تقريبا.

خلال إقامتي هناك استلمت الرسالة التالية الودية والمتميزة من سمو الإمام :

«بسم الله الرحمن الرحيم من سعيد بن سلطان إلى صاحب السيادة المحترم والمحبوب والمبجل النقيب (ولستد) من الحكومة الشرقية. السلام عليكم. بعد أن وصلتنا رسالتكم التي كانت دليل محبتكم لتذكركم إيانا ، فقد فرحنا فرحا لا يوصف لسماع نبأ وصولكم إلى (صور) وسفركم إلى (جعلان) حسب توجيهاتنا ومن هناك إلى (سمد) الأمر الذي بعث الرضا فيكم والبهجة فينا. علاوة على ذلك ، فإن كل ما تحتاجون إليه سواء كان كثيرا أو قليلا ، فما عليكم إلا أن تطلبوه وما علينا إلا أن نمنحه. والسلام عليكم. المخلص سعيد بن سلطان».

الثاني من ديسمبر / كانون الأول : تم جمع الإبل والأدلاء في هذا الصباح وغادرت (سوق صور) حيث كنت قد لقيت من شيخها كل الاهتمام. وفي الساعة ٣٠ ، ١٢ من بعد الظهر كنا قد ابتعدنا عن أطراف القرية وأصبحنا داخل واد غير عميق. كان قعر الوادي يتكون من حجر الكلس الذي انتشرت عليه بعض شجيرات الصمغ التي شقت طريقها بعنف كي تنمو دليلا وحيدا على وجود الحياة النباتية. وكانت التلال الممتدة على كلا الجانبين ذات لون احمر فاتح أو صخور رملية صفراء ذات خطوط برتقالية أو بنفسجية هنا وهناك. وعلى الرغم من أن الأمطار الخفيفة تهطل في هذا المكان بين الحين والآخر في أشهر أكتوبر ونوفمبر وديسمبر ، إلا أن السكان المحليين يقولون أن الأمطار الغزيرة المستمرة لا تهطل ألا مرة كل ثلاث سنوات ، وأن قعر الوادي ينتفخ بجدول ماء سريع يتعذر على الجمال

٣٣

عبوره. وفي حوالي الساعة الثانية وصلنا ممر (باب الرفصة) حيث يوجد برج صغير وقطعة من المدفعية. كان هذا المبنى وغيره من المباني الأخرى المشابهة قد شيدها الإمام لوقف انتهاكات الوهابيين. إلا أنها بدأت بالانهيار الآن. وكانت بعض جداول الماء العذب وبساتين النخيل تظهر بين هذه البقعة ونهاية الوادي التي وصلناها في الساعة السادسة مساء. وهنا بدأنا نشق طريقنا فوق أرض منبسطة حتى الساعة الحادية عشرة ليلا حيث توقفنا قرب قرية صغيرة كانت الكلاب فيها تنبح نباحا مستمرا وضاريا حتى أن أدلائي خافوا الاستمرار في التقدم على الرغم من حاجتهم إلى الطعام. كانت السماء صافية وباردة بينما كانت قطرات الندى تهمي من حولنا. نام البدو على شكل دائرة ووضعوا الأمتعة في الوسط.

الخميس ، الثالث من ديسمبر / كانون الأول : كانت هناك ثلاث قرى قرب المكان الذي خيّمنا فيه ، حميدة والكامل ؛ والوافي. وتحتوي كل قرية على مائتي بيت تقريبا ولكل منها حصن صغير. وكانت الأراضي داخل الأسوار وخارجها مزروعة جيدا وتوفر بعض جداول الماء الجاري عبر هذه الأراضي العديد من وسائل الري. وأظهر السكان امتعاضا شديدا عند ما شاهدوني أحدق في هذه الحقول لذلك تركتهم وانصرفت.

وفي الساعة الحادية عشرة والنصف واصلنا سيرنا فوق سهل واسع كانت أرضه أما من الرمل اللين أو من الطين الصلب الذي يميل إلى اللون الأبيض. وكان السهل تغطيه الأعشاب. ومرّت من جانبنا بين الفينة والفينة مجموعات من البدو وهم في طريقهم إلى (صور) ولكن نظرا للخصومات القائمة الآن بين القبائل الرئيسية ، فإنه قلما يمكن مشاهدة فرد لوحده وراء حدود القرى. كما أن مجموعتنا كانت تسير هي الأخرى بحذر بالغ. وما أن شاهدنا قافلة أخرى ، حتى اجتمعت الإبل معا ، في حين شرع الأدلّاء في أثناء اقترابنا أكثر فأكثر ، بالتقدم وتبادل الحديث ومن ثم واصلنا سيرنا. إن السلطة التي اكتسبها (السيد سعيد) على هذه المنطقة عن طريق توزيع العطايا السخية على شيوخها اسمية أكثر منها فعلية. فالبدو يمارسون أعمال النهب والقتال ولا يتورعون عن قتل بعضهم بعضا بحرية تامة كأنهم في الصحراء. وقلما مرّ يوم في أثناء مكوثي هناك دون أن أسمع بحدوث مثل هذه الأعمال. وفي الساعة الثالثة والنصف توقفنا وسط مضارب بدو قبيلة بني بو حسن ، وكانت تتكون في

٣٤

الغالب من الأكواخ التي شيدوها تحت بساتين النخيل على نحو يفتقر إلى الانتظام. وقضينا ثلاثة أرباع الساعة ونحن نجتازها من البداية وحتى النهاية. وما أن وصلت أنباء قدومنا حتى التف الناس من حولنا بأعداد غفيرة. كان فضولهم لا يحده حد وعبّروا عن دهشتهم لما شاهدوه منا بكل بهجة وفرحة فأخذوا يقفزون ويصرخون كأنهم أنصاف مجانين. وسرعان ما امتلأت خيمتي الصغيرة ـ على الرغم من وجود شيخهم ورغبته المتكررة في أن يرحلوا ـ وأحسست بالسعادة الحقيقية عند ما اقتربت الشمس من الغروب وانصرفوا إلى بيوتهم.

يقدر عدد أفراد قبيلة (بني بو حسن) بألف ومائتي رجل باستثناء النساء والأطفال. إلا أنهم لا يملكون أكثر من سبعمائة بندقية. وفيما عدا رعايتهم بأشجار النخيل التي لا تأخذ إلا جزءا يسيرا من وقتهم ، فإنهم كانوا يقضون وقتهم دون عمل فتراهم باستمرار يتخاصمون أو يتنازعون أما فيما بينهم أو مع جيرانهم. ويبدو هؤلاء من حيث المظهر أكثر الناس الذين صادفتهم في حياتي وحشية وفظاظة. وهم يسيرون شبه عراة ، شعرهم طويل حتى ليصل إلى منطقة الحزام.

بعد غروب الشمس لم أشاهد سوى الشيخ الذي جاء بمفرده لإقناعي بعدم زيارة بدو قبيلة بني بو علي الذين وصفهم بأنهم غير موالين للسيد سعيد وبأنهم يكرهون الإنكليز وبأنهم «شياطين تماما» كما قال. لكن بما أنني كنت أعرف أن كلتا القبيلتين كانتا في حالة عداء واضح ، فإنني لم أشأ أتباع نصيحته لذلك انصرف ببرود.

الحق أنني لست عديم المخاوف بشأن المعاملة التي سوف ألقاها من جيرانه. إلا أن أسبابي سوف تفهم عند ما أوضح الظروف التي دفعت الإنكليز إلى الاصطدام بهم.

٣٥
٣٦

الفصل الخامس

قبيلة بني بو علي

تنحدر قبيلة (بني بو علي) في الأساس من منطقة صغيرة بنجد حيث يقال إن بعض أفرادها لا يزالون هناك. وقد رافقوا أولئك الذين انفصلوا عن جيش الإمام خلال النزاع مع معاوية حول الخلافة ، وظلوا يؤمنون بمعتقدات الأباضية حتى غزو (عبد العزيز) سنة ١٨١١ حيث اعتنقوا المذهب الوهّابي. ومنذ تلك الفترة باتوا موضع حقد شديد من بقية القبائل في (عمان). وبعد هزيمة (عبد العزيز) في (بدية) ، كانت أفضل محاولاتهم تتمثل في الحيلولة دون أن يقضي عليهم أحد. لكن باستمرارهم في مسايرة أهل الرأي السائد ، تمكنوا من بناء حصن منيع لهم وانقلبوا إلى معتدين نشروا الرعب والدمار في كل مكان من المناطق القريبة حتى باتوا قوة ضاربة وأصبحت لهم اليد الطولى دون منازع في الأراضي التي كانوا ينتشرون فيها وفي تلك القريبة منهم.

وفي فترة متأخرة ، بذل الإمام محاولات كثيرة لانتزاعهم من مكانهم أو تدميرهم ، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل ، فما كان منه إلا أن طلب مساعدة النقيب (تومسون) سنة ١٨٢١ ، ولم تكن لدى هذا بعد سقوط (رأس الخيمة) في السنة السابقة إلا قوة صغيرة مؤلفة من ثما نمائة رجل من السباهيين (١) في جزيرة (قشم) (٢). وساد الانطباع عند ذلك الضابط بأن رهطا من القبيلة يمارس أعمال القرصنة فما كان منه إلا أن أسرع بإرسال رسول يحمل رسالة احتجاج إليهم ، إلا أنهم أردوه قتيلا حال وصوله. وعند ما وصل النبأ إلى النقيب (تومسون) لم يتردد في السير ومرافقة قوة أعدها الإمام للهجوم عليهم. وما أن وصل إلى (صور) حتى التقى الجمعان وتقدموا لمهاجمة بني بو علي الذين كانوا على بعد خمسين ميل ، وذلك بخط مستقيم من منطقة نزولهم. انسحب البدو من أمامهم واحتلوا بساتين النخيل المحيطة

__________________

(*) SEPOYS هم هنود مجندون في خدمة بريطانيا من خلال حكومة شركة الهند.

(١) انظر تقرير القبطان (تومسون) المؤرخ في ١٨ نوفمبر سنة ١٨٢٠ ، المجلة الآسيوية ، المجلد ١١ ، ص ٥٩٣.

٣٧

بالحصن. وبعد أن اجتاز جنودنا بني بو حسن وتقدموا سريعا للالتفاف من حول أحد التلال ، وكان الجزء الأعظم منهم يسير بخط مواز للأشجار ، اندفعت القبيلة كلها على حين غرة من مخبئها وتعالى صراخ أفرادها الذين رموا بأنفسهم على القوة البريطانية. وقبل أن تتمكن القوة من تشكيل نفسها أو قبل صدور الأوامر ، كان البدو قد أصبحوا في وسطهم ولم يتمكن السباهيون من استخدام حرابهم إذ سرعان ما بدأت سيوف أعدائهم الطويلة تحز رقابهم. وساد الهرج والمرج ، ولم يبق هؤلاء على حياة أحد ، حتى أن أحد الضباط قدّم سيفه رمزا للاستسلام ، لكن رمحا اخترق ظهره في نفس اللحظة ، كما أنهم سحبوا الطبيب الجراح الذي كان مريضا من محفته وسرعان ما مزقوه إربا. واضطرت القوة البريطانية إلى الانسحاب بعد أن تركت وراءها ثلثي أفرادها وقد لقوا مصرعهم فوق الحقل. وبعد مسيرة ثمانية أيام لم يحدث فيها شيء ، نجح النقيب (تومسون) في الوصول إلى (مسقط) (١) برفقة ضابطين وحوالي مائة وخمسين رجل هم كل من بقي على قيد الحياة.

سرعان ما وصلت أنباء هذه المجزرة إلى بومباي فتشكلت قوة من ثلاثة آلاف رجل بقيادة (سير ليونيل سمث) وألقت رحالها في (عمان) (٢) إلا أن البدو الذين لم تكسر عزيمتهم الأعداد الكبيرة خططوا لهجوم ليلي بالاتفاق والتشاور مع بني جنبه. ولو نجح ذلك الهجوم لأصبح وضع القوة البريطانية في مأزق. عسكر القائد ورفاقه على بعد مسافة من الجيش واقترح البدو القضاء على القوة بأكملها. ولكن لم تكن الفئة الأخيرة في المكان المتفق عليه في الزمان المحدد أما بسبب خطأ أو خيانة مما جعل الطرف الأول يتقدم وحيدا. ولدى وصولهم إلى معسكر القائد قطعوا أوتار مربض عدد من الخيول وقاموا بأعمال تدمير أخرى إضافة إلى قتل بعض الرجال. ومن ثم لاذوا بالفرار دون أن يتكبدوا خسارة رجل واحد منهم.

__________________

(١) رافق الإمام وبقية أفراد جيشه جنودنا خلال مسيرتهم ، وأنه لمن غير الأنصاف لشخصية هذا الأمير النبيل والشجاع أن أهمل ذكر بسالته النادرة في الثبات في موقعه حتى عند ما جرح ، وقراره بالانسحاب إلى مكان لا يبعد كثيرا عن (بني بو حسن) عند ما خذله القسم الكبر من جيشه.

(٢) في يناير / كانون الثاني ١٨٢١.

٣٨

عند ما وصلت قوتنا تقريبا إلى الحصن ، التقاهم العرب في السهل الواسع. لم يكن عددهم يتجاوز ثما نمائة رجل وكانت نساؤهم قد التحقن بهم وهجموا هجوما قويا كما هو شأنهم في السابق إلا أن الحرب كانت في انتظارهم. إلا أنهم رغم ذلك قاتلوا قتالا عنيدا وشجاعا ولم يتوقفوا عن القتال إلا بعد أن لقي غالبيتهم مصرعهم أو جرحوا جرحا بليغا (١) وكان من بين الذين جرحوا شيخهم الذي اقتيد أسيرا إلى (بومباي) مع بعض الناجين الآخرين. وبعد سجنهم هناك مدة سنتين تقريبا أطلق سراحهم ولقوا الكثير من الاهتمام ، حيث أرسلوا إلى بلادهم محملين بالهدايا والمال لإعادة بناء بلدتهم. ولكن منذ تلك الهزيمة لم يدخل أي أوروبي أراضيهم.

بعد أن لاحظت شمس الظهيرة ، وصلت بعد ساعتين إلى مضارب (بني بو علي). فلحق بي جمع غفير حتى توقفت وعندئذ انضم إليّ شيخ شاب مع وجهاء القبيلة. وما أن أخبرتهم بأنني إنكليزي وعبرت عن رغبتي في قضاء بضعة أيام وإياهم حتى ساد الفرح أرجاء المخيم. وأطلقت المدافع القليلة نيرانها من مختلف الأبراج ومعها نيران البنادق حتى غروب الشمس. وحاول كل فرد بمن فيهم الشباب والشيوخ والنساء والرجال بذل كل في وسعه لإثارة متعتي. فنصبوا خيمتي وذبحوا الخراف واحضروا جالونات من الحليب. إن استقبالا وضيافة بمثل هذه الحرارة أثارا دهشتي كثيرا.

كانت أمامنا تقبع أثار الحصن الذي دمرناه. ونصبت خيمتي في نفس المكان الذي قضينا فيه تقريبا على القبيلة التي باتت في حالة بائسة بعد أن كانت أقوى قبائل (عمان). لقد طويت صفحة الماضي بعد أن أظهرت ثقتي بهم ورميت بنفسي في أحضانهم. ظل بدو هذه المنطقة والمناطق المجاورة لا يختلطون بأي من الغرباء على الرغم من قربهم من ساحل البحر فلم يتزاوجوا أو يختلطوا بهم. لهذا ثمة سبب يدعو إلى الاعتقاد بأنهم كانوا يحتفظون ببساطة القبائل التي تسكن في الداخل ونقائها على نحو بالغ.

ومما يؤسف له أننا لا نعرف إلا القدر اليسير عن طبيعة البدو الحقيقيين وعاداتهم. فالبدو

__________________

(١) في مارس / آذار ١٨٢١ ، المجلة الآسيوية ، المجلد ١٢ ، ص ٣٦٤.

٣٩

الذين يعيشون على حدود سوريا وبلاد ما بين النهرين أفسدتهم علاقاتهم بالأتراك وغيرهم من الشعوب. وينطبق الشيء نفسه على تلك الأجزاء من الحجاز واليمن التي زارها رحالتنا. وكان (بركهاردت) واعيا بذلك الأمر وفكر في القيام بشيء ما للتعويض عن هذا النقص ، إلا أن مرضه حال بينه وبين تحقيق ذلك وإلا لكان قد أمضى بضعة أشهر في الأقاليم الداخلية وهو ما كان يرمي إليه. لهذا السبب ، فإن هدفي كان في هذه المرة وفي المرات القادمة القيام بشيء لتحقيق هذه الأمنية في نفس الوقت الذي أسجّل فيه ما يقع تحت أنظاري في أثناء زيارتي وإقامتي وسط هذه القبائل.

بعد صلاة العشاء ، جاءني الشيخ الشاب إلى الخيمة وبصحبته قرابة أربعين رجلا وأعلن عن رغبته في أن يبقى معي حارسا طيلة الليل. لقد كان مجرد أن أطلب من المجموعة كلها الدخول من الأمور المستحيلة وإن دعوت بعضهم للدخول لترك ذلك أثرا غير طيب في نفوس الآخرين. لهذا السبب أخرجت سجادتي من الخيمة ووضعتها وسطهم. كانت ليلة من الليالي الجميلة الصافية التي لا يمكن مشاهدتها إلا في الصحراء. فقد كان الجو باردا قليلا وسرعان ما بدأنا نتجاذب أطراف الحديث الودي. لم يكن هؤلاء البدو ليجهلون كل الجهل عاداتنا ، فقد جمعوا بعض المعلومات بهذا الخصوص من الرجال الذين وقعوا في الأسر إبان الحرب في الهند. إلا أن قصصهم كانت أمّا محدودة أو مبالغا فيها مما يثير مشاعر الفضول أكثر مما يقلل منها. وكانت طبيعة ديانتنا وطقوسها موضع استفسارهم الأول وطالبوني بأن أوضح لهم رأيي بفضائلها مقارنة بالدين الإسلامي. وعلى وجه العموم ، فإن من البديهيات الحسنة أن تترك نفسك مدحورا ظاهريا في الأمور اللاهوتية. إلا أنني لم أتمكن بادئ الأمر من مقاومة الإغراء الذي لازمني بأن أوجه الحديث نحو مواطن الضعف في عقيدتهم وتوضيح الحجج التي يمكن استخدامها ضدهم. إلا أنهم لم يظهروا إلا القليل من التعصب والانحياز في هذه النقاط مما دفعني إلى الندم عما قمت به ، ولتسوية الأمر ، أبديت موافقتي على وجهة نظر أحد وجهائهم عند ما قال إن كل ديانة تناسب جيدا البلد والناس الذين يؤمنون بها.

من هنا اتجه الحديث صوب نسائنا. واستفسروا إن كانت النساء الموسرات والأصيلات

٤٠