رحلات في الجزيرة العربية

جي. آر. ويستلد

رحلات في الجزيرة العربية

المؤلف:

جي. آر. ويستلد


المترجم: د. محمّد درويش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجمع الثقافي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٠

لكن للوجهاء كلمتهم أيضا في فض النزاعات والقضايا التي تخص مصلحة القبيلة. ولا يستشار الشيخ ولا يطلب منه الحضور ، كما أن القبيلة تحكم دون اللجوء إلى العقاب. إذ بسبب كون العلاقات بسيطة ومفهومة في جزيرة العرب ، قلما تحدث الجرائم الموجهة ضد نظام المجتمع. ويحافظ هؤلاء الزعماء في مأكلهم وأسلوب معيشتهم على نفس حياة شيوخ البدو البسيطة ، وهذه مسألة غريبة لأنهم لا يعيشون في صحراء معزولة بل على صلات دائمية بالهنود والفرس ولديهم قوة أكبر ومال أكثر مما يجعلهم لا يجدون صعوبة في توفير وسائل الراحة لأنفسهم. إن هذا التنكر للذات لا بد أن يعد طوعيا في الوقت نفسه الذي يحتفظ فيه بالعادات الوطنية.

عند ما كنت أقوم برحلة على هذا الساحل سنة (١٨٢٧) ، وأحمل رسائل لشيخ الشارقة سلطان بن صقر (١) ، هبت ريح عاتية غير متوقعة تسببت في انقلاب قاربنا. حدث هذا ونحن على مقربة من الساحل لكننا وصلنا بسلام لأننا كنا نعرف السباحة جيدا. وبعد وصولنا الساحل ازدادت الريح ضراوة ومرت ثلاثة أيام لم نتمكن في أثنائها من مغادرة المكان والتوجه إلى السفينة. وعندئذ توفرت لدي فرصة لدراسة السلوك الخاص للناس وحكامهم. ولم يهدأ للسلطان بال في الاهتمام بي ، وكان إعداد الطعام يتم في منزله قبل أن يرسل إليّ ، وفي أحد الأيام دعاني لتناول الطعام وإياه مساء. واستقبلني في غرفة صغيرة لا تحتوي إلا على منضدة وكرسيين أو ثلاثة كراسي قدمها له قائد سفينتنا ، وبعض السجاد الذي جلسنا فوقه. كان الطعام مقتصدا قام بعده شقيق الشيخ بتحميص القهوة وطحنها ثم قام الشيخ نفسه بتقديمها إليّ. ثم جاء أحد الرواة وروى قصة أثارت ضحك الجميع. أما أنا فكنت أجهل اللغة فلم أفهم شيئا.

__________________

(*) الشيخ سلطان بن صقر (الأول) حكم في الفترة (١٨٠٣ ـ ١٨٦٦ م).

١٤١
١٤٢

الفصل السابع عشر

نهاية الرحلة

ينظر سكان الساحل إلى أنفسهم باعتبارهم أعلى شأنا من البدو أو عرب المدن ، وهم أطول قامة من البدو والعرب وسحنتهم أكثر بياضا وأبدانهم أشد عضلات منهم وذلك حتى بلوغهم سن الثلاثين أو الأربعين وعند ذلك يتحول مظهرهم إلى نفس مظهر الشيوخ وحتى هذه الفترة ، فإن بعض أشكالهم تعد نماذج مثالية للقوة كما أن نمو عضلاتهم أعظم بكثير من نمو عضلات أي شعب آسيوي عرفته. وعلى الرغم من أنهم لا يحبون القيام بأي جهد ، إذا ما أمكن تجنبه ، فإنهم في بعض الحالات التي يتطلب منهم فيها القيام به ، فإن الأسلوب الذي يجمعون فيه مجهودهم الشخصي يبعث على الدهشة حيث أن قواربهم الكبيرة جدا التي تزن ثلاثمائة طن تسحب بوساطة القوة البدنية وحسب فوق سطح الماء دون أي مساعدة من أحد باستثناء البكرات. وكلما كانت هناك ضرورة لتدشين قواربنا أو سحبها فوق المسطحات ، فإنهم كانوا يفرحون بتقديم المساعدة لكي يتمكنوا من الضحك على ضعف البحارة والخدم والعسكريين الذين يتم استخدامهم غالبا في مثل هذه العمليات ليتجنب الأوروبيون حرارة الجو.

وعند ما لا يكون هؤلاء السكان في حالة عداء مع جيرانهم ، فإنهم يقضون وقتهم في صيد الأسماك أو الغوص بحثا عن اللؤلؤ أو بلا عمل تماما لأن العواصف الشمالية الغربية التي تهب طوال الجزء الأعظم من السنة في هذا الخليج تمنعهم من التوجه إلى البحر وعندئذ يحصلون على ما يحتاجون إليه من الخلجان الصغيرة التي تتداخل في السواحل. ويستمر فصل صيد اللؤلؤ من يونيو / حزيران حتى سبتمبر / أيلول ، أما في بقية الفصول فإنهم يشكون من شدة البرد. وفي أثناء موسم الصيد ، يتم توظيف كل فرد قادر على قيادة قارب أو يشارك في قيادته مع غيره ، ولا يبقى في القرية أحد من الناس سوى الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا يستطيعون القيام بهذا العمل لكبر سنهم.

١٤٣

تمتد ضفة اللؤلؤ من الشارقة وحتى مجموعة (بودلف / بوضلف؟) ويكون القاع عادة من الرمال التي تكثر فيها الأصداف والمرجان المتكسر. ويختلف العمق إذ يتراوح بين خمس إلى خمس عشرة قامة. وحق الصيد على الضفة مشاع للجميع ، لكن المشاحنات بين القبائل ليست نادرة الحدوث. وإذا كان وجود إحدى السفن الحربية يحول دون فض نزاعاتهم هذه على الفور ، فإنهم يضعون حدا لها على اليابسة حيث يحطون رحالهم لفتح المحار. ولغرض وقف مثل هذه المنازعات ، التي لو سمح باستمرارها لأدت إلى حدوث فوضى ، فإن سفينتين حكوميتين تمخران عادة عباب البحر قرب الساحل.

أما سفنهم فذات أحجام متباينة وبناء مختلف يتراوح وزنها بين عشرة أطنان وحتى خمسين طنا. وفي أحد الفصول ، تبين أن جزيرة البحرين توفر ثلاثة آلاف وخمسمائة سفينة من مختلف الأحجام بينما يوفر الساحل الفارسي ألف مركب وان المسافة بين البحرين ومدخل الخليج ـ بما فيها ساحل القراصنة ـ فيها سبعمائة مركب ويقدر ثمن اللؤلؤ الذي يتم الحصول عليه من مختلف هذه الموانئ ب ٤٠ لاك من الدولارات ، أو أربعمائة ألف جنيه. وتحمل مراكبهم طاقما يتراوح عدده بين ثمانية أشخاص إلى أربعين شخصا. وبهذا يكون عدد الأشخاص الموظفين في الملاحة في موسم الصيد أكثر من ثلاثين ألفا. ولا يتلقى أي واحد منهم أجورا محددة ، بل لكل منهم نصيبه من الأرباح الكلية. وثمة رسوم صغيرة تفرض على كل قارب من شيخ الميناء الذي تعود إليه. وفي هذه الفترة يعيشون على التمور والأسماك التي تكثر في هذا المكان وتتصف بنوعيتها الجيدة. ولهذا كانت هدايانا الصغيرة من الرز إزاء هذا الطعام الشحيح تشكل مصدر ترحيب كبير ، وهم يغطون أجسادهم بثوب أبيض ، لكن على وجه العموم ، وفيما عدا وزرة تستر الجزء الأوسط من أبدانهم ، فإنهم عراة تماما. وعند ما يوشكون على القيام بأعمالهم تراهم يقسمون أنفسهم إلى قسمين ، يبقى القسم الأول في القارب لجذب أولئك المنهمكين في عملية الغوص. أما القسم الثاني فيزودون أنفسهم بسلة صغيرة ويقفزون من جانب المركب إلى البحر ويضعون أقدامهم فوق إحدى الصخور المربوطة بأحد الحبال. وعند إعطاء الإشارة يرخى الحبل ويغوصون إلى القاع وعند ما يكون المحار كثيرا ، فقد يرسل ثمانية إلى عشرة

١٤٤

أشخاص في كل مرة. وبعد ذلك يهز أحدهم الحبل فيقوم الشخص الموجود على ظهر القارب بسحب الغواص إلى أعلى بأسرع ما يستطيع. إن المدة التي يستطيعون البقاء فيها تحت سطح الماء قد بولغ في تقديرها. والمعدل العام دقيقة واحدة ، ولا أعتقد بأنها تتجاوز الدقيقة والنصف إلا في مرة واحدة فقط (١).

ولا تقع أي حوادث في الغالب بسبب أسماك القرش ، لكن السمك المعروف بأبي منشار يخشى أمره كثيرا. وقد رويت لي بعض القصص عن الغواصين الذين قطعت أبدانهم إلى نصفين تماما بفعل هذه الأسماك المتوحشة التي تتصف في الخليج العربي بأنها ذات أحجام أكبر من مثيلاتها في أي مكان آخر في العالم. ولما كان سلوك هذا السمك غير مألوف عند القارئ العام ، فإنني سأضيف بعض الكلمات لوصفه ، تكون هذه الأسماك ذات شكل دائري يميل إلى الاستطالة ، أما رأسها فمسطح من الجهة الأمامية ويستدق على نحو مفاجئ عند جهة الذنب. ويبلغ طول السمكة ما بين ثلاثة عشر إلى خمسة عشر قدم ، ومغطاة بطبقة جلدية ذات لون غامق من الأعلى وأبيض من الأسفل. أما السلاح الفتاك الذي اشتقت اسمها منه فهو عبارة عن خطم مسطح ناتئ يبلغ طوله ستة أقدام وعرضه أربع بوصات ومسلح من كل جهة بفقرات تشبه أسنان القرش.

يعد الغوص ضارا بالصحة إلى حد كبير ومما لا شك فيه أنه يقصر عمر أولئك الذين يمارسونه بكثرة. ولكي يحتفظ الغواص بتنفسه فإنه يضع قطعة مطاطية فوق منخريه. ولا يدخل القارب في كل مرة يصعد فيها إلى سطح الماء ، إذ أن الحبال مشدودة إلى جنبيه فتساعده على التشبث بها ، حتى يحصل على النفس اللازم للقيام بمحاولة جديدة. وما أن يملأ الصيادون قاربهم ، يتجهون إلى إحدى الجزر التي يكثر وجودها قرب الضفاف ، فينصبون خيمهم مع المجاديف والصواري والأشرعة. ويقدرون سعر المحار غير المفتوح بدولارين لكل مائة محارة (٢).

__________________

(١) حدث هذا بحضور المقيم البريطاني العقيد (ستانوس) ، إذ ظل أحد الرجال من بين مائة من الحاضرين تحت الماء مدة دقيقة وخمسين ثانية لقاء جائزة مقدارها بضع دولارات. أما في (سيلان) فإن الفترة قلما تتجاوز خمسين ثانية.

(٢) تقوم البحرية الهندية بتنفيذ العديد من المهام الموكلة إليها ومنها التنقل على ضفاف اللؤلؤ وهو تنقل مزعج وغير مريح. ويعترف أصحاب الخبرة الجيدة بأن حرارة الجو في الخليج العربي خلال فترة الصيف لا تضاهيها حرارة أي منطقة من مناطق العالم.

١٤٥

ولما كان السكان المحليون يألفون الماء منذ شبابهم ، فقد باتوا خبراء في الغوص. أما المسافة التي في وسعهم قطعها سباحة والزمن الذي يستغرقونه في الغوص فيبدو أمرا لا يصدق وسط الأوروبيين. وثمة حالات مشهود لها عن أفراد قاموا بالسباحة مسافة سبعة أميال دون استراحة.

في سنة (١٨٢٧) كنا نتجول في سفينة تدعى (تيرنيت) قرب شواطئ اللؤلؤ. ولما كان البحر هادئا والسفينة تمخر عباب البحر باتجاه التيار ، كان عدد من الضباط والجنود يطلون من فوق جانبها وينظرون إلى رباننا العربي الذي كان يسلي نفسه بالغوص بحثا عن المحار. وبعد محاولات عدة ، أخفق في البحث ، وقال : «أما الآن ، وبعد أن أصبحت عاجزا عن جمع المحار ، فسوف أغوص لصيد السمك». وهنا سخر الجميع من الفكرة ، إلا أنه غاص ثانية ، ولدهشتنا جميعا وجدناه يخرج إلى سطح الماء بعد فترة وجيزة ممسكا بسمكة في كل يد. وفسّر لنا ذلك بقوله أنه بينما جلس في قاع البحر ، تقدمت منه سمكة وبدأت تقضم بشرته برفق. وانتهز أول فرصة مؤاتية وامسك بالضحية بأن دفع إبهامه وسبابته في خياشيمها المنتفخة.

الثلاثاء ، الثامن والعشرون من مارس / آذار : وصلت إليّ في هذا الصباح أخبار تقدم (سعد بن مطلق) إلى (بدية) ، تلك المنطقة التي أتيت على وصفها سابقا ، وبذلك قضت على كل الآمال في إمكانية وصولي إلى (الدرعية) بمساعدته. وفي نفس الوقت علمت بأن الإمام قد أرسل الرسل الذين اتجهوا إلى (عبري) لأنهم لم يجدوا لنا أثرا في (البريمي) كما كان متوقعا.

وبعد أن أصبح الآن ضروريا وجوب أن أتخلى عن كل مقاصدي في التقدم أكثر داخل البلاد ، فقد وطدت العزم على قضاء الأيام القليلة القادمة من هذا الموسم اللطيف على

__________________

ـ فالليالي قصيرة ، ولهذا لا تستطيع الأرض أو البحر تبريدها في وقت قصير. وحتى عند ما تكون الشمس في الأفق فإنها تبعث على الدفء الذي لا يطاق. ويذكر البحارة أن الشمس تشرق وتبدو قرصا أحمر شديد الحرارة وبعد مرور بضع دقائق ترفع شدة أشعتها المحرار عشر درجات فهر نهايت. ومنذ هذا الوقت وحتى الساعة الحادية عشرة قبيل منتصف الظهر ، عند هبوب نسيم البحر ، تكاد الحرارة لا تطاق. وتحت مظلات مزدوجة ، يضطجع البحارة معصوبي الرأس بقطع من قماش مبلل ، فوق ظهر السفن ، أو يستلقون فوق الحافة العليا من جنب المركب ، يتطلعون إلى أول النسمات القادمة ، ويلهثون من شدة الحر. وبلا أي جهد يبذلونه ، ترى العرق يتصبب من كل مسامة. أما الماء فإنه يزيد من الظمأ بدلا من أن يرويه ، أما الجلد فيصاب بحالة من التهيج لا ينفع فيه ارتداء أي ثياب ، وأي حركة يرافقها ألم عظيم لأنها تسبب تشقق الجلد.

١٤٦

ساحل (مكران) الذي برغم أن أحد المسوحات البحرية التي كلفت نفقات باهظة قد عينت المواقع الجغرافية للمدن فيه ، فإن هناك نقصا في كل المعلومات الخاصة بالسكان. والملاحظات العامة التالية تشمل موضوعات عدة لم أتطرق إليها في الصفحات السابقة.

إنني لم أجد تثبيت حدود المقاطعة أمرا أسهل مما كان عليه الحال عند تثبيت حدود حضرموت واليمن. فتحت اسم (عمان) ، يفهم بعض الجغرافيين كل ذلك الخط الذي يحيط بأقاليم حضرموت والاحساء ونجد. أما بالنسبة لسكان البلاد أنفسهم ، فإن مثل هذا التقسيم في الوقت الراهن غير معروف. ولدى حديثهم عن (عمان) ، فإنهم لا يعنون إلا المنطقة الواقعة بين أراضي (جعلان) و (الباطنة). وإذا كانت الأبحاث والاستفسارات التي أقوم بها بلا أي نتيجة مرضية ، فإنني في تحديدي حدود المقاطعة عمدت إلى تبني الخطة التي بدت طبيعية جدا وان اعتبرها هي وحدها (عمان) التي تختلف اختلافا شديدا ، من حيث خصائصها العامة ، عن البلاد المحيطة بها والتي تقر بسيادة أمير (عمان) ، على الرغم من أنها قلما تستحق تلك التسمية بسبب بعض الصلات الواهية.

وعلى هذا الأساس ، تعد عمان شريطا ضيقا من الأرض يختلف من حيث العرض ولا يتجاوز المائة والخمسين ميل في أوسع المناطق. ويحد عمان من جهة الشرق المحيط الهندي ، أما من جهة الغرب فتحدها صحراء عظيمة وتمتد باتجاه مباشر من جزيرة (مصيرة) على خط العرض ٢٠ درجة و ٤٨ دقيقة وخط الطول ٥٨ درجة و ٥٦ دقيقة مسافة أربعمائة ميل تقريبا وحتى (رأس مسندم) على خط العرض ٢٦ درجة و ٢٤ دقيقة وخط الطول ٥٦ درجة و ٣٩ دقيقة حيث تنتهي على شكل زاوية حادة.

ويقسم سكان البلاد هذا الجزء من الجزيرة العربية إلى أربعة أقسام : القسم الأول وهو (جعلان) ويشمل (بني بو علي) وذلك الجزء من البلاد الممتد إلى جنوب شرقي (بدية) ؛ القسم الثاني وهو عمان ويمتد من (بدية) وإلى الشمال الغربي في (مقنيات) ؛ القسم الثالث وهو (الظاهرة) ويمتد من (مقنيات) وحتى (البريمي) ؛ القسم الرابع وهو (الباطنة) ويمتد على شكل شريط ضيق بامتداد الساحل من (السيب) وحتى (خور فكان). ويمكن توضيح الملامح العامة للإقليم على الوجه التالي سلسلة من الجبال التي تشكل جزءا من سلسلة أكبر

١٤٧

تحيط تقريبا بجزيرة العرب وتقطع باتجاه مواز للساحل مجمل أراضي الإقليم من مسقط وحتى (صور). أما التلال فتبدو عالية الأماكن القريبة من الساحل ، إلا أنها إلى الشمال من ذلك الميناء تتلاشى تماما.

وفي خط العرض ٢٣ يتجه الجبل الأخضر ، وهو عبارة عن سلسلة جبلية تزداد ارتفاعا ، على نحو مستعرض تقريبا من السلسلة السابقة وثمة سلسلة موازية منخفضة تشكل جذور كلا السلسلتين آنفتي الذكر تمتد إلى مسافة بعيدة عنهما. ومن الجبل الأخضر تستمر السلسلة حتى (رأس مسندم) حيث يتشكل منها فرع جديد أو ذراع جديدة يمتد حتى (رأس الخيمة) على سواحل الخليج العربي والمنطقة الواقعة ضمن هذا التشعب والبحر تنفصل إلى مجموعات من الجبال ذات الارتفاعات المتباينة والتي ينتظم فيها كل جبل على حدة. وعلى وجه العموم لا يتجاوز عرض السلسلة اثني عشر أو خمسة عشر ميلا يبلغ معدل ارتفاع التلال الوسطى أو الأكثر علوا من غيرها ما بين ثلاثة آلاف إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة قدم. ومع هذا ، فإن بعض القمم الشاهقة في الجبل الأخضر يصل ارتفاعها إلى ما يقرب من ستة آلاف قدم عن مستوى سطح البحر وباستثناء هذه السلسلة فإن الجبال مجدبة وعقيمة ، ويدخل الفلسبار (سليكات الألمنيوم) وطبقات الميكة الزجاجية في تركيب السلسلة المنخفضة ، بينما يدخل حجر الكلس في تركيب السلسلة العليا.

بالعودة إلى الخارطة وإلى سرد الأحداث ، سيلاحظ بأنني قطعت من (بني بو علي) وحتى (نزوى) خطا من الواحات ، وان المسافة بينهما وبين الجبال الواقعة على ساحل البحر لا تمثل سوى سهول قاحلة تخلو من المدن والقرى. والى الشمال من (السيب) ، فإن عرض (تهامة) أو (السهل البحري) يتراوح بين عشرين إلى أربعين ميل. ويرتفع هذا السهل ارتفاعا تدريجيا عن مستوى سطح البحر وحتى قاعدة السلسلة الرئيسية. وعلى الرغم من عدم وجود أي أنهار تقطعه ، إلا أنه يحتوي على بعض جداول الماء التي تستمر طيلة أيام السنة بصب مياهها في البحر (١). والى الوراء من ذلك ، أو في الجهة الغربية من الجبال في

__________________

(١) هناك استثناءان ، كما قيل لي ، فيما يخص الجدول القريب من (رأس قرّيات) والجدول القريب من (السيب) الذي يمتد على مجراه الطريق إلى (نزوى).

١٤٨

المناطق الشمالية ، فثمة بعض المدن والأراضي الخصبة. وفي بعض الأحيان يبتعد خط الصحراء قليلا عنها. ومن فوق قمة الجبل الأخضر ، واتتني الفرصة خلال أحد الأيام الصافية بالحصول على منظر شامل للصحراء إلى الجنوب الغربي من عمان. كانت السهول الشاسعة من الرمال المتحركة ، التي لا يستطيع حتى البدوي المعتاد على الصعاب اجتيازها إلا نادرا ، تنتشر على مد البصر. ولا يوجد هناك أي تل ولا حتى أي تغير في لون السهول يبدل من مظهر المشهد الموحش الرتيب.

١٤٩
١٥٠

الفصل الثامن عشر

الوصف العام لعمان

على هذا الأساس يمكن وصف (عمان) بأنها صحراء تكثر فيها الواحات وتحتوي وسط جبالها على العديد من الوديان الخصبة. ومع هذا ، فإن هذه الوديان بعيدة عن بعضها ولا بد من الاعتراف بأن مساحة الأراضي المزروعة قليلة مقارنة بالأراضي المجدبة ، لان الأراضي المحصورة بين الواحات غربا والصحراء الكبرى عبارة عن سهل قاحل ، رملي أو طيني ، حسب انتشار الجسيمات فيه ، فإما أن تكون من الألمنيوم أو من السيليكا. وتظهر هنا وهناك بعض الأعشاب الغضة التي تتغذى على قطرات الندى الليلية ، ولا توفر إلا كلأ قليلا لقطعانهم القليلة. أما الدروب الكبيرة التي تشغلها قيعان الجداول المائية فتحتوي على طبقة من كتل كلسية دائرية الشكل انتقلت من الجبال وظلت فوق سطوحها وباتت خالية من كل شكل من أشكال الخضراوات باستثناء بعض الشجيرات القصيرة التي لا تأكلها إلا الإبل. وتتصف التربة في (تهامة) بأنها صلبة ورديئة النوعية في بعض الأماكن ، إلا أنها تصلح للزراعة إلى حد كبير في الأماكن الأخرى التي يرويها الماء. وفي منطقة الحزام الضيق الذي يحاذي ساحل البحر ويدعى (الباطنة) تزرع كميات كبيرة من الخضراوات والحبوب ، في حين يمتد خط مستقيم من أشجار النخيل عرضه أربعة إلى ستة أميال من (السيب) وحتى (خور فكان) وهي مسافة يبلغ طولها حوالي مائتي ميل. ويشير المؤلفون العرب باستمرار إلى نخيل عمان. كما تكثر الزراعة على امتداد ضفاف جداول الأنهار والأراضي القريبة من المدن. إلا أن المظهر الرئيسي في هذه البلاد هو الواحات التي تنتشر من (بني بو علي) وتمتد بخط مستقيم إلى جهة الغرب والشمال الغربي. وهي ذات شكل مستطيل عادة تمتد على الزوايا اليمنى من الجداول التي تزودها بالمياه. وتختلف مساحاتها ، إذ يتراوح محيطها بين ميل أو أقل إلى سبعة أو ثمانية أميال. وقد شرحت عند حديثي عن واحات (بدية) الطريقة الفريدة والمعقدة التي ينقل السكان بواسطتها الماء إليها.

١٥١

ولأجل الحصول على تربة أفضل وإرواء أسهل ، قام العرب بإزالة التربة حتى عمق ستة أو سبعة أقدام وملئها بالماء كليا أو جزئيا حسب رغبتهم. وبعض هذه الجداول من الأملاك العامة ، في حين يملك البعض الآخر منها الأفراد أو الشركات. وفي أحد الأماكن التي يطلق عليها اسم (أم طايف) ، بالقرب من (مسقط) ، قام الإمام ببناء أحد الأفلاج بكلفة أربعين ألف دولار ، غير أن الماء كان عسرا يصعب شربه مما اضطرهم إلى التخلي عنه. وثمة مقاطعة في عمان الشمالية ـ حيث يندر وجود هذه الجداول ـ تستمد قيمتها من موقعها بالنسبة لهم. وبعض هذه الأنهار الثانوية يجف أو يتناقص ماؤه في فصل الجفاف فيتم إرواء الأرض من الجداول الرئيسة. وفي منطقة (نخل) القريبة من (بركاء) دفع مبلغ مقداره أربعمائة دولار لتوفير الماء ساعة واحدة كل خمسة عشر يوما ، ولما لم تكن لدى الناس ساعات ، فقد لجأوا إلى النجوم ، حيث يحسبون ظهورها وغيابها بعد أن تعلموا ذلك جيدا.

إن الماء ، كما هو معروف ، يعطي خصوبة غير محدودة تقريبا للتربة في المناطق ذات المناخ المداري. والتربة في الواحات مشبعة دوما بالرطوبة. أما الأوراق وغير ذلك من النباتات الخضر لا تحتاج إلا إلى القليل من السماد بعد تفسخها ، لتعود إلى الحياة. وتتم الزراعة إلى حد كبير تحت ظلال الأشجار ، كما أن المساحات المفتوحة تترك لزراعة الحبوب وقصب السكر الذي يحتاج إلى أشعة الشمس كي ينضج. ويزرع القمح في الجزء الأخير من شهر أكتوبر / تشرين الأول في حين يتم الحصاد مع بداية مارس / آذار أو في منتصفه. وفي المناطق التي تتوفر فيها وسائل الري الدائم ، تنتج الأرض محصولا واحدا من القمح ومحصولين من الذرة. أما الشعير فيزرع بعد شهر واحد على زراعة القمح. ولا ينمو الرز في عمان ، ولهذا لا يجد السكان ما يكفيهم لسد حاجتهم منه فيستوردون كميات كبيرة من بلاد فارس و (مكران) وتنتج الواحات خمسة عشر إلى عشرين ضعف من القمح ، وبنفس المقدار أيضا تنتج الشعير. أما الذرة فيتراوح إنتاجها ما بين ثلاثين إلى أربعين ضعف. وقد ذكرت في مكان سابق المظهر الفريد الذي تظهر به هذه البساتين خلال مختلف مراحل الإنتاج.

ومن المكان المرتفع للجبل الأخضر ، يختلف العديد من الوديان التي تتشكل بفعل السلاسل العليا ، عن السهول الموجودة إلى أسفل من حيث التربة وأسلوب الزراعة.

١٥٢

والأرض هنا مصطّبة عادة ، كما هو الحال في فلسطين والصين وتزرع فيها مختلف أنواع الأشجار وتنتج مختلف الأثمار التي لا تزرع في أماكن أخرى.

إن الزراعة لم تتقدم إلا قليلا في (عمان). وقد لا حظنا أن تربة الواحات الغنية لا تتطلب إلا القليل من المساعدة ، ففي حين لا يخشى الرجال أي شيء من تقلبات الفصل ، فإنه لا توجد ضرورة لإدارة عملية الزراعة إلا نادرا. أما في الأراضي الصالحة للزراعة الممتدة على الحقول الشاسعة ، التي تكون تربتها ، رغم اختلاف نوعيتها ، قابلة للتطور ، فإن المواطنين لا يبذلون أي جهد أو مال لإصلاح الخلل. غير أنني لا بد من أن أستثني المناطق الواقعة ضمن (منح) و (نزوى) التي تشتهر بحقولها الشاسعة المزروعة والغنية بكل أنواع الخضراوات بدلا من أن تكون عبارة عن أراض مهملة أو محروثة إلى حد ما كما هو شأن بعض المدن الأخرى.

وتعتمد المحاصيل في الحقول على الأمطار إلى حد ما ، على الرغم من أن أجزاء عديدة تروى بوساطة الآبار ، التي يكون البعض منها عميقا جدا. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار المصاعب التي تتحملها الأنهار التي تمدّ الواحات بالمياه ، فإننا نستغرب عدم لجوء السكان إلى الوسائل الميكانيكية لاختصار العمل الذي يستتبع هذا العمل. وهنا ، كما هو الحال في الهند ، تستخدم قطعتان من الخشب تمثلان عادة جذع نخلة ، لسبر غور مركز البئر. وثمة بكرة مثبتة في الجزء العلوي من هاتين القطعتين الخشبيتين يمر بها حبل ودلو مصنوع من جلد الثور على شكل حقيبة وفي الجزء الأسفل منه خرطوم ماء. وهناك حبل صغير يرتبط بالطرف الأقصى منه يمتد فوق البكرة وعلى مسافة قدمين عن حافة البئر. وتستخدم الثيران لسحب المياه ، ولأجل إضافة قوة الزخم عند الحيوان لقوته ، فإنه يساق أسفل منحدر حفر خصيصا لهذا الغرض وبزاوية مقدارها خمس عشرة درجة. ويرتبط الحبلان بالنيّر ، وعند ما يرتفع الماء إلى حد كاف ينتقل بسرعة إلى الخرطوم الذي يكون في وضع عمودي ، فيصبح مشدودا بقوة ويسحب فتحة الخرطوم إلى أسفل وعندئذ ينتقل الماء إلى خزان صغير.

وعند ما تصبح الآبار ضحلة جدا ، فإن السكان يستخدمون نفس الأسلوب الذي لجأ إليه المصريون على ضفتي نهر النيل. إذ يتم تثبيت عمود وسط دعامتين ويربط دلو بأحد

١٥٣

الطرفين ، بينما تربط حجارة ثقيلة الوزن أو أي جسم آخر بالطرف الثاني. ويساعد الثقل الفلاحين الذين يهزون الحبل المربوط به. ومن الخزان ينتقل الماء في جداول اصطناعية فوق سطح الأرض المجاورة.

إن وسائل الزراعة قديمة وبدائية ، والمحراث يشبه المحراث المستخدم في اليمن والذي رسمه (نيبور). وبعد الحراثة ، تقطع الأرض إلى أقسام مربعة ذات حافات يسير الماء على امتدادها. وتفيد هذه السدود الصغيرة في الاحتفاظ بالرطوبة على السطح لأطول فترة ممكنة إضافة إلى الحيلولة دون انتشار الماء. وعند ما يمتلئ أحد التجاويف يوقف الفلاح الماء وذلك بدفع التراب بقدمه فيفتح بذلك قناة اخرى (١).

وضمن هذه الأراضي المقسمة إلى أجزاء يبذرون البذار يدويا في أخاديد ضيقة ومن ثم يغطونها فيغدو السطح كله مستويا. وبهذه الطريقة يوفرون أعدادا كبيرة من البذور التي لا تفسد بسبب تعرضها إلى الجو أو تأكلها الطيور. وتحصد الذرة عادة بالمنجل الذي يشبه الهلال وفيه حزوز تشبه المنشار. ويقوم الشخص الذي يتولى الحصاد بتسليم ما يحصده إلى شخص آخر يعمل على تسويته وجمعه وربطه ومن ثم وضعه في خط مواز للخط الذي فرغ زميله من حصاده. وبعد ذلك تجمع هذه الكميات وتوضع صخرة كبيرة يجرها ثوران فوقها. وفي أجزاء أخرى ، ثمة بقعة من الأرض يبلغ قطرها حوالي عشرين قدم ومسيجة بسياج. وهناك وتد مثبت في وسط هذه البقعة مشدود إليها أحد الثيران وعليه النير. ويظل هذا الثور يدور ويدور حتى يتم فصل الذرة. ثم يستخدم سعف النخيل لعملية الذري في حين يتابع أحد الأشخاص العملية كلها مستخدما المدمّة. وقد انتابني سرور كبير وأنا أشاهد في هذا المكان ، كما هو الحال في فلسطين وأجزاء أخرى من الشرق ، إن الثور غير مكمم بكمامة.

وتظهر الأشجار والأدغال مبعثرة على سطح الجزء الأعظم من الصحراء الممتدة بين الواحات. وهناك بعض الأماكن التي تخلو كليا منها ، لكني وجدت في الدروب التي

__________________

(١) يذكر أن أحد ملوك أشور كان يهدد باستخدام الصورة نفسها إذ يقول : (لقد جففت بقدميّ أنهار الأماكن المحاصرة) وهذا الأسلوب في الجزيرة العربية يعرفه المزارعون البرتغاليون.

١٥٤

سلكتها قرب (بني بو علي) أشجارا كثيفة ومنها أشجار الصمغ العربي. وأعظم هذه الأشجار يطلق عليها العرب اسم أشجار (الغاف) و (السمر). ويرى الناظر الصمغ وهو يسيل منها. ومع هذا فإن الصمغ العربي الحقيقي لا يتوفر إلا في النوع الثاني على الرغم من أن النوع الأول قد يعوض عن الثاني ولو أنه بنوعية أقل جودة. وتستخدم هذه الأشجار لصنع الفحم ، وهناك وصفات طبية يقال أنها تستخرج من لحاء أشجار (الغاف). ويستخدم الخشب لصنع أدوات الزراعة ومقابض البنادق وغير ذلك من المواد التي تحتاج إلى صلابة وقوة. ولا يوجد في (عمان) خشب يصلح للبناء ، فجذوع أشجار النخيل تستخدم عادة في تشييد البيوت وهي قلما تصح للبناء لأنها ليست صلبة وسرعان ما تتعفن (١).

أما أشجار الطرفاء فكثيرة جدا. وتتعذى الإبل على أغصانها وأوراقها اللينة حيث يجمعها البدو عن طريق ضرب الأشجار بالعصي فتسقط الأوراق فوق قطعة من القماش توضع لهذا الغرض تحت الشجرة ، وعلى الجبل الأخضر لاحظت العديد من الأشجار المختلفة التي لا توجد في السهول. وفي بعض القنوات التي تجري فيها المياه ، امتدت جذور أشجار التمر الهندي والسدر (النبق) على الرغم من قيعانها الصخرية ، ولكن على وجه العموم ، نجد أن سفوح الجبال وقممها جرداء ، وتنمو أشجار التمر الهندي بكثافة فوق بعض السهول وهي أشجار ضخمة وجميلة إلا أن سكان (عمان) ، شأنهم شأن مواطني الهند ، يؤمنون بأن النوم تحتها ، وخاصة في الليل ، ينطوي على خطر كبير.

ولم أشاهد في عمان أشجار اللبان أو دم الأخوين على الرغم من وفرتها على التلال في إقليم حضرموت القريبة. ويقول العرب إنها لا توجد غربي مقاطعة (المهرة) (٢). وعلى حدود الجداول تكثر أشجار الألوة. وهناك أشجار يسميها العرب (succul) تشبه من حيث توزيع الأوراق والارتفاع أشجار الألوة ، وهي موجودة في سوقطرة وعلى ساحل الجزيرة العربية ، إلا أنها ذات لون لازوردي بدلا من أن تكون بنية فاتحة. وهذه الأشجار ريانة وغير

__________________

(*) استخدم العمانيون الخشب الصلب لأنواع من أشجا السنط مثل القرط والسدر وهي متوفرة محليا.

(**) أرض اللبان قديما شملت منطقة واسعة بما فيها قمم جبال كورسيان بحضرموت أما أشجار دم الأخوين فقد اشتهرت بها جزيرة سو قطرة قديما ولا زالت حتى اليوم.

١٥٥

مسننة. وقد لاحظت أنواعا عديدة تشبهها إلى حد كبير في الهند ومصر ، إلا أنني لست متأكدا إن كان علماء النبات قد صنفوها ضمن أي صنف. ويجمع السكان المحليون كمية قليلة من العصير ، إلا أنه غير مستساغ لأنه شديد المرارة ، ولهذا لا يتم تصدير أي شيء منه. وثمة أشجار السّنا تنمو بأعداد كبيرة في (عمان) ، إلا أن السكان يستخدمونها على نحو مقتصد في أدويتهم. وهناك نباتات الحنظل التي تنتشر قرب (بدية) وكذلك على امتداد الساحل. ويوجد البطيخ بكميات كبيرة أيضا وقد انتشر فوق سطح الأرض. وهناك العديد من الشجيرات المنتشرة وسط الجبال التي تفرز سائلا كالحليب غير أنه حامضي ويمكن أن يتسبب في القروح الجلدية ، لكن الماعز يتغذى عليه دون ظهور أي أعراض عليه. كما تشاهد أيضا الأعشاب العطرية ، كالخزامى. ولكن قلما ينتبه إليها لأنها لا تستخدم من الإنسان ولا تثير اهتمام القارئ العام في حين تحظى زهرة الياسمين العربية بالكثير من الاهتمام ولا سيما من السيدات لرائحتها الزكية. وفي المنطقة الشمالية من (عمان) يوجد نوعان من نبات (الحمّاض) الذي يحبه البدو كثيرا ويستخدم ملينا للأمعاء. وتنمو على ضفاف الجداول نباتات تعرف باسم (قرة العين) يستخدم العرب بذورها للأغراض الطبية. وفي المنطقة الداخلية من الإقليم ، تكون الواحات كلها والأراضي المزروعة القريبة من مدنها وفيرة في إنتاجها ، إلا أن العديد من الفواكه لا توجد في البساتين القريبة من ساحل البحر. ولعلي أعذر لهذا الوصف الجاف لأنه سوف ينقل ، أفضل من أي وصف مطول ، فكرة عن المنتجات الطبيعية لبلاد عدّت حتى اليوم صحراء. كما لا يجب أن ينسى بأن ما ذكر من الأصناف أعلاه يزرع في بقعة أرض لا يتجاوز قطرها ثلاثمائة أو أربعمائة ياردة.

١٥٦

الفصل التاسع عشر

النبات والحيوان

توجد أنواع عديدة من ثمار البرتقال والليمون الحامض (١) والليمون ، ويكفي أن نذكر أن الصنف الأول يحتوي على ثمار البرتقال الحلو والمندرين أو اليوسفي المعروف بالاسم الأول في الصين والهند ، وهناك نوع ثالث معروف بقشره الرقيق ذي اللون الأصفر البرّاق ونكهته الطبية. أما الليمون الحامض فيشمل ثلاثة أو أربعة أصناف وهناك نوع معروف في الهند باسم الليمون الحلو. أما ثمرة الليمون فهي صغيرة الحجم ونادرة ويقال : إن شجرة الليمون جاءت من بلاد فارس ؛ لكن من خلال اسمها العربي وهو الليمون ، يمكن القول : إنها جاءت من بلاد أوروبا بوساطة العرب. ويستخلص الشراب من عصير الليمون ويعطى بكميات كبيرة للمصابين بالحمى. كما توجد أنواع كثيرة من التمر الهندي والمانجو يختلف كل نوع عن الآخر بالحجم والنكهة والشكل. لكن أفضل أنواع هذه الفاكهة لا ترقى إلى تلك الأنواع الموجودة في الهند. وفي فصل الربيع عند ما تتفتح أزهار هذه الأشجار ، تبدو خضرتها مشربة باللون الذهبي مما يجعلها ، إضافة إلى أغصانها الواسعة وخضرتها الظليلة ، من أجمل ما تنتجه الواحات من ثمار وتوجد فواكه السفرجل على الجبل الأخضر وفي السهول. وتصدر كميات كبيرة من هذه الفاكهة إلى الهند. كما يوجد السفرجل الهندي ، كما أن الكروم (الأعناب) تكثر في الجبل الأخضر باللون الأبيض أو الأرجواني الغامق. ويستخدم العنب الأبيض لصنع النبيذ في حين يجفف النوع الثاني ليصبح زبيبا.

وهناك أنواع كثيرة من الموز والبطيخ الأحمر واليقطين واللوز والجوز والتين ، وأفضل أنواع التين لذيذ وشهي لكنه أصغر حجما وأقل نكهة من مثيله التين التركي. ويقوم السكان المحليون بتجفيفه ونظمه في خيط. وهناك النبق والتمور. وتعد التمور ، خاصة في السفر ، الغذاء الوحيد عند السكان. وتنتج (عمان) كميات هائلة منه وقد شاهدت بنفسي البساتين

__________________

(١) يتم تجفيف كميات كبيرة من الليمون الحامض تحت أشعة الشمس ويصدر إلى الخليج العربي.

١٥٧

الواسعة على ساحل (الباطنة) ، لكن أفضل أنواع التمور في هذه المناطق تعد أقل جودة من تمور البصرة والبحرين وهي التمور التي تعد أفضل تمور جزيرة العرب. والسكان يحبون حبا شديدا بذور النخل الذكري (حبوب الطلع) وهي ذات رائحة كريهة ، لكن طعمها يمكن التعود عليه. وتزرع الحبوب كالحنطة والشعير. أما الرز فيزرع بكميات قليلة. أما الخضروات فتشمل البصل والعدس والفجل والجزر والباذنجان والبقدونس وعدة أنواع من الفاصوليا والبازلاء والخيار والبطاطا الحلوة والخس والنباتات الخضر التي تشبه عند سلقها السبانخ. أما البطاطا الاعتيادية فهي لا تزرع هنا في حين يزرع السمسم بكميات وفيرة جدا ويستخلص منه زيت يقدره العرب كل التقدير. وفي بعض الأحيان يقومون بتحميص السمسم ويستخدم مع الخبز. ويمكننا أن نضيف إلى هذا كله النيلة وشجرة زيت الخروع وحقول قصب السكر الشاسعة. ويزرع القنب أيضا ولكنه لا يدخل في الصناعة في حين أن بذوره تشكل إحدى مشروباتهم المسكرة الطبيعية.

وتشبه الحيوانات البرية في (عمان) تلك الحيوانات الشائعة في الأقسام الأخرى من الجزيرة العربية. ففي السهول ، تكثر بنات آوى والثعالب والأرانب الوحشية والظباء والجرابيع ، بينما لا توجد الضباع إلا في الجبال حيث تحتمي داخل الكهوف والمغاور. وفي الجبل الأخضر توجد الخنازير والماعز وحيوانات صغيرة تشبه الفهد. أما الإبل فينظر إليها في جميع أرجاء جزيرة العرب على أنها هبة لا تقدر بثمن ، وتشتهر الإبل في (عمان) بأنها قوية وسريعة. وتعد (نجد) موطنا لتربية الإبل مثلما هي موطن تربية الجياد. إلا أن الإبل العمانية يتغنى بها السكان في أغانيهم بوصفها الأسرع ، فسيقانها أكثر رشاقة واستقامة وعيونها أكثر جحوظا ولمعانا ويوحي مظهرها العام بنسب أعرق من نسب الأنواع العادية من الإبل. وتروى الحكايات بأن الإمام كان يملك جملين فيما مضى ، يبدو أنهما كانا مدهشين. وقد سمعت بعض الناس الذين أثق بشهادتهم يؤكدون بأن أحد هذين الجملين نقل حملا من (السيب) وحتى (صحار) في رحلة استغرقت ستا وثلاثين ساعة في حين أنها تستغرق عادة ستة أيام. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار المرات الكثيرة التي ذكرت فيها القصة منذ زمن قديم ، فإنه يبدو غريبا أننا لا نملك معلومات صحيحة أو حتى مفصلة

١٥٨

فيما يخص عادات الإبل وطباعها وملامحها العامة. ولم أطلع على كتاب عن الحيوانات استطاع أن يقدم ، ولو بشكل مقبول ، معلومات عن الإبل.

ويمكن تفسير صمت الرحالة إزاء الحيوان الذي يدين له الجميع بالشيء الكثير بالافتراض بأن كل فرد اعتقد بأن الموضوع على درجة بالغة من الأهمية بحيث لا يمكن أن يفوت السابقين أو علماء الطبيعة بصورة عامة. إن الملاحظات التالية علاوة على ملاحظات أخرى متفرقة في هذه الرحلات ، تختلف من أوجه كثيرة عن الآراء السائدة. إلا أن الظروف المؤاتية لدراسة الموضوع ساعدتني على أن اطرح هذه الملاحظات بثقة.

ومن أوجه أخرى ، فإن المعلومات الحديثة تفيد ربما في سد النقص الحاصل في التاريخ الطبيعي لأكثر الحيوانات ، (التي وهبها الله للإنسان) ، فائدة.

إن جميع عادات الجمل وغرائزه مكيفة لحالته الفريدة والمنطقة التي يعيش فيها. لنتأمل في هذا المخلوق منذ لحظة ولادته. فإذا حدثت الولادة في أثناء رحلة ، فإن البدوي (١) يتلقى المولود بذراعيه ويضعه لبضع ساعات فوق ظهر الأم. ولكن عند أول محطة وقوف ، يوضع الغريب الصغير على الأرض لاستقبال قبلات والديه ومن ثم يواصل اللحاق بأمه دون مساعدة. ولما كان الجمل يعتاد منذ صغره على السفر المضني مسافات طويلة ، فإنه لا يحتاج إلا إلى القليل من التدريب لنقل الأحمال التي تكون ثقيلة قياسا إلى عمره الصغير. كما أن هذه الجمال تبرك طواعية عند ما يوشك الجمالون بوضع الأحمال عليها استعدادا للرحلة ، وهو أمر ضروري بسبب ارتفاعها. وعند ما تريد الإبل الاستراحة فإنها تبرك وهذا هو وضعها الطبيعي ، لكن عند ما تكون الأحمال ثقيلة الوزن جدا وهي فوق أرض صخرية أو صلبة فإن بروكها يسبب لها الألم. وعند ما تبرك تستخدم أولا الأيدي الأمامية التي تمدها إلى أمام لتفسح المجال للسيقان الخلفية وهي تنوء بحملها الثقيل. وعلى الرغم من أن الأجزاء الصلبة في مفاصلها ذات طبيعة تشبه القرون في صلابتها عند الإبل الكبيرة في السن ، فإنها لا تكفي للدفاع عنها ويستحيل على الأوروبي أن يشاهد الإبل وهي تبرك وتنهض دون أن يرثي لها ونتيجة لذلك ، فإن البدو لا يسمحون للإبل أن تبرك كي يعتلوا

__________________

(١) ويرحب البدوي به قائلا بدهشة : «لقد ولد لنا طفل آخر».

١٥٩

ظهورها البتة ، بل يدفعون الحيوان إلى خفض رقبته كي يضع قدمه عليها وما أن ترفع الإبل رأسها حتى يتمكن الراكب من الجلوس على ظهرها وتشعر الإبل بالسرور عند ما ينجح أحد الغرباء في الجلوس فوق ظهرها.

وللجمل العربي سنام واحد دائري الشكل وكثير اللحم. وما أن يبدأ بالإحساس بغزو الجوع حتى تحدث له متغيرات مدهشة. فهو من خلال امتصاص هذا الجزء الناتئ في الجسم يتمكن من توفير غذاء آخر. ولا يظهر الجسد أي نقص في هذا الجزء الناتئ الضخم إلى أن يبقى جزء صغير آخر من السنام باستثناء العظام والعضلات. هكذا كان تفسير البدو عموما الذين أعتقد أن أسلوبهم في الملاحظة يجعل آرائهم موضع احترام. وتبدو الجمال وهي صغيرة السن حيوانات جميلة ، ولكن عند ما تتقدم بها السن ويصيبها التعب لكثرة الأعمال ، تبدأ بفقد وبرها وتصبح حيوانات يصعب النظر إليها. وبصورة عامة ، نلاحظ أن الإبل مكسوة بطبقة من الوبر البني الفاتح. إلا أن هذه الطبقة عند الجمل العربي أو جمل الصحراء أقل وبرا من مثيلتها عند الإبل الآسيوي الذي نجده مكيفا على نحو أفضل لمناخ تلك المناطق. وقد شاهدت في شبه الجزيرة العربية جملا أسود تماما. لكن الجمال الموجودة على ساحل (النوبة) بيضاء اللون. وتشبه عين الجمل عين الغزال ، فهي كبيرة وسوداء وناعمة وجاحظة وتحتفظ ببريقها مهما كان وهج الشمس أو الرمال شديدا. أما أرجله فكبيرة الحجم وعرضية الشكل يغطي الجزء الأسفل منها جلد صلب ومرن مكيف تكييفا جيدا للسير على التربة الجافة ، إلا أن هذه الأرجل سرعان ما تخفق عند السير فوق الأماكن الزلقة أو المبتلة. وليس هناك حيوان يحب التربة الرملية المتناثرة كالجمل. ويستطيع ارتقاء المسالك المنحدرة والوعرة بنفس السهولة التي ترتقى فيها البغال هذه المسالك شريطة أن تكون خشنة.

وتكون أسعار الإبل في عمان باهظة. وأعرف أن مائة وأربعين دولار قد دفعت ثمنا لأحد الجمال. وأفضل الإبل تلك التي تتصف بصدر عميق وجذع ضخم. أما معدل سعر الجمل الواحد فيتراوح بين ثلاثين إلى خمسين دولار.

أما طول رقبة الجمل فيساعده ، دون أن يتوقف ، على قضم الأعشاب الشائكة الواسعة الانتشار في الصحراء. وعلى الرغم من أن بعض الأشواك يمكنها أن تثقب حذاء سميكا ،

١٦٠