سرّ صناعة الإعراب - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٣٢٨
الجزء ١ الجزء ٢

تقديره والله أعلم : ليس مثله شيء ، فلا بدّ من زيادة الكاف ، ليصح المعنى ، لأنك إن لم تعتقد ذلك أثبتّ له «عز اسمه» مثلا ، فزعمت أنه ليس كالذي هو مثله شيء ، فيفسد هذا من وجهين : أحدهما ما فيه من إثبات المثل له عز اسمه وعلا علوّا عظيما ، والآخر أن الشيء إذا أثبتّ له مثلا فهو مثل مثله ، لأن الشيء إذا ماثله شيء ، فهو أيضا مماثل لما ماثله ، ولو كان ذلك كذلك ـ على فساد اعتقاد معتقده ـ لما جاز أن يقال : ليس كمثله شيء ، لأنه تعالى مثل مثله ، وهو شيء ، لأنه تعالى قد سمّى نفسه شيئا بقوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)(١) [الأنعام : ١٩] وذلك أن «أيّا» إذا كانت استفهاما ، فلا يجوز أن يكون جوابها إلا من جنس ما أضيفت إليه ، ألا ترى أنك لو قال لك قائل : أي الطعام أحب إليك؟ لم يجز أن تقول له : الرّكوب ، ولا المشي ، ولا نحو ذلك ، مما ليس من جنس الطعام. فهذا كله يؤكّد عندك أن الكاف في كمثله لا بدّ أن تكون زائدة.

ومن ذلك أيضا قول رؤبة :

لواحق الأقراب فيها كالمقق (٢)

__________________

ـ إعراب الشاهد : ك : حرف جر مبني زائد لا محل له من الإعراب يدخل على الاسم فيعمل فيه الجر. مثله : مثل اسم مجرور بحرف الجر لفظا منصوب محلا لوقوعه خبر ليس وهو مضاف ، والهاء ضمير متصل مبني في محل جر مضاف إليه.

(١) يقول عز وجل أنه لا يوجد أعظم شهادة من الله. الشاهد فيها : استخدام الشيئية كوصف لله عز وجل. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال : جاء النمام بن زيد وقروم بن كعب وبحري بن عمرو. فقالوا : يا محمد ما نعلم مع الله إلها غيره ، فقال :لا إله إلا الله بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو ، فنزل قوله تعالى (أَيُّ شَيْءٍ) تفسير وبيان أسباب النزول للسيوطي (ص ٢٠٧). الشاهد فيها : فقوله (شَيْءٍ) وجاءت نكرة لتدل على العموم والشمول لتشمل وتعم كل ما يعلمون من أولئك الذين يصلحون للشهادة فالله أكبر وأعدل وأقوم شهادة. إعراب الشاهد : شيء : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة الظاهرة.

(٢) يقول الشاعر إن في لواحق الأقراب طول.

٣٠١

والمقق : الطول. ولا يقال في الشيء كالطّول ، وإنما يقال : فيه طول ، فكأنه قال : فيها مقق ، أي طول.

وهذه مسألة من الكتاب.

قال سيبويه (١) : تقول : ما زيد كعمرو ولا شبيها به ، وما عمرو كخالد ولا مفلحا. النصب في هذا جيّد ، لأنك إنما تريد ما هو مثل فلان ، ولا مفلحا ، هذا معنى الكلام ، فإن أردت أن تقول : ولا بمنزلة من يشبهه ، جررت ، وذلك نحو قولك : ما أنت كزيد ولا خالد ، فإنما أردت ولا كخالد ، فإذا قلت : ما أنت بزيد ولا قريبا منه ، فليس هاهنا معنى بالباء لم يكن قبل أن تجيء بها ، وأنت إذا ذكرت الكاف تمثل بها. انقضى كلام سيبويه.

واعلم أن هذا الكلام يحتاج إلى شرح ، لتتلخص معانيه ، فإن في ظاهره إشكالا (٢).

أما قوله : ما أنت كعمرو ولا شبيها به ، فلا يخلو الكاف في كعمرو أن يكون اسما كمثل ، أو حرفا فيه معنى مثل ، على ما صدّرناه (٣) من قولنا ، فإن كانت الكاف في كعمرو اسما ، فشبيه معطوف عليها ، كما كان يعطف على مثل لو كانت هناك ، فقلت : ما أنت مثل عمرو ولا شبيها به ، كقولك : ما أنت غلام عمرو ولا جارا له ، وهذا أمر ظاهر. وإن كانت الكاف في كعمرو حرفا كالتي في قولنا مررت بالذي كزيد ، فشبيه المنصوب معطوف على كعمرو جميعا ، لأن الجار والمجرور في موضع نصب ، لأن هذه لغة حجازية ، لأن نصب «شبيه» يدلّ على أنّ الأول في

__________________

لواحق : (م) اللحق ، وهو ما يجيء بعد شيء يسبقه ، وتجمع على لواحق وإلحاق. الشاهد في قوله : (كالمقق) حيث إن الكاف حرف جر زائد. إعراب الشاهد : الكاف : حرف جر زائد مبني لا محل له من الإعراب. المقق : اسم مجرور لفظا بحرف الجر الزائد ، مرفوع محلا على الابتداء ، والجار والمجرور قبله شبه جملة في محل رفع خبر مقدم.

(١) ذكر سيبويه ذلك في الكتاب (١ / ٣٥).

(٢) إشكالا : الإشكال : الالتباس والخلط. مادة (ش ك ل). اللسان (٤ / ٢٣١٠).

(٣) صدرناه : صدر به أي بدأ به. مادة (ص د ر). اللسان (٤ / ٢٤١٢).

٣٠٢

موضع نصب ، إلا أن هذا موضع متى عطفت على لفظه أفدت معنى ، فإن عطفت على معناه دون لفظه ، أفدت معنى آخر ، ألا ترى أنك لو قلت : ما زيد كعمرو ولا شبيه به ، فجررت الشبيه ، فإنما أردت ولا كشبيه به ، فقد أثبتّ له شبيها ، ونفيت أن يكون زيد كالذي يشبه عمرا ، وأنت إذا قلت : ما زيد كعمرو ولا شبيها ، فإنما نفيت عن زيد أن يكون شبيها لعمرو ، ولم تثبت لعمرو شبيها ، وليس كذلك قولنا : ما أنت بعمرو ولا خالدا ، لأنك إن نصبت خالدا على المعنى أو جررته على اللفظ ، فإنما معناه في الموضعين واحد ، أي ما أنت هذا ولا هذا.

فقول سيبويه «لأنك تريد ما هو مثل هذا ولا مفلحا ، هذا معنى الكلام» ، يحتمل أمرين :

أحدهما : أن معنى الكاف معنى مثل ، وهي حرف.

والآخر : أن معنى الكاف معنى مثل ، وهي اسم ، كما أن مثلا اسم ، فإن كانت الكاف اسما ، فالعطف عليها ظاهر ، وإن كانت حرفا ، كان العطف عليها وعلى ما جرّه ، لأنهما في موضع نصب ، على ما تقدّم من بياننا.

وقوله : «فإن أراد أن يقول : ولا بمنزلة من يشبهه ، جره» يقول : إذا جررت شبيها به ، فقد أثبت لعمرو شبيها ، لأنك أردت : ولا كمن يشبهه.

ومثّل ذلك فقال : وذلك نحو قولك : ما أنت كزيد ولا خالد ، فهذا يبين لك أنك إذا جررت ، فعطفت على عمرو وحده ، فقد أثبت هناك شبيها لعمرو ، وهو غيره ، كما أنك إذا قلت : ما أنت كزيد ولا خالد ، فقد أثبتّ غير زيد وهو خالد.

وقوله «فإذا قلت : ما أنت بزيد ولا قريبا منه ، فليس هاهنا معنى بالباء لم يكن قبل أن تجيء بها» : يريد أن قولك : ما أنت بزيد ، وما أنت زيدا ، معناهما واحد ، وإنما جئت بالباء زائدة مؤكّدة ، على ما تقدم في صدر كتابنا هذا من قول عقيبة :

 ...

فلسنا بالجبال ولا الحديدا (١)

__________________

(١) نسب الزمخشري البيت لعبد الله الأسدي ، والبيت بتمامه :

معاوي إننا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

٣٠٣

وغيره. وأنت إذا قلت : ما أنت زيدا ، فله معنى غير معنى : ما أنت كزيد ، لأنك إذا قلت : ما أنت زيدا ، فإنما نفيت أن يكون هو هو ، وإذا قلت : ما أنت كزيد فإنما نفيت أن يكون مشبها له ، ألا ترى أن من قال : أنا زيد ، فمعناه غير معنى من قال : أنا كزيد ، فكما كان الإيجابان مختلفين ، كذلك يكون النّفيان مختلفين. وهذا واضح.

فقول سيبويه : «فإن أردت أن تقول ولا بمنزلة من يشبهه جررت» يؤكّد عندك أيضا زيادة الكاف في قوله عز اسمه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، لأنه نفى أن يكون كمثله شيء ، والكاف غير زائدة ، فقد أثبتّ له مثلا ، كما أثبت سيبويه في مسألته إذا جررت ، أنّ لزيد من يشبهه.

وقال أبو الحسن (١) في قوله : ما أنت كزيد ولا شبيها به : إذا جررت الشبيه فقد أثبتّ لزيد شبيها ، وإذا نصبت لم تثبت له شبيها. وهذا هو تلخيص قول سيبويه ، لم يزد فيه شيئا. وهذا الكلام فيهما على أن الكاف في كزيد غير زائدة ، وليست كالذي في بيت رؤبة : «لواحق الأقراب فيها كالمقق».

وأجاز لنا أبو عليّ (٢) فيها الجرّ ، وألا يكون مع الجرّ له شبيه. قال : وذلك على اعتقاد زيادة الكاف ، فكأنه قال : ما أنت زيدا ولا شبيها به ، ثم زاد الكاف ، فقال : ما أنت كزيد ولا شبيه به ، فلما جرّ زيدا بالكاف مع اعتقاده زيادتها ، عطف الشبيه على زيد ، وهذا الذي ذهب إليه أبو عليّ وجه صحيح ، وهو رأي أبي الحسن ، ونظيره «ليس كمثله شيء» ، و «فيها كالمقق».

__________________

ـ ويقصد الشاعر معاوية بن أبي سفيان بن حرب ، وأمه : هند بنت عتبة ، ملك المسلمين بعد قتال دار بينه وبين علي كرم الله وجهه ، ويطلب الشاعر من معاوية أن يترفق بهم فهم ليسوا جبالا ولا حديدا حتى يتحملوا. الشاهد في قوله (بالجبال) حيث إن الياء حرف جر زائد يدخل على الاسم فيعمل فيه الجر. إعراب الشاهد : الجبال : اسم مجرور لفظا منصوب محلا باعتباره خبر ليس ، ورويت الحديد بالنصب على التبعية للجبال ، ورويت بالكسر بالتبعية على الظاهر.

(١) أبو الحسن : هو أبو الحسن الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة المجاشعي.

(٢) أبو علي : هو أبو الحسن أحمد بن عبد الغفار الفارسي أستاذ ابن جني.

٣٠٤

ومثله أيضا قوله عز اسمه : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) [البقرة : ٢٥٩](١) ذهب أبو الحسن إلى أن الكاف زائدة ، وعطف «الذي» على «الذي» من قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) [البقرة : ٢٥٨](٢) وأجاز أبو علي أن يكون الكلام معطوفا على المعنى ، وذلك أن معنى قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) : أرأيت كالذي حاجّ إبراهيم في ربه ، أو كالذي مرّ على قرية ، فلا تكون الكاف على هذا زائدة. وهذا وجه حسن.

فأما قول الآخر :

فصيّروا مثل كعصف مأكول (٣)

فلا بد فيه من زيادة الكاف. فكأنه قال : فصيّروا مثل عصف مأكول. فأكد الشبه بزيادة الكاف ، كما أكّد الشبه بزيادة الكاف في قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إلا أنه في الآية أدخل الحرف على الاسم ، وهذا شائع ، وفي البيت أدخل الاسم ، وهو مثل ، على الحرف ، وهو الكاف ، فشبه شيئا بشيء.

فإن قال قائل : بماذا جرّ عصف؟ أبالكاف التي تجاوره؟ أم بإضافة مثل إليه ، على أنه فصل بالكاف بين المضاف والمضاف إليه؟

__________________

(١) هو عزيز أحد أنبياء بني إسرائيل. الشاهد فيها : أن الكاف في قوله (كالذي) زائدة للتوكيد.

(٢) حاج : أي جادل. والذي حاج إبراهيم هو النمرود بن كنعان. اللسان (٢ / ٧٧٩). الشاهد فيه : أن يكون الكلام معطوفا على المعنى. والتقدير : أرأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه ، أو كالذي مر على قرية.

(٣) ذكر صاحب اللسان البيت في مادة (ع ص ف) دون أن ينسبه إلى قائله. العصف : دقاق التبن. مادة (ع ص ف) اللسان (٤ / ٢٩٧٢). الشاهد فيه قوله : (كعصف) حيث إن الكاف زائدة جارة ، ووظيفتها التوكيد. والتقدير بعد الحذف (مثل عصف مأكول). إعراب الشاهد : الكاف : حرف جر زائد مبني لا محل له من الإعراب. عصف : اسم مجرور بحرف الجر الزائد وعلامة الجر الكسرة.

٣٠٥

فالجواب : أن «العصف» في البيت ، لا يجوز أن يكون مجرورا إلا بالكاف ، وإن كانت زائدة ، يدلّك على ذلك أن الكاف في كلّ موضع تقع فيه زائدة ، لا تكون إلا جارة ، كما أن من وجميع حروف الجرّ في أيّ موضع وقعن زوائد ، فلا بد من أن يجررن ما بعدهن كقولك : ما جاءني من أحد ، ولست بقائم ، فكذلك الكاف في مثل «كعصف» هي الجارة للعصف ، وإن كانت زائدة على ما تقدم.

فإن قيل : فإذا جررت العصف بالكاف ، فإلام أضفت مثلا؟ وما الذي جررت به؟

فالجواب أن «مثلا» وإن لم تكن مضافة في اللفظ ، فإنها مضافة في المعنى ، وجارة لما هي مضافة إليه في التقدير ، وذلك أن التقدير : فصيّروا مثل عصف مأكول.

فلما جاءت الكاف تولّت هي جرّ العصف ، وبقيت مثل غير جارة ولا مضافة في اللفظ ، وكان احتمال هذه الحال في الاسم المضاف أسوغ (١) منه في الحرف الجار ، وذلك لأنا لا نجد حرفا جارا معلّقا غير عامل في اللفظ ، وقد نجد بعض الأسماء معلّقا عن الإضافة ، جارا في المعنى ، غير جارّ في اللفظ ، وذلك نحو قولهم : جئت قبل وبعد. وقام زيد ليس غير ، وقد قالوا أيضا :

يا من رأى عارضا أسرّ به

بين ذراعي وجبهة الأسد (٢)

أي بين ذراعي الأسد وجبهته ، وجئت قبل كذا وبعد كذا ، وقام زيد ليس غيره.

__________________

(١) أسوغ : أكثر قبولا. مادة (س وغ). اللسان (٣ / ٢١٥٢).

(٢) البيت ينسب للفرزدق وهو أبو فراس همام بن غالب التميمي الدارمي ، من أفخر الشعراء الأمويين وأجزل المقدمين في الفخر والمدح والهجاء ، ولد سنة ١٩ ه‍ ، ونشأ بالبصرة والبادية ، ومات سنة ١١٤ ه‍. العارض : السحاب المعترض في جو السماء ، وفي القرآن (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا.) أسر به : أي أفرح به. مادة (س ر ر) اللسان (٣ / ١٩٩٢). ذراعي وجبهة الأسد : من منازل الكواكب ، حيث إن الذراعين أربعة كواكب كل اثنين منها يكونان ذراع ، والجبهة أيضا أربعة كواكب. الشاهد فيه : حذف المضاف إليه مع وجود ما يدل على المضاف إليه ، والتقدير بين ذراعي الأسد وجبهته. ـ

٣٠٦

ومن أبيات الكتاب قول الأعشى :

إلّا بداهة أو علا

لة سابح نهد الجزاره (١)

أي إلا بداهة سابح أو علالة سابح.

وحكى الفرّاء عن بعض العرب أنه قال : «برئت إليك من خمس وعشري النّخّاسين ، أي من خمس النّخّاسين وعشري النّخّاسين.

وحكى هو أيضا : قطع الله الغداة (٢) يد ورجل من قاله. أي يد من قاله ورجل من قاله. وهذا كثير ، وإنما أردت أن أوجدك أن الأسماء قد تعلّق عن الإضافة في ظاهر اللفظ ، وأن الحروف لا يمكن أن تعلّق عن الجر في اللفظ البتة ، ومعنى قولي في اللفظ : أن يوجد بعدها لفظ مجرور جرا مظهرا أو مقدّرا.

__________________

إعراب الشاهد : بين : مفعول فيه منصوب بالمفعولية. ذراعي : مضاف إليه مجرور. و: حرف عطف مبني لا محل له من الإعراب يفيد الاشتراك في الحكم. جبهة : معطوف مجرور بالتبعية. الأسد : مضاف إليه مجرور بالإضافة.

(١) نسب صاحب اللسان البيت للأعشى. والأعشى هو : أبو بصير ميمون الأعشى بن قيس بن جندل القيسي نشأ في بدء أمره راوية لخاله ـ المسيب بن علس ـ وقد عمي الأعشى ، وطال عمره حتى انبلج فجر الإسلام وعظم أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعد له قصيدة يمدحه بها فقابله كفار قريش وصدوه عن وجهته على أن يأخذ منهم مائة ناقة حمراء ويرجع إلى بلده ، لتخوفهم من أثر شعره ، ففعل ، ولما قرب من اليمامة سقط عن ناقته فدقت عنقه فمات ، ودفن ببلدته (منفوحة) باليمامة. البداهة : أو كل شيء. ويقصد بها أول جري الفرس. مادة (ب د ه) اللسان (١ / ٢٣٤). علالة : الجري مرة بعد أخرى ، سابح : يقصد الفرس. مادة (ع ل ل) اللسان (٤ / ٣٠٧٩) نهد : القوي الضخم. مادة (ن ه د). اللسان (٦ / ٤٥٥٥). الجزارة : أطراف البعير (اليدين ، الرجلين ، الرأس) ويقال : فرس ضخم الجزارة : أي غليظ اليدين والرجلين كثير عصبهما. مادة (ج ز ر). اللسان (١ / ٦١٤). الشاهد فيه قوله (بداهة أو علالة سابح) فقد حذف المضاف إليه ، والأصل : إلا بداهة سابح أو علالته.

(٢) الغداة : الفترة من الفجر إلى طلوع الشمس. مادة (غ د و). اللسان (٥ / ٣٢٢٠).

٣٠٧

فالمظهر نحو : مررت بزيد ، والمقدّر نحو : مررت بهذا ، وذلك وغيرهما من المبني ، فعلى ما قدمناه ينبغي أن يكون «عصف» من قوله «مثل كعصف» مجرورا بالكاف ، دون أن يكون مجرورا بإضافة مثل إليه.

فأما قول الشاعر :

جياد بني أبي بكر تسامى

على كان المسوّمة العراب (١)

فإنه إنما جاز الفصل بين حرف الجرّ وما جرّه بكان ، من قبل أنها زائدة مؤكّدة ، فجرى مجرى «ما» المؤكدة في نحو قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)(٢) [النساء : ١٥٥] ، و (عَمَّا قَلِيلٍ) [المؤمنون : ٤٠] ، و (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) [نوح : ٢٥] ، فلذلك جاز لعلى ، وإن كانت حرفا جارا ، أن تتخطّى إلى ما بعد كان فتجرّه ، ولا يجوز في قوله : «ككما يؤثفين» أن تكون «ما» مجرورة بالكاف الأولى ، لأن الكاف الثانية عاملة للجر ، وليست «كان» جارة ، فتجري مجرى الكاف في ككما.

فإن قيل : فمن أين جاز تعليق الأسماء عن الإضافة في اللفظ ، ولم يجز في حروف الجرّ ألا تتصل بالمجرور في نحو ما قدّمته؟

__________________

(١) جياد : (م) الجواد ، وهو النجيب من الخيل. مادة (ج ود) اللسان (١ / ٧٢٠). تسامي : تسامي القوم أي تفاخروا. مادة (س م ا) اللسان (٣ / ٢١٠٧). المسومة : المعلمة بعلامة ، ويقال وسم الشيء : كواه فأثر فيه بعلامة. اللسان (٦ / ٤٨٣٨). العراب : يقال خيل عراب ، وإبل عراب : أي خالصة العروبة (م) عربي. اللسان (٤ / ٢٨٦٦) يقول الشاعر أن سادات بني بكر يفتخرون بجيادهم المميزة والموسومة ، والتي تفضل جميع أنواع الخيل الأخرى. الشاهد فيه قوله (كان) فهي زائدة بين الجار والمجرور. إعراب الشاهد : كان : زائدة. المسومة : اسم مجرور بحرف الجر على. العراب : نعت مجرور بالتبعية.

(٢) الآية دليل على زيادة (ما) بين الجار والمجرور في (فبما نقضهم). إعراب الشاهد : الباء : حرف جر. ما : زائدة مبنية لا محل لها من الإعراب. نقض : اسم مجرور. هم : ضمير متصل مبني في محل جر مضاف إليه.

٣٠٨

فالجواب أن ذلك جائز في الأسماء من وجهين :

أحدهما : أن الأسماء أقوى وأعمّ تصرّفا من الحروف ، وهي الأول الأصول. فغير منكر أن يتجوّز فيها ما لا يتجوّز في الحروف ، ألا ترى أن التاء في ربّت وثمّت علامة تأنيث ، كما أن التاء في مسلمة وعاقلة علامة تأنيث؟ وقد أبدلوا تاء التأنيث في الاسم هاء في الوقف ، فقالوا مسلمه ، وعاقله ، ولم يبدلوا التاء في ربّت وثمّت ولات ولعلّت في وقف ولا وصل ، لأنه ليس للحرف قوّة الاسم وتصرّفه ، والفعل أيضا في هذا جار مجرى الحرف.

ألا ترى أن التاء في قامت وقعدت ثابتة غير مبدلة في وصل ولا وقف؟ فهذا أحد الوجهين.

والوجه الآخر : أن الأسماء ليست في أول وضعها مبنية على أن تضاف ويجرّ بها ، وإنما الإضافة فيها ثان لا أوّل ، فجاز فيها أن تعرى (١) في اللفظ من الإضافة ، وإن كانت الإضافة فيها منويّة (٢). وأما حروف الجرّ فوضعت على أنها للجرّ البتة ، وعلى أنها لا تفارق المجرور لضعفها وقلة استغنائها عن المجرور ، فلم يمكن تعليقها عن الجر والإضافة ، لئلا يبطل الغرض الذي جيء بها من أجله ، فهذا أمر ظاهر واضح.

فإن قال قائل : فمن أين جاز للاسم أن يدخل على الحرف في قوله «مثل كعصف».

فالجواب أنه إنما جاز ذلك ، لما بين الكاف ومثل من المضارعة في المعنى ، فلما جاز لهم أن يدخلوا الكاف على الكاف في قوله :

وصاليات ككما يؤثفين (٣)

لمشابهته لمثل ، حتى كأنه قال : كمثل ما يؤثفين ، كذلك أدخلوا أيضا مثلا على الكاف في قوله : «مثل كعصف» ، وجعلوا ذلك تنبيها على قوة الشبه بين الكاف ومثل.

__________________

(١) تعرى : يقصد تخلو. مادة (ع ر ى). اللسان (٤ / ٢٩٢٠).

(٢) منوية : مقصودة. مادة (ن وى). اللسان (٦ / ٤٥٨٩).

(٣) تم الحديث عن هذا الشاهد.

٣٠٩

فإن قال قائل : فهل يجوز أن تكون الكاف في قوله «مثل كعصف» مجرورة بإضافة مثل إليها ، ويكون «العصف» مجرورا بالكاف ، فتكون على هذا قد أضفت كلّ واحد من مثل ومن الكاف ، فيزول عنك الاعتذار لتركهم مثلا غير مضافة ، على ما قدمت ، ويكون جرّ الكاف بإضافة مثل إليها ، كجرّها بدخول الكاف على الكاف في قوله «ككما يؤثفين» ، فكما أن الكاف الثانية هنا مجرورة بالأولى ، كما انجرت بعلى في قول الآخر :

على كالقطا الجونيّ أفزعه الزّجر (١)

فكذلك هلّا قلت : إن الكاف في مثل «كعصف» مجرورة بإضافة مثل إليها؟

فالجواب : أن قوله «مثل كعصف» قد ثبت أن مثلا أو الكاف فيه زائدة ، كما أنّ إحداهما زائدة في قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٢) ، وإذا ثبت ذلك ، فلا يجوز أن تكون مثل هي الزائدة ، لأنها اسم ، والأسماء لا تزاد ، وإنما تزاد الحروف ، فإذا لم يجز أن تكون مثل هذه الزائدة ، ولم يكن بدّ من زائد ، ثبت أن الكاف هي الزائدة.

وإذا كانت هي الزائدة ، فلا بد من أن تكون كما قدمنا حرفا ، وإذا كانت حرفا ، بطل أن تكون مجرورة ، من حيث كانت الحروف لا إعراب في شيء منها ، وإذا لم تكن مجرورة بطل أن تكون «مثل» مضافة إليها كما سامنا السائل.

على أن أبا عليّ قد كان أجاز أن تكون «مثل» مضافة إلى الكاف ، وتكون الكاف هنا اسما.

وفيه عندي ضعف ، لما ذكرته.

فأما قول الآخر «ككما يؤثفين» فقد استدللنا بدخول الكاف الأولى على الثانية ، أن الثانية اسم ، وأن الأولى حرف قد جرّ الثانية ، وهو مع ذلك زائد ، ولا ينكر ، وإن كان زائدا ، أن يكون جارا ، لما قدمناه من قولهم : ما جاءني من أحد ، ولست بقائم.

__________________

(١) سبق الحديث عن هذا الشاهد.

(٢) مر الكلام على الآية.

٣١٠

ومن زيادة الكاف قول الشاعر :

من كان أسرع في تفرق فالج

فلبونه جربت معا وأغدّت

إلّا كناشرة الذي ضيّعتم

كالغصن في غلوائه المتنبّت (١)

إنما تقديره : إلا ناشرة ، والكاف زائدة.

ونحوه أيضا قول الآخر :

لو لا ابن حارثة الأمير لقد

أغضيت من شتمي على رغم

إلّا كمعرض المحسّر بكره

عمدا يسبّبني على ظلم (٢)

الكاف زائدة ، وتقديره إلا معرضا.

__________________

(١) ذكر صاحب اللسان البيت الأول ولم يذكر الثاني وتركه دون أن ينسبه إلى أحد. مادة (ف ل ج) بينما نسبهما صاحب الكتاب لعنزة المازني (١ / ٣٦٨). فالج : يقال هو فالج بن مازن بن مالك من بني تميم ، وأساء إليه بعض رهطه من بني مازن فرحل عنهم. لبونه : أي النوق التي تدر اللبن. مادة (ل ب ن) اللسان (٥ / ٣٩٨٩). أعدت : أي أصابتها الغدة وهي مرض يصيب الحيوان أو الإنسان. اللسان (٥ / ٣٢١٥). ناشرة : يقال هو ناشرة بن مالك قاتل همام بن مرة ، ذكر صاحب اللسان ذلك (٣ / ٢٠٧٤). وناشرة هذا حاربه قومه أيضا حتى رحل عنهم مثل فالج. غلوائه : ارتفاع السعر ، وأيضا حدة الشباب ، ولكنه يقصد بها النماء والخصب. المتنبت : أي الذي خرج نباته. مادة (ن ب ت) اللسان (٦ / ٤٣١٨). يقول الشاعر : إن بني مازن أجبروا فالجا وناشرة على الخروج حيث طردوهما ولذا فهو يدعو عليهم بأن (جربت) أي تجرب إبلهم فيصيبها الجرب والغدة. والشاهد فيه : زيادة الكاف قبل ناشرة في قوله (كناشرة) ، والتقدير (إلا ناشرة) وتم نصب ناشرة على الاستثناء.

(٢) نسب سيبويه البيتين في كتابه للنابغة الجعدي (١ / ٣٦٨). أغضيت : سكت وصبرت على الأذى. مادة (غ ض ا) اللسان (٥ / ٣٢٦٨). شتمي : سبي ، وشتمه شتما أي سبه. مادة (ش ت م) اللسان (٤ / ٢١٩٤). رغم : رغم فلانا رغما ومرغما : أي قسره وأذله. مادة (ر غ م) اللسان (٣ / ١٦٨٢). المحسر : الحزين المتعب. مادة (ح س ر) اللسان (٢ / ٨٦٩). ـ ـ

٣١١

وكذلك قول الآخر :

إلّا كخارجة المكلّف نفسه

وابني قبيصة أن أغيب ويشهدا (١)

الكاف زائدة ، وتقديره إلا خارجة ، وهذا كله من الاستثناء المنقطع عن الأول ، معناه : لكن.

ومن زيادة الكاف أيضا قولنا : لي عليه كذا وكذا ، فالكاف هنا زائدة ، لأنه لا معنى للتشبيه في هذا الكلام ، إنما معناه : لي عليه عدد ما ، فلا معنى للتشبيه هنا ، وإذا لم يكن هنا تشبيه ، فالكاف زائدة ، إلا أنها زائدة لازمة ، بمنزلة «آثرا ما» (٢) ونحوه مما تقدّم ذكره ، وذا مجرور بها.

واستدل أصحابنا على أن ذا مجرور بالكاف بقوله عز اسمه : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) [الحج : ٤٨] ، فالكاف في كأيّ هي الكاف في كذا وكذا ، وإذا كانت الكاف زائدة ، فليست متعلقة بفعل ، كما أن الباء في لست بقائم لما كانت زائدة لم تكن متعلقة بفعل ، ولا معنى فعل ، ويدلك على أن الكاف في كذا وكذا زائدة ، وأنها قد خلطت بذا ، وصارت معه كالجزء الواحد ، أنك لا تضيف ذا ، ولا تؤكدها ، ولا تؤنثها ، لا تقول : له كذه وكذه ملحفة ، فجريا مجرى حبّذا.

__________________

بكره : البكر : الفتى من الإبل (ج) أبكر. مادة (ب ك ر) اللسان (١ / ٣٣٤). ظلم : مجاوزة الحد ووضع الشيء في غير موضعه. يقول الشاعر إنني تغاضيت عن هذا الذي شتمني وسبني لأن له من الأمير منزلة ولهذا فهو لن يسبه ولن يشتمه ، ولكن ذلك الذي يدعى معرض أباح سبه وشتمه لأنه شتمه وسبه ولذا فسبه مباح عن الأول الذي له قرابة وصلة بالأمير. الشاهد فيه قوله (إلا كمعرض) والتقدير (إلا معرض) ، حيث إن الكاف زائدة مبنية لا محل لها من الإعراب. ومعرض : منصوب على الاستثناء.

(١) (أغيب ويشهدا) بينهما طباق يبرز المعنى بالتضاد. الشاهد فيه قوله (إلا كخارجة) والتقدير (إلا خارجة) حيث إن الكاف زائدة مبنية لا محل لها من الإعراب. خارجة : منصوب على الاستثناء.

(٢) آثرا ما : أي افعل هذا وإلا فلا تفعله.

٣١٢

وعلى هذا قالوا : إنّ كذا وكذا درهما مالك ، فرفعوا المال ، لأن الغرض في كذا وكذا إنما هو التوكيد والتكثير ، وإذا كانت الكاف غير زائدة تعلّقت بالفعل ، لأنها حينئذ بمنزلة غيرها من سائر حروف الجرّ ، فكما أن تلك كلّها متى لم تزد فهي متعلقة بأفعال ، فكذلك ينبغي أن تكون الكاف غير الزائدة ، وذلك نحو قولك : أنت كزيد ، فالتقدير : أنت «كائن» كزيد ، كما أنك إذا قلت : أنت لزيد ، فكأنك قلت : أنت كائن لزيد.

وفي هذا الفصل مسألتان تحتاجان إلى شرح وبيان :

أمّا إحداهما فقولنا : كأنّ زيدا عمرو.

إن سأل سائل فقال : ما وجه دخول الكاف هنا ، وكيف أصل وضعها وترتيبها؟

فالجواب : أن أصل قولنا : كأنّ زيدا عمرو ، إنما هو إنّ زيدا كعمرو ، فالكاف هنا تشبيه صريح ، وهي متعلقة بمحذوف ، فكأنك قلت : إن زيدا كائن كعمرو ، ثم إنهم أرادوا الاهتمام بالتشبيه الذي هو عليه عقدوا الجملة ، فأزالوا الكاف من وسطها ، وقدموها إلى أوّلها ، لإفراط (١) عنايتهم بالتشبيه ، فلما أدخلوها على إنّ من قبلها ، وجب فتح إنّ ، لأن المكسورة لا يتقدمها حروف الجر ، ولا تقع إلا أوّلا أبدا ، وبقي معنى التشبيه ، الذي كان فيها وهي متوسطة بحاله فيها وهي متقدمة ، وذلك قولهم : كأن زيدا عمرو ، إلا أن الكاف الآن لما تقدمت ، بطل أن تكون متعلقة بفعل ، ولا معنى فعل ، لأنها فارقت الموضع الذي يمكن أن تتعلق فيه بمحذوف ، وتقدمت إلى أول الجملة ، وزالت عن الموضع الذي كانت فيه متعلقة بخبر إنّ المحذوف ، فزال ما كان لها من التعلّق بمعاني الأفعال ، وليست هاهنا زائدة ، لأن معنى التشبيه موجود فيها ، وإن كانت قد تقدمت ، وأزيلت عن مكانها ، وإذا كانت غير زائدة فقد بقي النظر في «أنّ» التي دخلت عليها ، هل هي مجرورة بها أو غير مجرورة ، فأقوى الأمرين عليها عندي أن تكون «أنّ» في قولك كأنّك زيد ، مجرورة بالكاف.

فإن قلت : إنّ الكاف الآن ليست متعلقة بفعل ، فلم يجرّ به؟

__________________

(١) إفراط : أفرط إفراط : أي جاوز الحد والقدر في قول أو فعل.

٣١٣

قيل له : الكاف وإن لم تكن متعلقة بفعل ، فليس ذلك بمانع من الجر بها ، ألا ترى أن الكاف في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هي غير متعلقة بفعل ، وهي مع ذلك جارة؟ ويؤكد عندك أيضا أنها هنا جارة ، فتحهم الهمزة بعدها ، كما يفتحونها بعد العوامل الجارة وغيرها ، وذلك نحو قولك : عجبت من أنك قائم ، وأعطيتك لأنك شاكر ، وأظن أنك منطلق ، وبلغني أنك كريم ، فكما فتحت «أنّ» لوقوعها بعد العوامل قبلها موقع الأسماء ، كذلك فتحت أيضا في كأنك قائم ، لأن قبلها عاملا قد جرّها ، فاعرف ذلك.

ونظير هذا الكلام في أنه قد خلط بعضه ببعض ، وصارت فيه كأن حرفا واحدا ، مذهب الخليل في «لن» ، وذلك أن أصلها عنده «لا أن» ، وكثر استعمالها ، فحذفت الهمزة تخفيفا ، فالتقت ألف «لا» ونون «أن» وهما ساكنتان ، فحذفت الألف من «لا» لسكونها وسكون النون بعدها ، فصارت «لن» فخلطت اللام بالنون ، وصار لهما بالامتزاج والتركيب الذي وقع بينهما حكم آخر.

يدلك على ذلك قول العرب : زيدا لن أضرب ، فلو كان حكم أن المحذوفة مبقّى بعد حذفها وتركيب النون مع لام «لا» قبلها ، كما كان قبل الحذف والتركيب ، لما جاز لزيد أن يتقدم على «لن» لأنه كان يكون في التقدير من صلة أن المحذوفة الهمزة ، ولو كان من صلتها لما جاز تقدمه عليها على وجه.

فهذا يدلّك أن الشيئين إذا خلطا حدث لهما حكم ومعنى لم يكن لهما قبل أن يمتزجا ، ألا ترى أن لو لا مركبة من «لو» و «لا» ومعنى «لو» امتناع الشيء لامتناع غيره ، ومعنى «لا» النفي أو النهي. فلما ركبا معا حدث معنى آخر ، وهو امتناع الشيء لوقوع غيره.

فهذا في «لن» بمنزلة قولنا كأنّ ، ومصحح له ، ومؤنس به ، ورادّ على سيبويه ما ألزمه الخليل : من أنه لو كان الأصل «لا أن» لما جاز : زيدا لن أضرب ، لامتناع جواز تقديم الصّلة على الموصول ، وحجاج الخليل في هذا ما قدمنا ذكره ، لأن الحرفين حدث لهما بالتركيب ما لم يكن لهما مع الإفراد.

مضت المسألة الأولى.

٣١٤

المسألة الثانية :

قول عمرو بن شأس ، وهو من أبيات الكتاب :

وكاء رددنا عنكم من مدجّج

يجئ أمام الألف يردي مقنّعا (١)

وقال الآخر (٢) :

وكاء ترى من صامت لك معجب

زيادته أو نقصه في التكلم

إن سأل سائل فقال : ما تقول في كاء هذه ، وكيف حالها؟ وهل هي مركبة أو بسيطة؟

__________________

(١) وكاء : أي وكم. رددنا : رد الشيء أي منعه وصرفه وأرجعه. مدجج : دجج فلان : أي لبس سلاحه. مادة (د ج ج) اللسان (٢ / ١٣٢٨). يردي : أي يمشي مشية الرديان وهو نوع من المشي فيه زهو وفخار وتبختر ، ويقال : فيها رجم للأرض بحوافر الفرس في سيره وعدوه. مادة (ر د ى). اللسان (٣ / ١٦٣١). مقنعا : أي لابسا درعه وبيضته وخلافها من الأسلحة التي يتقنع بها عند خوض الحرب ويقال المقنع الذي ستر وجهه ووضع على رأسه بيضة الحديد. يقول الشاعر : كم من معركة وكثيرة هي تلك المعارك التي دافعنا عنكم ورددنا الأعداء عن أهلنا فيها ونحن نتقنع ونلبس الدروع ونمشي مشية الرديان. والبيت خبري تقريري غرضه الفخر. الشاهد فيه قوله (كاء) بمعنى كم ، وهي كم الخبرية التي تدل على الكثرة.

(٢) البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى ، من مزينة ، وكان مشهورا برزانته وحبه للسلام ، وقد نظم معلقته التي منها هذا البيت على أثر الحرب التي دارت رحاها بين عبس وفزارة بسبب سباق داحي فرس قيس بن زهير سيد بني عبس ، والغبراء حجرة حمل بن بدر سيد بني فزارة من غطفان ، ذلك أن زهيرا وحملا تراهنا على مائة بعير يدفعها من يخسر السباق إلى من يربحه ، وحدث أن سبقت الغبراء ، فبعث حمل ابنه مالكا إلى قبس يطلب منه حق السبق فأبى قيس وقتل مالكا ولد حمل فقامت الحرب بين الطرفين إلى أن أصلح بينهما هرم بن سنان والحرث بن عوف ودفعا ديات القتال فنظم زهير معلقته هذه يمدحهما ويرحب بالسلام. يقول زهير في هذا البيت أنه كم صامت يعجبك صمته فتستحسنه ، وإنما تظهر زيادته على غيره ونقصانه عن غيره عند تكلمه. الشاهد فيه قوله (وكاء) وهي بمعنى كم

٣١٥

فالجواب أنها مركبة ، والذي علّقته عن أبي عليّ عن أصحابنا ، أن أصلها كأيّ ، كقوله عز اسمه : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) ثم إن العرب تصرّفت في هذه اللفظة ، لكثرة استعمالها إياها ، فقدّمت الياء المشددة ، وأخرت الهمزة ، كما فعلت ذلك في عدة مواضع ، نحو قسيّ وأشياء في قول الخليل ، وشاك ولاث ونحوهما في قول الجماعة ، وجاء وبابه في قول الخليل أيضا ، وغير ذلك ، فصار التقدير فيما بعد : كيّأ ، ثم إنهم حذفوا الياء الثانية تخفيفا ، كما حذفوها في نحو : ميّت وهيّن وليّن ، فقالوا : ميت ، وهين ، ولين ، فصار التقدير كيء ، ثم إنهم قلبوا الياء ألفا ، لانفتاح ما قبلها ، كما قلبوها في طائيّ وحاريّ وآية في قول غير الخليل ، فصارت كاء.

وأخبرنا أبو علي : قال : قرأت على أبي بكر في بعض كتب أبي زيد : سمعت أبا عمرو الهذلي يقول في تصغير دابة : دوابّة. قال أبو علي : أراد دويبّة ، فقلبت الياء ألفا. فهذا أيضا كما قلنا في كاء. وفيها لغات أخرى غير هذه.

يقال : كأيّ وكاء ، وكأي بوزن كعين ، وكأ بوزن كعن. حكى ذلك أحمد بن يحيى ، فمن قال كأيّ فهي «أيّ» دخلت عليها الكاف ، ومن قال كاء فقد شرحنا أمره ، ومن قال كأي بوزن كعين ، فأشبه ما فيه أنه لما أصاره التعبير على ما ذكرنا إلى كيء ، قدم الهمزة ، وأخر الياء ، ولم يقلب الياء ألفا ، وحسّن له ذلك ضعف هذه الكلمة ، وما اعتورها (١) من الحذف والتغيير.

ومن قال : «كأ» بوزن كعن» ، فإنه حذف الياء من كيئ تخفيفا أيضا.

فإن قلت : إنّ في هذا إجحافا بالكلمة ، لأنه حذف بعد حذف. قلت : ليس ذاك بأكثر من مصيرهم من أيمن الله إلى م الله وم الله. وإذا كثر استعمال الحرف حسن فيه ما لا يحسن في غيره : من التغيير والحذف. فاعرف ذلك إن شاء الله.

فهذه حال الكاف الجارة في مواقعها ، وانقسامها ، وتشعبّها.

وأما الكاف غير الجارة فهي على ضربين :

أحدهما اسم ، والآخر : حرف.

__________________

(١) اعتورها : أي أصابها من شين وقبح. مادة (ع ور) اللسان (٤ / ٣١٦٦).

٣١٦

فأما الاسم فكاف المذكّر والمؤنّث المخاطبين. فكاف المذكر مفتوحة ، وكاف المؤنث مكسورة ، نحو : ضربتك يا رجل ، وضربتك يا امرأة ، فهذه اسم بدلالة دخول حرف الجر عليها ، نحو مررت بك وبك ، وعجبت منك ومنك.

وأما الكاف التي هي حرف ، فالتي تأتي للخطاب ، مجرّدة من الاسمية ، وذلك نحو كاف ذلك ، وذاك ، وتيك ، وتلك ، وأولئك.

ومن العرب من يقول : ليسك زيدا ، أي ليس زيدا ، والكاف لتوكيد الخطاب.

ومن ذلك : كاف ذانك وتانك ، وأبصرك زيدا أي : أبصر زيدا. وكاف النجاءك ، إذا أردت : انج ، وكاف قوله عز اسمه : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ)(١) [الإسراء : ٦٢] فهذه الكاف في هذه المواضع كلها حرف يفيد الخطاب ، وليست باسم ، والدلالة على ذلك : أن الكاف لو كانت في ذلك ونحوه من أسماء الإشارة ، نحو : تلك وأولئك اسما ، لم تخل من أن تكون مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة ، فلا يجوز أن تكون مرفوعة ، لأن الكاف ليست من ضمير المرفوع ، ولا يجوز أيضا أن تكون منصوبة ، لأنك إذا قلت : ذلك زيد ، فلا ناصب هنا للكاف ، ولا يجوز أيضا أن تكون مجرورة ، لأن الجر إنما هو في كلامهم من أحد وجهين : إما بحرف جر ، وإما بإضافة اسم ، ولا حرف جرّ هنا ، ولا يجوز أيضا أن يضاف اسم الإشارة ، من قبل أن الغرض في الإضافة إنما هو التعريف ، وأسماء الإشارة معارف كلّها ، فقد استغنت بتعريفها عن إضافتها ، وإذا كان من شروط الإضافة أنه لا يضاف الاسم إلا وهو نكرة ، فما لا يجوز أن ينكّر البتة لا يجوز أيضا أن يضاف البتة ، وأسماء الإشارة مما لا يجوز تنكيره ، فلا يجوز أيضا إضافته. ولأجل ما ذكرناه أيضا لم تجز إضافة الأسماء المضمرة ، لأنها لا تكون إلا معارف.

فإن قلت : فإذا كانت أسماء الإشارة لا تنكّر البتة ، فما تصنع بما حكاه أبو زيد من قولهم : هؤلاء قوم ، ورأيت هؤلاء. قال : فنوّنوا وكسروا. قال : وهي لغة بني عقيل ، والتنوين عندك في هذه المبنيات إنما يجيء علما للتنكير ، نحو سيبويه وعمرويه وغاق غاق ، وصه ، وأيهات ، وإيه ، وحيّهلا ، وما أشبه ذلك ، فكيف يكون هؤلاء نكرة ، وهو اسم إشارة؟ وقد تقدم من قولك ما يمنع تنكير اسم الإشارة.

__________________

(١) أرأيتك : أي أخبرني. والشاهد فيها زيادة كاف الخطاب للتوكيد.

٣١٧

فالجواب من وجهين :

أحدهما شذوذ هذه الحكاية ، وأنه لا نظير لها.

والآخر : ما كان يقوله أبو علي ، وهو أنه إنما جاز أن ينكّر هذا الاسم وإن كان اسم إشارة ، من قبل أنه قد يجوز أن ينظر إلى قوم من بعيد ، فيتشكّك في الأشباح (١) : أناس هم أم غيرهم ، فإنما نوّن هؤلاء من هذا الوجه ، إلا أنك لا تقيسه لضعفه.

ويؤكّد عندك أيضا أن هذه الكاف حرف ، وليست باسم ، ثبوت النون في : تانك وذانك ، ولو كانت اسما لوجب حذف النون قبلها ، وجرّها هي بالإضافة ، كما تقول : قام غلاماك وصاحباك وجاريتاك.

ويدلّ على ذلك أيضا قولهم : النّجاءك ، أي انج. ولو كانت الكاف اسما لما جازت إضافة ما فيه الألف واللام إليها ، وكذلك قولهم أبصرك زيدا ، لا يجوز أن يكون الكاف اسما ، لأن هذا الفعل لا يتعدّى إلى ضمير المأمور به.

ألا تراك لا تقول : اضربك ولا أقتلك : إذا أمرته بضرب نفسه وقتله إياها ، وكذلك أيضا قولهم : عندهم رجل ليسك زيدا ، لا يجوز أن تكون الكاف اسما ، لأنك قد نصبت زيدا ، لأنه خبر ليس ، ولو كانت الكاف منصوبة لما نصبت اسما آخر.

فإن قلت : فاجعل الكاف خبر ليس ، واجعل زيدا بدلا من الكاف. فذلك خطأ ، من قبل أن ضمير المخاطب لا يبدل منه بدل الكلّ ، لأنه في غاية الوضوح البيان ، فلا حاجة به إلى الإبدال منه.

ألا ترى أنك لا تقول : إنك زيدا قائم ، ولا ضربتك محمدا ، على أن تجعل زيدا ومحمدا بدلا من الكاف.

وأما قولهم : «أرأيتك زيدا ما صنع؟» ، فإنما الكاف هنا أيضا للخطاب بمنزلة ما تقدم ، ولا يجوز أن تكون اسما ، لأن «زيدا» هو المفعول الأول ، و «ما صنع» في موضع المفعول الثاني ، فالكاف إذا لا موضع لها من الإعراب.

فإن قلت : فهلا جعلت الكاف هي المفعول الأول ، وزيدا هو المفعول الثاني؟

__________________

(١) الأشباح : شبح الشيء : أي بدا غير جلي ، أو ما بدا لك شخصه غير جلي من بعد.

٣١٨

فذلك غلط ، من قبل أن السؤال إنما هو عن زيد في صنيعه ، ولست تسأل عن المخاطب ما صنع؟ وأيضا فلو كانت الكاف هي المفعول الأول ، وزيد هو المفعول الثاني ، لجاز أن يقتصر على زيد ، فتقول : أرأيتك زيدا ، كما تقول : ظننتك زيدا ، فحاجة زيد إلى ما بعده ، يدلّ على أنه هو المفعول الأوّل ، وأن ما بعده في موضع المفعول الثاني ، وأيضا فإنا نجد معنى : أرأيتك زيدا ما صنع ، وأرأيت زيدا ما صنع واحدا. فدلّ هذا على أن الكاف للخطاب ، وليست مغيرة شيئا من الإعراب.

وأيضا فلو كانت الكاف هي المفعول الأول ، وزيدا هو المفعول الثاني ، لوجب أن تقول للمؤنث : أرأيتك زيدا ، فتكسر التاء ، كما تقول : ظننتك قائمة ، ولوجب أن تقول للاثنين : أرأيتما كما الزيدين ، كما تقول : ظننتماكما قائمين. وكذلك في الجماعة المذكرة والمؤنثة ، فترك العرب هذا كله ، وإقرارهم التاء مفتوحة على كل حال ، يدلّ على أن لها وللكاف في هذا النحو مذهبا ليس لهما في غير هذا الموضع.

وإنما فتحت التاء في كل حال ، واقتصر في علامة المخاطبين وعددهم على ما بعد التاء في قولك للرجل : أرأيتك زيدا ما صنع؟ وللمرأة : أرأيتك زيدا ما فعل؟

وأريتكما وأرأيتكم وأرأيتكنّ ، بفتح التاء البتة ، لأنها أخلصت اسما ، وجعلت علامة الخطاب والعدد فيما بعد ، فاعرف ذلك.

وهذه مسألة لطيفة عنّت (١) لنا في أثناء هذا الفصل ، نحن نشرحها ، ونذكر خلاف العلماء فيها ، ونخبر بالصواب عندنا من أمرها ، وهي قوله عز اسمه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] وما كان مثله.

أخبرني أبو عليّ عن أبي بكر محمد بن السريّ عن أبي العباس محمد بن زيد : أن الخليل يذهب إلى أن إيّا اسم مضمر مضاف إلى الكاف. وحكى عن المازني مثل هذا القول المحكيّ عن الخليل ، في أنه مضمر مضاف.

قال : وحكى أبو بكر عن أبي العباس عن أبي الحسن الأخفش ، وأبو إسحاق عن أبي العباس غير منسوب إلى الأخفش : أنه اسم مفرد مضمر ، يتغير آخره ، كما تتغير أواخر المضمرات ، لاختلاف أعداد المضمرين ، وأن الكاف في إياك كالتي في

__________________

(١) عنت : بدت وظهرت. مادة (ع ن ن) اللسان (٤ / ٣١٣٩).

٣١٩

ذلك ، في أنه دلالة على الخطاب فقط ، مجرّدة من كونها علامة للضمير ، ولا يجيز أبو الحسن فيما حكيّ عنه إياك وإيّا زيد ، وإيّاي وإيّا الباطل.

انتهت الحكاية عن أبي علي.

وقال سيبويه : حدثني من لا أتّهم عن الخليل : أنه سمع أعرابيا يقول : إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشّوابّ.

وحكى سيبويه أيضا عن الخليل أنه قال : لو أن قائلا قال : إيّاك نفسك لم أعنّفه (١).

وحكى ابن كيسان قال : قال بعض النحويين : «إيّاك» بكمالها : اسم. قال : وقال بعضهم : الياء والكاف والهاء هي الأسماء ، وإيا عماد لها ، لأنها لا تقوم بأنفسها.

قال : وقال بعضهم : إيا : اسم مبهم ، يكنى به عن المنصوب ، وجعلت الهاء والياء والكاف بيانا عن المقصود ، ليعلم المخاطب من الغائب ، ولا موضع لها من الإعراب ، كالكاف في ذلك وأرأيتك. وهذا هو قول أبي الحسن الأخفش. قال : وقال بعضهم : الهاء والكاف والياء في موضع خفض.

قال : والدليل على هذا قول العرب : إذا بلغ الرجل الستين فإيّاه وإيّا الشّوابّ.

وهذا قول الخليل ، واحتجّ ابن كيسان في هذا الفصل بحجاج لا غرض لنا في ذكره ، وإنما أوردنا ما حكاه ، لنتبعه من القول فيه ما تراه.

وقال أبو إسحاق الزّجاج : الكاف في إياك في موضع جرّ بإضافة إيا إليها ، إلا أنه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات ، ولو قلت : إيا زيد حدّثت كان قبيحا ، لأنه خصّ به المضمر ، وحكى ما رواه الخليل من إيا الشّوابّ.

وتأملنا هذه الأقوال على اختلافها ، والاعتلال لكل قول منها ، فلم نجد فيها ما صيحّ مع الفحص والتنقير (٢) ، غير قول أبي الحسن الأخفش.

__________________

(١) أعنفه : أعنف به وعليه أي أخذه بشدة وقسوة. مادة (ع ن ف) اللسان (٤ / ٣١٣٢).

(٢) التنقير : نقر عن الأمر تنقيرا ونقرا : أي بحثه وبحث عنه. اللسان (٦ / ٤٥٢٠).

٣٢٠