سرّ صناعة الإعراب - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٣٢٨
الجزء ١ الجزء ٢

أما قول الخليل إن إيّا اسم مضمر مضاف ، فظاهر الفساد ، وذلك أنه إذا ثبت أنه مضمر ، فلا سبيل إلى إضافته على وجه من الوجوه ، لأن الغرض في الإضافة إنما هو التعريف والتخصيص ، والمضمر على نهاية الاختصاص ، فلا حاجة به إلى الإضافة.

فإن قلت : فقد قالوا ربّه رجلا ، وربّها امرأة. فأدخلوا ربّ على المضمر ، وهو عندك على نهاية الاختصاص ، فما وجه ذلك؟

فالجواب : أنه إنما جاز دخول ربّ في هذا الموضع على المعرفة لمضارعتها (١) النكرة ، بأنها أضمرت على غير تقدم ذكر ، ومن أجل ذلك احتاجت إلى التفسير بالنكرة المنصوبة ، نحو رجلا وامرأة ، ولو كان هذا المضمر كسائر المضمرات لما احتاج إلى تفسير ، وليس كذلك إياك وإياه وإياي ، لأن هذه مختصة معروفة بمنزلة أنا وأنت وهو ، فكما أن هذه مضمرات مختصة ، فكذلك إيا ، هي مضمرة مختصة ، فهذا يفسد قول الخليل والمازنيّ جميعا.

فأمّا ما حكاه سيبويه عنه من قولهم : فإياه وإيا الشوابّ ، فليس سبيله مثله مع قلته أن يعترض على السّماع والقياس جميعا ، ألا ترى أنه لم يسمع منهم إيّاك وأيّا الباطل ولا حكي عنهم تأكيد الهاء والكاف بعد إيّا.

فأما قول الخليل : لو أن قائلا قال : إياك نفسك لم أعنفه. فهذا ليس بتصريح قول ولا محض إجازة ، وإنما قاسه على ما سمعه من قولهم ، فإياه وإيا الشوابّ ، ولو كان ذلك قويا في نفسه ، وسائغا في رأيه ، لما قال : لم أعنفه ، كما لا يقال في قول من قال : قام زيد ، فرفع زيدا بفعله : إنك في هذا عندي غير معنّف ، وإنما يقال له أصبت ووافقت صحيح كلام العرب الذي لا معدل عنه. أو كلام هذا نحوه.

فأما قول من قال : إنّ إياك بكماله الاسم ، فليس بقويّ ، وذلك أن إياك في أنّ فتحه الكاف تفيد الخطاب المذكّر ، وكسرة الكاف تفيد الخطاب المؤنث ، بمنزلة أنت ، في أنّ الاسم هو الهمزة والنون ، والتاء المفتوحة تفيد خطاب المذكر ، والتاء المكسورة تفيد خطاب المؤنث ، فكما أن ما قبل التاء في أنت هو الاسم ، والتاء حرف خطاب ،

__________________

(١) مضارعتها : مشابهتها. وضارع الشيء : شابهه.

٣٢١

فكذلك «إيا» هو الاسم ، والكاف بعدها حرف خطاب ، أولا تراك تقول : إياك وإياكما وإياكم ، كما تقول : أنت وأنتما وأنتم.

وأمّا من قال : إن الكاف والهاء والياء في إياك وإياه وإياي هي الأسماء ، وأن «إيا» إنما عمدت بها هذه الأسماء لقلتها ، فغير مرضيّ أيضا ، وذلك أن إيا في أنه ضمير منفصل ، بمنزلة أنا وأنت ونحن ، وهو وهي ، في أن هذه مضمرات منفصلة.

فكما أنّ أنا وأنت ونحوهما مخالف للفظ المرفوع المتصل ، نحو التاء في قمت والنون والألف في قمنا ، والألف في قاما ، والواو في قاموا ، بل هي ألفاظ أخر غير ألفاظ الضمير المتصل ، وليس شيء منها معمودا به شيء من الضمير المتصل ، بل هو قائم بنفسه ، فكذلك «إيا» اسم مضمر منفصل ، ليس معمودا به غيره ، وكما أن التاء في «أنت» وإن كانت بلفظ التاء في : قمت ، فليست اسما مثلها ، بل الاسم قبلها هو «أن» ، وهي بعده للخطاب ، وليست «أن» عمادا للتاء ، فكذلك «إيا» هي الاسم ، وما بعدها يفيد الخطاب تارة ، والغيبة تارة ، والتكلّم أخرى ، وهو حرف ، كما أن التاء في أنت حرف ، وغير معمودة بالهمزة والنون من قبلها ، بل ما قبلها هو الاسم ، وهي حرف خطاب ، فكذلك ما قبل الكاف في إياك اسم ، وهي حرف خطاب ، فهذا هو محض القياس (١).

وأما قول أبي إسحاق إن «إيا» اسم مظهر خصّ بالإضافة إلى المضمر ، ففاسد أيضا ، وليس «إيّا» بمظهر كما زعم ، والدليل على أن إيا ليس باسم مظهر اقتصارهم به على ضرب (٢) واحد من الإعراب ، وهو النصب ، كما اقتصروا بأنا وأنا ونحوهما على ضرب واحد من الإعراب ، وهو الرفع.

فكما أنّ أنا وأنت وهو ونحن وما أشبه ذلك أسماء مضمرة ، فكذلك «إيا» اسم مضمر ، لاقتصارهم به على ضرب واحد من الإعراب ، وهو النصب ، ولم نعلم اسما مظهرا اقتصر به على النصب البتة ، إلا ما اقتصر به من الأسماء على الظرفية ، وذلك نحو : ذات مرّة ، وبعيدات بين ، وذا صباح ، وما جرى مجراهن.

__________________

(١) محض القياس : أي قياس لا يخالطه شائبة.

(٢) ضرب : نوع وصنف.

٣٢٢

وشيئا من المصادر نحو : سبحان الله (١) ، ومعاذ الله ، ولبيّك (٢) ، وليس إيا ظرفا ولا مصدرا فيلحق بهذه الأسماء.

فقد صحّ إذن بما أوردناه سقوط هذه الأقوال ، ولم يبق هنا قول يجب اعتقاده (٣) ، ويلزم الدخول تحته ، غير قول أبي الحسن إنّ «إيا» اسم مضمر ، وإن الكاف بعده ليست باسم ، وإنما هي للخطاب بمنزلة كاف ذلك ، وأرأيتك ، وأبصرك زيدا ، وليسك عمرا ، والنّجاءك.

فإن قال قائل : فإذا كانت الكاف ليس اسما في إياك ، فكيف يصنع أبو الحسن بقولهم إياه وإياي ، ولا كاف هناك ، وإنما هناك هاء وياء ، ولم نرهم جرّدوا الهاء ولا الياء في نحو هذا من مذهب الاسمية ، وأخلصوهما حرفين ، كما فعلوا ذلك بكاف ذلك وهنالك؟

فالجواب أنه لا يمتنع أن يكون الهاء والياء في إياه وإياي وتثنيتهما وجمعهما حروفا ، كما كانت الكاف في إياك حرفا ، أن يكون ما بعد «إيا» إنما اختلف لاختلاف أعداد المضمرين وأحوالهم ، من الحضور والمغيب ، ولسنا نجد حالا سوّغت هذا المعنى للكاف ، وانكفّت عن الهاء والياء ، ويؤكد أيضا صحة هذا المذهب عندك ، أنّا قد وجدنا غير الكاف لحقه من سلب الاسمية عنه ، وإخلاصه للحرفية ، ما لحق الكاف ، وهو التاء في أنت ، والألف في قول من قال : قاما أخواك ، والواو فيقول من قال : قاموا إخوتك ، والنون في قول من قال : قمن الهندات ، ألا ترى أن من قال أخواك قاما ، فالألف عنده علامة الضمير والتثنية ، وإذا قال : قاما أخواك ، فالألف تفي قاما إنما هي مخلصة لمعنى التثنية ، مجردة من مذهب الاسمية ، لامتناع تقدم المضمر ، وخلوّ الفعل من علم الضمير ، بارتفاع الاسم الظاهر بعده.

__________________

(١) سبحان الله : كلمة تنزيه والمقصود نزهه وقدسه. إعرابها : سبحان : مفعول مطلق منصوب ، وهو من المصادر المضافة. الله : لفظ الجلالة : مضاف إليه وهو بدل من اللفظ بالفعل.

(٢) لبيك : أي إجابة لك ولزوما لطاعتك ، وهي قولة الحاج إذا لبى.

(٣) اعتقاد : اعتقد اعتقادا : أي صدق وعقد على الأمر قلبه وضميره. اللسان (٤ / ٣٠٣٠).

٣٢٣

وكذلك من قال : إخوتك قاموا ، فالواو في قاموا علم الضمير والجمع ، وإذا قيل قاموا إخوتك ، فالواو علم الجمع مجرّدة من معنى الاسمية البتة ، وكذلك القول في نون الجمع ، نحو قولك الهندات قمن وقمن الهندات ، فكما جاز لجميع هذه الأشياء أن تكون في بعض المواضع دالة على معنى الاسمية والحرفية ، ثم تخلع عنها دلالة الاسمية في بعض المواضع ، فكذلك لا ينكر أن تكون الهاء والياء في نحو ضربه وضربني يدلان على معنى الاسمية والحرفية. فإذا قلت «إياه ، وإياي» تجرّدتا من معنى الاسمية ، وخلصتا لدلالة الحرفية.

فاعرف هذا ، فإنه من لطيف ما تضمنه هذا الفصل ، وبه كان أبو علي رحمه الله ينتصر لمذهب أبي الحسن ويذبّ (١) عنه ، ولا غاية في جودة الحجاج بعده.

ونحو من الكاف في ذلك وهنالك وإياك ، الكاف في قولك للرجل : هاك ، وللمرأة هاك ، فالكاف هنا حرف لمعنى الخطاب. ويدلك على ذلك أن معنى هاك زيدا ، أي خذ زيدا ، فزيد هو منصوب هذا الفعل ، ولا يتعدى إلى مفعولين ، وقد كنا قدّمنا أن زيدا في نحو هذا لا يجوز أن يكون بدلا من الكاف لو كانت اسما ، وهو أن ضمير المخاطب لا يبدل منه ، فيقال : ضربتك زيدا ، على أن زيدا بدل من الكاف.

ويدلّك على أن الكاف في هاك وهاك حرف لا اسم ، إيقاعهم موقعها ما لا يكون اسما على وجه ، وذلك قولك : هاء وهاء ، وعلى هذا قوله عز وجل : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩](٢) وعلى هذا قالوا للاثنين : هاؤما ، وللنساء هاؤنّ ، كما يقال : هاك ، وهاك ، وهاكما ، وهاكم ، وهاكنّ ،

وفيها لغة ثالثة ، وهي أن تترك الهمزة مفتوحة على كل حال ، وتلحقها كافا مفتوحة للمذكر ، ومكسورة للمؤنث ، فتقول : هاءك ، وهاءكما ، هاءكم ، وهاءك ، وهاءكما ، وهاءكنّ.

__________________

(١) يذب : ينحي ويطرد ويدفع ويمنع. مادة (ذ ب ب) اللسان (٣ / ١٤٨٣).

(٢) هاؤم : خذوا ، والأسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه الفخر. الشاهد في قوله عز وجل (هاؤُمُ) وهي دليل على أن الكاف في : هاك ، وهاك ، حرف لا اسم ، ولذا يقول الرجل : هاء ، هاء ، هاؤما ، هاؤم ، هاؤن.

٣٢٤

وفيها لغة رابعة ، وهي قولك للرجل : هأ ، بوزن هع ، وللمرأة هائي ، بوزن هاعي ، وللاثنين وللاثنتين هاءا ، بوزن هاعا ، وللمذكرين هاءوا ، بوزن هاعوا ، وللنساء هأن ، بوزن هعن.

فهذه اللغة تتصرّف تصرّف خف ، وخافي ، وخافا ، وخافوا ، وخفن ، وهي لغة مع ما ذكرناه قليلة.

فأما ما أنشدنيه أبو عليّ من قول الشاعر :

أفاطم هاء السيف غير مذمّم (١)

فالوجه فيه أن تكون على قول من كسر الهمزة للمؤنث ، لأن القرآن بهذه اللغة نزل ، ولغته أفصح اللغات.

وقد يجوز أن يكون على قول من قال للمرأة : هائي ، بوزن خافي ، إلا أنه حذف الياء من اللفظ ، لسكونها وسكون السين الأولى من السيف ، كما تقول في اللفظ : خافي السيف.

وفيه لغة خامسة ، وهي أن تقول للواحد ، والواحدة ، والتثنية ، والجمع «ها» على صورة واحدة ، والذي ينبغي أن يحمل هذا عليه ، أن تجعله بمنزلة صه (٢) ، ومه (٣) ، ورويدا (٤) ، وإيه (٥) ، وما أشبه ذلك مما يصلح للواحد والواحدة فما فوقهما.

واعلم أن من كلام العرب إذا قيل لأحدهم كيف أصبحت؟ أن يقول : كخير ، والمعنى على خير.

__________________

(١) هذا صدر بيت ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب ، وقد أنشده ابن دريد في جمهرته (١ / ١٩٣) ، كما أنشده المؤلف هنا ، وعجزه :

 ....

فلست برعديد ولا بلئم

(٢) صه : اسم فعل أمر بمعنى اسكت.

(٣) مه : اكفف.

(٤) رويدا : أي تمهل ، وهو مصغر تصغير الترخيم من إرواد. مصدر أرود ، يرود.

(٥) وإيه : اسم فعل للاستزادة من حديث أو عمل معهود فإذا نونت كانت للاستمرار.

٣٢٥

قال أبو الحسن : فالكاف في معنى على ، وقد يجوز عندي أن تكون في معنى الباء ، أي بخير.

قال أبو الحسن : ونحو منه قولهم : كن كما أنت ، أي كن على الفعل الذي هو أنت عليه.

* * *

انتهى الجزء الأول بحمد الله تعالى

ويليه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى

وأوله :

«حرف اللام»

* * *

٣٢٦

المقدمة.......................................................................... ٣

ترجمة المؤلف..................................................................... ٧

النسخ الخطية.................................................................. ١٠

مقدمة المؤلف.................................................................. ١٥

التمهيد....................................................................... ١٩

باب أسماء الحروف.............................................................. ٥٥

ذكر الحروف على مراتبها........................................................ ٥٩

باب الهمزة..................................................................... ٨٣

زيادة الهمزة................................................................... ١٢١

باب الباء.................................................................... ١٣١

باب التاء.................................................................... ١٥٥

زيادة التاء.................................................................... ١٦٩

باب الثاء.................................................................... ١٨٣

باب الجيم................................................................... ١٨٧

باب الحاء.................................................................... ١٩١

باب الخاء.................................................................... ١٩٥

باب الدال................................................................... ١٨٧

باب الذال................................................................... ٢٠١

باب الراء.................................................................... ٢٠٣

باب الزاي................................................................... ٢٠٧

٣٢٧

باب السين.................................................................. ٢١١

باب الشين.................................................................. ٢١٧

باب الصاد.................................................................. ٢٢١

باب الضاد.................................................................. ٢٢٥

باب الطاء................................................................... ٢٢٩

باب الظاء................................................................... ٢٣٧

باب العين................................................................... ٢٤١

باب الغين................................................................... ٢٥٥

باب الفاء.................................................................... ٢٥٩

باب القاف.................................................................. ٢٨٧

باب الكاف................................................................. ٢٨٩

الفهارس..................................................................... ٣٢٧

* * *

٣٢٨