سرّ صناعة الإعراب - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٣٢٨
الجزء ١ الجزء ٢

قد أتى القول على آخر الوطاءة (١) والمقدّمة التي احتجنا إليها قبل ذكر الحروف مفصلة ، وهذا أوان الابتداء بذكرها ، ومهما تركناه من بعض أحكام هذه الحروف ، فلأنا قد قدّمنا القول عليه ، فلذلك لم نعده.

ونحن نوردها على ترتيب ألف ، با ، تا ، ثا ، إن شاء الله تعالى.

وإنما اختار ـ أدام الله له حسن النظر والتسديد ، وأمدّه بالتوفيق والتأييد ـ هذا الترتيب ، لأنه أسهل مأخذا وأقرب متناولا ، لأن أكثر الناس لا يقف على ترتيب الحروف من مخارجها الأصلية إلا بعد التوقيف ، فيبدأ بالهمزة ، ثم يتبعها الحروف.

فيقول ، وبالله التوفيق :

* * *

__________________

(١) الوطاءة : التمهيد والتسهيل ، يقال : وطؤ الموضع ، بالضم ، يوطؤ وطاءة : إذا صار وطيئا أي سهلا ، والمراد بها هنا المقدمة. اللسان (٦ / ٤٨٦٤). مادة (وطؤ).

٨١
٨٢

باب الهمزة

اعلم أن الهمزة حرف مجهور ، وهو في الكلام على ثلاثة أضرب : أصل ، وبدل ، وزوائد.

ومعنى قولنا أصل : أن يكون الحرف فاء الفعل ، أو عينه ، أو لامه.

ومعنى قولنا زائد : أن يكون الحرف لا فاء الفعل ، ولا عينه ، ولا لامه.

والبدل : أن يقام حرف مقام حرف. إما ضرورة ، وإما استحسانا وصنعة.

فإذا كانت أصلا وقعت فاء ، أو عينا ، أو لاما ، فالفاء نحو : أنف وأذن وإبرة ، وأخذ وأمر. والعين نحو : فأس ورأس وجؤبة (١) وذئب وسأل وجأر (٢).

واللام نحو : قرء (٣) وخطء (٤) ونبأ ، وقرأ ، وهدأ ، واستبرأ واستدفأ.

وليس في الكلام كلمة فاؤها وعينها همزتان ، ولا عينها ولامها أيضا همزتان ، بل قد جاءت أسماء محصورة ، وقعت الهمزة فيها فاء ولاما ، وهي أاء ة (٥) ، وأجأ (٦).

وأخبرني أبو عليّ (٧) أنّ محمد بن حبيب حكى في اسم علم مخصوص أتأة (٨)

__________________

(١) الجؤبة : لم أعثر عليها.

(٢) جأر : جأرا ، وجؤارا : رفع صوته ، يقال : جأر البقر ، وجأر إلى الله : تضرع واستغاث ، وفي التنزيل العزيز : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) ، وفي الحديث : «كأني أنظر إلى موسى له جؤار إلى ربه بالتلبية» ، والنبت جأرا : طال. مادة «جأر». اللسان (١ / ٥٢٨).

(٣) القرء : الحيض ، والطهر منه ، والقافية ، (ج) أقراء وقروء ، وأقرؤ. وفي التنزيل العزيز : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وأقراء الشعر قوافيه وطرقه وبحوره. مادة (قرء). اللسان (٥ / ٣٥٦٤).

(٤) الخطء : الذنب أو ما تعمد منه ، وفي التنزيل (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) ، (ج) أخطاء.

(٥) أاء ة : واحدة الاء ، ثمر شجر يدبغ به الأديم.

(٦) أجأ : جبل لطيئ ، يذكر ويؤنث. اللسان (١ / ٣٠). مادة (أجأ).

(٧) أبو علي الفارسي أستاذ ابن جني.

(٨) أتأة : بوزن حمزة ، امرأة من بكر بن وائل ، وهي أم قيس بن ضرار. قاتل المقدام.

٨٣

وذهب سيبويه في قولهم ألاءة (١) وأشاءة (٢) إلى أنهما فعالة ، مما لامه همزة ، فأمّا أباءة (٣) فذهب أبو بكر محمد بن السّريّ (٤) فيما حدّثني به أبو عليّ عنه ، إلى أنها من ذوات الياء من أبيت ، فأصلها عنده أباية ثم عمل فيها ما عمل في عباية وصلاية (٥) وعظاية (٦) ، حتى صرن عباءة وصلاءة ، وعظاءة ، في قول من همز ، ومن لم يهمز أخرجهن على أصولهن ، وهو القياس القويّ ، وإنما حمل أبا بكر على هذا الاعتقاد في أباءة أنها من الياء ، وأن أصلها أباية. المعنى الذي وجده في أباءة ، من أبيت ، وذلك أنّ الأباءة هي الأجمة (٧) ، وقيل القصبة ، والجمع بينها وبين أبيت : أن الأجمة ممتنعة بما ينبت فيها من القصب وغيره ، من السّلوك (٨) والتصرّف ، وخالفت بذلك حكم البراح والبراز (٩) ، النقي من الأرض ، فكأنها أبت ، وامتنعت على سالكها.

فمن هنا حملها عندي على معنى أبيت قال الشاعر (١٠) :

من سرّه ضرب يرعبل بعضه

بعضا كمعمعة الأباء المحرق (١١)

__________________

(١) الألاءة : واحدة الآلاء ، بوزن سحاب ، ويقصر ، وهو شجر مر يدبغ به وهو رملي حسن المنظر دائم الخضرة ، يؤكل ما دام رطبا. اللسان (١ / ١٠٥). مادة (أل أ).

(٢) الأشاءة : واحدة الآشاء ، وهو صغار النحل. اللسان (١ / ٨٦). مادة (أشى).

(٣) الأباءة : بوزن عباءة : القصبة ، وجمعها أباء. مادة (أب ي). اللسان (١ / ١٥).

(٤) أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج ، من أئمة البصريين ، كان تلميذ المبرد ، وقرأ عليه كتاب سيبويه ، وأخذ عنه أبو القاسم الزجاجي والسيرافي وأبو علي الفارسي والرماني ، توفي شابا سنة ٣١٦ ه‍.

(٥) الصلاية : مدق الطيب ، مادة (ص ل ا) اللسان (٤ / ٢٤٩٢).

(٦) العظاية : دويبة كسام أبرص جمعها عظاء ، ويرى سيبويه أن الياء في هذه الكلمة وما سبقها مبدلة وإن لم تكن متطرفة وعلل ذلك بقوله : لأنهم جاءوا بالواحد على قولهم في الجمع عظاء.

(٧) الأجمة : الشجر الكثير الملتف. (ج) أجم ، وإجام ، وآجام. اللسان (١ / ٣٤).

(٨) السّلوك : التصرف. مادة (سلك). اللسان (٣ / ٢٠٧٣).

(٩) البراز : الفضاء الواسع الخالي من الشجر. مادة (برز). اللسان (١ / ٢٥٥).

(١٠) الشاعر هو ابن أبي الحقيق كما ذكر صاحب اللسان في شرحه لمادة (رعبل).

(١١) يرعبل : يقال : رعبلت إذا مزقته ، ورعبلت اللحم : إذا قطعته. مادة (رعبل). المعمعة : صوت لهب النار إذا شبت بالضرام. مادة (م ع ع). اللسان (٦ / ٤٢٣٣). ـ

٨٤

وأما ما ذهب إليه سيبويه ، من أن ألاءة وأشاءة مما لامه همزة ، فالقول فيه عندي ، أنه إنما عدل بهما عن أن تكونا من الياء ، كعباءة وصلاءة وعظاءة ، لأنه وجدهم يقولون : عباءة وعباية ، وصلاءة وصلاية ، وعظاءة وعظاية ، فحمل الهمزة فيهن على أنها بدل من الياء ، التي ظهرت فيهن لاما ، ولمّا لم يسمعهم يقولون أشاية ، ولا ألاية ، ورفضوا فيهما الياء البتة ، دلّه ذلك على أن الهمزة فيهما لام أصلية ، غير منقلبة عن ياء ولا واو ، ولو كانت الهمزة فيهما بدلا لكانوا خلقاء (١) أن يظهروا ما هي بدل منه ، ليستدلوا به عليها ، كما فعلوا ذلك في عباءة وأختيها ، وليس في ألاءة وأشاءة من الاشتقاق من الياء ما في أباءة ، من كونها من معنى أبيت. فلهذا جاز لأبي بكر (٢) أن يزعم أن همزتها من الياء ، وإن لم ينطقوا فيها بالياء.

وإنما لم تجتمع الفاء والعين ، ولا العين واللام همزتين ، لثقل الهمزة الواحدة.

لأنها حرف سفل في الحلق ، وبعد عن الحروف (٣) ، وحصل طرفا ، فكان النطق به تكلفا ، فإذا كرهت الهمزة الواحدة ، فهم باستكراه الثّنتين ورفضهما ـ لا سيما إذا كانتا مصطحبتين غير مفترقتين ، فاء وعينا ، أو عينا ولاما ـ أحرى (٤) ، فلهذا لم تأت في الكلام لفظة توالت فيها همزتان أصلان البتة.

فأما ما حكاه أبو زيد من قولهم دريئة (٥) ودرائئ وخطيئة وخطائئ فشاذّ لا يقاس عليه ، لا سيما وليست الهمزتان أصلين ، بل الأولى منهما زائدة. وكذلك قراءة أهل الكوفة : «أئمّة» شاذة عندنا ، والهمزة الأولى (٦) أيضا زائدة.

__________________

يقول : من الذي سرته الحرب بصوتها وجرسها الذي يشبه صوت الحريق في الأباء. والشاهد في قوله : «الأباء». إعرابه : الأباء : مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة.

(١) خلقاء : جديرين ، والمفرد خليق ، مادة (خلق). اللسان (٢ / ١٢٤٧).

(٢) هو أبو بكر محمد بن السري.

(٣) يريد أن مخرج الهمزة أبعد مخارج الحروف.

(٤) أحرى : خبر المبتدأ السابق ، وهو قوله : فهم باستكراه ... إلخ.

(٥) الدريئة : ما يستتر به الصائد ليختل الصيد ، والجمع درايا. مادة (درأ).

(٦) اجتماع الهمزتين في أول الكلمة مختلف فيه ، فأجازه الكوفيون وبعض البصريين كأبي إسحاق الزجاج ، ومنعه ابن جني كما يتضح من كلامه هنا ، ولهذا قال : إن قراءة أهل الكوفة أئمة «أي بتحقيق الهمزتين» شاذة عندنا.

٨٥

وإنما شرطنا (١) أنهما لا يلتقيان أصلين. فهذا حكم الهمزة الأصلية.

وأما البدلّ : فقد أبدلت الهمزة من خمسة أحرف ، وهي الألف ، والياء ، والواو ، والهاء ، والعين.

فأما إبدالها من الألف فنحو ما حكي عن أيوب السّختياني (٢) أنه قرأ : (وَلَا الضَّالِّينَ) فهمز الألف ، وذلك أنه كره اجتماع الساكنين : الألف واللام الأولى ، فحرّك الألف لالتقائهما ، فانقلبت همزة ، لأن الألف حرف ضعيف واسع المخرج ، لا يتحمّل الحركة كما قدّمنا من وصفه ، فإذا اضطروا إلى تحريكه قلبوه إلى أقرب الحروف منه ، وهو الهمزة. وعلى ذلك ما حكاه أبو زيد فيما قرأته على أبي عليّ في كتاب الهمز عنه ، من قولهم : شأبّة ومادّة (٣) ، وأنشدت الكافّة (٤) :

يا عجبا لقد رأيت عجبا

حمار قبّان يسوق أرنبا

خاطمها زأمّها أن تذهبا (٥)

يريد : زامّها.

__________________

(١) قول المؤلف : «وإنما شرطنا أنهما لا تلتقيان أصلين» بعد قوله : «لا سيما وليست الهمزتان» يدل على أنه يبرر نطق العرب بالهمزتين متحققتين إذا تجاورتا في مثل درائئ وخطائئ وأئمة بكون إحداهما زائدة ، وإن كان ذلك عنده شاذّا لا يقاس عليه.

(٢) أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني ، بفتح السين وكسرها ، البصري ، الحافظ من أعلام المحدثين والزهاد ، كان من الموالي ، ولد سنة ست وستين ، وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومائة.

(٣) مأدة : يقال امرأة مأدة : أصلها مادة بوزن فاعلة ، وتطلق على المرأة الناعمة. مادة (مأد) اللسان (٦ / ٤١١٩).

(٤) لم أعرف قائلها ، وقد ذكر البغدادي هذه الأبيات في شرح شواهد الشافية وذكرها اللسان في مادة (زم) وزاد عليها بيتا وهو : «فقلت أردفني فقال مرحبا». لسان العرب (٣ / ١٨٦٥).

(٥) حمار قبان : دويبة صغيرة ، لازقة بالأرض ، ذات قوائم كثيرة تشبة الخنفساء ، وهي أصغر منها إذا لمسها أحد اجتمعت كالشيء المطوي. مادة (حمر). اللسان (٢ / ٩٩٣). خاطمها : اسم فاعل من خطمه إذا جعل له خطاما. مادة (خ ط م) اللسان (٢ / ١٢٠٣). وزأمها : أصله زامها ، أي جعل لها زماما. مادة (زمم). والشاهد في البيت قوله «زأمها» فقد اضطر الراجز إلى تحريك الألف فانقلبت همزة ، والأصل «زامها».

٨٦

وحكى أبو العباس عن أبي عثمان ، عن أبي زيد ، قال : سمعت عمرو بن عبيد (١) يقرأ : «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن» (٢) ، فظننته قد لحن (٣) حتى سمعت العرب تقول : شأبّة ودأبّة. قال أبو العباس : فقلت لأبي عثمان : أتقيس ذلك؟ قال : لا ، ولا أقبله.

وقال آخر (٤) :

وبعد انتهاض الشيب من كل جانب

على لمّتي حتى اشعألّ بهيمها (٥)

يريد اشعالّ من قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ، فهذا لا همز فيه.

وقال دكين (٦) :

راكدة مخلاته ومحلبه

وجلّه حتى ابيأضّ ملببه (٧)

يريد ابياضّ ، فهمز.

__________________

(١) عمرو بن عبيد : هو أبو عثمان البصري وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، وقد روى الحروف عن الحسن البصري ، وسمع منه ، ثم روى عنه الحروف بشار بن أيوب الناقد ، مات في ذي الحجة سنة أربع وأربعين ومائة. انظر / غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري (ص ٦٠٢).

(٢) أي يوم القيامة لا يسأل عن ذنب المجرم أحد غيره ، والآية شاهد على تحريك الألف فانقلبت همزة في قوله جل شأنه «جأن».

(٣) لحن : أخطأ. مادة «لحن». اللسان (٥ / ٤٠١٣).

(٤) البيت ذكره اللسان في مادة «شعل» ولم ينسبه ، ولم أعثر على قائله فيما بيدي من المراجع. انظر / لسان العرب (٤ / ٢٢٨١) مادة (شعل).

(٥) اللمة : شعر الرأس المجاوز شحمة الأذن ، (ج) «لمم» مادة «ل م م». اللسان (٥ / ٤٠٧٨) يقول الشاعر : لقد امتلأ شعري بالشيب وكثر فيه الشعر الأبيض. والشاهد في قوله : «اشعأل» فحرك الألف لالتقاء ساكنين فانقلبت همزة ، لأن الألف حرف ضعيف واسع المخرج ، لا يحتمل الحركة. إعراب الشاهد : اشعأل : فعل ماضي مبني على الفتح.

(٦) هو دكين بن رجاء من بني فقيم ، عاش في الدولة المروانية ، ومدح عمر بن عبد العزيز فأعطاه ألف درهم من ماله ، ولم يكن عمر يعطي الشعراء شيئا.

(٧) راكدة : ساكنة ثابتة. مادة «ركد». اللسان (٣ / ١٧١٦).

٨٧

وقرأت على أبي الفرج عليّ بن الحسين ، عن أبي عبد الله محمد بن العباس اليزيديّ ، عن محمد بن حبيب لكثير (١) :

والأرض : أمّا سودها فتجلّلت

بياضا ، وأما بيضها فادهأمّت (٢)

يريد : ادهامّت ، وقد كاد يتسع هذا عنهم ، وحكى سيبويه في الوقف عنهم : هذه حبلأ ، يريد حبلى ، ورأيت رجلأ ، يريد رجلا. فالهمزة في رجلأ إنما هي بدل من الألف ، التي هي عوض من التنوين في الوقف ، ولا ينبغي أن تحمل على أنها بدل من النون ، لقرب ما بين الهمزة والألف ، وبعد ما بينها وبين النون ، ولأن «حبلى» لا تنوين فيها ، وإنما الهمزة بدل من الألف البتة ، فكذلك ألف رأيت رجلا.

وحكى أيضا هو يضربهأ. وهذا كله في الوقف ، فإذا وصلت قلت : هو يضربها يا هذا ، ورأيت حبلى أمس.

فأما قول الراجز (٣) :

__________________

ـ الملبب : موضع اللبة ، وهي وسط الصدر ، وقد فكه الشاعر على الأصل والقياس الإدغام. مادة (لبب». اللسان (٥ / ٣٩٨). أراد الشاعر : ابياض فحرك الألف لالتقاء الساكنين ، فانقلبت الألف همزة ، لأن الألف حرف ضعيف واسع المخرج ، لا يتحمل الحركة فإذا اضطروا إلى تحريكه حركوه بأقرب الحروف إليه وهو الهمزة. إعراب الشاهد : ابيأض : فعل ماضي مبني على الفتح.

(١) كثير : هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر ، عشق ابنة عم له تسمى عزة ، ونسب إليها فكان يقال: كثير عزة ، ومات سنة ١٠٥ ه‍ ، في ولاية يزيد بن عبد الملك.

(٢) ادهأمت : أي اسودت. مادة (دهم). اللسان (٢ / ١٤٤٣). يقول : لقد تغير حال الأرض فما كان منها أبيض فقد اسودّ ، وما كان منها أسود فقد ابيضّ. والشاهد في قوله : ادهأمت : فهو يريد ادهامت أي اسودت ، حرك الألف فقلبها همزة. إعراب الشاهد : ادهأمت : فعل ماضي مبني على الفتح ، والتاء للتأنيث.

(٣) بحثنا عن وجه مناسبة قول الراجز الذي أورده المؤلف هنا للموضوع الذي سبقه ، وهو إبدال الألف همزة عند الوقف فلم نهتد. ثم وجدنا بهامش الأصل «ص» تعليقة نرجح أنها لابن هشام الأنصاري صحاب المغني إذ خطها يشبه خط الحاشية التي كتبت بهامش ظهر الورقة (٨٥) من الأصل نفسه مبتدئا بقوله : «قال عبد الله بن هشام» والظاهر أنها من خطه ، وهاك نص هذه التعليقة : ـ ـ

٨٨

من أيّ يوميّ من الموت أفرّ

أيوم لم يقدر أم يوم قدر (١)

فذهبوا فيه إلى أنه أراد النون الخفيفة (٢) ، ثم حذفها ضرورة ، فبقيت الراء مفتوحة ، كأنه أراد يقدرن. وأنكر بعض أصحابنا (٣) هذا ، وقال : هذه النون لا تحذف إلا لسكون ما بعدها ، ولا سكون هاهنا بعدها (٤).

والذي أراه أنا في هذا ـ وما علمت أحدا من أصحابنا ولا غيرهم ذكره ، ويشبه أن يكونوا لم يذكروه للطفه (٥) ـ هو أن أصله «أيوم لم يقدر أم يوم قدر» ، بسكون الراء للجزم. ثم إنها جاورت الهمزة المفتوحة ، والراء ساكنة وقد أجرت العرب الحرف الساكن ، إذا جاور الحرف المتحرّك ، مجرى المتحرّك ، وذلك قولهم فيما حكاه سيبويه : المراة والكماة ، يريدون : المرأة ، والكمأة (٦).

__________________

«قوله : فأما قول الراجز» : فإنه أورد هذا الفصل إيرادا سيئا ، لأنك تستمر فيه إلى أواخر الفصل ، ولا تدري ما الذي أوجب ذكره هنا ، ولا وجه ملاءمته. وكان الصواب أن يقال : ومما ينسلك عندنا في هذا السلك ، أعني باب إبدال الهمزة والألف ، قول الراجز ... إلخ ، وذلك لأن مقتضى الظاهر أن هذه الراء لا تتحرك ، فأجاب أصحابنا عنه بكذا وكذا ، ويستمر إلى آخر كلامهم. ثم يقول : «وعندنا فيه وجه لطيف ... إلخ». ومن كلام ابن هشام يتضح أن المؤلف كان عليه أن يبين أن هذا الشاهد داخل في باب إبدال الهمزة والألف ، وإذ قد تقدم في كلامه إبدال الألف همزة ، فيكون هذا من باب إبدال الهمزة ألفا ، وهو عكس الأول ، وبهذه تظهر المناسبة.

(١) أورد البيت صاحب الخزانة (٤ / ٥٨٩) ، والشاهد فيه عند البصريين ـ غير ابن جني ـ فتح الراء بسبب نون التوكيد الخفيفة المحذوفة ضرورة. قال أبو زيد في النوادر (ص ١٣) : فتح راء يقدر ، يريد النون الخفيفة ، فحذفها وبقي ما قبلها مفتوحا ، أنشدناه أبو عبيدة والأصمعي. إعراب الشاهد : يقدر : فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد المحذوفة تخفيفا.

(٢) النون الخفيفة : يقصد نون التوكيد الخفيفة ونون التوكيد نوعين ثقيلة وخفيفة.

(٣) أصحابنا : يقصد بهم البصريين.

(٤) الظاهر أن أصحاب هذا الرأي يرون أن النون في مثل هذا حذفت تخفيفا لا ضرورة.

(٥) للطفه : يريد لدقته وعدم ظهوره. مادة (لطف). اللسان (٥ / ٤٠٣٦).

(٦) الكمأة : جمع الكمء وهو فطر من الفصيلة الكمئية ، وهي أرضية تنتفخ حاملات أبواغها ، فتجنى وتؤكل مطبوخة ويختلف حجمها بحسب الأنواع. مادة «كمأ». اللسان (٥ / ٣٩٢٦).

٨٩

ولكن الميم والراء لمّا كانتا ساكنتين ، والهمزتان بعدهما مفتوحتان ، صارت الفتحتان اللتان في الهمزتين كأنهما في الراء والميم ، وصارت الراء والميم كأنهما مفتوحتان ، وصارت الهمزتان لمّا قدّرت حركتاهما في غيرهما ، كأنهما ساكنتان ، فصار التقدير فيهما : مرأة وكمأة ، ثم خفّفتا ، فأبدلت الهمزتان ألفين ، لسكونهما وانفتاح ما قبلهما ، فقالوا : مراة وكماة ، كما قالوا في فأس ورأس لمّا خفّفتا : فاس ، وراس.

وعلى هذا حمل أبو عليّ قول عبد يغوث (١) :

وتضحك مني شيخة عبشميّة

كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانيا (٢)

قال : جاء به على أن تقديره محققا : «كأن لم ترأ» ، ثم إن الراء لما جاورت وهي ساكنة ، الهمزة متحركة ، صارت الحركة كأنها في التقدير قبل الهمزة ، واللفظ بها كأن لم ترأ ، ثم أبدل الهمزة ألفا ، لسكونها وانفتاح ما قبلها ، فصارت ترا ، فالألف على هذا التقدير بدل من الهمزة التي هي عين الفعل ، واللام محذوفة للجزم ، على مذهب التحقيق وقول من قال : رأى يرأى ، قال سراقة البارقيّ :

أري عينيّ ما لم ترأياه

كلانا عالم بالتّرّهات (٣)

__________________

(١) عبد يغوث : شاعر يمني أسره أعداؤه فأرادوا قتله فطلب منهم أن يكرموه قبل موته فأطعموه حتى ثمل ثم قطعوا وريده فمات.

(٢) عبشمية : نسبة إلى عبد شمس. يقول : ضحكت مني عجوز من بني عبد شمس وكأنها لم ترا أسيرا قبلي. والشاهد في قوله : «ترا» فأصلها كما يرى المؤلف «ترأ» فالراء ساكنة وجاورت الهمزة المتحركة فتحركت الراء بالفتح فقلبت لذلك الهمزة ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها. إعراب الشاهد : «ترا» : فعل مضارع مجزوم وعلامة الجزم حذف حرف العلة.

(٣) الترهات : الأباطيل والواحد ترهة. مادة (ت ر ه) اللسان (١ / ٤٣١). البيت من قصيدة قالها الشاعر للمختار بن أبي عبيد الثقفي ، حينما وقع في أسر أعوانه فزعم له لما أمر بقتله أنه رأى الملائكة على خيل بلق يقاتلون في صفوفه وأنهم الذين أسروه ، وهي حيلة تخلص بها من القتل. والشاهد في قوله : «ترأياه» فقد حقق الشاعر الهمزة في كلامه. ـ إعراب الشاهد : «ترأياه» فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة. والهاء : ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به.

٩٠

وقد رواه أبو الحسن : ما لم ترياه (١) على التخفيف الشائع عنهم في هذا الحرف.

وقرأت على أبي عليّ في نوادر أبي زيد :

ألم تر ما لاقيت والدّهر أعصر

ومن يتملّ العيش يرأ ويسمع (٢)

كذا قرأت عليه «تر» مخفّفا (٣) ورواه غيره : «ترأ ما لا قيت» ، وقرأت عليه أيضا فيه :

ثم استمرّ بها شيحان مبتجح

بالبين عنك بما يرأك شنأنا (٤)

بوزن يرعاك. ووزن يرأ : يرع ، كما أنّ وزن ترأياه : ترعياه.

وهذا كلّه على التحقيق المرفوض في هذه الكلمة في غالب الأمر ، وشائع الاستعمال.

وعلى هذا ما أنشدوه من قول الآخر (٥) :

__________________

(١) وروى أبو زيد في النوادر (ص ١٨٥) عن أبي حاتم عن أبي عبيدة : ما لم تبصراه.

(٢) الأعصر : جمع عصر ، وهو الفترة من الزمن. مادة (عصر). اللسان (٤ / ٢٩٦٨).

(٣) قال ابن هشام : يريد أن رواية البيت : «ألم ترأ» بتحقيق الهمزة هي المناسبة لتحقيق الهمزة في عجزه : «يرأ ويسمع» ، وإنما حركت العين بالضم هنا مع أن الكلمة مجزومة لأن القافية مضمومة بدليل قوله بعده :

بأن عزيزا ظل يرمي بجوزه

إليّ وراء الحاجزين ويفرع

ووضع الشاهد في البيت : «تر» فقد جاءت مخففة على القياس. إعراب الشاهد : «تر» مضارع مجزوم بـ «لم» وعلامة الجزم حذف حرف العلة.

(٤) روى أبو زيد هذا البيت في النوادر (ص ١٨٤). شيحان : الجاد في أمره أو الغيور السيء الخلق. والأنثى : شيحى. لذا فهو غير منصرف. مادة (شيح». اللسان (٤ / ٢٣٧٢). والمبتجح : الفرح. مادة (بجح). اللسان (١ / ٢١٠). والشاهد في قوله : «يرأك» فقد أورد الشاعر الهمزة مخففة على الأصل والأقيس «يراك». إعراب الشاهد : يرأك : فعل مضارع مرفوع ، وعلامة رفعه الضم المقدر.

(٥) قائل هذا البيت عامر بن كثير المحاربي ، شاعر مجيد.

٩١

إذا اجتمعوا عليّ وأشقذوني

فصرت كأنني فرأ متار (١)

أراد متأر ، فنقل الفتحة إلى التاء ، وأبدل الهمزة ألفا ، لسكونها وانفتاح ما قبلها ، كما ترى ، فصارت متار.

فهذا أحد وجهي ما حمل أبو علي (٢) قول عبد يغوث «كأن لم ترا» عليه قبل.

والوجه الآخر أنه على التخفيف الشائع ، إلا أنه أثبت الألف في موضع الجزم ، تشبيها بالياء في قول الآخر (٣) :

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد (٤)

ورواه بعض أصحابنا «ألم يأتك» على ظاهر الجزم.

__________________

(١) أشقذوني : طردوني. مادة (شقذ). اللسان (٤ / ٢٢٩٧). لمتار : هو الذي يرمى تارة بعد تارة ، والمراد المفزع ، يقال : أترته : أي أفزعته وطردته ، فهو متار. قال ابن بري : أصله أتأرته ، فنقلت الحركة إلى ما قبلها ، وحذفت الهمزة. وقال ابن حمزة : هذا تصحيف ، وإنما هو منار بالنون يقال أنرته : أي أفزعته. ومنه النوار وهي النفور ، وكأن ابن حمزة يريد ألا يحمل اللفظ على أنه مهموز في الأصل ، فذهب إلى التصحيف. مادة (م ت ر) اللسان (٦ / ٤١٢٦). شرح البيت : يقول : إذا طردني القوم واجتمعوا على طردي أشعر بالفزع والخوف. والشاهد في قوله : «متار» فأصلها «متأر» : نقل الفتحة إلى التاء الساكنة لتحرك ما بعدها فأبدلت الهمزة ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها. إعراب الشاهد : متار : خبر ثان لكأن مرفوع وعلامة الرفع الضمة.

(٢) أبو علي : هو حسن الفارسي ، أستاذ ابن جني ، كان نحويا بصريا تعلم على يد المبرد.

(٣) البيت لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي ، وكان سيد قومه.

(٤) اللبون : الناقة ينزل فيها اللبن فترضع صغارها. مادة (ل ب ن) اللسان (٥ / ٣٩٨٩). الشرح : ألم تسمع أو يصل إليك نبأ لبون بني زياد وما جرى لهن. الشاهد : إبقاء الياء مع الجزم في «يأتيك» وقد خرجه الأخفش على أنه قدر الضمة قبل الجزم ثم حذفها للجزم كقولك في «يكرمك» ألم يكرمك. وذلك للضرورة ، ودلل على ذلك بإنشاد أهل العربية لجرير :

فيوما يجارين الهوى غير ماضي

ويوما ترى منهن غول تغول

وقال سيبويه : إنه ضرورة ، وزعم الزجاجي والأعلم أنها لغة وخالفهما ابن السيد في شرح أبيات الجمل.

٩٢

وأنشده أبو العباس ، عن أبي عثمان ، عن الأصمعيّ :

«ألا هل اتاك والأنباء تنمي»

وأنشدنا أبو عليّ قال أيضا : أنشد أبو زيد :

إذا العجوز غضبت فطلّق

ولا ترضّاها ولا تملّق (١)

فأثبت الألف أيضا في موضع الجزم ، تشبيها بالياء ، في يأتيك ، على أن بعضهم قد رواه على الوجه الأعرف : «ولا ترضّها ولا تملّق».

وقد قدّر سيبويه هذا الذي ذهبنا إليه من أن الحركة المجاورة للحرف الساكن كأنها فيه ، في قولهم مصباح ومقلات (٢) ، فأجاز فيهما الإمالة (٣) والفتح جميعا.

أما الفتح فإن الصاد والقاف قد جاورتا الفتحة التي بعدهما وهما ساكنتان ، فكانتا كأنهما مفتوحتان ، فصارا كأنهما صباح وقلات ، وهذا مما لا تجوز إمالته.

وأما الإمالة فلأنهما قد جاورتا الميم ، وهي مكسورة ، فصارتا كأنهما صباح وقلات ، فجازت إمالتهما كما جازت إمالة صفاف (٤) وقفاف (٥).

وعلى هذا ما أنشدناه أبو عليّ :

__________________

(١) التملق : التودد والتلطف. مادة (ملق). اللسان (٦ / ٤٢٦٥). يقول الشاعر : إذا غضبت منك زوجك وهي عجوز فطلقها ولا تترضاها ولا تتودد إليها. الشاهد : «لا تترضاها» فأثبت الألف في موضع الجزم ، تشبيها بالياء كما يرى المؤلف. واعترض عليه البغدادي في خزانة الأدب (٣ / ١٣٥) فقال : إن «ترضاها» مقطوع عن العطف أي «وأنت لا تترضاها» فيكون قوله : «ولا تملق» هو المعطوف على قوله «فطلق» ، وجملة «ولا ترضاها» حالية.

(٢) المقلات : من قلّت : وهي الناقة التي تضع واحدا ثم لا تحمل أو المرأة التي لا يعيش لها ولد ، والمقلاة بالتاء المربوطة : وعاء يقلى فيه السمك ونحوه. مادة (ق ل ت) اللسان (٥ / ٣٧١٦).

(٣) الإمالة : نطق الألف قريبا من الياء أو الفتحة قريبا من الكسرة. مادة (ميل). اللسان (٦ / ٤٣١١).

(٤) صفاف : جمع صفة بضم الصاد وتشديد الفاء ، وهو مكان مظلل في مسجد المدينة كان يأوي إليه فقراء المهاجرين ، ويرعاهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم أهل «الصّفّة». اللسان (٤ / ٢٤٦٤).

(٥) القفاف : جمع قفة بوزن صفة ، وهي المقطف الكبير. مادة (ق ف ف) اللسان (٥ / ٣٧٠٤).

٩٣

أحبّ المؤقدين إلى مؤسي (١)

بهمز الواو في الموقدين ومؤسي.

وروى قنبل عن ابن كثير بالسّؤق ، مهموز الواو ، ووجه ذلك أن الواو وإن كانت ساكنة ، فإنها قد جاورت ضمة الميم ، فصارت الضمة كأنها فيها ، فمن حيث همزت الواو في نحو أقّتت وأجوه وأعده لانضامها ، كذلك جاز همز الواو في الموقدين وموسى ، على ما قدّمناه من أن الساكن إذا جاور المتحرك صارت حركته كأنها فيه (٢).

ويزيد ذلك عندك وضوحا ، أن من العرب من يقول في الوقف هذا عمر وبكر ، ومررت بعمر وبكر ، فينقل حركة الراء إلى ما قبلها. وإنما جاز ذلك لأنه إذا حرّك ما قبل الراء ، فكأن الراء متحركة.

وقال حسّان (٣) :

__________________

(١) هذا شطر بيت وتمامه : «وجعدة لو أضاءهما الوقود». وقائله جرير ، وهو أبو حزرة جرير بن عطية الخطفي التميمي اليربوعي ، أحد فحول الشعراء الإسلاميين وبلغاء المداحين الهجائين. وقال هذا البيت في قصيدة يمدح بها الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. والشاهد في قوله : «المؤقدين ، مؤسى» بهمز الواو فيهما. إعراب الشاهد : المؤقدين : مفعول به منصوب بالمفعولية ، وعلامة النصب الياء عوضا عن الفتح لأنه مثنى. مؤسى : اسم مجرور بإلى وعلامة الجر الكسرة المقدرة ، ومنع من ظهورها التعذر.

(٢) في هامش (ص) تعليقة نرجح أنها لابن هشام يقول فيها : «اعلم أن في هذا الموضع تحقيقا لم يذكره ، وهو أنّ الساكن إذا جاور المتحرك فتارة يبقيان ويجري حكم المجاور لمجاوره ، وتارة يجعل السكون على المتحرك ، والحركة على الساكن ، مثال الأول : مؤسى ، ومثال الثاني : المراة والكماة ، وقد يقال : أجريت الهمزة مجرى الساكن ، فأبدلت ، فالتقى ساكنان فحركت الراء بالفتح.

(٣) حسان : هو أبو الوليد حسان بن ثابت الأنصاري ، شاعر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأشعر شعراء المخضرمين ، وهو من بني النجار أهل المدينة ، وعاش بعد الرسول محببا إلى خلفائه ، وعمّر حتى بلغ قريبا من ١٢٠ سنة. انظر / ديوانه (ص ١٦٧).

٩٤

فارسي خيل إذا ما أمسكت

ربّة الخدر بأطراف السّتر (١)

يريد السّتر ، وقال الأعشى (٢) :

أذاقتهم الحرب أنفاسها

وقد تكره الحرب بعد السّلم (٣)

فهذا كلّه يشهد بأن الحركة إذا جاورت الساكن صارت كأنها قد حلّته ، وإذا كان ذلك كذلك فغير منكر أيضا أن يعتقد في فتحة الهمزة من قوله «أيوم لم يقدر أم يوم قدر» كأنها في الراء الساكنة قبلها للجزم ، لأنها قد جاورتها ، فيصير التقدير كأنه «أيوم لم يقدر أم» ، فتسكن الهمزة ، وقبلها الراء مفتوحة ، فتقلب الهمزة ألفا للتخفيف ، فيصير التقدير : «يقدر ام» ، فتأتي الألف ساكنة ، وبعدها الميم ساكنة ، فيلتقي ساكنان ، فتحرّك الألف لالتقائهما ، فتنقلب همزة ، على ما ذكرنا ، وتفتحها لالتقائهما ، وكان الفتح هنا حسنا إتباعا لفتحة الراء ، كما تقول عضّ ومصّ يا فتى ، فتفتح الحرف الآخر ، لسكونه وسكون الأول ، ويحسن الفتح فيه إتباعا لفتحة ما قبله ، وكما فتحوا «الآن» إتباعا للألف التي قبله.

__________________

(١) الخدر : كل ما واراك من بيت ونحوه ، وستر تمده المرأة في ناحية البيت لتستتر به ، والجمع خدور وأخدار. مادة (خدر). اللسان (٢ / ١١٠٩). الشرح : إذا ما اشتدت الحرب وأمسكت الحرائر بأطراف الخدور من الجزع برز هذان الرجلان كفارسي خيل لا مثيل لهما. والشاهد في قوله : «السّتر» فتحركت التاء لتحرك ما قبلها ، والأصل «السّتر». إعراب الشاهد : الستر : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة.

(٢) الأعشى : هو أبو بصير ميمون الأعشى بن قيس بن جندل ، يعد رابع فحول الشعراء الجاهليين كما ذكر ذلك صاحب الطبقات ، وقد عمّر حتى انبلج فجر الإسلام وأعد قصيدة يمدح بها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فاعترض طريقه كفار قريش وأغروه بالمال فتراجع عن مدح الرسول وعاد إلى بلده وقبل دخوله سقط من فوق بعيره فدقت عنقه فمات. انظر / جواهر الأدب (٢ / ٧٩).

(٣) السلم : ضد الحرب. ويقصد بها الصلح ويفتح ويكسر ويذكر ويؤنث. اللسان (٣ / ٢٠٧٩). الشرح : يقول إن الحرب تكون أحيانا مكروهة بعد السلم. والشاهد في قوله «السّلم» فقد تحركت اللام الساكنة لمجاورتها للحركة. إعراب الشاهد : السلم : مضاف إليه مجرور بالإضافة.

٩٥

وعلى هذا حملوا قول الآخر :

ويها فداء لك يا فضاله

أجره الرّمح ولا تهاله (١)

قالوا فتح اللام لسكونها وسكون الألف قبلها.

واختار الفتحة لأنها من جنس الألف التي قبلها ، فلما تحركت اللام لم يلتق ساكنان ، فتحذف الألف لالتقائهما. على أنّ أبا عليّ قد ذهب في «تهاله» إلى شيء غير هذا الذي ذهب إليه أبو العباس ، وفيه طول وفضل شرح ، فنتركه ، لأن فيما أوردناه مقنعا بإذن الله.

فإن قيل : فلم سلبت الهمزة من أم فتحها (٢) ، هلا تركتها همزة ، ثم حركتها لالتقاء الساكنين؟ وما الذي دعاك إلى قلبها بعد تسكينها ألفا ، حتى احتجت إلى أن تقلب الألف همزة؟

فالجواب أن العرب لم تسلب هذه الهمزة حركتها إلا للتخفيف ، ألا تراهم قالوا مراة ، وكماة ، ولم يقولوا : مرأة وكمأة.

فعلى هذا ينبغي أن يحمل عندي قوله : «أيوم لم يقدر أم يوم قدر». ويكون ارتكابك هذا الذي قد شاعت أمثاله عندهم وإن كان فيها بعض اللّطف والغموض ، أسهل وأسوغ (٣) من حذفك نون التوكيد ، لأمرين :

__________________

(١) البيت لم أعرف قائله وقد أورده اللسان في مادة «فدى» ، وفي «هول» ولم يعين قائله ، كذا أورده أبو زيد الأنصاري في النوادر ولم يعين قائله. ويها : كلمة إغراء وحث وتحريض (تكون للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث) ، فإذا أغربت رجلا قلت له : ويها يا فلان. وهو تحريض كما تقول : دونك يا فلان. وقد ورد في النوادر (ص ١٣) تعليقا على البيت ما نصه : (أجره) كسر الراء للالتقاء الساكنين ، ولو فتح كان أجود ، وآثر التخلص بالكسر ـ كما يقول ابن جني ـ لمجاورة الراء للجيم المكسورة ، وكلمة (فداء) رويت مكسورة الهمزة وبفتحها منونة ، أما الكسر فلأن من العرب من يكسر الهمزة إذا جاورت لام الجر خاصة. وأما فتح الهمزة فبتقدير عامل محذوف. أما فتح اللام في تهاله ، فقد وجهه ابن جني بعد البيت ، ولا داعي لإعادته.

(٢) يريد فتح همزة أم في قول الشاعر فيما سبق : (أيوم لم يقدر أم يوم قدر).

(٣) أسوغ : أسهل وألين ، وعطف أسوغ على أسهل ترادف يفيد التوكيد ، ويسمى أسلوب الإطناب.

٩٦

أحدهما : أن ذلك لم يأت عنهم في بيت غير هذا ، فيحمل هذا عليه. فأما ما أنشدوه من قول الآخر :

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسّوط قونس الفرس (١)

فمدفوع مصنوع عند عامة أصحابنا ، ولا رواية تثبت به.

والآخر : ضعفه وسقوطه في القياس ، وذلك أن التوكيد من مواضع الإطناب (٢) والإسهاب ، ولا يليق به الحذف والاختصار ، فإذا كان السماع والقياس جميعا يدفعان هذا التأويل ، وجب إلغاؤه واطّراحه ، والعدول عنه إلى غيره ، مما قد كثر استعماله ، ووضح قياسه.

فهذه أيضا همزة قلبت عن ألف ، أعني همزة أم ، وهي بدل من ألف هي بدل من همزة ، فهذا وإن لطف وطالت صنعته ، أولى من أن تحمل الكلمة على حذف نون التوكيد ، لما فيه من قلّة النظير ، وضعف القياس.

وأنشدنا أبو علي :

بالخير خيرات وإن شرّا فأا

ولا أريد الشّرّ إلا أن تأا (٣)

والقول في ذلك عندي أنه يريد فأوتأ ، ثم زاد على الألف ألفا أخرى توكيدا ، كما تشبع الفتحة فتصير ألفا كما تقدّم ، فلمّا التقت ألفان ، حرّك الأولى ، فانقلبت همزة.

__________________

(١) البيت ورد بالحاشية (ص ٨٥) رقم (١) ، وقد انتحله البعض ونسبوه لطرفة بن العبد ، أورد ذلك أبو حاتم عن الأخفش.

(٢) الإطناب : في علم المعاني : أن يزيد اللفظ على المعنى لفائدة وهو يقابل الإيجاز.

(٣) البيت للقيم بن أوس من بني أبي ربيعة بن مالك. انظر / النوادر لأبي زيد (ص ١٢٦). وقد خرجه ابن عصفور في «الضرائر» على خلاف تخريج ابن جني ، مما لا يدعو إلى تكلف قال : أراد فأصابك الشر فاكتفى بالفاء والهمزة ، وحذف ما بعدهما وأطلق الهمزة بالألف وأراد بقوله «تأ» تأبى الخير فاكتفى بالتاء والهمزة وحذف ما بعدهما ، وحرك الهمزة بالفتح ، وأطلقها بالألف ، وقد علق البغدادي على تخريج ابن عصفور. انظر / شرح شواهد الشافية (ص ٢٦٩) وعلى هذا يكون معنى البيت : تثاب بخيرك خيرات كثيرة وإن فعلت شرا أصابك الشر ولا أريد لك الشر إلا أن تريده لنفسك.

٩٧

وقد أنشدنا أيضا : «فا» و «تا» بألف واحدة ، إلا أن الغرض في الرواية الأخرى (١)

وقد اطرد عنهم قلب ألف التأنيث همزة ، وذلك نحو حمراء وصفراء وصحراء وأربعاء وعشراء (٢) ورحضاء (٣) وقاصعاء (٤) ، وما أشبه ذلك.

والقول في ذلك : أنّ الهمزة في صحراء وبابها إنما هي بدل من ألف التأنيث كالتي في نحو : حبلى وسكرى وبشرى وجمادى وحبارى (٥) وقرقرى (٦) وخيزلى (٧) ، إلا أنها في حمراء وصحراء وصلفاء (٨) وخبراء (٩) وقعت الإلف (١٠) بعد ألف قبلها زائدة ، فالتقى هناك ألفان زائدتان ، الأولى منهما الألف الزائدة ، والثانية هي ألف التأنيث ، فلم تخل من حذف إحداهما أو حركتها ، فلم يجز في واحدة منهما الحذف ، أمّا الأولى فلو حذفتها لانفردت الآخرة ، وهم قد بنوا الكلمة على اجتماع ألفين فيها ، وأما الآخرة فلو حذفتها لزالت علامة التأنيث التي وسمت الكلمة بها ، وهذا أفحش من الأوّل (١١) ، فقد بطل حذف شيء منهما.

__________________

(١) الأخرى : أي المقابلة لهذه الرواية ، وهي التي تقدمت أولا.

(٢) العشراء من النوق : التي مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية ، أو هي كالنفساء من النساء. مادة (عشر) ، والجمع «عشار» ، وفي التنزيل : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ). اللسان (٤ / ٢٩٥٤).

(٣) والرحضاء : العرق في أثر الحمى. مادة (رحض). اللسان (٣ / ١٦٠٨).

(٤) والقاصعاء : جحر يحفره اليربوع ، فإذا فرغ ودخل فيه سد فمه لئلا يدخل عليه حية أو دابة. وقيل : هي باب جحره ، والجمع «قواصع». اللسان (٥ / ٣٦٥٣) مادة (قصع).

(٥) الحبارى : طائر على شكل الأوزة برأسه وبطنه غبرة ، وهو لا يشرب الماء ، ويبيض في الرمال النائية.

(٦) قرقرى : أرض باليمامة فيها زروع ونخيل كثيرة. معجم البلدان (٤ / ٣٧١).

(٧) الخيزلى : مشية للمرأة ، يقال هي تمشي الخيزلى : إذا مشت بتكسر وانثناء. مادة (خوزل).

(٨) الصلفاء : المكان الصلب من الأرض فيه حجارة ، والجمع «صلاف». اللسان (٤ / ٢٤٨٤).

(٩) الخبراء : قاع مستدير يجتمع فيه الماء. مادة (خبر) ، والجمع الخبارى. اللسان (٢ / ١٠٩١).

(١٠) الإلف : تحريف ، والأصل أن تكون الألف بفتح الهمزة.

(١١) وهذا أفحش من الأول : أشار بهذا إلى حذف ألف التأنيث ، والأول : هو حذف الألف الزائدة.

٩٨

وأما الحركة فقال سيبويه : إنه لما انجزم (١) الحرفان حرّكت الثانية منهما ، فانقلبت همزة (٢) ، فصارت حمراء وصفراء وصحراء وصلفاء ، كما ترى.

فإن قيل : ولم زعمت أن الهمزة منقلبة ، وهلّا زعمت أنها زيدت للتأنيث همزة في أول أحوالها؟

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أنا لم نرهم في غير هذا الموضع أنّثوا بالهمزة ، إنما يؤنثون بالتاء أو الألف ، نحو حمدة وقائمة وقاعدة وحبلى وسكرى ، فكان حمل همزة التأنيث في نحو صحراء وبابها على أنها بدل من ألف تأنيث ، لما ذكرناه. أحرى.

والوجه الآخر : أنّا قد رأيناهم لما جمعوا بعض ما فيه همزة التأنيث ، أبدلوها في الجمع ، ولم يحققوها البتة ، وذلك قولهم في جمع صحراء وصلفاء وخبراء : صحاريّ ، وصلافيّ ، وخباريّ ، ولم نسمعهم أظهروا الهمزة في شيء من ذلك ، فقالوا : صحارئ ، خبارئ ، وصلافئ ، ولو كانت الهمزة فيهن غير منقلبة لجاءت في الجمع ، ألا تراهم قالوا : كوكب درّئ ، وكواكب درارئ ، وقرّاء وقرارئ ، ووضّاء ووضاضئ ، فجاءوا بالهمزة في الجمع لمّا كانت غير منقلبة ، بل موجودة في قرأت ، ودرأت ، ووضؤت ، فهذه دلالة قاطعة.

فإن قيل : فما الذي دعاهم إلى قلبها في الجمع ياء؟ وهلّا تركوها في الجمع ملفوظا بها ، كما كانت في الواحد ، فقالوا : صحارئ ، وصلافئ؟

فالجواب : أنها إنما كانت انقلبت في الواحد همزة وأصلها الألف ، لاجتماع الألفين ، وهذه صورتها : «صحراا» و «صلفاا» و «خبراا» ، فلما التقت ألفان اضطرّوا إلى تحريك إحداهما ، فجعلوها الثانية ، لأنها حرف الإعراب ، فصارت صحراء وصلفاء ، كما ترى.

__________________

(١) انجزم : يريد سكن ، فالجزم عند النحاة : تسكين الحرف أو حذفه إن كان حرف علة أو نونا في الأفعال الخمسة. مادة (جزم). اللسان (١ / ٦١٩).

(٢) في هامش (ص) ولعله من تعليق ابن هشام : «هذا الذي قاله سيبويه لم يرد به التعليل ، بل الإخبار بما فعلوه واعتزموه ، وذلك لأن هذا نفس الدعوى المحتاجة لعلة التخصيص ، لا أن هذا تعليل ، والمخطئ من أورده تعليلا ، لا سيبويه».

٩٩

وحال الجمع ما أذكره ، وذلك أنك إذا صرت إلى الجمع ، لزمك أن تقلب الأولى ياء لانكسار الراء في صحاريّ قبلها ، كما تنقلب ألف قرطاس (١) وحملاق (٢)

ياء لانكسار ما قبلها ، إذا قلت : قراطيس وحماليق ، فكذلك تنقلب ألف صحراء الأولى ياء ، وهذه صورتها ، فتصير في التقدير : صحارى ا ، وصلافى ا ، وحبارى ا ، فتقع الياء الساكنة قبل الألف الآخرة الراجعة عن الهمزة ، لزوال الألف من قبلها ، فتنقلب الألف ياء ، لوقوع الياء ساكنة قبلها ، وتدغم الأولى المنقلبة عن الألف الزائدة في الياء الآخرة ، المنقلبة عن ألف التأنيث ، فتصير صحارىّ.

أنشد أبو العباس للوليد بن يزيد :

لقد أغدو على أشقر يغتال الصّحاريّا (٣)

__________________

(١) القرطاس : الصحيفة يكتب فيها ، وفي التنزيل : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) ، [وتثلث قافه بهذا المعنى] ، وكل ما ينصب للنضال ، وهو الغرض يقال : رمى فقرطس : أصاب الغرض ، ومن الجواري : البيضاء المديدة القامة ، ومن الدواب : الأبيض الذي لا يخالط بياضه نمنمة ، وورقة تلف على هيئة القمع ليوضع فيها الحب ونحوه (محدثة) ، (ج) قراطيس. مادة (قرطس). اللسان (٥ / ٣٥٩٢).

(٢) الحملاق : حملاق العين ، وحملقها ، وحملوقها : ما يسوده الكحل من باطن أجفانها ، والجمع «حماليق». مادة (حملق). اللسان (٢ / ١٠٠٦).

(٣) أغدو : مضارع غدا غدوا إذا ذهب في الصباح الباكر ، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس. الأشقر : من الخيل ما كانت خمرته صافية ، والشقرة في الإنسان حمرة يعلوها بياض. مادة (شقر). اللسان (٤ / ٢٢٩٧). ويغتال : يهلكها غيلة ، أي على غرة ، وهو هنا على الاستعارة. اللسان (٥ / ٣٣٢٩). فكأنّ المعنى : إنني أصبح راكبا فرسا أشقر سريع العدو يقطع الأرض بسرعة شديدة بحيث لا أشعر بها. ومحل الشاهد في البيت : كلمة صحارى : بتشديد الياء ، وهذا هو الأصل في مثل هذا الجمع ولكنه متروك لا يقع إلا في الشعر ، والمستعمل التخفيف بحذف الياء الأولى ، وقد يفتح ما قبل الياء فتنقلب ألفا فيقال : صحارى ، بفتح الراء. إعراب الشاهد : الصحاريا : مفعول به منصوب بالمفعولية.

١٠٠