سرّ صناعة الإعراب - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٣٢٨
الجزء ١ الجزء ٢

وعلى هذا ما أنشده سيبويه من قول لبيد (١) :

فإن لم تجد من دون عدنان والدا

ودون معدّ فلتزعك العواذل (٢)

فعطف «دون» على موضع «من دون». وأنشد أيضا لعقيبة الأسديّ (٣) :

معاوي إننا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا (٤)

عطف الحديد على موضع «بالجبال».

__________________

(١) لبيد : هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري أحد أشراف الشعراء المجيدين وهو من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية والإسلام ، وقد أسلم لبيد وحسن إسلامه ومات بالكوفة سنة إحدى وأربعين من الهجرة عن عمر يناهز المائة وثلاثين عاما.

(٢) العواذل : زواجر الأيام من حوادثها وخطوبها. تزعك : تكفك. شرح البيت على هذا : أن زواجر الأيام تكفه وتمنعه عما يشين. الشاهد في قوله : «دون» فقد نصبها ، عطفا على محل من دون ، كما ذكر المؤلف.

(٣) عقيبة بن هبيرة : شاعر من قبيلة «أسد» وهو من المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية والإسلام ويخاطب في بيته معاوية بن أبي سفيان.

(٤) معاوي : هو معاوية بن أبي سفيان ، وحذفت التاء على ترخيم المنادى. أسجح : ارفق وسهل. الشرح : يشكو الشاعر إلى معاوية ظلم العمال ويطلب منه الرفق والتسهيل. والشاهد في قوله «الحديدا» فقد نصبها عطفا على محل «بالجبال». وقد ذكر التأويل سيبويه واعترض عليه المبرد وتبعه جماعة منهم العسكري وصاحب التصحيف. فقالوا : إن رواية سيبويه بالنصب ، مع أن البيت ورد في قصيدة مجرورة وبعده ما يدل على ذلك ، وهو قوله :

فهبنا أمة ذهبت ضياعا

يزيد أميرها وأبو يزيد

أكلتم أرضنا فجردتموها

فهل من قائم أو من حصيد

ترجون الخلود إذا هلكنا

فلا لكم ولا لي من خلود

ومعنى جردتموها : أي استأصلتم ما عليها. انظر / الكتاب (١ / ٣٤). وقد دافع الأعلم عن سيبويه وقال : ليس سيبويه بمتهم فيما نقله فقد ذكر بيتا آخر منصوبا بعده وهو :

أديرها بني حرب عليكم

ولا ترموا بها الغرض البعيدا

فلعلها قصيدة أخرى. وقيل البيت لعبد الله بن الزبير ، وليس ببعيد أن يكون للشاعرين أخذه أحدهما من صاحبه وهذا كثير في الشعر.

١٤١

ولهذا قال سيبويه : إنك إذا قلت : مررت بزيد ، فكأنك قلت : مررت زيدا ، تريد بذلك أنه لو لا الباء الجارة لانتصب زيد ، وعلى ذلك أجازوا مررت بزيد الظريف ، بنصب الظريف (١) على موضع بزيد ، ومن هنا أيضا قضى النحويون على موضع الجار والمجرور إذا أسند الفعل إليهما ، بأنهما في موضع رفع ، وذلك نحو : ما جاءني من رجل ، وما قام من أحد ، وكذلك ما لم يسمّ فاعله ، نحو : سير بزيد ، وعجب من جعفر ، ونظر إلى محمد ، وانصرف عن زيد ، وانقطع بالرّجل.

وإنما قضوا في هذه الأشياء في هذه المواضع برفع معانيها ، من قبل أنها قد كانت مع الفعل المسند إلى فاعله منصوبة المواضع ، نحو : سرت بزيد ، وعجبت من خالد ، ونحو ذلك ، فلما لم يسمّ الفاعل ، وأسند الفعل الذي كان منصوبا مع الفاعل ، قضي برفعه ، لقيامه مقام الفاعل ، فإذا جاز لهم أن يقضوا على موضع الفعل والفاعل في بعض المواضع بأنهما في موضع رفع ، وإن كان الفعل مستقلا بفاعله ، وذلك قولهم : حبذا (٢) زيد ، وحبذا هند ، فأن يقضوا على موضع الجار والمجرور ـ اللذين لا يستغني أحدهما عن صاحبه ، ولا يجوز الفصل بينه وبينه بظرف ولا غيره ، أجدر بالجواز.

ويدلّك على شدة امتزاج (٣) حرف الجارّ بما جرّه ، وأن العرب قد أجرتهما جميعا مجرى الجزء الواحد ، قولهم : مررت بي ، والمال لي ، فتسكينهم الياء في بي ولي ، وكونهما (٤) على حرف واحد ، يدلّك على اعتمادهما على الباء واللام قبلهما ، وأنهما غير مقدّرى الانفصال منهما (٥) ، لقلتهما في العدد ، وضعفهما بالسكون.

ولأجل ما ذكرناه من شدة اتصال الجار بالمجرور ، ما قبح عندهم حذف الجار وتبقية جره بحاله ، إلا فيما شذّ عنهم. من ذلك ما حكاه سيبويه من قولهم في القسم مع الخبر لا الاستفهام ، وذلك قولهم : الله لأقومنّ.

__________________

(١) هذا ما يعرف بالإتباع على المحل.

(٢) حبذا : الأمر ـ أسلوب للمدح ، ويقال : حبذا الرجل والرجلان والرجال والمرأة ، والمرأتان والنساء.

(٣) امتزاج : يقصد الترابط الشديد الذي يجعلهما ككلمة واحدة ، وسيأتي ذلك في المتن.

(٤) يريد كون الياء في اللفظين : بي ، لي.

(٥) منهما : أي من الياءين.

١٤٢

وحكى أبو العباس أن رؤبة قيل له : كيف أصبحت؟ فقال : خير ، عافاك الله! أي بخير ، فحذف الباء. وأنشدوا قول الشاعر (١) :

رسم دار وقفت في طلله

كدت أقضى الغداة من جلله (٢)

أي ربّ رسم دار.

فأما قولهم «لا ها لله ذا» فإنها صارت عندهم عوضا من الواو ، ألا تراها لا تجتمع معها ، كما صارت همزة الاستفهام في آلله إنك لقائم عوضا من الواو ، وهذا كأنه أسهل من الأول ، وكلاهما لا يجوز القياس عليه.

واعلم أن هذه الباء قد زيدت في أماكن. ومعنى قولي زيدت أنها إنما جيء بها توكيدا للكلام ، ولم تحدث معنى ، كما أن «ما» من قوله عزّ اسمه : (فَبِما نَقْضِهِمْ) [النساء : ١٥٥] ، و (عَمَّا قَلِيلٍ) ، و (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) ، إنما تقديره : فبنقضهم ، وعن قليل ، ومن خطيئاتهم ، ونحو ذلك قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦](٣) تقديره : كافيا عبده ، وقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) أي ألست ربّكم؟ ، و (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا)(٤) [يوسف : ١٧] أي مؤمنا لنا ، (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١١٤] ، أي طارد المؤمنين.

__________________

(١) الشاعر هو جميل بن معمر العذري اشتهر بالعشق لجارية تسمى بثينة ، وإليها نسب فكان يقال : «جميل بثينة».

(٢) الطلل : ما بقي شاخصا من آثار الديار ونحوها (ج) أطلال ، طلول. مادة (طلل). الغداة : ما بين الفجر وطلوع الشمس. من جلله : أي من أجله. الشرح : لقد كدت أموت حين وقفت في أطلال ديار الحبيب من أجلها. والشاهد : جر كلمة «رسم» بحرف جر محذوف هو «ربّ».

(٣) (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) : كاف : أي حافظه من شر أعدائه. مادة (كفى). عبده : الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. والشاهد فيها زيادة الباء في قوله جل شأنه «بكاف».

(٤) (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) : أي وما أنت بمصدق لنا ، وردت على لسان إخوة يوسف حين تعللوا لأبيهم عن فقدهم ليوسف. والشاهد فيها زيادة الباء في قوله تعالى : (بِمُؤْمِنٍ).

١٤٣

فأما قوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنين : ٢٠] فذهب كثير من الناس إلى أن الباء فيه زائدة ، وأن تقديره : «تنبت الدّهن».

وكذلك قول عنترة (١) :

شربت بماء الدّحرضين فأصبحت

زوراء تنفر عن حياض الدّيلم (٢)

قالوا : أراد : شربت ماء الدّحرضين. وهذا عند حذّاق أصحابنا على غير وجه الزيادة ، وإنما تأويله عندهم ـ والله أعلم ـ تنبت ما تنبته والدّهن فيها ، كما تقول : خرج زيد بثيابه ، أي وثيابه عليه ، وركب الأمير بسيفه ، أي وسيفه معه.

وكما أنشد الأصمعيّ :

ومستنّة كاستنان الخرو

ف قد قطع الحبل بالمرود (٣)

أي قطع الحبل ومروده فيه.

__________________

(١) عنترة : هو عنترة بن شداد بن قراد العبسي أحد فرسان العرب وشعرائها ، أحب ابنة عمه عبلة وقال فيها الشعر متغزلا بجمالها ، وقد طال عمره حتى ضعف جسمه وعجز عن شن الغارات ومات قبيل البعثة.

(٢) البيت من قصيدة لعنترة طويلة مطلعها :

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

والبيت هو رقم (٢٩) منها. والدحرضان : اسم مورد من موارد الماء. زوراء : عوجاء مائلة من النشاط. اللسان (٣ / ١٨٨٧) مادة (زور). الديلم : اسم عدوه وهو الديلم بن باسل بن ضبة. الشرح : لقد ارتوت من حياض الدحرضين فلما رأت حياض الديلم تجافت عنها لخوفها منها. والشاهد في قوله «بماء» فقد وردت الباء وهي حرف جر زائد ، والتقدير «شربت ماء».

(٣) البيت لرجل من بني الحارث ، كما حكاه الأصمعي في كتاب الفرس ، وبعده :

دفوع الأصابع ضرح الشمو

س نجلاء مؤيسة العود

مستنة : يريد طعنة ، والاستنان : المر على وجهه ، أي أن دمها مر على وجهه. الخروف : ولد الحمل وقيل : هو الجذع من الضأن خاصة. اللسان (٢ / ١١٤٠). المرود : حديدة توتد في الأرض ، يشد فيها حبل الدابة. اللسان (٣ / ١٧٧٤). والشاهد في قوله «بالمرود» أي قطع الحبل بمروده.

١٤٤

ونحو هذا قول أبي ذؤيب (١) :

يعثرن في حدّ الظّبات كأنما

كسيت برود بني تزيد الأذرع (٢)

يصف الحمير : أي يعثرن وهن مع ذلك قد نشبن (٣) في حد الظّبات.

وكذلك قوله : «شربت بماء الدّحرضين» إنما الباء في معنى في ، كما تقول : شربت بالبصرة وبالكوفة ، أي في البصرة والكوفة ؛ أي شربت وهي بماء الدحرضين ، كما تقول : وردنا صدّاء (٤) ، ووافينا شجا (٥) ، ونزلنا بواقصة (٦).

__________________

(١) أبو ذؤيب : الهذلي هو خويلد بن خالد بن محرّث بن زبيد بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحرث بن تميم بن سعد بن هذيل. وكان شاعرا فحلا لا غميزة فيه ولا وهن ، قال عنه حسان بن ثابت : أبو ذؤيب أشعر هذيل ، وهذيل أشعر الناس. (طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي).

(٢) هذا البيت من قصيدة أبي ذؤيب المشهورة التي مطلعها :

أمن المنون وريبها تتوجع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

وهو في وصف حمير الوحش. الظبات : جمع الظبة ، وهي حد السيف والسنان والخنجر. اللسان (٤ / ٢٧٤٤). مادة (ظبا) الشرح : حين تعثرت في حد السنان دميت أذرعها وصار الدم عليها كخطوط حمراء كأنها خطوط البرود اليزيدية. ويزيد تاجر كان يبيع العصب في مكة. وفي الرواية التي أوردها المؤلف : تزيد بالتاء ، وهو تزيد بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ، تنسب إليه البرود التزيدية. الشاهد مشروح في المتن. إعراب الشاهد : يعثرن : فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة ، والنون ضمير مبني في محل رفع فاعل. في حد : جار ومجرور. الظبات : مضاف إليه مجرور وعلامة الجر الكسرة.

(٣) نشبن : من نشب في الشيء إذا علق به. مادة (نشب). اللسان (٦ / ٤٤٢٠).

(٤) صداء : بفتح الصاد ، ثم التشديد والمد ، ويروي صدءاء ، بهمزتين بينهما ألف : ركية ليس عندهم ماء أعذب منها ، وفي المثل : ماء ولا كصداء.

(٥) شجا : كذا في معجم البلدان لياقوت : واد بين مصر والمدينة.

(٦) واقصة : اسم لعدة مواضع ، منها واقصة : منزل بطريق مكة بين الفرعاء ومكة ، لبني شهاب من طيء ، ومنها واقصة : اسم ماء لبني كعب ، ومنها واقصة أيضا : موضع باليمامة.

١٤٥

فأما قول أبي ذؤيب :

شربن بماء البحر ثم ترفّعت

متى لجج خضر لهنّ نئيج (١)

يعني السحاب ، فالباء فيه زائدة ، إنما معناه : شربن ماء البحر ، هذا هو الظاهر من الحال ، والعدول عنه تعسّف (٢).

وقال بعضهم : معناه : شربن من ماء البحر ، فأوقع الباء موقع من.

وأخبرنا محمد بن الحسن (٣) ، عن أحمد بن يحيى (٤) قال : قال أبو عثمان ، يعني المازنيّ ، في قول الشاعر (٥) :

فكفى بنا فضلا على من غيرنا

حبّ النبيّ محمد إيّانا (٦)

إنما تدخل الباء على الفاعل ، وهذا شاذّ يريد أن معناه : كفانا.

__________________

(١) متى لجج : من لجج في لغة هذيل. واللجج : مجتمع الماء الكثير. والنئيج : صوت الماء وهو يمر مرورا سريعا. الشرح : هؤلاء الفتيات شربن من ماء البحر الجاري ذو الخرير الجميل. والشاهد فيه قوله «بماء» فالباء زائدة ، وقيل هي بمعنى «من» أي شربن من ماء البحر.

(٢) التعسف : التكلف. مادة (عسف). القاموس المحيط (٣ / ١٧٠).

(٣) محمد بن الحسن : هو أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم بن يعقوب أحد القراء بمدينة السلام ، كان عالما باللغة والشعر ، وسمع من ثعلب ، توفي سنة ٣٦٢ (الفهرست لابن النديم ص ٤٩)

(٤) أحمد بن يحيى : هو أبو العباس ثعلب إمام من أئمة الكوفيين.

(٥) البيت لكعب بن مالك الأنصاري ، من بني سلمة ، وهم بطن من بطون الخزرج. قال عنه صاحب الطبقات : إنه شاعر مجيد ، وقد قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أترى أن الله نسي قولك :

زعمت سخينة أن ستغلب ربها

وليغلبنّ مغالب الغلّاب

وسخينة : لقب لقبت به قريش لحبهم أكل السخينة.

(٦) كفى : حسب. فضلا : عظمة. الشرح : حسبنا من الفضل حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنا. الشاهد : زيادة الباء على المفعول به في قوله «بنا» وهذا شاذ ، لأنها تدخل قياسا على الفاعل لا على المفعول. إعراب الشاهد : «بنا» الباء حرف جر زائد. نا : ضمير مبني في محل جر.

١٤٦

وقرأت عليه أيضا عنه (١) :

إذا لا قيت قوما فاسأليهم

كفى قوما بصاحبهم خبيرا

وهذا من المقلوب. معناه : كفى بقوم خبيرا صاحبهم ، فجعل الباء في الصاحب ، وموضعها أن تكون في «قوم» ، إذ هم الفاعلون في المعنى. وكذلك قوله تبارك اسمه : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢) [البقرة : ١٩٥] ، تقديره ، والله أعلم : ولا تلقوا أيديكم. وهذا واسع عنهم جدا.

وأما قول الآخر (٣) :

فأصبحن لا يسألنه عن بما به

أصعّد في علو الهوى أم تصوّبا (٤)

فإنه زاد الباء ، وفصل بها بين «عن» وما جرّته ، وهذا من غريب مواضعها.

فأما قولهم : سميته زيدا وبزيد ، وكنيته أبا عبد الله وبأبي عبد الله ، فليست الباء فيه زائدة ، وإنما أوصلوا بها الفعل تارة إلى المفعول ، وأوصلوه تارة أخرى بنفسه ، كما قالوا : جئته وجئت إليه ، وخشّنت صدره (٥) ، وخشّنت بصدره.

فأما قولهم : فرقته وفرقت منه ، وجزعته (٦) وجزعت منه ، فأصلهما أن يتعديا بحرف الجرّ ، وإنما يحذف تخفيفا ، يدل على ذلك أن فرقت وجزعت أفعال غير واصلة ، بمنزلة بطرت (٧) وأشرت وعرصت وهبصت (٨).

__________________

(١) الضمير فيها راجع إلى أحمد بن يحيى ثعلب.

(٢) أي إلى الهلاك ، واستشهد ابن جني بها على زيادة الباء في «بأيديكم».

(٣) البيت للأسود بن يعفر (كما في المقاصد النحوية في شرح شواهد الألفية. للعيني) بهامش خزانة الأدب للبغدادي (٤ / ١٠٣).

(٤) صعّد : طلع. العلو : الارتفاع. الهوى : السقوط. الشرح : لم تعد هؤلاء النسوة تسأله عما يحدث له أو عمّا يفعله. والمؤلف قد شرح الشواهد في المتن وهو زيادة الباء بين حرف الجر والاسم المجرور.

(٥) خشن صدر فلان : أغضبه وهيجه. القاموس المحيط (٤ / ٢١٥).

(٦) جزعته : خفت منه. مادة (جزع). اللسان (١ / ٦١٦).

(٧) بطرت : غلا في المرح ، والنعمة : استخفها فكفرها ، والحق : أنكره. القاموس (١ / ٣٧١).

(٨) عرصت وهبصت : نشطت. القاموس المحيط (٢ / ٣٠٥). مادة (عرص).

١٤٧

فهذه كلها أفعال النفس التي تحدث لها ولا تتجاوزها ، وإنما هي بمنزلة كرمت وحسنت وظرفت وشرفت.

فهذه أحوال الباء في زيادتها مع الفضلة ، أعني بالفضلة المفعول ، وفيه معظم زيادة الباء.

وقد زيدت الباء أيضا مع أحد جزأي الجملة التي لا تنعقد مستقلة إلا به ، وذلك على ثلاثة أضرب : أحدها المبتدأ ، والآخر الخبر ، والآخر الفاعل.

فأما المبتدأ فقولهم : بحسبك أن تفعل كذا ، إنما هو حسبك أن تفعل كذا ، والباء زائدة.

وأنشدنا أبو عليّ (١) قال : أنشد أبو زيد (٢) :

بحسبك في القوم أن يعلموا

بأنك فيهم غنيّ مضرّ (٣)

أي حسبك ذلك ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٤](٤) ، ولا أعلم الآن مبتدأ زيدت فيه الباء غير هذه اللفظة.

وقولهم : «أثى (٥) به الدهر بما أتى به».

__________________

(١) أبو علي : الحسن الفارسي شيخ ابن جني.

(٢) أبو زيد : صاحب كتاب النوادر.

(٣) البيت للأشعر الرقبان الأسدي الجاهلي. (نوادر أبي زيد / ص ٧٣). المضر : معناه الذي له ضر من مال ، أي له قطعة منه. وقال بعضهم : مضر : أي صاحب ضرائر. والأول أحسن ، وهو أشبه بالمعنى. الشرح : يقول : أنت موسر ، وأنت مع ذلك بخيل. والشاهد في قوله : «بحسبك» فقد زيدت الباء مع المبتدأ. إعرابه : الباء حرف جر زائد. حسب : مبتدأ مجرور لفظا مرفوع محلا ، والكاف ضمير مبني في محل جر مضاف إليه.

(٤) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : حسبك : كفاك. الشاهد : ورود حسبك بدون حرف جر زائد.

(٥) في لسان العرب في (أثا) أثوت الرجل وأثيته ، وأثوت به وأثيت به وعليه أثوا وأثيا وإثاوة وإثاية : وشيت به ، وعلى هذا يكون معنى العبارة : «ما أتى به الرجل نمّ به الدهر». الباء في «بما» زائدة ، و «ما» مبتدأ. والجملة قبلها خبر.

١٤٨

وأما زيادتها في خبر المبتدأ فقوله تعالى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) [يونس : ٢٧] ، ذهب أبو الحسن (١) إلى أن الباء زائدة ، وتقديره عنده : جزاء سيئة مثلها. وإنما استدلّ على هذا بقوله تبارك اسمه في موضع آخر : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وهذا مذهب حسن ، واستدلال صحيح ، إلا أن الآية قد تحتمل ، مع صحة هذا القول ، تأويلين آخرين :

أحدهما : أن تكون الباء مع ما بعدها هو الخبر ، فكأنه قال : جزاء سيئة كائن بمثلها ، كما تقول : إنما أنا بك ، أي إني كائن موجود بك ، إذا صغّرت نفسك له ، وكقولك : توكّلي عليك ، وإصغائي (٢) إليك ، وتوجّهي نحوك ، فتخبر عن المبتدأ بالظرف الذي فعل ذلك المصدر يتناوله ، نحو قولك : توكلت عليك ، وأصغيت إليك ، وتوجهت نحوك.

ويدلّ على أن هذه الظروف في هذا ونحوه أخبار عن المصادر قبلها ، تقدّمها عليها ، ولو كانت المصادر قبلها واصلة إليها ، ومتناولة لها ، لكانت من صلاتها ، ومعلوم استحالة تقدم الصلاة أو شيء منها على الموصول ، وتقدّمها نحو قولك : عليك اعتمادي ، وإليك توجهي ، وبك استعاذتي. قال الله تعالى : (وَإِلَيْهِ مَآبِ) ، (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.) وقال الكميت (٣) :

فيا ربّ هل إلا بك النصر يبتغى

عليهم وهل إلا عليك المعوّل؟ (٤)

__________________

(١) أبو الحسن : هو سعيد بن مسعد ، المجاشعي الملقب بالأخفش الأوسط.

(٢) إصغائي : إنصاتي واستماعي في اهتمام وحضور ذهن. مادة (صغى).

(٣) الكميت : هو الشاعر الخطيب أبو المستهل الكميت بن زيد الأسدي الكوفي ، ولد سنة ٦٠ ه‍ ، ونشأ بالكوفة ، وقد نحى بشعره منحى سياسيا ، من كبار شعراء الشيعة وتوفي سنة ١٢٦ ه‍.

(٤) يبتغي : يطلب. المعول : من عوّل عليه إذا ارتكن إليه واعتمد عليه. الشرح : يا رب نصرنا على الأعداء لا يرتجى إلا منك ولا يعول إلا عليك. الشاهد في قوله «عليك المعول» فهذا دليل على أن عليك ليست صلة ل (المعول) ولو كانت كذلك لما تقدمت عليها. إعراب الشاهد : عليك : جار ومجرور خبر مقدم. المعول : مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه الضمة.

١٤٩

وسألت أبا عليّ عن قول كثيّر (١) :

وإني وتهيامي بعزّة بعد ما

تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت (٢)

فقلت له : ما موضع تهيامي من الإعراب؟ فأفتى بأنه مرفوع بالابتداء ، وخبره : بعزة. على نحو ما قدمنا آنفا ، وجعل الجملة التي هي تهيامي بعزة ـ اعتراضا بين اسم إن وخبرها ، لأن فيها ضربا من التشديد للكلام ، كما تقول : إنك ـ فاعلم ـ رجل سوء ، وإنه ـ والحقّ أقول ـ جميل المذهب.

وهذا الفصل والاعتراض الجاري مجرى التوكيد كثير في الكلام. وإذا جاز الاعتراض بين الفعل والفاعل في نحو ما أنشدناه أبو عليّ ، من قوله :

وقد أدركتني والحوادث جمّة

أسنة قوم لاضعاف ولا عزل (٣)

كان الاعتراض بين اسم إن وخبرها أسوغ. وقد يحتمل بيت كثيّر أيضا تأويلا آخر غير ما ذهب إليه أبو عليّ ، وهو أن يكون تهيامي في موضع جرّ ، على أنه قسم به ، كقولك : إني ـ وحبّك ـ لضنين (٤) بك ، وعرضت على أبي علي هذا الجواب فقبله ، وأجاز ما أجاز ، فالباء على هذا في «بعزّة» متعلقة بنفس المصدر ، الذي هو التّهيام ، وهي فيما ذهب إليه أبو علي متعلقة بمحذوف هو الخبر عن تهيامي في الحقيقة

__________________

(١) كثير : هو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي وكنيته أبو صخر عشق جارية تدعى عزة وإليها نسب فقيل «كثير عزة».

(٢) التهيام : كثرة الهيام وهو ذهاب العقل من شدة الحب. عزة : اسم محبوبته. الشرح : يقول : إني على ما كان من التهيام بعزة تخليت عما بي وتخلت هي أيضا. الشاهد في قوله «وتهيامي بعزة». وقد أورد المؤلف وجهين من وجوه الإعراب له في المتن.

(٣) جمة : كثيرة. أسنة : رماح. الشرح : لقد اعترضتني مع كثرة صروف الدهر حرب أقوام شداد أقوياء. الشاهد فيه الفصل بين الفعل والفاعل بالجملة الاعتراضية (الحوادث جمة). إعراب الشاهد : قد : حرف تحقيق وتأكيد. أدركتني : فعل ماضي مبني ، والتاء حرف تأنيث والنون للوقاية ، والياء : ضمير مبني في محل نصب مفعول به. والحوادث جمة : مبتدأ وخبر جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب. أسنة : فاعل مرفوع وعلامة الرفع الضمة.

(٤) ضنين : بخيل. مادة (ضنّ). القاموس المحيط (٤ / ٢٣٩).

١٥٠

فهذا استيفاء الكلام في أحد الوجهين اللّذين يحتملهما قوله عز اسمه : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) بعد ما أجازه أبو الحسن فيها ، مما قدمت ذكره.

والوجه الآخر : أن تكون الباء في بمثلها متعلقة بنفس الجزاء ، ويكون الجزاء مرتفعا بالابتداء ، وخبره محذوف ، كأنه قال : جزاء سيئة بمثلها كائن ، أو واقع ، وإذا كان هذا جائزا ، وكان حذف الخبر فيه حسنا متجها ، كما حذف في عدة مواضع غيره ، مما يطول القول بذكره ، كان تهيامي من بيت كثيّر أيضا مرتفعا بالابتداء ، والباء متعلقة فيه بنفس المصدر ، الذي هو التّهيام ، والخبر أيضا محذوف ، كأنه قال : وتهيامي بعزة كائن ، أو واقع ، على ما يقدّر في هذا ونحوه. فهذا ما تحتمله الآية من غير ما ذهب إليه أبو الحسن ، أعني قوله تعالى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها.)

وأما زيادتها في الفاعل فنحو قولهم : كفى بالله ، وقوله عز اسمه : (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ)(١) [الأنبياء : ٤٧] ، إنما هو كفى الله ، وكفينا.

كقول سحيم (٢) :

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا (٣)

فالباء وما عملت فيه في موضع مرفوع بفعله ، كقولك : ما قام من أحد ، فالجار والمجرور في موضع مرفوع بفعله ، ونحوه قولهم في التعجب : أحسن بزيد ، وأجمل ببكر ، فالباء وما بعدها في موضع مرفوع بفعله ، ولا ضمير في الفعل. وهذا مشروح في باب التعجب.

__________________

(١) (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) : أي عادين على الناس أعمالهم. والآية شاهد على زيادة الباء مع الفاعل فالأصل : كفى الله.

(٢) سحيم : هو عبد لبني الحسحاس وكان حبشيا أعجمي اللسان ، يرتضخ لكنة حبشية وكان يتغزل في سيدته عميرة بنت جندل.

(٣) صدر البيت «عميرة ودع إن تجهزت غاديا» الشيب : الشعر الأبيض في الرأس. والمرء : الشخص. يقول : ودع عميرة حين تنوي الرحيل وتتجهز له وأجمل في الوداع ، وليكن زاجرك الشيب والإسلام. والشاهد : مجيء الفاعل (الشيب) بلا حرف الجر الزائد.

١٥١

وقد زيدت أيضا في خبر لكنّ ، لشبهه بالفاعل.

قال (١) :

ولكنّ أجرا لو فعلت بهيّن

وهل ينكر المعروف في الناس والأجر؟ (٢)

أراد : ولكن أجرا لو فعلته هيّن ، وقد يجوز فيه أن يكون معناه : ولكن أجرا لو فعلته بشيء هيّن ، أي أنت تصلين إلى الأجر بشيء هين ، كقولك : وجوب الشكر بالبرّ (٣) الهيّن ، فتكون الباء على هذا غير زائدة.

وأجاز أبو بكر محمد بن السريّ ، أن يكون قولهم : كفى بالله ، تقديره : كفى اكتفاؤك بالله ، أي اكتفاؤك بالله يكفيك ، وهذا يضعف عندي ، لأن الباء على هذا متعلقة بمصدر محذوف ، وهو الاكتفاء ، ومحال حذف الموصول وتبقية صلته ، وإنما حسّنه عندي قليلا أنك قد ذكرت كفى ، فدل على الاكتفاء ، لأنه من لفظه ، كما تقول : من كذب كان شرّا له ، أي كان الكذب شرّا له ، فأضمرته ، لدلالة الفعل عليه ، فها هنا أضمر اسما كاملا ، وهو الكذب ، وثمّ أضمر اسما وبقى صلته ، التي هي بعضه ، فكان بعض الاسم مضمرا ، وبعضه مظهرا ، فلذلك ضعف عندي ، والقول في هذا قول سيبويه إنه يريد كفى الله ، كقوله تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ)(٤).

ويشهد بصحة هذا المذهب ما حكي عنهم من قولهم : مررت بأبيات جاد بهنّ أبياتا ، وجدن أبياتا ، فبهن : في موضع رفع ، والباء : زائدة كما ترى ، أخبرني بذلك محمد بن الحسن (٥) قراءة عليه ، عن أحمد بن يحيى ، أن الكسائي حكى ذلك عنهم.

__________________

(١) قال البغدادي في الخزانة في شرح البيت : ولم أقف على قائله ، وكذلك قال العيني.

(٢) هين : بسيط. المعروف : الخير. وقد شرحه المؤلف في المتن ، وكذلك أورد الشاهد وعلق عليه.

(٣) البر : الإحسان والفضل. (٤) (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) : أي أن الله جل ذكره قد دافع عن المؤمنين وكفاهم شرور القتال في غزوة الخندق. والشاهد في قوله «وكفى الله» فقد جاء الفاعل «لفظ الجلالة» دون حرف الجر الزائد.

(٥) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم بن يعقوب أحد القراء بمدينة الكوفة.

١٥٢

ووجدت مثله للأخطل (١) ، وهو قوله :

فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها

وحبّ بها مقتولة حين تقتل (٢)

فبها : في موضع رفع بحب.

وقد حذفت الباء في رب ، وأصلها ربّ.

وإنما جاز عندي زيادة الباء في خبر المبتدأ ، لمضارعته للفاعل ، فاحتياج المبتدأ إليه كاحتياج الفعل إلى فاعله.

واعلم أنّ الباء قد تبدل منها في القسم الواو في قولك والله ، أصله بالله.

والدلالة على أن الباء هي الأصل أمران :

أحدهما : أنها موصّلة للقسم إلى المقسم به في قولك : أحلف بالله ، كما توصّل الباء المرور إلى الممرور به في قولك : مررت بزيد ، فالباء من حروف الجرّ بمنزلة من وعن.

والآخر : أن الباء تدخل على المضمر (٣) كما تدخل على المظهر (٤) ، تقول : بالله لأقومنّ ، وبه لأقعدنّ ، والواو لا تدخل على المضمر البتة ، تقول : والله لأضربنك ، فإن أضمرت قلت : به لأضربنك ، ولا تقول : وه لأضربنّك ، فرجوعك مع الإضمار إلى الباء يدلّ على أنها هي الأصل.

وأنشدنا أبو عليّ ، قال : أنشد أبو زيد :

رأى برقا فأوضع فوق بكر

فلا بك ما أسال ولا أغاما

__________________

(١) الأخطل : هو أبو مالك غياث الأخطل بن غوث التغلبي النصراني ، شاعر أموي مجيد ، امتاز بالمدح ووصف الخمر. قال الشعر وهو صبي ، ومات في خلافة الوليد سنة ١٢٥ ه‍ ، وقد نيف على السبعين.

(٢) يأمر الشاعر من يخاطبهم بقتل من يحبها فما أحبها إليه وهي مقتولة ، والمقتولة هنا هي الخمر التي صب عليها بعض الماء ، ليكسر حدتها. والشاهد في قوله «بها» فقد وقعت موقع رفع حيث هي في الإعراب نائب فاعل.

(٣) المضمر : الضمير.

(٤) المظهر : الاسم الظاهر.

١٥٣

قال : وأنشد أبو زيد :

ألا نادت أمامة باحتمال

لتحزنني فلا بك ما أبالي (١)

وإنما أبدلت الواو من الباء لأمرين :

أحدهما : مضارعتها إياها لفظا.

والآخر : مضارعتها إياها معنى.

أما اللفظ فلأنّ الباء من الشفة ، كما أنّ الواو كذلك ، وأما المعنى فلأن الباء للإلصاق ، والواو للاجتماع ، والشيء إذا لاصق الشيء فقد اجتمع معه.

وأما إبدال التاء من الواو في القسم فسنذكره في موضعه بإذن الله من التاء.

واعلم أنّ جميع الحروف المفردة التي تقع في أوائل الكلم (٢) ، حكمها الفتح أبدا ، نحو : واو العطف وفائه ، وهمزة الاستفهام ، ولام الابتداء.

فأما الباء في بزيد فإنما كسرت لمضارعتها (٣) اللام الجارة في قولك : المال لزيد ، وسنذكر العلة في كسر اللام في موضعها ؛ ووجه المضارعة بينهما اجتماعهما في الجرّ وفي الذلاقة ، ولزوم كل واحد منهما الحرفية ، وليست كذلك كاف التشبيه ، لأنها قد تكون اسما في بعض المواضع ، وسنذكر ذلك في موضعه.

انقضى حرف الباء.

* * *

__________________

(١) تقدم الكلام على هذا البيت.

(٢) الكلم : الكلام ويقصد بها المفردات والألفاظ.

(٣) لمضارعتها : لمشابهتها. مادة (ضرع). القاموس المحيط (٣ / ٥٤).

١٥٤

باب التاء

التاء حرف مهموس (١) ، يستعمل في الكلام على ثلاثة أضرب :

أصلا ، وبدلا ، وزائدا.

فإذا كانت أصلا وقعت فاء وعينا ولاما ، فالفاء نحو : تمر وتنأ (٢). والعين نحو : فتر (٣) وقتل ، واللام نحو : فخت (٤) ونحت.

وأما إبدالها فقد أبدلت من ستة أحرف ، هن : الواو ، والياء ، والسين ، والصاد ، والطاء ، والدال.

قد أبدلت التاء من الواو فاء إبدالا صالحا (٥) ، وذلك نحو : تجاه ، وهو فعال من الوجه ، وتراث : فعال من ورث ، وتقيّة : فعيلة من وقيت ، ومثله التّقوى ، هو فعلى منه ، وكذلك تقاة : فعلة منها. وتوراة عندنا فوعلة (٦) من وري الزّند (٧) ، وأصلها ووريه ، فأبدلت الواو الأولى تاء ، وذلك أنهم لو لم يبدلوها تاء ، لوجب أن يبدلوها همزة ، لاجتماع الواوين في أول الكلمة ، ومثلها : تولج ، وهو فوعل من ولج (٨) يلج ، كذا هو القياس في هذين الحرفين ، وأصله على قولنا : وولج ، وتوراة. وتولج عند البغداديين (٩) تفعل ، وحملهما على فوعل أوجه ، لكثرة فوعل

__________________

(١) المهموس : غير المجهور وهو ما يضعف الاعتماد على مخرجه وقت النطق به وعلامته أن يبقى النفس جاريا عند النطق به. والحروف المهموسة عشرة يجمعها قولك «حثه شخص فسكت».

(٢) تنأ : بالمكان : أقام به. القاموس المحيط (١ / ٩). مادة (تنأ).

(٣) فتر : ما بين طرف الإبهام وطرف السبابة. القاموس المحيط (٢ / ١٠٥) مادة (فتر).

(٤) الفخت : ضوء القمر. القاموس المحيط (١ / ١٥٣).

(٥) إبدالا صالحا : أي صحيحا يسير على قواعد القياس.

(٦) ومن الخطأ وزن الكلمة لأنها عبرية.

(٧) الزند : العود الأعلى الذي تقدح به النار والأسفل الزندة. مادة (زند). القاموس (١ / ٢٩٥)

(٨) ولج : دخل. مادة (ولج). القاموس المحيط (١ / ٢١٠).

(٩) البغداديين : أصحاب مدرسة بغداد في النحو من النحاة.

١٥٥

في الكلام ، وقلة تفعل. ومن ذلك تخمة ، وأصلها وخمة (١) ، لأنها فعلة من الوخامة ، وتكأة ، لأنها فعلة من توكّأت ، وتكلان : فعلان من توكّلت ، وتيقور :

فيعول من الوقار.

ومن أبيات الكتاب :

فإن يكن أمسى البلى تيقوري (٢)

أي أمسى وقارى للبلى ، ومن أجل البلى. أصله : ويقور. وقالوا : رجل تكلة ، أي وكلة ، وهو فعلة من وكل يكل. وقالوا : أتلجه ، أي أولجه ، وضربه حتى أتكأه ، أي أوكأه ، وعلى هذا أبدلوا التاء من الواو في القسم ، وخصوا بها اسم الله تعالى ، لأنها فرع فرع ، فخصّ بها الأشهر ، وقد مضى ذلك في آل وأهل.

وقالوا : التّليد (٣) والتّلاد من ولد ، وتترى (٤) : فعلى من المواترة ، وأصلها وترى ، ومن العرب من ينونها ، يجعل ألفها للإلحاق ، بمنزلة ألف أرطى (٥) ومعزى ، ومنهم من لا يصرفه ، يجعل ألفها للتأنيث ، بمنزلة ألف سكرى وغضبى.

__________________

(١) وخمة : من وخم الطعام إذا ثقل فلم يستمرأ. القاموس المحيط (٤ / ١٨٢). مادة (وخم).

(٢) البيت من أرجوزة للعجاج ذكرها صاحب أشعار العرب (٢ / ٢٦ ـ ٣١) أولها :

جاري لا يستنكر عذيري

وقد أنشده سيبويه في الكتاب (٢ / ٣٥٦) وقال : وقد دخلت (التاء) على المفتوحة (أي الواو المفتوحة) ، كما دخلت الهمزة عليها (يريد أبدلت منها) ، وذلك قولهم : تيقور. وزعم الخليل أنها من الوقار ، كأنه حيث قال العجاج :

فإن يكن أمسي البلى تيقوري

أراد : فإن يكن أمسي اببلى وقاري. وهو فيعول. وقال الأعلم في شرح الشاهد : وهو فيعول من الوقار ، وأصله : ويقور ، فأبدلت التاء من الواو استثقالا لها ، وكراهية للابتداء بها ، لأنها من أثقل الحروف ، ولا يطرد بدلها في هذه الحال ، وصف كبره وضعفه عن التصرف فجعل ذلك كالوقار ، وإن لم يقصده ، والبلى : تقادم العهد.

(٣) القاموس المحيط (١ / ٢٧٧).

(٤) تترى : متواترة متتابعة.

(٥) أرطى : واحدها الأرطأة ، وهو شجر من شجر الدمل. مادة (رطا). اللسان (٣ / ١٦٦٦).

١٥٦

وهذه الألفاظ التي جمعتها وإن كانت كثيرة ، فإنه لا يجوز القياس عليها ، لقلتها بالإضافة إلى ما لم تقلب واوه تاء ، فلا تقول قياسا على تقية في وقيّة : تزير في وزير ، ولا تقول في وجيهة تجيهة ، ولا في أوعد أتعد ، قياسا على أتلج ، ولا في ولهى (١) تلهى ، قياسا على تترى.

فأمّا ما تقيس عليه لكثرته فافتعل وما تصرف منه ، إذا كانت فاؤه واوا ، فإن واوه تقلب تاء ، وتدغم في تاء افتعل التي بعدها ، وذلك نحو : اتّزن ، أصله : اوتزن ، فقلبت الواو تاء ، وأدغمت في تاء افتعل ، فصار اتّزن ، ومثله اتّعد واتّلج واتصف من الوصف.

قال الأعشى (٢) :

فإن تتّعدني أتّعدك بمثلها

وسوف أزيد الباقيات القوارصا (٣)

وقال طرفة (٤) :

فإن القوافي يتّلجن موالجا

تضايق عنها أن تولّجها الإبر (٥)

__________________

(١) ولهى : الوالهة وهي من اشتد حزنها حتى ذهب عقلها أو من حنت إلى طفلها.

(٢) الأعشى : هو أبو بصير ميمون الأعشى بن قيس بن جندل من أصحاب المعلقات.

(٣) تتعدني : توعدني وتتهددني. القاموس المحيط (١ / ٣٤٣). القوارصى : واحدها : القارصة وهي الكلمة التي تنغص وتؤلم. القاموس المحيط (٢ / ٣١٠). الشرح :يقول الشاعر : إن هددتني هددتك وأزيد على ذلك هجائي لك. والشاهد : «تتعدني» فقد أبدلت الواو تاء. إعراب الشاهد : تتعدني : فعل مضارع مجزوم ب (إن) وعلامة الجزم السكون ، والنون : للوقاية ، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت ، والياء : ضمير مبني في محل نصب مفعول به.

(٤) طرفة : هو عمرو بن العبد البكري : أقصر فحول الشعراء عمرا ، ومال إلى الشعر والوقوع به في أعراض الناس ، حتى هجا عمرو بن هند ملك العرب على الحيرة فتخلص منه عمرو بن هند وقتل طرفة عن عمر يناهز ٢٦ عاما.

(٥) يتلجن : يدخلن. موالجا : مداخلا. يقول : إن القوافي والأشعار تتلمس اللطيف من المعاني والغائر حتى لو كانت تلك المعاني طرفا ومداخلا لما دخلتها الإبر من لطفها وضيقها. الشاهد : «يتلجن» حيث أبدلت الواو تاء. ـ

١٥٧

وقال سحيم (١) :

وما دمية من دمى ميسنا

ن معجبة نظرا واتّصافا (٢)

أراد ميسان ، فزاد نونا.

والعلة في قلب هذا الواو في هذا الموضع تاء ، أنهم لو لم يقلبوها تاء ، لوجب أن يقلبوها إذا انكسر ما قبلها ياء ، فيقولوا : ايزن ، ايتعد ، ايتلج ، فإذا انضم ما قبلها ردت إلى الواو فقالوا : موتعد ، وموتزن ، وموتلج. وإذا انفتح ما قبلها قلبت ألفا ، فقالوا : ياتعد ، وياتزن ، وياتلج ، فلما كانوا لو لم يقلبوها تاء صائرين من قلبها مرة ياء ، ومرة ألفا ، ومرة واوا ، إلى ما أريناه ، أرادوا أن يقلبوها حرفا جلدا (٣) ، تتغير أحوال ما قبله وهو باق بحاله ، وكانت التاء قريبة المخرج من الواو ، لأنها من أصول الثّنايا (٤) ، والواو من الشفة ، فأبدلوها تاء ، وأدغموها في لفظ ما بعدها ، وهو التاء ، فقالوا : اتّعد واتّزن (٥) ، وقد فعلوا هذا أيضا في الياء ، وأجروها

__________________

إعرابه : فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة ، والنون ضمير مبني في محل رفع فاعل ، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر إنّ.

(١) سحيم : عبد بني الحسحاس ، وهو حلو الشعر رقيق الحواشي ، وكان عبدا أسود ، أعجمي ذو لكنة ، روي أنه أنشد أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ :

عميرة ودّع إن تجهزت غاديا

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

فقال له : لو قلت شعرك مثل هذا لأعطيتك عليه.

(٢) ميسنان : هي ميسان اسم كورة واسعة كثيرة القرى تقع بين البصرة وواسط وزاد فيها سحيم نونا للضرورة. والشاهد في قوله «اتصافا» فقد قلبت الواو تاء. إعراب الشاهد : اتصافا : معطوف منصوب بالتبعية وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.

(٣) حرفا جلدا : أي يحتمل الحركة.

(٤) الثنايا : أربعة أسنان في مقدمة الفم ، اثنتان في الفك الأعلى واثنتان في الفك الأسفل ، والواحدة «ثنية». مادة (ثنى). اللسان (١ / ٥١٦).

(٥) في هامش أحد النسخ الخطية ، ولعله من كلام ابن هشام : «قال بعضهم التحقيق في «اتعد» أن الواو قلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، كما في ميزان : ثم قلبت الياء تاء كما في اتسر ، ثم أدغم ، قلت : وعلى هذا يتجه أن يقال : فهلا اختص ببعض ما يتصرف فيه ذو الواو ، كما في استنوا. ـ

١٥٨

مجرى الواو ، فقالوا في افتعل من اليبس واليسر : اتّبس واتّسر ، وذلك لأنهم كرهوا انقلابها واوا متى انضم ما قبلها في نحو موتبس ، وألفا في ياتبس ، فأجروها مجرى الواو فقالوا : اتّبس واتّسر ، ومن العرب من لا يبدلهما تاء. ويجرى عليهما من القلب ما تنكبه (١) الآخرون ، فيقول : ايتعد ، وايتزن ، وايتبس ، ويوتعد ، وياتعد ، ويوتزن ، وياتزن ، وياتبس ، وموتعد ، وموتبس.

وسمع الكسائي (٢) : الطريق ياتسق وياتسع ، أي يتّسق ويتسع. واللغة الأولى أكثر وأقيس ، وهي لغة أهل الحجاز ، وبها نزل القرآن.

فهذا إبدال التاء من الواو والياء فاءين.

وقد أبدلت منهما لامين. قالوا : أخت ، وبنت ، وهنت ، وكلتا ، أصل هذا كلّه أخوة ، وبنوة ، وهنوة ، وكلوا ، فنقلوا أخوة وبنوة ووزنهما فعل ، إلى فعل وفعل ، وألحقوهما بالتاء المبدلة من لامها ، بوزن قفل وحلس (٣) ، فقالوا : أخت وبنت ، وليست التاء فيهما بعلامة تأنيث ، كما يظن من لا خبرة له بهذا الشأن ، لسكون ما قبلها.

__________________

ويجاب عنه بما أجيب به عن دولج وهنية ، فإن «اوتعد» لم تستعمل البتة ، وأبو الفتح جعل الواو قلبت تاء ، من أول الأمر ، لما ذكر من خوف تنقلها ، لكن في كلامه نظر ، فإنه إذا انفتح ما قبلها في نحو يوتعد ، فإنه لا وجه لقلبها ألفا. فقوله : إن ذلك يقتضي قلبها ألفا ، مشكل. وكذا في ييتسر ، لا مقتضى لقلب الياء ألفا ، ألا ترى أن الذي يكره نقل حرف العلة ، قال : يوتعد ويوتزن. فإن قلت : وقال أيضا : ياتعد وياتزن ، كما حكى أبو الفتح الأمرين معا. قلت : ذاك قلب خارج عن القياس ، قصد به التخفيف ، وهو في مقام بيان أن هذا البدل كان يلزم عدم الإبدال تاء وليس كذلك».

(١) تنكبه : عدلوا عنه. مادة (نكب). اللسان (٦ / ٤٥٣٤).

(٢) الكسائي : نحوي ولغوي عربي كوفي من أرباب الكوفيين ، سمع عن العرب الفصحاء وروى عنهم.

(٣) الحلس : كل ما ولي ظهر الدابة والقتب والسرج ، وما يبسط في البيت من حصير ونحوه تحت كريم المتاع ، ويقال : هو حلس بيته أي لا يبرحه وهو من أحلاس الخيل : ملازم لظهورها ، وأم حلس : كنية الأتان ، (ج) أحلاس وحلوس. مادة (حلس). اللسان (٢ / ٩٦١).

١٥٩

هكذا مذهب سيبويه ، وهو الصحيح ، وقد نصّ عليه في باب ما لا ينصرف ، فقال : لو سمّيت بهما رجلا لصرفتهما معرفة ، ولو كانت للتأنيث لما انصرف الاسم.

على أنّ سيبويه قد تسمّح في بعض ألفاظه في الكتاب ، فقال : هما علامتا تأنيث (١) ، وإنما ذلك تجوّز منه في اللفظ ، لأنه أرسله غفلا (٢) ، وقد قيّده وعلّله في باب ما لا ينصرف (٣).

والأخذ بقوله المعلّل أولى من الأخذ بقوله الغفل المرسل.

ووجه تجوّزه أنه لما كانت التاء لا تبدل من الواو فيهما إلا مع المؤنث ، صارتا كأنهما علامتا تأنيث.

فإن قيل : فما علامة التأنيث في أخت وبنت؟

فالجواب أن الصيغة فيهما علم تأنيثهما ، وأعني بالصيغة فيهما بناءهما على فعل وفعل ، وأصلهما فعل ، وإبدال الواو فيهما لاما (٤) ، لأن هذا عمل اختصّ به المؤنث.

يدل أيضا على ذلك إقامتهم إياه مقام العلامة الصريحة ، وتعاقبهما على الكلمة الواحدة ، وذلك نحو : ابنة وبنت ، فالصيغة في بنت قامت مقام الهاء في ابنة ، فكما أن الهاء علم تأنيث لا محالة ، فكذلك صيغة بنت علم تأنيثها ، وليس بنت من ابن كصعبة من صعب ، إنما نظير صعبة من صعب ابنة من ابن.

__________________

(١) قال سيبويه في باب النسب من الكتاب (٢ / ٨٢): «وأما بنت فإنك تقول : بنوي ، من قبل أن هذه التاء التي للتأنيث لا تثبت في الإضافة ، كما لا تثبت في الجمع بالتاء» ، وهذا ما يشير إليه المؤلف.

(٢) أرسله غفلا : قاله سهوا دون نظر وتمحيص بل جاء في أثناء الكلام.

(٣) قال سيبويه في الكتاب (٢ / ١٣): «وإن سميت رجلا ببنت أو أخت صرفته لأنك بنيت الاسم على هذه التاء ، وألحقتها ببناء الثلاثة ، كما ألحقوا سنبتة بالأربعة ، ولو كانت كالهاء لما أسكنوا الحرف الذي قبلها ، فإنما هذه التاء فيها كتاء عفريت ، ولو كانت كألف التأنيث لم ينصرف في النكرة وليست كالهاء لما ذكرت لك ، وإنما هذه زيادة في الاسم ، بني عليها ، وانصرف في المعرفة.

(٤) لاما : حال ، وليست مفعول للمصدر «إبدال» ، والمعنى أنهم أبدلوا واو أخت وبنت إذ أصلهما أخوة وبنوة تاء في حين أنها في موقع اللام في الوزن.

١٦٠