سرّ صناعة الإعراب - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٣٢٨
الجزء ١ الجزء ٢

فإنّ أبا عليّ حكاه على الشيخ أبي بكر (١) رضي الله عنه ، وهو نهاية في معناه ، ولو لا أن في الحرف إذا زيد ضربا من التوكيد ، لما جازت زيادته البتة. كما أنه لو لا قوة العلم بمكانه ، لما جاز حذفه البتة ، فإنما جاز فيه الحذف والزيادة من حيث أريتك ، على ما به من ضعف القياس. وإذا كان الأمر كذلك ، فقد علمنا من هذا أننا متى رأيناهم قد زادوا الحرف فقد أرادوا غاية التوكيد ، كما أنا إذا رأيناهم قد حذفوا حرفا ، فقد أرادوا غاية الاختصار ، ولو لا ذلك الذي أجمعوا عليه واعتزموه ، لما استجازوا زيادة ما الغرض فيه الإيجاز ، ولا حذف ما وضعه على نهاية الاختصار ، فقد استغنى عن حذفه بقوة اختصاره.

واعلم أن الفاء قد يجاب بها سبعة أشياء (٢) : وهي الأمر ، والنهي ، والاستفهام ، والنفي ، والدعاء ، والتمني ، والعرض.

فالأمر نحو قولك : قم فأقوم. قال الشاعر :

يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا (٣)

والنهي نحو قولك : لا تشتمه فيشتمك ، قال الله عز وجل : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه : ٦١](٤).

__________________

(١) الشيخ الفاضل أبي بكر : وهو أبو بكر محمد بن السري السراج ، أصغر تلاميذ المبرد. وكان أبو علي الفارسي يأخذ عنه ، توفي سنة ثلاث مئة وست عشرة.

(٢) الأصح أنهم ثمانية وفوق السبعة المذكورين «الترجي» ذكر ذلك ابن مالك والرضي وأبو حيان.

(٣) الناق : الناقة بحذف تاء التأنيث للضرورة. عنقا : ضرب من السير منبسط. وسليمان هو : سليمان بن عبد الملك. وقائل هذه الأبيات هو أبو النجم الراجز في مدح سليمان بن عبد الملك. الشاهد في قوله : «فنستريحا». إعراب الشاهد : الفاء للجواب. نستريح : فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا.

(٤) يسحتكم : يستأصلكم. مادة (س ح ت) اللسان (٣ / ١٩٤٩). موضع الشاهد : «فيسحتكم». إعراب الشاهد : الفاء للجواب. يسحت : مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا ، والفاعل مستتر وجوبا تقديره هو يعود على لفظ الجلالة. كم : ضمير مبني في محل نصب مفعول به.

٢٨١

والاستفهام نحو قولك : أين بيتك فأزورك. قال :

هل من سبيل إلى خمر فأشربها

أم هل سبيل إلى نصر بن حجّاج (١)

والنفي نحو قولك : ما أنت بصاحبي فأكرمك ، قال زياد بن منقذ :

وما أصاحب من قوم فأذكرهم

إلا يزيدهم حبّا إليّ هم (٢)

والدعاء نحو قولك : اللهم ارزقني بعيرا فأحجّ عليه.

والتمني نحو : ليت لي مالا فأنفقه.

والعرض نحو : ألا تنزل فنتحدّث.

واعلم أن الفعل بعد هذه الفاء إذا كانت جوابا ، منتصب بأن مضمرة (٣) ، وإنما أضمرت أن ههنا ، ونصب بها الفعل ، من قبل أنهم تخيّلوا في أول الكلام معنى المصدر ، فإذا قال : زرني فأزورك ، فكأنه قد قال : لتكن منك زيارة ، فزيارة مني.

__________________

(١) البيت لامرأة هويت نصر بن حجاج السلمي من أهل المدينة ، وكان أحسن أهل زمانه صورة ، فضنيت من أجله ودنفت من الوجد به ، ثم لهجت بذكره. قيل هي : الفريعة بنت همام أم الحجاج بن يوسف الثقفي ، وتلقب المتمنية لذلك. وقيل : امرأة أخرى من أهل المدينة ، تعرف بالذلفاء. وقيل : إن البيت مصنوع. موضع الشاهد قوله : «فأشربها». إعراب الشاهد : الفاء للجواب. أشرب : فعل مضارع منصوب ، والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنا ، والهاء ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به.

(٢) البيت من القصيدة التي مطلعها ، وروايته كما في الحماسة (٣ / ١٨٢) :

لم ألق بعدهم حيّا فأخبرهم

إلا يزيدهم حبا إليّ هم

يروى قوله فأخبرهم بالرفع ، على أنه منقطع عما قبله ، والتقدير : فأنا أخبرهم. ويروى بالنصب على تقدير «أن» وجعل الفاء سببية في جواب النفي كما شرحه المؤلف. ورواية المؤلف فأذكرهم في مكان فأخبرهم ، ويجوز فيها الوجهان الرفع والنصب على ما تقدم. الشاهد في قوله «فأذكرهم». إعرابه : الفاء للجواب. أذكر : مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا ، والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنا ، وهم :ضمير مبني في محل نصب مفعول به.

(٣) مضمرة : غائبة من أضمرت الشيء إذا غيبته. مادة (ضمر). اللسان (٤ / ٢٦٠٧).

٢٨٢

فلما كان الأول في تقدير المصدر ، والمصدر اسم ، لم يسغ (١) عطف الفعل بعده عليه ، لأن الفعل لا يعطف على الاسم ، فإذا أضمرت أن قبل الفعل ، صارا معا في تقدير المصدر ، والمصدر اسم ، فلذلك جاز عطف اسم على اسم.

فإن قيل : ولم قدّر في أول الكلام مصدر ، حتى اضطرّوا إلى إضمار «أن» ، ثم عطفوا المصدر المنعقد للمعنى بأن والفعل جميعا ، على المصدر الذي قبله؟

فالجواب : أنهم إنما فعلوا ذلك لمخالفة الفعل الثاني للفعل الأول في المعنى ، وذلك أنك إذا قلت : ما تزورني فتحدّثني ، فلم ترد أن تنفيهما جميعا ، ولو أردت ذلك ، لرفعت الفعلين جميعا ، ولكنك تريد : ما تزورني محدّثا ، أي قد تزورني ولكنك إذا زرتني لم تحدثني ، فأنت الآن قد أثبتّ الزيارة ، ونفيت الحديث ، فلما اختلف الفعلان ، ولم يجز العطف على ظاهر الفعل الأوّل ، لاختلاف المعنيين ؛ اضطروا إلى العدول عن ظاهر لفظ الفعل الأوّل ، وأضمروا مصدره ، وكان ذلك مستقيما سائغا ، لدلالة الفعل الأوّل على مصدره ، فلما تخيلوا في الفعل الأول معنى المصدر ، عطفوا الثاني عليه ، فاضطروا إلى إضمار «أن» لما ذكرت لك.

ويجوز لك أيضا إذا قلت : ما تزورني فتحدثني ، فنصبت الثاني ، أن يكون المعنى غير معنى : ما تزورني إلا لم تحدثني.

وذلك أنه يجوز أن يكون المعنى : ما تزورني ، فكيف تحدثني؟ فهذا أيضا معنى ما تزورني محدّثا ، لأنّ معناه : لو زرتني لحدثتني ، فأنت الآن ناف للزيارة ، ومعلم أن الزيارة لو كانت لكان الحديث عنها. فهذا أيضا معنى غير معنى رفع «فتحدّثني».

فهذا مجيء الفعل بعد الفعل.

وأما مجيئه بعد غير الفعل فهو أسهل في اعتقاد المصدر في أول الكلام ، لأنه ليس هناك فعل يجوز عطف هذا الفعل المتأخر عليه ، وذلك قولك : أين بيتك فأزورك؟

ألا ترى أنّ أين بيتك ، ليس بفعل ، فيعطف عليه أزورك ، فهذا أظهر أمرا ، فحمل هذا أيضا على المعنى ، لأن معناه : ليكن تعريف منك ، فزيارة مني ، لأن معنى أين بيتك؟ عرّفني بيتك ، فجاز تقدير التعريف لذلك.

__________________

(١) يسغ : يجز. تقول : ساغ له ما فعل أي جاز له ذلك. اللسان (٣ / ٢١٥٢).

٢٨٣

ويدلّك على أن الفعل إذا تقدّمه اسم ولم يسغ عطفه عليه ، اضطّر معه إلى إضمار «أن» ليفيدا معا معنى المصدر ، فيعطف المصدر الذي هو اسم ، على الاسم الذي قبله ، قول ميسون بنت بجدل الكلبية :

للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (١)

فكأنها قالت : لأن ألبس عباءة ، وأن تقرّ عيني ، أحبّ إليّ من كذا.

ونظير (٢) ذلك قول الآخر ، وهو من أبيات الكتاب أيضا :

فلو لا رجال من رزام أعزّة

وآل سبيع أو أسوءك علقما (٣)

أراد : وأن أسوءك. فكأنه قال في البيت الأوّل : للبس عباءة وقرّة عيني : أحبّ من كذا.

وفي الآخر : ولو لا رجال وآل سبيع أو مساءتي إياك ، لكان كذا ، فالقرّة : اسم بمنزلة اللّبس ، والمساءة : اسم بمنزلة آل سبيع.

__________________

(١) البيت ينسب لميسون بنت بجدل الكلبية زوج معاوية بن أبي سفيان وأم يزيد ابنه وهي بدوية من كلب التي تسكن بادية الشام ، ضاقت نفسها لما تسرى عليها معاوية ، فعذلها على ذلك ، وقال لها : أنت في ملك عظيم وما تدرين قدره ، وكنت قبل اليوم في العباءة ، فقالت أبياتا منها هذا البيت ، وهو من شواهد الكتاب لسيبويه (١ / ٤٢٦). الشاهد فيه : نصب «تقر» بإضمار أن ليعطف على اللبس ، لأنه اسم ، وتقر : فعل ، فلم يمكن عطفه عليه ، فحمل على إضمار أن ، لأن أن وما بعدها اسم ، فعطف اسما على اسم ، وجعل الخبر عنهما واحدا ، وهو أحب.

(٢) نظير : مثيل. مادة (نظر).

(٣) رزام : ابن مالك بن حنظلة بن مالك بن عمرو : أبو حي من تميم. سبيع : هو ابن عمرو بن فتية. علقما : مرخم علقمة. يقول : لو لا هؤلاء الرجال المذكورين لفعلت به كذا وكذا. الشاهد في قوله : «أو أسوءك علقما». إعراب الشاهد : أو : عاطفة. أسوء : فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد أو ، والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنا ، والكاف : ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به.

٢٨٤

واعلم أنك إذا أجبت هذه السبعة الأشياء (١) بالفاء ، فإن الكلام الذي هو مجاب ، والكلام الذي هو جواب جميعا ينعقدان انعقاد الجملة الواحدة ، وليستا بجملتين ، وذلك أنك إذا قلت : ما أنت بصاحبي فأكرمك ، فكأنك قلت ، ليست بيننا صحبة مقتضية إكراما ، فمقتضية جزء متصل بالجملة ، على حدّ اتصال الصفة بالموصوف من الجملة المقدّمة ، وكذلك قوله :

يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا (٢)

في معنى سيري سيرا مؤدّيا إلى الاستراحة ، فمؤد متصل بما قبله ، وليس منفصلا منه. وكذلك قولك : لا تشتمه فيشتمك ، معناه : لا يكن منك شتيمة له داعية إلى شتمه إياك. وعلى هذا جميع هذه المسائل.

وأنت لو قلت : ما تزورني فتحدثني ، فرفعت تحدثني ، لم يكن الكلام كله جملة واحدة ، بل هو جملتان ، أي : ما تزورني ، فهذه واحدة ، وما تحدثني ، فهذه أخرى. فاعرف حال هذا الفاء وما بعدها.

وقول البغداديين : إننا ننصب الجواب على الصّرف ، كلام فيه إجمال ، بعضه صحيح ، وبعضه فاسد. أما الصحيح فقولهم : الصّرف : أي ينصرف بالفعل الثاني عن معنى الأول ، وهذا هو معنى قولنا : إن الثاني يخالف الأول. فأما انتصابه بالصرف فخطأ ، ولا بدّ له من ناصب مقتض له ، لأن المعاني لا تنصب الأفعال ، وإنما ترفعها المعاني ، والمعنى الذي يرفع الفعل هو وقوع الفعل موقع الاسم ، وجاز في الأفعال أن يرفعها المعنى ، كما جاز في الأسماء أن يرفعها المعنى ، أعني الابتداء ، لمضارعة الاسم للفعل ، فكما أن المضارعة في الفعل بمنزلة التمكن في الاسم ، في إيجابها جنس الإعراب لهما ، فكذلك وقوع الفعل موقع الاسم يوجب له الرفع ، كما أن ابتداء الاسم يوجب له الرفع ، وكما أن الأسماء لا تنتصب إلا بناصب لفظي ، فكذلك الأفعال لا تنتصب إلا بناصب لفظيّ.

__________________

(١) هذه الأشياء هي : «الأمر ، والنهي ، والتمني ، والاستفهام ، والنفي ، والدعاء ، والعرض» مضافا إليها الأمر الثامن وهو «الترجي».

(٢) سبق شرح هذا البيت.

٢٨٥

فأما من ادّعى انتصاب شيء من الكلام بالمعنى دون اللفظ ، فقد وجب عليه من إقامة الدلالة على ذلك مثل الذي وجب علينا فأقمناه ، من الدلالة على ارتفاع (١) الاسم المبتدأ والفعل المضارع ، بالمعنى.

فإن قيل : فإذا كان تقدير قولنا : ما أنت بصاحبي فأكرمك عندك : ما أنت بصاحبي فأن أكرمك ، فهل يجوز أن تظهر «أن» هذه المقدرة عندك إلى اللفظ ، فتقول : ما أنت بصاحبي فأن أكرمك؟

فالجواب أن هذا أصل وإن قامت الدلالة عليه فإنه مرفوض ، كما أن أصل قام : قوم ، ولكنه لا ينطق به على أصله.

وهاهنا أشياء كثيرة ترفض أصولها ، ويقتصر في الاستعمال على فروعها. وقد حذفت الفاء. قالوا : أف ، خفيفة الفاء ، وأصلها أفّ ، مشددة.

* * *

__________________

(١) ارتفاع : أي رفع.

٢٨٦

باب القاف

القاف : حرف مجهور ، يكون أصلا لا بدلا ولا زائدا.

فإذا كان أصلا وقع فاء ، وعينا ، ولاما. فالفاء نحو : قرن وقعد ، والعين نحو : سقف وثقل ، واللام نحو : خرق وعلق.

وأخبرني أبو عليّ ، قراءة عليه ، عن أبي بكر ، عن بعض أصحاب يعقوب ، عنه ، قال : قال الفراء : قريش تقول : كشطت (١) ، وقيس وتميم تقول : قشطت ، بالقاف. وليست القاف في هذا بدلا من الكاف ، لأنهما لغتان لأقوام مختلفين.

فأما ما حكاه الأصمعي من قولهم : امتكّ الفصيل ما في ضرع أمه وامتقّ ، وتمقّق وتمكّك : إذا شربه كلّه. فالأظهر فيه أن تكون القاف بدلا من الكاف ، لما ذهب إليه أبو عليّ ، لأنه قال : من هذا أخذ اسم مكّة ، لأنها كالمجرى للماء ، فهو ينجذب إليها. قال : فأما موضع الطواف ، فهو بكّة ، بالباء ، لأنه من الازدحام.

وقرأت عليه ، عن أبي الحسن عليّ بن سليمان ، عن أبي العباس ، عن أبي الفضل الرّياشي ، في نوادر أبي زيد :

تبكّ الحوض علّاها ونهلى

ودون زيادها عطن منيم (٢)

فقول الجميع مكة ولم يقولوا : مقّة ، يقوّي أن الكاف هو الأصل. فأما قولهم : مققت الشيء : إذا فتحته ، فليس من امتقّ في شيء ، فيحكم بأنه من معناه. وكذلك قولهم للرجل الطويل : أمقّ ، لا نسبة بينه وبين امتقّ في المعنى.

__________________

(١) كشطت : يقال كشط الشيء عن الشيء أي أزاله عنه ، وكشطت أي ذهب ما تغطيه وتواريه.

(٢) البيت ذكره صاحب اللسان ونسبه إلى عاهان بن كعب بن عمرو بن سعد ، ويقال له أيضا : غامان في الأصل. تبك : أي تزدحم. علاها : علّ علا ، عللا : أي شرب ثانية أو تباعا. نهلى : أي ورودي لكي أشرب الشربة الأولى ، أو الشرب الأول. عطن : العطن واسع الصبر والحيلة عند الشدائد. مادة (ع ط ن) اللسان (٤ / ٣٠٠٠). الشاهد في قوله : تبك. إعرابها : فعل مضارع مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.

٢٨٧
٢٨٨

باب الكاف

الكاف حرف مهموس ، يكون أصلا لا بدلا ولا زائدا.

فإذا كان أصلا وقع فاء وعينا ولاما ، فالفاء نحو : كعب وكعم (١) ، والعين نحو : شكر وشكر ، واللام نحو : محك (٢) وضحك. وأخبرني أبو علي قراءة عليه ، عن أبي بكر ، عن بعض أصحاب يعقوب عنه ، قال : قال أبو عمرو : يقال أعرابيّ كحّ وأعرابية كحّة ، تريد قحّ وقحّة. قال : وقال الأصمعي القحّ (٣) : الخالص من اللّؤم والكرم. فينبغي أن تكون الكاف في كحّ بدلا من قاف قحّ ، لأن أبا زيد حكى في جمعه أقحاح ، ولم نسمعهم قالوا أكحاح ، فيجري هذا مجرى ما قلناه في جدث (٤) وجدف. وأما قولهم : كشطت وقشطت ، فقد تقدم من القول فيه ما يدلّ على أنهما لغتان.

وأخبرني أبو علي عن أبي بكر عن أبي جعفر بن رستم الطبري قال : مرّ رجل برجلين وقد نحرا ناقة وهما يكشطانها ، فسأل رجلا من ناحية ، فقال : ما جلاء الكاشطين؟ أي ما اسماهما؟ فقال : خابئة مصادع (٥) ، ورأس بلا شعر ، فأتاهما فقال : يا كنانة ويا صليع أطعماني. وقال أبو علي : أعرفه «خابية المصابع ، وهصّار الأقران (٦)» ، فقال : يا كنانة ويا أسد أطعماني.

__________________

(١) كعم : أي وضع في فمه الكعامة ، وهي ما يجعل على فم الحيوان لئلا يعض أو يأكل.

(٢) محك : محك محكا : أي لج في المنازعة أو المساومة. مادة (م ح ك) اللسان (٦ / ٤١٤٧)

(٣) القح : ما خلا من الشوائب الغريبة فهو قح ، وكذا الخالص في اللؤم أو الكرم ، يقال رجل قح للجافي كأنه خالص فيه وعربي قح أي محض خالص. مادة (ق ح ح) اللسان (٥ / ٣٥٣٥).

(٤) جدث : الجدث بفتحتين القبر (ج) أجدث ، أجداث. مادة (ج د ث) اللسان (١ / ٥٥٩).

(٥) خابية المصادع : الخابية : الوعاء الذي يحفظ فيه الماء ونحوه (ج) خوابي. اللسان (٢ / ١٠٩٨) المصادع : (م) المصدع : وهو المشقص من السهام. مادة (ص د ع) اللسان (٤ / ٢٤١٥). وجملة خابية المصادع كناية عن الجعبة الصغيرة من الجلد والتي تصنع للسهام والنبال.

(٦) هصّار الأقران : هصّار : هصر : أي أخذ برأسه فأماله إليه ، أو كسره. اللسان (٦ / ٤٦٦٩). الأقران : (م) قرين وهو الصاحب. قوله هصّار صيغة مبالغة على وزن فعال. والجملة (هصار الأقران) كناية عن شدته وقوته في ميدان القتال.

٢٨٩

وقد تقدم من قولنا في الحروف التي تبدل في بعض المواضع وهي غير مذكورة في حروف البدل الأحد عشر ، وإنما لم تحتسب هناك من حيث كان البدل فيها قليلا غير مطّرد ، ما فيه مقنع إن شاء الله.

وأنشدنا أبو علي :

يا بن الزّبير طالما عصيكا

وطالما عنّيتنا إليكا

لنضربن بسيفنا قفيكا (١)

أبدل الكاف من التاء ، لأنها أختها في الهمس. وكان سحيم إذا أنشد شعرا جيدا قال : أحسنك والله ، يريد : أحسنت.

وأما قول كثيّر (٢) :

ومقربة دهم وكمت كأنها

طماطم يوفون الوفار هنادك (٣)

فقال محمد بن حبيب : أراد بالهنادك : رجال الهند ، وظاهر هذا القول منه يقتضي أن تكون الكاف زائدة. قال : ويقال : رجل هنديّ وهندكيّ. ولو قيل إن الكاف أصل ، وإنّ هنديّ وهندكيّ أصلان ، بمنزلة سبط وسبطر ، لكان قولا قويّا ، وهو الصّواب.

__________________

(١) الأبيات ذكرها صاحب اللسان منسوبة إلى امرئ القيس.

(٢) كثير : هو كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الخزاعي ، من قبيلة خزاعة وهي حي من الأزد ، وكنيته أبو صخر ، وقد هام بعزة حبا حتى نسب إليها ونسب إليه فيقال : كثير عزة ، ويقال : عزة كثير.

(٣) البيت في ديوان كثير (٢ / ١٣٨) ، والبيت نسبه صاحب اللسان إلى كثير عزة. الشاهد فيه قوله هنادك : حيث أن الكاف زائدة ويبدو أنه يقصد بالهنادك رجال الهند. إعراب الشاهد : ك : حرف متصل مبني زائد في محل جر بالإضافة. مقربة : كناية عن الخيل ، والخيل المقربة هي الخيل المكرمة. دهم : (م) أدهم. ودهم دهمة أي اسود فهي دهماء وهو أدهم. مادة (د ه م) كمت : (م) الكميت ، وهو الخيل الذي لونه بين الأسود والأحمر ، والكمت : أي الحمر. الوفار : (م) الوفرة ، وهي الكثرة ، أو الشعر المجتمع على الرأس ، أو ما جاوز شحمة الأذن.

٢٩٠

واعلم أن الكاف المفردة تستعمل في الكلام على ضربين : جارة وغير جارة ، والجارة أيضا على ضربين : أحدهما حرف ، والآخر اسم.

فأما الحرف فما لم يقع مواقع الأسماء ، وذلك نحو قولك : مررت بالذي كزيد ، والكاف هنا حرف لا محالة ، لأنك لو قلت مررت بالذي مثل زيد ، أو مررت بالذي مثل جعفر ، لكان خلفا (١) وقبيحا من الكلام ، حتى تظهر الضمير المبتدأ المحذوف ، فتقول : مررت بالذي هو مثل زيد ، ومررت بالذي هو مثل جعفر ، فإجماعهم على استحسان مررت بالذي كزيد ، دلالة على أن الكاف حرف جرّ ، وأنه بمنزلة قولك : مررت بالذي في الدار ، وضربت الذي من الكرام ، وجاءني الغلام الذي لمحمد.

وهذا استدلال سيبويه ، وهو الصواب الذي لا معدل عنه.

وأما الكاف التي في تأويل الاسم ، فالتي تقع مواقع الأسماء.

وذلك نحو قول الشاعر :

وصاليات ككما يؤثفين (٢)

فالأولى حرف ، والثانية اسم ، لدخول حرف الجرّ عليها. فأما قول الآخر :

فلا والله لا يلفى لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء (٣)

فليست اللام الثانية باسم ، وإن كانت قد دخلت عليها اللام الأولى ، لأنه لم يثبت في موضع غير هذا أن اللام اسم ، كما ثبت أن الكاف اسم ، وإذا كان ذلك كذلك ، فإحدى اللامين زائدة مؤكدة ، وينبغي أن تكون الزائدة هي الثانية دون الأولى ، لأن حكم الزائد ألا يبتدأ به.

__________________

(١) خلفا : الخلف بإسكان اللام الرديء من القول. مادة (خ ل ف). اللسان (٢ / ١٢٣٦).

(٢) يؤثفين : أي جعل لها أثافي. والأثافي (م) أثفية ، والأثفية هي أحد أحجار ثلاثة يوضع عليها القدر. سبق تخريجها.

(٣) ذكر البيت صاحب خزانة الأدب ونسبه لمسلم بن معبد (١ / ٣٦٤ ـ ٣٦٦). الشاهد فيه معاملة اللام الثانية معاملة الحرف مثل اللام الأولى. يلفي : لفى ـ ألفاه أي وجده وصادفه. مادة (ل ف ا) اللسان (٥ / ٤٠٥٦). دواء : ما يتداوى به ويعالج (ج) أدوية. مادة (د وا) اللسان (٢ / ١٤٦٥).

٢٩١

وكذلك قول الأعشى :

هل تنتهون ولن ينهى ذوي شطط

كالطّعن يذهب فيه الزيت والفتل (١)

فالكاف هنا موضع اسم مرفوع ، فكأنه قال : ولن ينهى ذوي شطط مثل الطعن ، فيرفعه بفعله.

فإن قال قائل : فهل يجوز أن تكون الكاف في هذا البيت حرف جرّ ، وتكون صفة قامت مقام الموصوف ، وتقدير الموصوف على قولنا : ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن ، فيكون الفاعل شيء المحذوف ، وتكون الكاف حرف جرّ صفة لشيء الفاعل ، لأن شيئا نكرة ، والنّكرات قد توصف بحروف الجرّ ، نحو قولك : جاءني رجل من أهل البصرة ، وكلمت غلاما لمحمد ، ويكون حذف الموصوف هنا جائزا ، كما جاز في قول مر تأوّل الآية على إقامة الصفة مقام الموصوف ، وهي قوله : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) [الإنسان : ١٤] قالوا : أراد : وجزاهم بما صبروا جنّة وحريرا ، وجنّة دانية عليهم ظلالها ، فحذف جنّة ، وأقام دانية مقامها.

__________________

(١) ينسب البيت إلى الأعشى أبو بصير ، وهو ميمون بن قيس بن جندل ، من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية. وأحد أصحاب المعلقات وكان يغني بشعره فسمي صناجة العرب. البيت من قصيدة يتغزل فيها بمحبوبته هريرة ، ومطلعها :

ودع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل

تنتهون : تنتهون عن الشيء أي تكفون عنه. مادة (ن ه ى). اللسان (٦ / ٤٥٦٤). شطط : شط ـ شططا : أي أمعن وجاوز الحد ، واشتط في الحكم أي جار. اللسان (٤ / ٢٢٦٣) الطعن : طعن طعنا : وخذه برمح ونحوه. مادة (ط ع ن) اللسان (٤ / ٢٢٧٦). الفتل : (م) فتلة ، وهي قطعة من خيط القطن أو الحرير ونحوهما. اللسان (٥ / ٣٣٤٤). يقول الأعشى : إن الإنسان الذي يظلم لا ينتهي عن الظلم إلا إذا طعن طعنا تذهب فيه الفتل. الشاهد في قوله (كالطعن) حيث إن حرف التشبيه الكاف يعامل معاملة اسم التشبيه (مثل) ذلك أن أداة التشبيه تكون اسم أو فعل أو حرف ، فالاسم مثل (مثل) والحرف مثل الكاف ، والفعل مثل يشابه أو يشبه ونحوهما. إعراب الشاهد : كالطعن : الكاف : اسم مبني في محل رفع فاعل وهو مضاف. الطعن : مضاف إليه مجرور بالإضافة.

٢٩٢

وكقول الآخر :

كأنّك من جمال بني أقيش

يقعقع خلف رجليه بشنّ (١)

أي جمل من جمال بني أقيش ، وغير ذلك مما يطول ذكره.

فالجواب أنّ حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه على كل حال قبيح ، وهو في بعض الأماكن أقبح منه في بعض ، فأما قوله عز وجل : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) فالوجه فيها أن تكون منصوبة على الحال ، معطوفة على قوله «متّكئين فيها» فهذا هو القول الذي لا ضرورة فيه.

وأما قوله : «كأنك من جمال بني أقيش» فإنما جاز ذلك في ضرورة الشعر ، ولو جاز لنا أن نجد (من) في بعض المواضع قد جعلت اسما ، لجعلناها هاهنا اسما ، ولم نحمل الكلام هنا على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه.

__________________

(١) البيت نسبه صاحب اللسان إلى النابغة (٣ / ١٦٥٥). والنابغة الذبياني هو زياد بن معاوية ويعد من فحول الشعراء في الجاهلية ونبغ في قول الشعر في مرحلة متقدمة من عمره ، ويكنى بأبي أمامة. والبيت من قصيدة قالها يدافع بها عن بني أسد ، ومطلعها :

غشيت منازلا بعريتنات

بأعلى الجزع في الحيّ المبن

وقوله : كأنك : أسلوب تشبيه يقوم على إضافة أداة التشبيه إلى المشبه ، وهو تشبيه استعاري غرضه التصوير والتوضيح. بني أقيش : قوم من العرب. يقعقع : يحدث صوتا عند التحريك. ويقال : لا يقعقع له بالشنان أي لا يخدع ولا يروع. بشن : الشن : القربة الخلق الصغيرة يكون الماء فيها أبرد من غيره (ج) شنان. يقول النابغة : كأنك أحد جمال بني أقيش التي يضرب بها المثل في النفور والوحشية ، وكانوا يعلقون خلفها قربة صغيرة فإذا تحركت الناقة اصطدمت تلك القربة بقدميها فتسرع في المشي. الشاهد فيه قوله (من جمال بني أقيش) حيث إنها صفة سدت مسد الموصوف المحذوف المقدر وتقديره كأنك جمل من جمال بني أقيش. إعراب الشاهد :كأنك : كأن : أداة تشبيه ونصب تدخل على الجملة الاسمية فتنصب المبتدأ وترفع الخبر. الكاف : ضمير متصل مبني في محل نصب اسم كأن ، وخبرها محذوف تقديره جمل. من جمال : جار ومجرور في محل رفع نعت.

٢٩٣

فأما قوله : «ولن ينهى ذوي شطط كالطّعن» فلو حملته على إقامة الصفة مقام الموصوف ، لكان أقبح من تأوّل (١) قوله عز اسمه (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) على حذف الموصوف ، لأن الكاف في بيت الأعشى هي الفاعلة في المعنى ، و «دانية» في هذا القول إنما هي مفعول به ، والمفعول قد يكون غير اسم صريح ، نحو : ظننت زيدا يقوم ، وحسبت محمدا يفعل ، والفاعل لا يكون إلا اسما صريحا محضا ، وهم على إمحاضه اسما أشدّ محافظة من جميع الأسماء ، ألا ترى أن المبتدأ قد يقع غير اسم محض ، وهو قولهم «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» ، فتسمع ، كما ترى فعل ، وتقديره : أن تسمع ، فحذفهم «أن» ورفعهم تسمع ، يدل على أن المبتدأ قد يمكن أن يكون عندهم غير اسم صريح. وإذا جاز هذا في المبتدأ على قوة شبهه بالفاعل ، فهو في المفعول الذي يبعد عنهما أجوز ، فمن أجل ذلك ارتفع الفعل في قول طرفة (٢) :

ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى (٣)

__________________

(١) تأول : تأول الكلام أي فسره. مادة (أول) اللسان (١ / ١٧٢).

(٢) طرفة : هو طرفة بن العبد ، أحد أصحاب المعلقات ، وأحد فحول الشعراء الجاهليين.

(٣) شطر البيت لطرفة بن العبد ساقه في معلقته الشهيرة والتي تبدأ بقوله :

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

البيت تكملته كالآتي :

ألا بهذا اللائمي أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

حيث جاء اللائمي مكان الزاجري. اللائمي : لام ـ يلوم ـ لوما أي عذله ، فهو لائم ولوام. مادة (ل وم) اللسان (٥ / ١٠٠٤). الزاجري : زجر ـ يزجر. أي كفه ، وزجر فلانا : أي منعه ونهاه. الوغى : أصله صوت الأبطال في الحرب ثم جعل اسما للحرب لما فيها من الصوت والجلبة. اللذات : (م) لذة وهي إحدى الظواهر الوجدانية الأساسية. تتميز بالإحساس بالراحة ، وتقابل الألم وهي ضربان : حسية ومعنوية. مخلدي : الخلود : البقاء. خلد : خلدا وخلودا أي دام وبقي. اللسان (٢ / ١٢٢٥). يقول طرفة : ألا أيها الإنسان الذي يلومني على حضوري الحرب وحضور اللذات هل تخلدني إن كففت عنها ، والاستفهام غرضه التوبيخ. الشاهد فيه : نصب أحضر بأن ، وهذا أكده الكوفيون ، أما البصريون فأنكروا أن تعمل أن المحذوفة.

٢٩٤

عند كثير من الناس ، لأنه أراد : أن أحضر ، وأجاز سيبويه في قوله «مره يحفرها» أن يكون الرفع على قوله «مره أن يحفرها» ، فلما حذفت أن ارتفع الفعل بعدها ، وقد حملهم كثرة حذف (أن) مع غير الفاعل ، على أن استجازوا ذلك مع اسم ما لم يسمّ فاعله ، وإن كان جاريا مجرى الفاعل ، وقائما مقامه.

وذلك قول جميل :

جزعت حذار البين يوم تحمّلوا

وحقّ لمثلي يا بثينة يجزع (١)

أراد : أن يجزع ، على أن هذا قليل.

فإن قلت : ألست تعلم أن خبر كان يجري مجرى الفاعل ، وقد قالوا : كأنك من جمال بني أقيش ، وأرادوا : جمل من جمال بني أقيش ، فحذف الموصوف وهو خبر كأن ، فهلا أجزت حذف الفاعل وإقامة الصفة مقامه في قول الأعشى : «ولن ينهى ذوي شطط كالطّعن» ، وقلت إنه أراد : شيء كالطعن ، حملا على بيت النابغة؟

فالجواب أن بينهما فرقا من وجهين :

أحدهما : أن خبر كأنّ وإن شبّه بالفاعل في ارتفاعه ، فليس في الحقيقة فاعلا ، ولا في مذهب الفاعل ، أولا تراك تقول : كأن زيدا يصلّي ، وكأن أخاك يقفو أثرك ، فجعلهم خبرها فعلا يدلّك على أنه لا تبلغ قوة الفاعل في الاسمية ، لأن الفاعل لا يكون إلا اسما محضا.

__________________

(١) البيت لجميل بن معمر من قبيلة عذرة وهي قبيلة اشتهرت بالحب العذري ، وكنيته أبو عمر ، وقد وقع في هوى بثينة وارتبط اسمه بها حتى قيل جميل بثينة وقال فيها من الشعر الكثير. جزعت : جزع جزعا : أي لم يصبر على ما نزل به ، فهو جازع وجزوع وجزع. البين : الفرقة ، والكلمة من الأضداد فتكون أحيانا بمعنى الوصل. اللسان (١ / ٤٠٣). بثينة : تصغير بثنة وهي الأرض السهلة اللينة ، والمرأة الجميلة البضة. اللسان (١ / ٢٠٩). ويقول جميل : إنني يا بثينة فقدت الصبر والتحمل على فراقك ومثلي لما به من حب وجوى حق له ألا يصبر على ألم الفراق ، والأسلوب خبري تقريري. الشاهد فيه أن الفعل (يجزع) يقرأ بالنصب عند الكوفيين وناصبه أن المحذوفة والتقدير (أن يجزع) ، وعلى ذلك يكون إعراب الشاهد : يجزع : فعل مضارع منصوب بأن المحذوفة وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره لأنه مضارع صحيح الآخر.

٢٩٥

والآخر : أن بيت النابغة : «كأنّك من جمال بني أقيش» اضطررنا فيه إلى إقامة الصفة مقام الموصوف ، وبيت الأعشى لم نضطرّ فيه إلى ذلك ، لأنه قد قامت الدّلالة المبيّنة عندنا على استعمالهم الكاف اسما في نحو قول الآخر :

وزعت بكالهراوة أعوجيّ

إذا ونت الرّكاب جرى وثابا (١)

فدخول حرف الجرّ عليها يؤكّد كونها اسما ، وكذلك قول الآخر :

قليل غرار النّوم حتى تقلّصوا

على كالقطا الجونيّ أفزعه الزّجر (٢)

__________________

(١) البيت ذكر في اللسان بغير نسبة (٣ / ١٩٦٥) ، ولم نعثر على قائله فيما بين أيدينا من كتب. وزعت : وزع : وزعا : أي كفه ومنعه وزجره ونهاه. مادة (وز ع) اللسان (٦ / ٤٨٢٥). الهراوة : العصا الضخمة (ج) هراوي. مادة (ه ر ا) اللسان (٦ / ٤٦٥٨). أعوجي : الأعوج : فرس سابق ركب صغيرا فاعوجت قوائمه. اللسان (٤ / ٣١٥٥) وقال عنه العرب : أن أعوج من أفضل أنواع الخيل كان في كندة ثم أخذته بنو سليم ثم بنو هلال ونت : وني : ونيا : وناء : أي فتر وضعف. مادة (ن وى) اللسان (٦ / ٤٩٢٨). الركاب : الإبل المركوبة أو التي يراد الحمل عليها (ج) ركب وركائب. اللسان (٣ / ١٧١٣) وثابا : وثب ، يثب وثبا ، أي قفز. مادة (وث ب) اللسان (٦ / ٤٧٦٢). الشاعر يقول : أنه رد الأعداء وزاد عن قومه عندما فترت وضعفت باقي الخيل بفرس أصيل قوي ضامر ضخم كالهراوة قادر على الكر والفر والنزال والقتال. الشاهد فيه قول (بكالهراوة) حيث إن الكاف اسم وليست حرف وهي بمعنى مثل. إعراب الشاهد : (بالكالهراوة) : الباء حرف جر مبني على الكسر لا محل له من الإعراب يدخل على الاسم فيعمل فيه الجر. الكاف : اسم مجرور بحرف الجر الباء وعلامة الجر الكسرة ، وهو : مضاف. الهراوة : مضاف إليه مجرور بالإضافة.

(٢) نسب المخصص البيت للأخطل (١٤ : ٤٩). غرار النوم : القليل من النوم وغيره ، ويقال : ما ذقت النوم إلا غرارا. اللسان (٥ / ٣٢٣٥). تقلصوا : تقلص الشيء إذا تدانى وانضم ، والمقصود أنهم شمروا ثيابهم واستعدوا. القطا : (م) القطاة وهو نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء ويتخذ أفحوصه في الأرض ويطير جماعات ويقطع مسافات شاسعة ويبيضه مرقط. مادة (ق ط ا) اللسان (٥ / ٣٦٨٤). الجوني : جان : جونا وجونة أي اسود ، والجون الأسود (ج) جون. اللسان (١ / ٧٣٢). أفزعه : أي أخافه وروعه. مادة (ف ز ع) اللسان (٥ / ٣٤٠٩). ـ

٢٩٦

وقال ذو الرمة :

أبيت على ميّ كئيبا وبعلها

على كالنّقا من عالج يتبطّح (١)

وكذلك قول الآخر :

على كالخنيف السّحق يدعو به الصّدى

له قلب عفّى الحياض أجون (٢)

__________________

الزجر : الكف والنهر ، ويقال زجر فلانا أي كفه ومنعه ونهاه وانتهره. يقول الأخطل : إن نومي قليل ولذا فأنا أنتبه لأعدائي كذلك النوع من القطا والذي يسمى بالجوني لاسوداد لونه ـ عندما يفزعه الزجر مع أقل حركة. الشاهد قوله : كالقطا ، حيث إن الكاف اسم وليست حرف وهي هنا بمعنى مثل أي (مثل القطا)

(١) قائل البيت ذو الرمة وهو غيلان بن عقبة وكنيته أبو الحارث ولم يكن له من الوسامة نصيب ، وكان كثير الغزل يتشبب بالنساء ومنهن خرقاء رومية ، وقد نسب له البيت في خزانة الأدب وهو في ديوانه كالآتي :

أبيت على مثل الأشافي وبعلها

يبيت على مثل النقا يتبطح

مي : اسم محبوبته. كئيبا : كئب كآبة : أي تغيرت نفسه وانكسرت من شدة الهم والحزن فهو كئيب. بعلها : البعل : السيد أو الزوج (ج) بعال وبعول وبعولة. اللسان (١ / ٣١٦). النقا : الكثيب من الرمل (ج) أنقاء. اللسان (٦ / ٤٥٣٣) يتبطح : أي انبطح. يقول ذو الرمة : إنني أبيت حزينا مهموما على محبوبتي مي التي تزوجت غيري. الشاهد فيه قوله (كالنقا) حيث إن الكاف : هنا بمعنى مثل وهي اسم وليست حرفا.

(٢) ذكر هذا البيت صاحب اللسان في مادة (خ ن ف). الخنيف : من الثياب بوزن العنيف أبيض غليظ يتخذ من كتان ، وفي الحديث «تخرقت عنا الخنف» ، (ج) خنف. مادة (خ ن ف). اللسان (٢ / ١٢٨٠). السحق : البالي ، ويقال ثوب سحق : أي ثوب بالي. مادة (س ح ق). اللسان (٣ / ١٩٥٦) الصدى : رجع الصوت يرده الجبل ونحوه (ج) أصداء. اللسان (٤ / ٢٤٢١). قلب : (م) قليب ، وهو البئر قبل أن تطوى ، أو قبل أن تبنى بالحجارة ونحوها وهو يذكر ويؤنث فتقول هذه قليب وهذا قليب. ويقال : هي البئر العادية القديمة. مادة (ق ل ب) عفى : (م) عاف أي دارس وبالي ، أو ذهب أثره فمحى ودرس. وجمعه بهذه الصيغة جمع يندر التعامل به. مادة (ع ف ا) اللسان (٤ / ٣٠١٨). ـ

٢٩٧

فهذا ونحوه يشهد بكون الكاف اسما ، وبيت الأعشى أيضا يشهد بما قلنا ، فلسنا ننزل عن الظاهر ، ونخالف الشائع المطّرد ، إلى ضرورة واستقباح ، إلا بأمر يدعو إلى ذلك ، ولا ضرورة هنا ، فنحن على ما يجب من لزوم الظاهر ، ومخالفنا معتقد لما لا قياس يعضده ، ولا سماع يؤيده.

ووجه ثالث ، وهو أن خبر كأنّ هو خبر المبتدأ في الأصل ، وخبر المبتدأ لا يلزم إمحاضه اسما.

فإن قال قائل : فما بال الفاعل خالف المبتدأ في وجوب كونه اسما محضا ، وجواز كون المبتدأ غير اسم محض ، وكلاهما محدّث عنه ، ومسند إليه؟

فالجواب : أن الفرق بينهما ظاهر لمتأمله ، وذلك أن الجمل إنما تتركب من جزأين جزأين : إما اسم واسم ، وهو نحو المبتدأ وخبره ، وإما فعل واسم ، نحو الفعل والفاعل ، وما أقيم من المفعولين مقام الفاعل ، ولا بد في كل واحدة من هاتين الجملتين إذا عقدت من اسم يسند إليه غيره ، فأنت إذا أزلت عن المبتدأ أن يكون اسما محضا ، فقد بقّيت الجزء الذي هو اسم ، وذلك نحو قولهم «تسمع بالمعيديّ خير» (١) فالمبتدأ الذي هو في اللفظ تسمع ، قد أخبرت عنه باسم ، وذلك الاسم خبر ، فقد بقّيت على كل حال في الجملة اسما ، ولو ذهبت تحذف الفاعل ، وتقيم مقامه غير اسم ، لبقّيت الجملة معقودة بلا اسم ، وهذا لفظ يناقض (٢) ما عقدت عليه الجمل في أول تركيبها ، ولذلك رفض ذلك ، فلم يوجد في الكلام.

فأمّا بيت جمل : «وحقّ لمثلي يا بثينة يجزع» فقليل شاذّ ، على أن حذف «أن» في الكلام قد كثر ، حتى صار كلا حذف ، ألا ترى أن أصحابنا استقبحوا (٣)

__________________

الحياض : (م) الحوض وقد يجمع على أحواض وحياض وحيضان ، والحوض مجتمع الماء. أجون : (م) الآجن وهو الماء المتغير اللون والطعم ، وأجن الماء من باب ضرب. والشاهد فيه قوله : (كالخنيف) فإن الكاف اسم بمعنى مثل وليست حرفا.

(١) تسمع بالمعيدي خير : هو مثل يضرب وتمامه : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. ذكره صاحب اللسان (٣ / ٢٠٣٨).

(٢) يناقض : يخالف ويعارض. مادة (ن ق ض) اللسان (٦ / ٢٥٢٤).

(٣) استقبحوا : عدوه قبيحا ، والقبح ضد الحسن ويكون في القول والفعل والصورة.

٢٩٨

نصب «غير» من قوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر : ٦٤](١) ، بأعبد. قالوا : لأن التقدير والمعنى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) ، فكأنّ «أن» هناك ، وما بعد «أن» لا يجوز أن يعمل فيما قبلها ، لامتناع تقديم الصلة أو شيء منها على الموصول ، أولا تراهم كيف تخيلوا أن التقدير : قل أتأمرونّي أن أعبد غير الله. ولو لا أنهم قد أنسوا بحذف «أن» من الكلام ، وإرادتها ، لما استقبحوا انتصاب «غير» بأعبد ، فهذا شرح الفاعل والمبتدأ وما لم يسمّ فاعله.

فأما خبر المبتدأ ، فلا يلزم أن يكون اسما محضا ، لأن الجمل تقع هناك وقوعا حسنا مطّردا ، وهذا في خبر «كان» أحسن منه في خبر «إنّ» ، لأنك قد استوفيت بكان واسمها لفظ الفعل والفاعل ، ولم تستوف بإنّ واسمها إلا لفظ الفعل والمفعول ، لأن اسم كان مشبّه بالفاعل ، واسم إن مشبّه بالمفعول ، إلا أنه جاز في خبر «إنّ» أن يكون جملة ، وغير اسم محض ، من حيث كان خبر المبتدأ في المعنى ، فكما جاز أن يكون خبر المبتدأ غير اسم محض وجملة ، جاز أيضا في خبر إن ، إلا أنه في خبر إنّ ليس في حسن خبر المبتدأ ، لأنّ المبتدأ اسم مرفوع ، فقد حصل معك شبه الفاعل ، واسم إن وأخواتها منصوب ، فإذا جعلت الخبر غير اسم محض ، فقد أخليت العقدة من اسم مرفوع.

فأما اسم كان فجعلك إياه غير اسم محض ، أقبح من فعلك ذلك بخبر إنّ ، وذلك أنّ اسم كان مشبّه بالفاعل من خبر إنّ ، ألا ترى أنه يباشر كان مباشرة الفاعل لفعله ، ويضمر في الفعل كإضمار الفاعل ، وذلك نحو : كنت أخاك ، كقولهم : ضربت أخاك ، وخبر إنّ لا يباشر إنّ ولا يضمر فيها ، فلم يقو في شبه الفاعل قوة اسم كان في ذلك.

__________________

(١) أخرج البيهقي في الدلائل عن الحسن البصري قال : قال المشركون للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أتضلل آباءك وأجدادك يا محمد؟ فأنزل الله تعالى الآية(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي ...) إلى قوله تعالى (مِنَ الشَّاكِرِينَ) ، والاستفهام غرضه التوبيخ والتحقير من شأن ما يدعونه إلى عبادته من دون الله. الشاهد فيه : نصب (أعبد) بأن المحذوفة والتقدير (أن أعبد). إعراب الشاهد : أعبد : فعل مضارع منصوب بأن المحذوفة وعلامة نصبه الفتحة.

٢٩٩

فقد صحّ بما قدمنا أن كاف الجرّ قد تكون مرة اسما ومرة حرفا ، فإذا رأيتها في موضع تصلح فيه لأن تكون اسما ولأن تكون حرفا ، فجوّز فيها الأمرين ، وذلك نحو قولك زيد كعمرو ، فقد تصلح أن تكون الكاف هنا اسما ، كقولك زيد مثل عمرو ، ويجوز أن تكون حرفا ، كقولك زيد من الكرام ، فكما أن من حرف جرّ وقع خبرا عن المبتدأ ، فكذلك الكاف تصلح أن تكون حرف جرّ ، فإذا قلت : أنت كزيد ، وجعلت الكاف اسما ، فلا ضمير فيها ، كما أنك إذا قلت : أنت مثل زيد ، فلا ضمير في مثل ، كما لا ضمير في الأخ ولا الابن إذا قلت : أنت أخو زيد ، وأنت ابن زيد.

هذا قول أصحابنا ، وإن كان قد أجاز بعض البغداديين أن يكون في هذا النحو الذي هو غير مشتق من الفعل ضمير ، كما يكون في المشتق ، فإذا جعلت الكاف في قولك : أنت كزيد حرفا ، ففيها ضمير ، كما تتضمن حروف الجرّ الضمير إذا نابت عن الأفعال في قولك : زيد من الكرام ، ومحمد على الفرس.

واعلم أنه كما جاز أن تجعل هذه الكاف فاعلة في بيت الأعشى وغيره ، فكذلك يجوز أن تجعل مبتدأة ، فتقول على هذا : كزيد جاءني ، وأنت تريد : مثل زيد جاءني ، وكبكر غلام لمحمد ، فإن أدخلت «إنّ» على هذا قلت : إنّ كبكر غلام لمحمد ، فرفعت الغلام ، لأنه خبر إنّ ، والكاف في موضع نصب ، لأنها اسم إنّ ، وتقول إذا جعلت الكاف حرفا وخبرا مقدّما : إن كبكر أخاك. تريد : إن أخاك كبكر ، كما تقول : إن من الكرام زيدا.

واعلم أنّ أقيس الوجهين إذا قلت : أنت كزيد ، أن تكون الكاف حرفا جارا ، بمنزلة الباء واللام ، لأنها مبنية مثلهما ، ولأنها أيضا على حرف واحد ، ولا أصل لها في الثلاثة ، فهي بالحرف أشبه ، ولأن استعمالها حرفا أكثر من استعمالها اسما.

واعلم أن هذه الكاف التي هي حرف جارّ ، كما كانت غير زائدة فيما قدّمنا ذكره فقد تكون زائدة مؤكّدة ، بمنزلة الباء في خبر ليس ، وما ، ومن ، وغير ذلك من حروف الجرّ ، وذلك نحو قوله عز وجل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١](١) ،

__________________

(١) أي أن الله عز وجل لا يشبهه شيء من خلقه ، فهو متفرد بذاته وصفاته وأفعاله. الشاهد فيه قوله عز وجل : (كَمِثْلِهِ) حيث إن الكاف الجارة زائدة للتوكيد.

٣٠٠