سرّ صناعة الإعراب - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٣٢٨
الجزء ١ الجزء ٢

يريد «بين تعنّقه» ، إلا أنّ هذه الألف وإن كانت إشباعا للفتحة ، فإنها في هذا الموضع زيادة لازمة.

وأنشدنا أبو عليّ لابن هرمة (١) يرثي ابنه :

وأنت من الغوائل حين ترمى

ومن ذمّ الرجال بمنتزاح (٢)

أراد : بمنتزح ، فأشبع فتحة الزاي.

وأنشدني أيضا :

الله يعلم أنّا في تلفّتنا

يوم الفراق إلى أحبابنا صور (٣)

وأنني حوثما يشري الهوى بصرى

من حيثما سلكوا أثني فأنظور (٤)

يريد : أنظر ، فأشبع ضمّة الظاء ، فنشأت عنها واو.

__________________

(١) ابن هرمة : هو إبراهيم بن علي بن محمد بن سالم بن عامر بن هرمة ، شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية ، وهو آخر من يستشهد اللغويون بكلامه.

(٢) قائل البيت : هو إبراهيم بن علي بن محمد بن سلمة بن عامر بن هرمة ، والبيت في رثائه لابنه على ما ذكر في اللسان موافقا لابن جني هنا ، وقد أورده الصاغاني في العباب ، وذكر أنه في مدح بعض القرشيين ، وكان قاضيا لجعفر بن سليمان بن علي وروايته هكذا :

وأنت من الغوائل حيث تنمي

ومن ذم الرجال بمنتزاح

الغوائل : جمع غائلة ، وهي الفساد والشر. وتنمي : تكثر. ومنتزاح : أي بعد ، يقال : أنت بمنتزح من كذا ، أي ببعد منه. أشبعت فتحة الزاي في منتزح فتولدت الألف. وأسلوب البيت خبري تقريري والغرض منه تأكيد الفكرة.

(٣) صور : جمع أصور وهو المائل العنق من الشوق من صور يصور صورا إذا مال نحوه بعنقه ، يريد أنهم كانوا يوم الفراق دائمي التلفت نحو أحبابهم. اللسان (٤ / ٢٥٢٣). أسلوب البيت خبري تقريري الغرض منه الاسترحام والعتاب على هذا الحبيب المفارق الذي لا يبالي بفراق الأحبة.

(٤) يشري : كذا في لسان العرب مادة (شرى) (٤ / ٢٢٥٤). يقال : أشراه ناحية كذا : أماله مأخوذ من الشرى وهي الناحية ، وقيل : معناه يعلق الهوى بصري ويحركه تجاه الأحبة. حوثما : حيث : ظرف مكان ، لغة في حيث ، وما : زائدة. والشاهد في قوله : (فانظور) حيث أشبع ضمة الظاء فنشأ عنها واو.

٤١

وقد أجرت العرب أيضا الحرف مجرى الحركة ، في نحو قولهم : لم يخش ، ولم يسع ، ولم يرم ، ولم يغز ، فحذفوا هذه الحروف للجزم ، كما تحذف له الحركات في نحو لم يقم ولم يقعد.

وكذلك أيضا أجروا الحركة مجرى الحرف ، فأجازوا صرف هند : اسم امرأة معرفة ، فإذا تحرّك الأوسط منعوه الصرف معرفة البتّة ، وذلك نحو : قدم ، فصارت الحركة في منع الصرف بمنزلة الياء في زينب والألف في عناق ونحوهما في منع الصرف ، ولهذا نظائر (١) سنذكرها في مكانها إن شاء الله تعالى.

أفلا ترى إلى هذه الحروف كيف تتبع الحركات التي قبلها وهي أبعاض لها. فقد صحّ ما قدّمناه.

وإنما سمّيت هذه الأصوات النّاقصة حركات ، لأنها تقلق الحرف الذي تقترن به ، وتجتذبه نحو الحروف التي هي أبعاضها ، فالفتحة تجتذب الحرف نحو الألف ، والكسرة تجتذبه نحو الياء ، والضمة تجتذبه نحو الواو ، ولا يبلغ الناطق بها مدى الحروف التي هي أبعاضها ، فإن بلغ بها مداها ، تكمّلت له الحركات حروفا ، أعني ألفا وياء وواوا.

واعلم أن الحروف في الحركة والسكون على ضربين (٢) : ساكن ، ومتحرك.

فالساكن : ما أمكن تحميله الحركات الثلاث نحو كاف بكر ، وميم عمرو ، ألا تراك تقول : بكر وعمرو ، وبكر وعمرو ، وبكر وعمرو ، فلما جاز أن تحمّله الحركات الثلاث ، علمت أنه قد كان قبلها ساكنا.

والمتحرّك : هو الذي لا يمكن تحميله أكثر من حركتين ، لأن الحركة التي هي فيه قد استغني بكونها فيه عن اجتلابها له ، وذلك نحو ميم عمر ، يمكن أن تحملّها الكسرة والضمة ، فتقول : عمر ، وعمر ، ولا يمكنك أن تجتلب لها فتحة ، لأنها قد كانت في أوّل اعتبارك إيّاها مفتوحة ، والحرف الواحد لا يتحمّل حركتين ، لا متّفقتين ولا مختلفتين ، وإذا كانت الحركات ثلاثا : فتحة ، وكسرة ، وضمة.

__________________

(١) نظائر : أشباه ، ونظير الشيء أي : مثله ، مادة (ن. ظ. ر). اللسان (٦ / ٤٤٦٧).

(٢) ضربين : صنفين ، والضرب : الصنف. مادة (ض. ر. ب). اللسان (٤ / ٢٥٦٥).

٤٢

فالمتحرّك إذن على ثلاثة أضرب : مفتوح ، ومكسور ، ومضموم.

فالمفتوح : هو الذي إذا أشبعت حركته حدثت عنها ألف ، نحو ضاد ضرب ، لك أن تشبع الفتحة ، فتقول : ضارب.

والمكسور : هو الذي إذا أشبعت حركته حدثت عنها ياء نحو ضاد ضراب ، لك أن تشبع الكسرة فتقول ضيراب.

والمضموم : هو الذي إذا أشبعت حركته حدثت عنها واو ، نحو ضاد ضرب ، لك أن تشبع الضمّة ، فتقول : ضورب ، إلا أنّ هذه الأحرف اللائي يحدثن لإشباع الحركات ، لا يكنّ إلا سواكن ، لأنّهنّ مدّات ، والمدّات لا يتحرّكن أبدا.

واعلم أن الحركة التي يتحمّلها الحرف لا تخلو أن تكون في المرتبة ، قبله ، أو معه ، أو بعده.

فمحال أن تكون الحركة في المرتبة قبل الحرف ، وذلك أن الحرف كالمحلّ للحركة ، وهي كالعرض فيه ، فهي لذلك محتاجة إليه ، ولا يجوز وجودها قبل وجوده ، وأيضا لو كانت الحركة قبل الحرف لما جاز الإدغام في الكلام أصلا ، ألا ترى أنّك تقول قطّع ، فتدغم الطاء الأولى في الثانية ، ولو كانت حركة الطاء الثانية في الرّتبة قبلها ، لكانت حاجزة بين الطاء الأولى ، وبين الطاء الثانية ، [ولو كان الأمر كذلك لما جاز إدغام الأولى في الثانية](١) ، لأن الحركة ، على هذه المقدمة ، مرتبتها أن تكون قبل الطاء الثانية ، بينها وبين الأولى ، وإذا حجز بين الحرفين حركة بطل الإدغام ، فجواز الإدغام في الكلام ، دلالة على أنّ الحركة ليست قبل الحرف المتحرّك بها.

فقد بطل بما ذكرناه أن تكون حركة الحرف في الرتبة قبله ، وبقي أن تكون معه أو بعده ، وفي الفرق بينهما بعض الإشكال.

فالذي يدلّ على أن حركة الحرف في المرتبة بعده ، أنك تجدها فاصلة بين المثلين أو المتقاربين ، إذا كان الأوّل منهما متحركا.

__________________

(١) ما بين المعقوفين ساقط ، وهو ضروري.

٤٣

فالمثلان نحو قولك : قصص ومضض وطلل (١) وسرر وحضض (٢) ومرر (٣) وقدد (٤) ، فلو لا أن حركة الحرف الأول في هذين المثلين بعده ، لما فصلت بينه وبين الذي هو مثله بعده ، ولو لم تفصل لوجب الإدغام ، لأنه لا حاجز بين المثلين ، فإن ظهر هذان المثلان ولم يدّغم الأول منهما في الآخر منهما ، فظهورهما دلالة على فصل واقع بينهما ، وليس هاهنا فصل البتّة غير الحركة المتأخرة عن الحرف الأول.

فإن قيل : فما تنكر أن يكون الفاصل بين المثلين في نحو طلل وسرر إنما هو حركة الحرف الآخر ، دون ما ذهبت إليه من حركة الحرف الأول.

قيل : قد تقدم من القول ما فيه دلالة على أن الحركة لا يجوز أن تكون قبل الحرف ، ويدلّ على فساد قول من قال إن الحاجز بين المثلين في نحو جدد وعدد ، إنما هو حركة الثاني ، أنه لو فصل هنا بالحركة ، لوجب الفصل بها في نحو شدّ ومدّ ، مع حركة الثاني منهما ، دلالة على أن الحركة في الحرف الثاني لم تفصل بينه وبين الأوّل ، ولو كانت في الرّتبة قبله لوجب الفصل بها بينهما. وأيضا فإنك تقول : شددت وحللت ، فتظهر ، لأن الثاني من المثلين ساكن.

فهذا أمر ـ كما تراه ـ واضح في المثلين.

وأما المتقاربان فنحو قولك في وتد إذا سكنت التاء لإرادة الإدغام ودّ ، فكانت الحركة في التاء قبل إسكانها فاصلة بينها وبين الدال ، فوجب لذلك الإظهار فلما سلبت التاء كسرتها ، وزالت التاء أن تكون حاجزة بينهما بعدها ، وسكّنت التاء ، واجتمع المتقاربان ، أبدلت التاء دالا ، وأدغمتها في الدال بعدها ، كما تقول في انعت داود :

انعدّاود ، فظهور التاء في وتد ما دامت مكسورة ، وإدغامها إذا سكنت ، دلالة على أن الحركة قد كانت بينهما ، وإذا كانت بينهما ، فهي بعد التاء لا محالة.

فهذه دلالة من القوة على ما ترى.

__________________

(١) طلل : ما شخص من آثار الدار ، (ج) أطلال. مادة (ط. ل. ل). اللسان (٤ / ٢٦٩٧)

(٢) حضض : دواء معروف. مادة (ح. ض. ض). اللسان (٢ / ٩١٠).

(٣) مرر : جمع مرة ، والمرة : إحكام القتل أو إحكام العقل أو شدته. اللسان (٦ / ٤١٧٧).

(٤) قدد : جمع قدة ، والقدة الطريقة والفرقة من الناس إذا كان هوى كل واحد على حدة. يقال : و (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً.) مادة (ق. د. د). اللسان (٥ / ٣٥٤٣).

٤٤

ودلالة أخرى تدلّ على أن حركة الحرف بعده ، وهي أنك إذا أشبعت الحركة تممتها حرف مدّ ، كما تقدم من قولنا في نحو ضرب وقتل ، إذا أشبعت حركة الضاد والقاف قلت ضارب وقاتل. وضرب وقتل إذا أشبعت قلت : ضورب وقوتل.

وكذلك ضراب وقتال ، إذا أشبعت قلت ضيراب وقيتال. فكما أن الألف والواو والياء بعد الضاد والقاف ، فكذلك الفتحة والضمة والكسرة في الرّتبة بعد الضاد والقاف ، لأن الحركة إذا كانت بعضا للحرف ، فالحرف كلّ لها ، وحكم البعض في هذا تابع لحكم الكلّ ، فكما أن الحروف التي نشأت عن إشباع الحركات بعد الحروف المتحركة بها ، فكذلك الحركات التي هي أبعاضها وأوائل لها وأجزاء منها ، في الرتبة بعد الحروف المتحركة ، وهذا واضح مفهوم لمتأمله.

فإن قلت : ما تنكر أن تكون الحركة تحدث مع الحرف المتحرّك البتّة ، ثم تأتي بقية حرف اللين التي هي مكلمة للحركة حرفا مستأنفة بعد الحركة التي حدثت مع الحرف البتّة ، كما قد نشاهد بيننا من الأشياء ما يصحبه بعض لغيره ، ثم يأتي تمام ذلك البعض فيما بعد ، فلا يلزم من هذا أن يكون ذلك البعض الذي شوهد أولا مصاحبا لغيره ، في حكم البقية التي جاءت من بعده ، بل يكون الجزء الأول مصاحبا لما وجد معه ، والجزء الثاني آتيا من بعده ، ونظير هذا : رجل له عشرون غلاما ، فقدم ومعه منهم عشرة ، ثم أو فى بعد استقراره بمن وافى في جملته من غلمانه بقيّتهم ، فليس تأخر من تأخر منهم بموجب تأخر من تقدم منهم. فما أنكرت مع ما مثّلنا أن تكون الحركة حادثة مع الحرف ، وتكون المدّة التي تحدث لإشباع الحركة مستقبلة فيما بعد.

فالجواب أن هذا التمثيل إنما يصح فيما أمكن تقطعه وتجزؤه ، لأنه قد يمكن أن يحضر بعض الغلمان مع مالكهم ، ويغيب بعض ، فأما ما اتصلت أجزاؤه وتتابعت وتوالت شيئا فشيئا ، ولم يمكن قطعها ، ثم العود إلى تمامها ، فقد جرى لذلك مجرى الجزء الواحد الذي لا يسوغ تجزّؤه. فمحال أن يكون له حكم إلا وهو مشتمل عليه (١) ، وذلك حكم حرف المدّ الذي يحدث عن تمكين (٢) الحركة ومطلها (٣)

__________________

(١) مشتمل عليه : أي يحتوي عليه ويصيبه نفس حكمه. اللسان (٤ / ٢٣٢٩).

(٢) تمكين : أي تمكن واستمكان. مادة (م. ك. ن). اللسان (٦ / ٤٢٥١).

(٣) مطلها : أي إطالتها. مادة (م. ط. ل) اللسان (٦ / ٤٢٢٥).

٤٥

واستطالتها ، هو من هذا الوجه في حكم الحركة ، والحركة في حكمه ، لأنه لا يمكن فصل الحركة منه ، والعود إلى استتمامه ، لأن هذه المدة المستطيلة إنما تسمى حرفا ليّنا ما دامت متصلة ، فمتى عقتها (١) عن الاستطالة بفصل ما فقد أخرجتها عن اللين والامتداد الذي في شرطها ، وإذا كانت الحركة لاتصالها بالحرف في حكمه ، كما أن الألف بعد الضاد في ضارب ، فكذلك الفتحة في الرتبة بعد الضاد.

وقول النحويين إنّ الحركة تحلّ الحرف مجاز ، لا حقيقة تحته ، وذلك أن الحرف عرض ، والحركة عرض أيضا. وقد قامت الدلالة من طريق صحة النظر على أن الأعراض لا تحلّ الأعراض ، ولكنه لما كان الحرف أقوى من الحركة ، وكان الحرف قد يوجد ولا حركة معه ، وكانت الحركة لا توجد إلا عند وجود الحرف ، صارت كأنها قد حلّته ، وصار هو كأنه قد تضمنها ، تجوّزا لا حقيقة.

واستدلّ أبو عليّ على أن الحركة تحدث مع الحرف ، بأنّ النون الساكنة إذا تحركت زالت عن الخياشيم إلى الفم ، وكذلك الألف إذا تحركت انقلبت همزة ، فدلّ ذلك عنده على أن الحركة تحدث مع الحرف ، وهو لعمري استدلال قويّ (٢).

قد فرغنا من ذكر مائية (٣) الأصوات والحروف والحركات ، وأين محل الحركات من الحروف. ونحن نتبع هذا القول ، على معنى قولهم ، حروف المعجم ، وعددها ، وأجناسها ، وأصنافها ، ثم نستأنف بعد ذلك القول على حرف حرف منها ، بحسب ما شرطنا على أنفسنا ، وجعلناه في ضمان كتابنا ، بإذن الله وقدرته.

__________________

(١) عقتها : أي حبستها. مادة (ع. وق). اللسان (٤ / ٣١٧٣).

(٢) في هامش ب ما نصه : «حاشية. في الأصل بخط ابن جني المصنف ـ رحمه الله ـ قد ذكرنا في كتابنا الموسوم بالخصائص ما يقدح في قول أبي علي رحمه الله هذا ، وأرينا أن الأثر قد يكون قبل وجود مؤثره ، أعني باب ... وعمبر وشمباء. تمت) وهي في متن ص مختصرة ومحرفة ، وأولها يشعر بتقدم تأليف كتاب الخصائص على سر الصناعة ، وقوله : فيما بعد» يشعر بأن كتاب الخصائص ألف بعد سر الصناعة ، وفي هذا تناقض ، ويزول التناقض إذا عرفنا أن ابن جني كان دائم التنقيح لمؤلفاته ، فيظهر أنه بعد إشارته للرد على أبي علي في هذا الكتاب ، بدا له أن يشبع القول فيه مبينا فساده ، فألحق أدلة ذلك بكتابه الخصائص (ص ٢٩ من النسخة المخطوطة بدار الكتب المصرية رقم ٥ نحو ش).

(٣) المائية : الماهية ، وهي حقيقة الشيء التي يسأل عنها بما ، أو بما هو؟.

٤٦

إن سأل سائل فقال : ما معنى قولنا حروف المعجم؟ هل المعجم صفة لحروف هذه أو غير وصف لها؟

فالجواب أن «المعجم» من قولنا حروف المعجم ، لا يجوز أن تكون صفة لحروف هذه من وجهين :

أحدهما : أن «حروفا» هذه لو كانت غير مضافة إلى المعجم ، لكانت نكرة ، والمعجم كما ترى معرفة ، ومحال وصف النكرة بالمعرفة.

والآخر : أن الحروف مضافة إلى المعجم ، ومحال أيضا إضافة الموصوف إلى صفة ، والعلة في امتناع ذلك أن الصفة هي الموصوف ، على قول النحويين ، في المعنى ، وإضافة الشيء إلى نفسه غير جائزة ، ألا ترى أنك إذا قلت : ضربت أخاك الظريف ، فالأخ هو الموصوف ، والظريف هو الصفة ، والأخ هو الظريف في المعنى ، وليس يريد النحويون بالصفة ما يريد المتكلمون بها ، من نحو القدرة ، والعلم ، والسكون ، والحركة ، لأن هذه الصفات غير الموصوفين بها ، ألا ترى أن السواد غير الأسود ، والعلم غير العالم ، والحركة غير المتحرّك ، وإنما الصفة عند النحويين هي النعت ، والنعت هو اسم الفاعل أو المفعول ، أو ما يرجع إليهما من طريق المعنى ، مما يوجد فيه معنى الفعل ، نحو ضارب ومضروب ، ومثل وشبه ونحو ، وما يجري مجرى ذلك ، وإذا كانت الصفة هي الموصوف عندنا في المعنى ، لم يجز إضافة الحرف إلى المعجم ، لأنه غير مستقيم إضافة الشيء إلى نفسه ، وإنما امتنع ذلك من قبل أن الغرض في الإضافة إنما هو التخصيص والتعريف ، والشيء لا تعرّفه نفسه ، لأنه لو كان معرفة بنفسه لما احتيج إلى إضافته ، وإنما يضاف إلى غيره ليعرّفه ، ألا ترى أنك تضيف المصدر إلى الفاعل تارة ، نحو عجبت من قيام زيد ، وإلى المفعول أخرى ، نحو عجبت من أكل الخبز ، وإنما جازت إضافة المصدر إليهما ، لأنه في المعنى غيرهما ، ونجيز أيضا إضافة الفاعل إلى المفعول ، نحو عجبت من ضارب زيد ، وهديا بالغ الكعبة ، وهذا عارض ممطرنا.

وإنما جاز ذلك لأن الفاعل غير المفعول ، ولا يجوز سررت بطالعة الشمس ، كما تقول سررت بطلوع الشمس ، لأن طلوعها غيرها ، فجازت إضافته إليها ، والطالعة هي الشمس ، ولا تضيفها إلى نفسها.

٤٧

فكذلك لو كان المعجم صفة لحروف لما جازت إضافتها إليه ، وأيضا فلو كان المعجم صفة لحروف ، لقلت المعجمة (١) ، كما تقول تعلمت الحروف المعجمة. فقد صحّ بما ذكرناه أن المعجم ليس وصفا لحروف.

والصواب في ذلك عندنا ما ذهب إليه أبو العباس محمد بن يزيد [المبرد] رحمه الله تعالى ، من أنّ المعجم مصدر ، بمنزلة الإعجام ، كما تقول أدخلته مدخلا ، وأخرجته مخرجا ، أي إدخالا وإخراجا.

وحكى أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش ، أن بعضهم قرأ : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج : ١٨](٢) بفتح الراء ، أي من إكرام ، فكأنهم قالوا : هذه حروف الإعجام. فهذا أسدّ وأصوب من أن يذهب إلى أنّ قولهم حروف المعجم بمنزلة قولهم صلاة الأولى ومسجد الجامع ، لأن معنى ذلك صلاة الساعة الأولى أو الفريضة الأولى ، ومسجد اليوم الجامع ، فالأولى غير الصلاة في المعنى ، والجامع غير المسجد في المعنى أيضا ، وإنما هما صفتان حذف موصوفاهما ، وأقيمتا مقامهما ، وليس كذلك حروف المعجم ، لأنه ليس معناه حروف الكلام المعجم ، ولا حروف اللفظ المعجم ، وإنما المعنى أن الحروف هي المعجمة ، فصار قولنا حروف المعجم ، من باب إضافة المفعول إلى المصدر ، كقولهم : هذه مطية ركوب ، أي من شأنها أن تركب ، وهذا سهم نضال (٣) ، أي من شأنه أن يناضل به ، وكذلك حروف المعجم ، أي من شأنها أن تعجم. فاعرف ذلك.

وقد اعترض فصلنا هذا أمر لا بد من شرحه وإبانته بالاشتقاق.

اعلم أنّ (ع ج م) إنما وقعت في كلام العرب للإبهام والإخفاء ، وضد البيان والإفصاح.

__________________

(١) يقصد أن تطلق المعجمة على الحروف كما أطلق لفظ المعجم على الكتاب الذي يجمع هذه الحروف في ترتيب وتنسيق شديدين.

(٢) (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) : إن الذي يذله الله ويهنه لا يمكن أن يكرمه أحد أو يرفع من مكانته. واستخدام أسلوب الشرط يؤكد المعنى عن طريق تخصيص العز والذل بيد الله عز وجل.

(٣) سهم نضال : سهم صائب غالب. مادة (ن. ض. ل). اللسان (٦ / ٤٤٥٦).

٤٨

من ذلك قولهم : رجل أعجم ، وامرأة عجماء : إذا كانا لا يفصحان ولا يبينان كلامهما. وكذلك العجم والعجم ، ومن ذلك قولهم : عجم الزّبيب (١) وغيره ، إنما سمي عجما لاستتاره وخفائه بما هو (٢) عجم له. ومن ذلك قوله عليه السلام : «جرح العجماء جبار» (٣) يراد به البهيمة (٤) لأنها لا توضّح عمّا في نفسها ، ومن ذلك تسميتهم : صلاتي الظهر والعصر العجماوين ، لمّا كانتا لا يفصح فيهما بالقراءة.

قال أبو علي : ومن ذلك قولهم : عجمت العود ونحوه ، إذا عضضته. قال : وهو يحتمل أمرين ، كل واحد منهما راجع إلى ما قدمناه :

أحدهما : أنه قيل : عجمته ، لأنك لمّا أدخلته فاك لتعضّه ، فقد أخفيته في فيك. والآخر : أنك قد ضغطت بعض أجزائه بالعجم ، فأدخلت بعضها في بعض ، فأخفيتها. وربما سمّيت العرب الأخرس أعجم من هذا. فأما قول ذي الرّمّة :

حتى إذا جعلته بين أظهرها

من عجمة الرّمل أنقاء لها حبب (٥)

عجمة : معظم الرمل ، وأشده تراكما ، سمّي بذلك لتداخله ، واستبهام أمره على سالكه ، ومنه قولهم : استعجمت الدار : إذا صمّت ، فلم تجب سائلها.

__________________

(١) عجم الزبيب : حبه الذي في جوفه. اللسان (٤ / ٢٨٢٨). مادة (عجم).

(٢) بما هو : ما : يراد بها ثمرة الزبيب التي في جوفها الحبة ، والضمير يراد به «عجمة الزبيب» وهي الحبة التي في داخل الزبيبة.

(٣) «جرح العجماء جبار» : أي هدر. قال الأزهري : معناه أن البهيمة العجماء تنفلت فتتلف شيئا ، فهو هدر. اللسان (٤ / ٢٨٢٧). مادة (ع. ج. م).

(٤) البهيمة : واحدة البهائم. مادة (ب. ه. م). اللسان (١ / ٣٧٦).

(٥) الأنقاء : جمع نقا ، وهو الرمل المحدودب المنقاد. اللسان (٦ / ٤٥٣٢) مادة (ن. ق. ا). الحبب : بكسر الحاء : جمع حبة ، وروي بالخاء ، ومعناهما : الطريقة في الرمل. والهاء في جعلته ضمير راجع إلى الثور الوحشي. مادة (ح. ب. ب). اللسان (٢ / ٧٤٥). والمعنى : حتى إذا صار الثور وسط الرمال أدركه الليل ، وضم الظلام عليه شملته ، أي حلته ، والمقصود أن الليل ستره ، كما يفهم من البيت بعده.

ضم الظلام على الوحشي شملته

ورائح من نشاص الدلو منسكب

والشاهد في البيت : كلمة «عجمة» حيث أطلق على الرمل لشدة تداخله وتراكمه كلمة عجمة. إعراب الشاهد : عجمة : اسم مجرور بحرف الجر من وعلامة الجر الكسرة.

٤٩

قال امرؤ القيس :

صمّ صداها وعفا رسمها

واستعجمت عن منطق السائل (١)

فإن قال قائل فيما بعد : إنّ جميع ما قدمته يدل على أن تصريف (ع ج م) في كلامهم موضوع للإبهام ، وخلاف الإيضاح ، وأنت إذا قلت : أعجمت الكتاب ، فإنما معناه أوضحته وبينته ، فقد ترى هذا الفصل مخالفا لجميع ما ذكرته ، فمن أين لك الجمع بينه وبين ما قدمته؟ (٢)

فالجواب : أن قولهم أعجمت وزنه أفعلت ، وأفعلت هذه وإن كانت في غالب أمرها إنما تأتي للإثبات والإيجاب ، نحو : أكرمت زيدا ، أي أوجبت له الكرامة ، وأحسنت إليه ، أثبت الإحسان إليه ، وكذلك أعطيته وأدنيته وأسعدته وأنقذته ، فقد أوجبت جميع هذه الأشياء له ـ فقد تأتي أفعلت أيضا يراد بها السّلب والنفي ، وذلك نحو : أشكيت زيدا : إذا زلت (٣) له عما يشكوه.

أنشدنا أبو عليّ قال : أنشد أبو زيد :

تمدّ بالأعناق أو تلويها

وتشتكي لو أنّنا نشكيها (٤)

أي لو أننا نزول لها عمّا تشكوه.

__________________

(١) الصمم : انسداد الأذن ، وثقل السمع ، والفعل منه «صم» بالإدغام. اللسان (٤ / ٢٥٠٠). والصدى : ما يرجع عليك من صوت الجبل ، وإسناد الصمم إلى الصدى لتخيل أن الصدى يسمع المتكلم فيجيب ، فإذا لم يجب فكأن به صمما. اللسان (٤ / ٢٤٢٢). واستعجمت الدار : سكتت ، ولذلك عداه بعن ، والمراد أن هذه الدار لم تجب السائل عما يسأل ، وذهبت آثارها التي تدل على أصحابها. مادة (ع. ج. م) اللسان (٤ / ٢٨٢٨).

(٢) فمن أين لك الجمع بينه وبين ما قدمته؟ : أسلوب استفهام يفيد التشوق والتقرير.

(٣) زلت : تنحيت له عما يشكوه. اللسان (٣ / ١٨٥٦). مادة (ز. ل. ل).

(٤) نشكيها : ننزع لها عن شكايتها وعتابها. مادة (ش. ك. ا). اللسان (٤ / ٢٣١٤). والراجز هنا يصف إبلا قد أتعبها السير فهي تلوي أعناقها تارة ، وتمدها أخرى ، وتشتكي إلينا ، فلا ننزع لها عن شكايتها. شكواها : ما غلبها من سوء الحال والهزال ، وهذا يقوم مقام كلامها. وبين (تمد ، تلويها) طباق يبرز المعنى بالتضاد ويزيده وضوحا.

٥٠

ومثله قوله عزّ اسمه : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥](١) تأويله والله أعلم ، عند أهل النظر : أكاد أظهرها. وتلخيص حال هذه اللفظة : أي أكاد أزيل عنها خفاءها ، وخفاء كل شيء : غطاؤه ، من ذلك خفاء القربة (٢) ، للكساء الذي يكون عليها. وجمعه : أخفية.

أنشدنا أبو عليّ :

لقد علم الأيقاظ أخفية الكرى

تزجّجها من حالك واكتحالها (٣)

فقوله : «أخفية الكرى» : جمع خفاء ، والكرى : النوم. وجعل الأعين في اشتمالها على النوم بمنزلة الخفاء في اشتماله على ما ستر به ، ونصب أخفية الكرى :

__________________

(١) (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) الساعة : القيامة. أكاد أخفيها : أقارب أن أسترها عن الناس ـ يظهر لهم قربها بعلاماتها.(تفسير وبيان مع أسباب النزول للسيوطي ص ٣١٣) ، والأسلوب إنشائي في صورة توكيد. والشاهد في قوله تعالى (أخفيها) حيث استخدمها بمعنى أظهرها وأزيل ما يسترها بإظهار علامتها إعراب الشاهد : أخفيها : أخفى : فعل مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم وعلامة رفعه الضمة المقدرة على آخره لأن آخره حرفا من حروف العلة ، والفاعل ضمير مستتر وجوبا يعود تقديره إلى لفظ الجلالة ـ الله ـ ، والهاء ضمير متصل مبني على السكون المطلق في محل نصب مفعول به.

(٢) ذلك خفاء القربة : ـ يضرب مثالا بخفاء القربة ـ أي الكساء الذي يسترها ويغطيها ـ باعتبار أنه يخفي معالمها بحيث لا تظهر. وخفى (خفاء) من باب رمى ، كتمه وأظهره أيضا فهو من الأضداد ، ويقال برح الخفاء أي وضح الأمر. مادة (خ. ف. ا). اللسان (٢ / ١٢١٦).

(٣) أخفية : جمع خفاء ، والخفاء : رداء تلبسه العروس على ثوبها ، فتخفيه به ، وكل ما ستر شيئا فهو له خفاء. مادة (خ. ف. ا). اللسان (٢ / ١٢١٧). وأخفية الكرى : الأعين ، كما أن أخفية النور أكمته. تزججها : الزج : بالضم الحديدة التي في أسفل الرمح ، والجمع زججة وزجاج ، أما الزج بالفتح : دقة الحاجبين وطولهما. مادة (ز. ج. ج). اللسان (٣ / ١٨١١ ـ ١٨١٢). والشاهد فيه : أخفية الكرى : جمع خفاء. إعراب الشاهد : أخفية : تمييز منصوب. الكرى : مضاف إليه مجرور بالإضافة ، وعلامة جره الكسر المقدر على آخره ، لأنه اسم مقصور

٥١

على التمييز ، كما تقول : لقد علم الأيقاظ عيونا تزجّجها ، فأخفيها ، في أنه «أزيل خفاءها» : بمنزلة قوله «لو أننا نشكيها» : أي نترك لها ما تشكوه.

فكذلك أيضا يكون قولنا : «أعجمت الكتاب» : أي أزلت عنه استعجامه ، كما كان أخفيها ، أزيل خفاءها ، ونشكيها : بمنزلة ندع لها ما تشكوه.

ونظيره أيضا : أشكلت الكتاب. أي أزلت عنه إشكاله. وقد قالوا أيضا : عجّمت الكتاب ، فجاءت «فعّلت» للسلب أيضا ، كما جاءت أفعلت.

ونظير عجّمت في النفي والسلب ، قولهم : مرّضت الرجل : أي داويته ليزول مرضه ، وقذّيت عينه ، أي أزلت عنها القذى (١). ومنه «رجل مبطّن» : إذا كان خميص البطن (٢) ، كأن بطنه أخذ منه ، فجاءت «فعّلت» للسلب أيضا ، وإن كانت في أكثر الأمر للإيجاب ، نحو : علّمته ، وقدّمته ، وأخّرته ، وبخّرته : أي أوصلت هذه الأشياء إليه ، وكذلك : عجّمت الكتاب أيضا. مثل : مرّضته ، وقذّيت عينه.

ونظير فعّلت وأفعلت في السّلب أيضا «تفعّلت» ، قالوا : تحوّبت (٣) ، وتأثّمت ، أي تركت الحوب والإثم ، وإن كان «تفعّلت» في أكثر الأمر تأتي للإثبات ، نحو : تقدّمت ، وتأخّرت ، وتعجّلت ، وتأجّلت ، فكذلك أيضا أعجمت الكتاب وعجّمته : أي أزلت استعجامه.

فإن قيل : إن جميع هذه الحروف ليس معجما ، إنما المعجم بعضها ، ألا ترى أن الألف ، والحاء والدال ونحوها ، ليس معجما ، فكيف استجازوا تسمية جميع هذه الحروف حروف المعجم؟ (٤).

__________________

(١) القذى : ما يسقط في العين والشراب ، وقذيت عينه من باب صدي سقطت فيها قذاة فهو قذى وقذت عينه : رمت بالقذى. مادة (ق. ذ. ى). اللسان (٥ / ٣٥٦٢).

(٢) خميص البطن : الأخمص ما دخل من باطن القدم فلم يصب الأرض ، والخمصة الجوعة ، وخمص بطنه خلا وضمر ، (ج) خماص وخمائص. اللسان (٢ / ٢١٦).

(٣) تحوبت : الحوب بالضم والحاب الإثم ، وقد حاب بكذا أي أثم. اللسان (٢ / ١٠٣٦)

(٤) فكيف استجازوا تسمية هذه الحروف حروف المعجم؟ : أسلوب إنشائي في صورة استفهام الغرض منه الاستنكار.

٥٢

قيل : إنما سمّيت بذلك لأن الشكل الواحد إذا اختلفت أصواته ، فأعجمت بعضها ، وتركت بعضها ، فقد علم أن هذا المتروك بغير إعجام ، هو غير ذلك الذي من عادته أن يعجم. فقد ارتفع إذن بما فعلوه الإشكال والاستبهام عنها جميعا ، ولا فرق بين أن يزول الاستبهام عن الحرف بإعجام عليه ، أو بما يقوم مقام الإعجام في الإيضاح والبيان.

ألا ترى أنك إذا أعجمت الجيم بواحدة من أسفل ، والخاء بواحدة من فوق ، وتركت الحاء غفلا ، فقد علم بإغفالها أنها ليست واحدة من الحرفين الآخرين ، أعني الجيم والخاء. وكذلك الدال والذال ، والصاد والضاد ، وسائر الحروف نحوها. فلما استمرّ البيان في جميعها جازت تسميته بحروف المعجم.

وهذا كله رأي أبي عليّ ، وعنه أخذته ، وقد أتيت في هذا الفصل من الاشتقاق وغيره ، بما هو معاني قوله ، وإن خالفت لفظه ، وهو الصواب ، الذي لا يذهب عنه إلى غيره.

واعلم (١) أن العرب قد سمّت هذا الخطّ المؤلف من هذه الحروف «الجزم».

قال أبو حاتم : إنما سمّي جزما لأنه جزم من المسند ، أي أخذ منه.

قال : والمسند : خطّ حمير في أيّام ملكهم ، وهو في أيديهم إلى اليوم باليمن.

فمعنى جزم : أي قطع منه ، وولّد عنه ، ومنه جزم الإعراب ، لأنه اقتطاع الحرف عن الحركة ومدّ الصوت بها للإعراب.

* * *

__________________

(١) أسلوب إنشائي في صورة أمر الغرض منه النصح والإرشاد.

٥٣
٥٤

باب أسماء الحروف

وأجناسها ، ومخارجها ، ومدارجها ،

وفروعها المستحسنة ، وفروعها المستقبحة ،

وذكر خلاف العلماء فيها مستقصى مشروحا

اعلم أن أصول حروف المعجم عند الكافة (١) تسعة وعشرون حرفا. فأولها الألف ، وآخرها الياء ، على المشهور من ترتيب حروف المعجم ، إلا أبا العباس ، فإنه كان يعدّها ثمانية وعشرين حرفا ، ويجعل أولها الباء ، ويدع الألف من أولها ، ويقول : هي همزة ، ولا تثبت على صورة واحدة ، وليست لها صورة مستقرة ، فلا أعتدها مع الحروف التي أشكالها محفوظة معروفة.

وهذا الذي ذهب إليه أبو العباس (٢) غير مرضي منه عندنا ، وسأوضح القول فيه بإذن الله.

اعلم أن الألف التي في أول حروف المعجم هي صورة الهمزة ، وإنما كتبت الهمزة واوا مرة وياء أخرى ، على مذهب أهل الحجاز في التخفيف (٣) ، ولو أريد تحقيقها البتة ، لوجب أن تكتب ألفا على كل حال ، يدل على صحة ذلك أنك إذا أوقعتها موقعا لا يمكن فيه تخفيفا ، ولا تكون فيه إلا محققة ، لم يجز أن تكتب إلا ألفا ، مفتوحة كانت أو مضمومة أو مكسورة. وذلك إذا وقعت أولا ، نحو : أخذ ، وأخذ ، وإبراهيم. فلما وقعت موقعا لا بد فيه من تحقيقها اجتمع على كتبها ألفا البتة (٤).

__________________

(١) الكافة : الجميع ، ويقصد بهم عموم النحاة ، مادة «كفّ». اللسان (٥ / ٣٩٠٤).

(٢) أبو العباس : هو أبو العباس المبرد أحد النحاة المعتد بآرائهم.

(٣) إنما يكون ذلك عند أهل الحجاز إذا لم تقع أول الكلمة.

(٤) البتة : قطعا لا رجعة فيه. مادة (ب. ت. ت). اللسان (١ / ٢٠٤).

٥٥

وعلى هذا (١) وجدت في بعض المصاحف (يَسْتَهْزِؤُنَ) بالألف قبل الواو.

ووجد فيها أيضا : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(٢) بالألف بعد الياء. وإنما ذلك لتوكيد التحقيق.

وهذه علة في الهمزة كنت قديما ، أنا رأيتها ، ثم غبرت (٣) زمانا ، فرأيت بعض كلام أبي بكر محمد بن السّريّ ـ رحمه الله ـ ، وقد أوردها فيه غير مسندة إلى غيره ، ثم إني رأيتها بعد ذلك في بعض كلام الفرّاء ، فلا أدري : أأصاب أبا بكر مع الفراء ما أصابني أنا من المواردة (٤) له ، أم هو شيء سمعه ، فحكاه واعتقده؟ وهي دلالة قاطعة قوية.

وفيها دلالة أخرى ، وهي أن كل حرف سميته ففي أول حروف تسميته لفظه بعينه ، ألا ترى أنك إذا قلت : جيم ، فأول حروف الحرف «جيم». وإذا قلت : دال ، فأول حروف الحرف «دال» ، وإذا قلت حاء ، فأول ما لفظت به حاء ، وكذلك إذا قلت ألف ، فأول الحروف التي نطقت بها همزة. فهذه دلالة أخرى غريبة ، على كون صورة الهمزة مع التحقيق ألفا.

فأما المدة التي في نحو : قام وسار وكتاب وحمار ، فصورتها أيضا صورة الهمزة المحققة ، التي في أحمد وإبراهيم وأترجّة (٥) ، إلا أن هذه الألف لا تكون إلا ساكنة ، فصورتها وصورة الهمزة المتحركة واحدة وإن اختلف مخرجاهما ، كما أن النون الساكنة في نحو : من وعن ، والنون المحرّكة في نحو : نعم ونفر ، تسمى كل واحدة منهما نونا ، وتكتبان شكلا واحدا ، ومخرج الساكنة من الخياشيم (٦) ، ومخرج المتحركة من

__________________

(١) الإشارة بهذا إلى مضمون الكلام السابق ، وهو أنها إذا لم تقع في أول الكلمة يخففها الحجازيون ويحققها غيرهم ، ولذلك توجد في بعض المصاحف محققة ، مكتوبة ألفا على طريقة غير الحجازيين.

(٢) يسبح : ينزه مادة «سبح». اللسان (٣ / ١٩١٤) ، ومعنى الآية : أن كل شيء ينزه الله سبحانه وتعالى ، والآية دليل على تحقيق بعض كتاب المصحف للألف في كلمة «شيئا».

(٣) غبرت : مضيت ، مادة (غبر). اللسان (٥ / ٣٢٠٥).

(٤) المواردة : اتفاق الخواطر. مادة (ورد).

(٥) أترجة : ثمر ذكي الرائحة. جمعها أترج. مادة (ت. ر. ج). اللسان (١ / ٤٢٥).

(٦) الخياشيم : واحدها الخيشوم وهو الأنف. مادة (خ. ش. م) اللسان (٢ / ١١٦٨).

٥٦

الفم ، كما أن مخرج الألف المتحركة التي هي همزة من المصدر ، ومخرج الألف فوقها من أول الحلق ، فهاتان هاهنا كتينك هناك.

فأما إخراج أبي العباس الهمزة من جملة الحروف ، واحتجاجه في ذلك بأنها لا تثبت صورتها ، فليس بشيء. وذلك أن جميع هذه الحروف إنما وجب إثباتها واعتدادها لمّا كانت موجودة في اللفظ الذي هو قبل الخطّ ، والهمزة أيضا موجودة في اللفظ ، كالهاء والقاف وغيرهما ، فسبيلها أن تعتد حرفا كغيرها ، فأما انقلابها في بعض أحوالها لعارض يعرض لها من تخفيف أو بدل ، فلا يخرجها من كونها حرفا ، وانقلابها أدلّ دليل على كونها حرفا ، ألا ترى أن الألف والواو والياء والتاء والهاء والنون وغيرهنّ قد يقلبن في بعض الأحوال ، ولا يخرجهن ذلك من أن يعتددن حروفا. وهذا أمر واضح غير مشكل (١).

واعلم أن واضع حروف الهجاء لمّا لم يمكنه أن ينطق بالألف التي هي مدّة ساكنة ، لأن الساكن لا يمكن الابتداء به ، دعمها باللام قبلها متحركة ، ليمكن الابتداء بها. فقال : ه ، و، لا ، ي. فقوله (لا) بزنة ما ، ويا ، ولا تقل كما يقول المعلمون : لام ألف. وذلك أن واضع الخطّ لم يرد أن يرينا كيف أحوال هذه الحروف إذا تركّب بعضها مع بعض ، ولو أراد ذلك ، لعرّفنا أيضا كيف تتركب الطاء مع الجيم ، والسين مع الدال ، والقاف مع الظاء ، وغير ذلك مما يطول تعداده ، وإنما مراده ما ذكرت لك ، من أنه لمّا لم يمكنه الابتداء بالمدّة الساكنة ، ابتدأ باللام ، ثم جاء بالألف بعدها ساكنة ، ليصحّ لك النطق بها كما صحّ لك النطق بسائر الحروف غيرها ، وهذا واضح.

فإن قال قائل : فلم اختيرت لها اللام دون سائر الحروف؟ وهلا جيء لها بهمزة الوصل ، كما فعلت العرب ذلك بالساكن لمّا لم يمكن ابتداؤه ، نحو : اضرب ، اذهب ، انطلق ، وغير ذلك؟

فالجواب : أن همزة الوصل لو جيء بها قبل الألف توصلا إلى النطق بالألف الساكنة ، لما أمكن ذلك ، ولأدّتهم الحال إلى نقض الغرض الذي قصدوا له.

__________________

(١) المشكل : الملتبس. مادة (شكل). اللسان (٤ / ٢٣١٠).

٥٧

وذلك أن همزة الوصل كانت تأتي مكسورة ، كما جرت العادة فيها ، ولو كسرت قبلها لانقلبت الألف ياء ، لانكسار ما قبلها ، فكنت تقول : «اي» ، فلا تصل إلى الألف التي اعتمدتها (١). فلما لم يجز ذلك عدلوا إلى اللام من بين سائر الحروف ، لما أذكره لك.

وذلك أن واضع الخط أجراه في هذا على اللفظ ، لأنه أصل للخط ، والخط فرع على اللفظ ، فلما رآهم قد توصّلوا إلى النطق بلام التعريف ، بأن قدّموا قبلها ألفا ، نحو : الغلام والجارية ، لمّا لم يمكن الابتداء باللام الساكنة كذلك أيضا ، قدم قبل الألف في «لا» ، لاما ، توصّلا إلى النطق بالألف الساكنة ، فكان في ذلك ضرب من المعاوضة (٢) بين الحرفين. وهذا بإذن الله غير مشكل.

فإذا كنا قد أجمعنا إيراد حروف المعجم على ما في أيدي الناس من التأليف المشهور ، أعني على غير ترتيب المخارج ، وذكرها حرفا حرفا ، فليس ذلك بمانع لنا سوقها على ترتيب المخارج ، فإنه أوضح في البيان ، ثم نعود فيما بعد إلى استقرائها على تأليف ا ب ت ث ، إلى أن نأتي بإذن الله على جميعها.

__________________

(١) اعتمدتها : اعتمد الشيء أي عليه اتكأ. مادة (عمد). اللسان (٤ / ٣٠٩٧). وفاعل اعتمد : ضمير يرجع إلى الألف ، وها : عائد على الهمزة. والمعنى : أن الألف اعتمدت الهمزة ، أي اتكأت عليها ، ليمكن النطق بها.

(٢) المعاوضة : المبادلة ، مادة (عوض). اللسان (٤ / ٣١٧٠).

* * *

٥٨

ذكر الحروف على مراتبها في الاطراد (١)

وهي : الهمزة ، والألف ، والهاء ، والعين ، والحاء ، والغين ، والخاء ، والقاف ، والكاف ، والجيم ، والشين ، والياء ، والضاد ، واللام ، والراء ، والنون ، والطاء ، والدال ، والتاء ، والصاد ، والزاي ، والسين ، والظاء ، والذال ، والثاء ، والفاء ، والباء ، والميم ، والواو.

فهذا هو ترتيب الحروف على مذاقها وتصعّدها ، وهو الصحيح. فأما ترتيبها في كتاب العين (٢) ففيه خطل واضطراب ، ومخالفة لما قدمناه آنفا ، مما رتبه سيبويه (٣) ، وتلاه أصحابه عليه ، وهو الصواب الذي يشهد التأمل له بصحته.

واعلم أن هذه الحروف التسعة والعشرين قد تلحقها ستة أحرف تتفرّع عنها ، حتى تكون خمسة وثلاثين حرفا ، وهذه الستة حسنة ، يؤخذ بها في القرآن ، وفصيح الكلام ، وهي النون الخفيفة ، ويقال الخفية ، والهمزة المخففة ، وألف التفخيم ، وألف الإمالة (٤) ، والشين التي كالجيم ، والصاد التي كالزاي.

وقد تلحق بعد ذلك ثمانية أحرف وهي فروع غير مستحسنة ، ولا يؤخذ بها في القرآن ولا في الشعر ، ولا تكاد توجد إلا في لغة ضعيفة مرذولة ، غير متقبلة ، وهي الكاف التي بين الجيم والكاف ، والجيم التي كالكاف ، والجيم التي كالشين ، والضاد الضعيفة ، والصاد التي كالسين ، والطاء التي كالتاء ، والظاء التي كالثاء ، والباء التي كالميم ، ولا يصح أمر هذه الحروف الأربعة عشر اللاحقة للتسعة والعشرين ، حتى كمّلتها ثلاثة وأربعين ، إلا بالسمع والمشافهة. وسنفصّل ذلك إن شاء الله.

__________________

(١) الاطراد : أي تتابع مواقعها من الحلق إلى الشفتين. مادة (طرد). اللسان (٤ / ٢٦٥٢).

(٢) ترتيب العين وهو معجم الخليل بن أحمد كالتالي : العين ، الحاء ، الهاء ، الخاء ، الغين ، القاف ، الكاف ، الجيم ، الشين ، الضاد ، الصاد ، السين ، الزاي ، الطاء ، الدال ، التاء ، الظاء ، الذال ، الثاء ، الراء ، اللام ، النون ، الفاء ، الباء ، الميم ، الياء ، الواو ، الألف.

(٣) ترتيب سيبويه للحروف هكذا : ء ، ا ، ه ، ع ، ح ، غ ، خ ، ك ، ق ، ض ، ج ، ش ، ي ، ل ، ر ، ن ، ط ، د ، ت ، ص ، ز ، س ، ظ ، ذ ، ث ، ف ، ب ، م ، و.

(٤) الإمالة : نطق الألف بين الألف والياء ، والفتحة كالكسرة ، مادة «ميل» اللسان (٦ / ٤٣١١)

٥٩

واعلم أن مخارج هذه الحروف ستة عشر : ثلاثة منها في الحلق.

فأولها من أسفله وأقصاه ، مخرج الهمزة والألف والهاء. هكذا يقول سيبويه.

وزعم أبو الحسن (١) أن ترتيبها : الهمزة ، وذهب إلى أن الهاء مع الألف ، لا قبلها ولا بعدها ، والذي يدلّ على فساد ذلك وصحة قول سيبويه ، أنك متى حركت الألف ، اعتمدت بها على أقرب الحروف منها إلى أسفل ، فقلبتها همزة ، ولو كانت الهاء معها لقلبتها هاء ، وهذا واضح غير خفي.

ومن وسط الحلق مخرج العين والحاء.

ومما فوق ذلك مع أول الفم ، مخرج الغين والخاء.

ومما فوق ذلك من أقصى اللسان ، مخرج القاف.

ومن أسفل من ذلك وأدنى إلى مقدّم الفم مخرج الكاف.

ومن وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى ، مخرج الجيم والشين والياء.

ومن أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس مخرج الضاد ، إلا أنك إن شئت تكلفتها (٢) من الجانب الأيمن ، وإن شئت من الجانب الأيسر.

ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان ، من بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى ، مما فويق الضاحك والناب والرّباعية والثّنيّة (٣) ، مخرج اللام.

ومن طرف اللسان بينه وبين ما فويق الثنايا ، مخرج النون.

ومن مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلا ، لانحرافه إلى اللام ، مخرج الراء.

ومما بين طرف اللسان وأصول الثنايا ، مخرج الطاء والدال والتاء.

ومما بين الثنايا وطرف اللسان ، مخرج الصاد والزاي والسين.

__________________

(١) هو : أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط.

(٢) تكلفتها : تحملتها مع مشقة. مادة «كلف». اللسان (٥ / ٣٩١٧).

(٣) الثنية : إحدى الأسنان الأربع التي في مقدم الفم ، اثنتان من فوق واثنتان من تحت ، والجمع «ثنايا». مادة «ثنى». اللسان (١ / ٥١٦).

٦٠