سرّ صناعة الإعراب - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٣٢٨
الجزء ١ الجزء ٢

وقال آخر (١) :

إذا جاشت حواليه ترامت

ومدّته البطاحيّ الرّغاب (٢)

جمع بطحاء ، وكذلك ما حكاه الأصمعيّ من قولهم صلافيّ وخباريّ ، فبهذا استدللنا على أن الهمزة في صحراء وبابها بدل من ألف التأنيث. فإذا كان ذلك كذلك فقد علمت أن الهمزة في صنعاء وهيجاء ودهناء ، فيمن مدّ ، هي الألف المفردة في صنعا ، وهيجا ، ودهنا (٣) ، فيمن قصر ، قلبت همزة لوقوعها بعد الألف التي زيدت للمدّ. فأما حبلى وسكرى فإنما صحّت فيهما وفيما يجري مجراهما الألف ، لأنها مفردة ، فلم يلتق ساكنان ، فتجب الحركة ويلزم الهمز. فأما قول الآخر :

أسقى الإله دارها فروّى

نجم الثّريا بعد نجم العوّى (٤)

فالعوّى (٥) : أحد منازل القمر ، وهو اسم مقصور ، والألف في آخره للتأنيث ، بمنزلة ألف حبلى وبشرى ، وعينها ولامها واوان في اللفظ ، كما ترى ، إلا أنّ الواو الآخرة ، التي هي لام بدل من ياء ، وأصلها «عويا» ، وهي فعلى من عويت.

وقال لي أبو عليّ : إنما قيل لها العوّى ، لأنها كواكب ملتوية. قال : وهي من عويت يده ، أي لويتها.

__________________

(١) البيت لم أعثر على قائله.

(٢) البطاحي : جمع بطحاء ، وهي الأبطح وهو المكان المتسع يمر به السيل فيترك فيه الرمل والحصى الصغار ـ ومنه أبطح مكة ـ مادة (بطح). اللسان (١ / ٢٩٩). الرغاب : جمع رغيبة : أي واسعة. مادة (رغب). اللسان (٣ / ١٦٧٩). والشاهد في قوله «البطاحي» بتشديد الياء وهو الأصل والمستعمل التخفيف. انظر / شرح ذلك في نفس الهامش في شرح البيت السابق في كلمة «صحاريا». إعراب الشاهد : البطاحي : فاعل مرفوع بالفاعلية وعلامة الرفع الضمة المقدرة.

(٣) الدهناء : الفلاة. مادة (دهن). اللسان (٢ / ١٤٤٧).

(٤) الثريا : مجموعة من النجوم في صورة «الثور» ، (ج) ثريات. اللسان (١ / ٤٨٠). الشرح : يدعو الشاعر لمحبوبته بأن يسقي الله جل اسمه ديارها أعظم السقاء. والشاهد في قوله : «العوّى» وشرحه كما ذكره المؤلف في المتن.

(٥) العوّى : مقصور كما ذكر المؤلف هنا ، سيذكر بعد ذلك أنه ممدود أيضا. وقال في شرح القاموس : العواء بالمد والقصر : منزل للقمر ، والقصر أكثر ، وألفها للتأنيث.

١٠١

فإن قيل : فإذا كان أصلها «عويا» ، فقد اجتمعت الواو والياء ، وسبقت الأولى بالسكون ، وهذه حال توجب قلب الواو ياء ، وليست تقتضي قلب الياء واوا.

ألا تراهم قالوا : طويت طيّا ، وشويت شيّا ، وأصلهما طويا وشويا ، فقلبت الواو ياء ، فهلا إذ كان كذلك قلبوها كما في نحو : طويت طيّا ، وشويت شيّا ، فقالوا عيّا.

فالجواب : أنهم إنما قلبوا ياء «عويا» واوا ، لعلة مشروحة عند أصحاب التصريف ، وذلك أن فعلى إذا كانت اسما لا وصفا ، وكانت لامها ياء قلبت ياؤها واوا ، وذلك نحو التّقوى ، أصلها وقيا ، لأنها فعلى من وقيت ، والثّنوى (١) ، وهي فعلى من ثنيت ، والبقوى (٢) وهي فعلى من بقيت ، والرّعوى ، وهي فعلى من رعيت ، فكذلك أيضا العويا ، فعلى من عويت ، وهي مع ذلك اسم لا صفة ، بمنزلة التّقوى والبقوى والفتوى ، فقلبت الياء التي هي لام واوا ، وقبلها العين التي هي واو ، فالتقت واوان ، الأولى ساكنة ، فأدغمت (٣) في الآخرة ، فصارت «عوّى» كما ترى.

ولو كانت فعلى صفة لما قلبت ياؤها واوا ، ولبقيت بحالها ، نحو الخزيا (٤) والصّديا (٥) ، ولو كانت قبل هذه الياء واو لقلبت الواو ياء ، كما يجب في الواو والياء إذا التقتا وسكن الأول منهما ، وذلك نحو قولهم امرأة طيّا وريّا (٦) ، وأصلهما طويا ورويا ، لأنهما من طويت ورويت ، قلبت الواو منهما ياء ، وأدغمت في الياء بعدها ، فصارت طيّا وريّا. ولو كانت ريّا اسما ، لوجب أن يقال فيها روّى ، وحالها كحال العوّى.

فإن قيل : فلم قلبت العرب لام فعلى ـ إذا كانت اسما ، وكان لامها ياء ـ واوا ، حتى قالوا : العوّى والتّقوى والبقوى؟.

__________________

(١) الثنوى : اسم بمعنى الاستثناء من الشيء.

(٢) البقوى : اسم بمعنى الإبقاء على الشيء.

(٣) الإدغام : إدخال حرف في حرف آخر. مادة (دغم). اللسان (٢ / ١٣٩١).

(٤) الخزيا : مؤنث خزيان ، وهو المستحي. مادة (خ ز ا). اللسان (٢ / ١١٥٥).

(٥) الصديا : مؤنث صديان ، وهو العطشان. مادة (صدى). اللسان (٤ / ٢٤٢١).

(٦) الرّيّا : الرّيح الطيبة. مادة (روى). اللسان (٣ / ١٧٨٧).

١٠٢

فالجواب : أنهم إنما فعلوا ذلك في فعلى ، لأنهم قد قلبوا لام «الفعلى» ـ إذا كانت اسما وكانت لامها واوا ـ ياء ، طلبا للخفّة ، وذلك نحو الدّنيا والعليا والقصيا ، وهي من دنوت ، وعلوت وقصوت (١) ، فلما قلبوا الواو ياء في هذا وفي غيره ، مما يطول تعداده ، عوّضوا الواو من غلبة الياء عليها في أكثر المواضع ، بأن قلبوها في نحو البقوى والثّنوى واوا ، ليكون ذلك ضربا من التّعويض والتكافؤ بينهما ، فاعرفه ، فإن أصحابنا (٢) استظرفوا هذا الفصل من التصريف ، وعجبوا منه ، ثم إنه قد حكي عنهم «العوّاء» بالمدّ ، في هذا المنزل.

والقول عندي في ذلك : أنه زاد للمدّ ألفا قبل ألف التأنيث ، التي في العوّى ، فصار التقدير «العوّا» بألفين ، كما ترى ساكنتين ، فقلبت الآخرة التي هي علم التأنيث همزة ، لمّا تحركت لالتقاء الساكنين ، والقول فيها : القول في حمراء وصحراء وصلفاء وخبراء.

فإن قيل : فلمّا نقلت من فعلى إلى فعلاء ، فزال القصر عنها ، هلّا ردّت إلى القياس ، فقلبت الواو ياء ، لزوال وزن فعلى المقصورة كما يقال : رجل ألوى وامرأة ليّاء (٣)؟ فهلا قالوا على هذا العيّاء؟.

فالجواب أنهم لم يبنوا الكلمة على أنها ممدودة البتة. ولو أرادوا ذلك لقالوا العيّاء ، وأصلها العوياء ، كما قالوا امرأة ليّاء ، وأصلها لوياء. ولكنهم إنما أرادوا القصر الذي في العوّى ، ثم إنهم اضطرّوا إلى المدّ في بعض المواضع ضرورة ، فبقّوا الكلمة بحالها الأولى ، من قلب الياء التي هي لام واوا ، وكان تركهم القلب بحاله أدلّ شيء على أنهم لم يعتزموا المدّ البتّة ، وأنهم إنما اضطّروا إليه ، فركبوه وهم بالقصر معنيّون ، وله ناوون.

فهذه جملة من القول على همزة التأنيث ، وصحة الدلالة على كونها منقلبة عن الألف ، فاعرفه ، فقلما أفصح أصحابنا هذا الإفصاح عنه.

__________________

(١) قصوت : بعدت. مادة (ق ص ا). اللسان (٥ / ٣٦٥٧).

(٢) أصحابنا : يقصد البصريين.

(٣) الليّاء : معوجة الظهر. مادة «لوي». اللسان (٥ / ٤١٠٩).

١٠٣

وأمّا قول العجّاج (١) :

يا دار سلمى يا اسلمى ثم اسلمى

ثم قال :

فخندف هامة هذا العألم (٢)

فقد روي أنّ العجّاج كان يهمز العألم والخأتم ، وقد روي عنه في هذا البيت : العألم ، فهمزة العألم والخأتم مما قدمناه من قلب الألف همزة.

وحكى اللّحياني عنهم «نأر» بالهمز ، وهذا أيضا من ذلك الباب.

وحكى بعضهم : قوقأت الدّجاجة ، وحلأت (٣) السويق (٤) ، ورثأت المرأة زوجها (٥) ، ولبّأ الرجل بالحجّ (٦) ، وهذا كله شاذّ غير مطّرد في القياس.

ونحوه قول ابن كثوة (٧) :

__________________

(١) العجاج : هو أحد الرجاز عدّه صاحب الطبقات في الطبقة التاسعة من الإسلاميين.

(٢) استشهد ابن جني على أن الألف تقلب همزة ، وأن بعض العرب كان يهمز الألف كما يهمز العجاج. في قوله «العألم». والهامة : الرأس. مادة (ه. و. م). اللسان (٦ / ٤٧٢٣). يقول : إن خندف ـ الشخص الممدوح ـ هو رأس العالم وسيده ، والتعبير مبني على التشبيه لإفادة المدح. إعراب الشاهد : العألم : بدل مجرور بالتبعية وعلامة الجر الكسرة. واعترض ابن عصفور في كتابه «الضرائر» على ابن جني وجعل همز العالم من ضرورات الشعر ، إذ قال في تخريج هذا البيت : «أبدل الألف همزة فتكون القافية غير مؤسسة كأخواتها ؛! إذ لو لم يهمز للزم السناد ، وهو من عيوب القافية». انظر الشاهد رقم (٢٠٦) من شرح شواهد الشافية لعبد القادر البغدادي.

(٣) حلا الشيء وحلاه تحلية : جعله حلوا ، وقد ورد بالهمز. اللسان (٢ / ٩٥٥).

(٤) السويق : طعام يتخذ من مدقوق الحنطة والشعير (ج) أسوقة. مادة (سوق) اللسان (٣ / ٢١٥)

(٥) ورثأت المرأة زوجها : لغة في رثته أي مدحته بعد موته. مادة (ر ث أ). اللسان (٣ / ١٥٨٠)

(٦) ولبأ الرجل بالحج : لبى. أي أجاب. مادة (ل ب ب) اللسان (٥ / ٣٩٨٠).

(٧) البيت لأبي كثوة زيد بن كثوة ، يقال إن كثوة أمه ، وقيل : أبوه. وأصل الكثوة : التراب المجتمع. مادة (ك ث ا). اللسان (٥ / ٣٨٣٠).

١٠٤

ولّى نعام بني صفوان زوزأة

لمّا رأى أسدا في الغاب قد وثبا (١)

أراد «زوزاة» غير مهموز.

وحكي عنهم : تأبلت (٢) القدر بالهمز ، فهذا أيضا من قلب الألف همزة.

وأنشد الفراء :

يا دار ميّ بدكاديك البرق

صبرا فقد هيجت شوق المشتئق (٣)

فالقول فيه عندي : أنه اضطرّ إلى حركة الألف التي قبل القاف من «المشتاق» ، لأنها تقابل لام «مستفعلن». فلمّا حركها انقلبت همزة كما قدمنا ، إلا أنه حركها بالكسر ، لأنه أراد الكسرة التي كانت في الواو المنقلبة الألف عنها.

وذلك لأنه «مفتعل» من الشّوق ، وأصله مشتوق ، ثم قلبت الواو ألفا ، لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فلما احتاج إلى حركة الألف ، حركها بمثل الكسرة التي كانت في الواو ، التي هي أصل الألف.

__________________

(١) الزوزأة : أصله الزوزاة ، وهو مصدر زوزى يزوزي ، وهو أن ينصب ظهره ، ويسرع الخطو. وثب : قفز. مادة «وثب». اللسان (٦ / ٤٧٦٢). الشرح : يقول إن نعام بني صفوان ولى هاربا مسرعا خطوه حين ظهر له أسد في الغاب. والشاهد في قوله : «زوزأة» فقد حرك الألف فانقلبت همزة ، والأصل «زوزاة». إعراب الشاهد : زوزأة : نائب عن المصدر المنصوب.

(٢) تأبلت القدر : وضع فيه التابل وهو أبزار الطعام ، وأصله تابلت بدون همز. مادة (تبل). اللسان (١ / ٤١٩)

(٣) مي : اسم امرأة. ودكاديك : جمع دكداك ، وهو الرمل المتلبد في الأرض ولم يرتفع. وهو شبيه بالتل. مادة (د ك ك). اللسان (٢ / ١٤٠٤). والبرق : جمع برقة بضم الباء ، وهي غلظ في حجارة ورمل. اللسان (١ / ٢٦٢). وصبرا : مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره صبري صبرا ، أو مفعول به لفعل محذوف مقدر. والشاهد في قوله : «المشتئق» فهي اسم فاعل من اشتاق وأصله المشتاق ، فقلبت الألف همزة ، وحركت بالكسر لأن الألف بدل من واو مكسورة. إعراب الشاهد :المشتئق : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة الجر الكسرة.

١٠٥

ونحو هذا ما حكاه الفراء أيضا عنهم ، من قولهم : رجل مئل ، إذا كان كثير المال ، وأصلها مول ، بوزن فرق وحذر ، ويقال : مال الرجل يمال ، إذا كثر ماله ، وأصلها : مول يمول ، مثل خاف يخاف من الواو ، وقالوا : رجل خاف ، كقولهم : رجل مال ، وأصلهما خوف ومول ، ثم انقلبت الواو ألفا ، لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت خاف ومال ، ثم إنّهم أتوا بالكسرة التي كانت في واو مول ، فحركوا بها الألف في مال ، فانقلبت همزة ، فقالوا مثل.

فهذه جملة من القول على انقلاب الألف همزة ، وقد تقصّيت جميع ما جاء منه مطّردا وشاذا ، وقلّما تجد شيئا يخرج عن هذا من الشواذّ.

وأما إبدال الهمزة عن الياء والواو ، فعلى ضربين. تبدل الهمزة منهما وهما أصلان ، وتبدل منهما وهما زائدتان.

الأولى : نحو قولك في وجوه : أجوه ، وفي وعد : أعد ، وفي وقّتت أقّتت.

وكذلك كل واو انضمت ضمّا لازما ، فهمزها جائز. وقالوا : قطع الله أده : يريدون يده ، فردّوا اللام ، وأبدلوا الفاء همزة.

وأبدلوا أيضا الواو المكسورة ، فقالوا إسادة في وسادة ، وإعاء في وعاء.

وأبدلوا المفتوحة أيضا فقالوا : أناة ، في وناة ، وأحد : في وحد ، وأجم في وجم (١) ، وأسماء في وسماء (٢) ، وقالوا : قائم وبائع ، فأبدلوها من الواو والياء ، وقالوا : في أسنانه ألل : يريدون يلل (٣) ، فأبدلوا الياء همزة (٤). وقالوا : رئبال (٥) ، فأبدلوها من الياء ، وهمز بعضهم الشّئمة ، وهي الخليقة. وقالوا أيضا : قضاء وسقاء وشفاء وكساء وشقاء وعلاء. وكذلك كل ما وقعت لامه ياء أو واوا طرفا بعد ألف زائدة.

__________________

(١) يقال : وجم الشيء : إذا كرهه ، أجم الطعام وغيره : كرهه. اللسان (٦ / ٤٧٧٤).

(٢) وسماء : حسنة جميلة. وأصلها أسماء وهو اسم امرأة مشتق من الوسامة وهمزته مبلة من واو مادة (وسم). اللسان (٦ / ٤٨٣٩).

(٣) الألل واليلل : قصر الأسنان العليا ، وانعطافها إلى داخل الفم. اللسان (٦ / ٤٩٦٥).

(٤) هكذا يرى ابن جني أن الياء هي الأصل ، وغيره يرى أن الهمزة هي الأصل وقد تخفف.

(٥) الرئبال : من رأبل : أي مشى متمايلا في جانبه كأنه يقصد شيئا. اللسان (٣ / ١٥٣٢).

١٠٦

وأصل هذا كله قضاي ، وسقاي ، وشفاي ، وكساو ، وشقاو وعلاو ، لأنها من قضيت ، وسقيت ، وشفيت ، وكسوت ، والشّقوة ، وعلوت. فلما وقعت الياء والواو طرفين ، بعد ألف زائدة ، ضعفتا لتطرّفهما ، ووقوعهما بعد الألف الزائدة المشبهة للفتحة في زيادتها.

فكما قلبت الواو والياء ألفا لتحركهما ووقوعهما بعد الفتحة في نحو : عصا ورحى (١) ، كذلك قلبتا ألفا أيضا ، لتطرفهما وضعفهما ، وكون الألف زائدة قبلهما في نحو كساء ورداء ، فصار التقدير : قضاا ، وسقاا ، وشفاا ، وكساا ، وشقاا ، وعلاا ، فلما التقى ساكنان كرهوا حذف أحدهما ، فيعود الممدود مقصورا ، فحركوا الألف الآخرة لالتقائهما ، فانقلبت همزة ، فصارت قضاء وسقاء وكساء وعلاء ، فالهمزة في الحقيقة إنما هي بدل من الألف ، والألف التي أبدلت الهمزة عنها بدل من الياء والواو ، إلا أن النحويّين إنما اعتادوا هنا أن يقولوا : إن الهمزة منقلبة من ياء أو واو ، ولم يقولوا من ألف ، لأنهم تجوّزوا في ذلك ، ولأن تلك الألف التي انقلبت عنها الهمزة ، هي بدل من الياء أو الواو ، فلما كانت بدلا منها ، جاز أن يقال إن الهمزة منقلبة عنها ، فأما الحقيقة فإن الهمزة بدل من الألف المبدلة عن الياء والواو ، وهذا مذهب أهل النظر الصحيح في هذه الصناعة (٢) ، وعليه حذّاق (٣) أصحابنا. فاعرفه.

فأما قولهم عباءة وصلاءة وعظاءة (٤) ، فقد كان ينبغي لمّا لحقت الهاء آخرا ، وجرى الإعراب عليها ، وقويت الياء ، ببعدها عن الطّرف ، ألا يهمز ، وألا يجوز فيه الأمران ، كما اقتصر في نهاية ، وغباوة ، وشقاوة ، وسعاية ، ورماية على التصحيح دون الإعلال ، إلا أن الخليل (٥) رحمه الله قد علّل ذلك ، فقال : إنهم إنما بنوا

__________________

(١) الرحى : أداة لطحن القمح والشعير والحبوب. مادة (ر ح ا) اللسان (٣ / ١٦١٤).

(٢) الصناعة : يقصد بها صناعة النحو.

(٣) حذاق : جمع حاذق وهو الماهر بالشيء. مادة (ح ذ ق). اللسان (٢ / ٨١١).

(٤) العباءة والصلاءة والعظاءة : سبق شرحهم.

(٥) الخليل : هو الخليل بن أحمد الفراهيدي ، رأس زمانه في النحو ، مخترع علم العروض امتاز بقوة الملاحظة والورع ونقل عنه سيبويه وقطرب وغيرهم.

١٠٧

الواحد على الجمع ، فلما كانوا في الجمع يقولون : عظاء وعباء وصلاء ، فيلزمهم إعلال الياء ، لوقوعها طرفا ، أدخلوا الهاء وقد انقلبت اللام همزة ، فبقيت اللام معتلة بعد الهاء كما كانت معتلة قبلها.

فإن قيل : أولست تعلم أن الواحد أقدم في الرتبة من الجمع ، وأنّ الجمع فرع على الواحد ، فكيف جاز للأصل ـ وهو عظاءة ـ أن يبنى على الفرع وهو عظاء؟

وهل هذا إلا كما عابه أصحابك (١) على الفرّاء ، من قوله إن الفعل الماضي إنما بني على الفتح لأنه حمل على ألف التّثنية ، فقيل ضرب ، لقولهم ضربا؟

فمن أين جاز للخليل أن يحمل الواحد على الجمع ، ولم يجز للفرّاء أن يحمل الواحد على التثنية؟

فالجواب : أن الانفصال من هذه الزيادة يكون من وجهين :

أحدهما : أنّ بين الواحد والجمع من المضارعة (٢) ما ليس بين الواحد والتثنية ، ألا تراك تقول قصر وقصور ، وقصرا وقصورا ، وقصر وقصور ، فتعرب الجمع إعراب الواحد ، وتجد حرف إعراب الجمع حرف إعراب الواحد ، ولست تجد في التثنية شيئا من ذلك ، إنما هو قصران أو قصرين ، فهذا مذهب غير مذهب قصر وقصور. أولا ترى أن الواحد تختلف معانيه كاختلاف معاني الجمع ، لأنه قد يكون جمع أكثر من جمع ، كما يكون الواحد مخالفا للواحد في أشياء كثيرة ، وأنت لا تجد هذا إذا ثنيت ، إنما تنتظم التثنية ما في الواحد البتة ، وهي لضرب واحد من العدد البتة ، لا يكون اثنان أكثر من اثنين ، كما تكون جماعة أكثر من جماعة. هذا هو الأمر الغالب ، وإن كانت التثنية قد يراد بها في بعض المواضع أكثر من الاثنين ، فإن ذلك قليل لا يبلغ اختلاف أحوال الجمع في الكثرة والقلة ، بل لا يقاربه ، فلما كانت بين الواحد والجمع هذه النسبة وهذه المقاربة ، جاز للخليل أن يحمل الواحد على الجمع ، ولمّا بعد الواحد عن التثنية في معانيه ومواقعه ، لم يجز للفراء أن يحمل الواحد على التثنية ، كما حمل الخليل الواحد على الجماعة.

__________________

(١) أصحابك : يريد البصريين.

(٢) المضارعة : المشابهة. مادة (ض ر ع) اللسان (٤ / ٢٥٨١).

١٠٨

يزيد في وضوح ذلك لك ، أنهم قالوا : هذا ، فبنوه ، ثم قالوا : هاذان ، فأعربوا ، ثم لما صاروا إلى الجمع عادوا إلى البناء ، فقالوا : هؤلاء.

فهذا وغيره مما يشهد بمضارعة الواحد للجماعة ، وبعده عن التثنية ، فهذا وجه.

والوجه الآخر الذي جوّز للخليل حمل الواحد على الجماعة ، هو أنه وإن كان قد حمل الواحد على الجمع في نحو عظاءة (١) وعظاء ، فقد عدّل هذا الأمر الذي في ظاهره بعض التناقض ، بأنه حمل لفظ العظاءة ـ وهي مؤنثة ـ على لفظ العظاء وهو مذكر ، فهذا يعادل به حمل الواحد على الجماعة ، ثم ينضاف إليه ما ذكرناه من مضارعة الواحد للجماعة.

وليس للفراء في قوله : إنّ ضرب بني على ضربا ، واحد من هذين الأمرين اللذين سوّغنا بهما مذهب الخليل ، فلهذا صحّ قول الخليل ، وسقط قول الفرّاء.

وبعد ، فليس العظاء في الحقيقة جمعا ، وإنما هو واحد وقع على الجمع ، بمنزلة تمر وبسر (٢) ودجاج وحمام ، وهذا واضح.

وقد استقصيت هذا وغيره من لطائف التصريف في كتابي المصنّف لتفسير تصريف أبي عثمان رحمه الله ، وأتيت بالقول هناك على أسرار هذا العلم ودفائنه.

فإن قيل : فإذا كانت الألف في شفاء وشقاء بمنزلة الفتحة ، في إيجابها قلب ما بعدها ألفا ، فهلّا لم يجز إلا القلب ، وأن تقول : عباءة وعظاءة وصلاءة البتة بالهمز ، ولا تجيز نهاية ولا غباوة ، كما لم تجز إلا إعلال نحو : قناة وقطاة وحصاة ، وإن كانت بعدها الهاء.

فما بالك اعتبرت الهاء في نحو : عباية ، وعظاية ، وصلاية ، وشقاوة ، ونهاية ، حتى صححت لها الواو والياء ، ولم تعتبر الهاء في نحو : قناة وقطاة وحصاة وفتاة؟

وهلا قلت : قنوة ، وقطوة ، وحصية ، وفتية ، فصححت الواو والياء للهاء ، كما صححتها في نحو الشقاوة والنهاية لأجل الهاء.

__________________

(١) العظاءة : دويبة من الزواحف ذوات الأربع ، تعرف في مصر بالسحلية ، وقد سبق شرحها.

(٢) بسر : ثمر النخل قبل أن ينضج ، والغض الطري من كل شيء ، والجمع «أبسار». مادة (ب س ر). لسان العرب (١ / ٢٧٩).

١٠٩

فالجواب : أنهم إنما أجروا الألف في نحو كساء ورداء مجرى الفتحة ، في أن قلبوا لها ما بعدها من الياء والواو ، كما قلبوا للفتحة نحو : عصا ورحى ما دامت الياء والواو طرفين ضعيفين ، وإلا فقد كان ينبغي أن يصحّ الياء والواو بعد الألف ، لأنهما إذا وقعتا بعد الحرف الساكن صحتا ، وذلك نحو : ظبي ودلو ، ولكنهم لما رأوهما بعد ألف زائدة كزيادة الفتحة ، وكانت الفتحة بعض الألف ، جوّزوا إعلالهما وقلبهما ما دامتا طرفين ضعيفين. فإذا تحصنتا وقويتا بوقوع الهاء بعدهما ، لم تبلغ الألف من إيجاب قلبهما مبلغ الفتحة الصريحة.

فأما قناة وفتاة فإن واوهما وياءهما وقعتا بعد الفتحة المحضة الموجبة للقلب ، فلم تبلغ من قوّة الهاء معهما أن تحصّن الواو والياء من إعلال الفتحة المحضة لهما.

وهذا ما خرج لي بعد التفتيش والمباحثة عن أبي عليّ وقت قرأت كتاب أبي عثمان عليه فاعرفه ، فإنه موضع يلطف جدّا ، وقلّ من يضبطه.

وقد أبدلت الواو همزة بدلا مطّردا إذا انضمت ضمّا لازما ، وذلك نحو أقتت وأجوه وأدؤر وأثؤب.

وقد أبدلها قوم من المكسورة ، وذلك نحو وسادة وإسادة ، ووفادة (١) وإفادة.

وإذا التقت واوان في أول الكلمة لم يكن من همز الأولى بدّ ، وذلك أن الأولى أصلها وؤلى. وسنستقصي هذا كلّه في حرف الواو. وقال :

ما كنت أخشى أن يبينوا أشك ذا (٢)

أي وشك ذا ، من الوشيك.

__________________

(١) الوفادة : القدوم. مادة (وفد). اللسان (٦ / ٤٨٨١).

(٢) هذا الشطر أنشده ص احب اللسان في مادة «وشك» ولم ينسبه أيضا إلى أحد. ولم نعثر على قائله فيما بأيدينا من كتب اللغة. انظر / لسان العرب (٦ / ٤٨٤٤). يبينوا : يفارقوا. مادة (بين). اللسان (١ / ٤٠٣). الشرح : أن الشاعر ينفي خوفه من فراق من فارقوه. والشاهد في قوله : «أشك» أي وشك من الوشيك. فقد أبدل الهمزة عن الواو وهي أصل.

١١٠

فهذا إبدال الهمزة عن الياء والواو وهما أصلان.

وأما إبدالها منهما وهما زائدتان فنحو قولهم : علباء وحرباء (١). وجاء عنهم : رجل عزهاء (٢) ، وأصل هذا كله علباي وحرباي وعزهاي ، ثم وقعت الياء طرفا بعد ألف زائدة ، فقلبت ألفا ، ثم قلبت الألف همزة ، كما تقدم من قولنا في : كساء ورداء.

فإن قيل : ما الدليل على أن الأصل حرباي وعلباي بالياء ، دون أن يكون علباو وحرباو ، بالواو؟

فالجواب : أن العرب لمّا أنثت هذا الضرب بالهاء ، فأظهرت الحرف المنقلب لم تظهره إلا ياء ، وذلك نحو درحاية ودعكاية (٣) ، فظهور الياء في المؤنث بالهاء دلالة على أن الهمزة إنما قلبت في حرباء وعلباء عن ياء لا محالة.

وأما الواو الزائدة التي قلبت عنها همزة فلم تأت مسموعة عنهم إلا أن النحويين قاسوا ذلك على الياء ، لأنها أختها ، وذلك أنّك لو نسبت إلى مثل صحراء وخنفساء لقلت : صحراويّ وخنفساويّ ، فإن سميت بهما رجلا ، ثم رخّمته (٤) على قولهم : يا حر ، وجب بعد حذف ياء النسب أن تقلب الواو ألفا ، لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة ، فتصير صحراا وخنفساا ، ثم تبدلت الألف الآخرة همزة ، لأنك حركتها

__________________

(١) الحرباء : دويبة على شكل سام أبرص ذات قوائم أربع دقيقة الرأس ، مخططة الظهر ، تستقبل الشمس نهارها وتدور معها كيف دارت ، وتتلون ألوانا ، ويضرب بها المثل في التلون ، والجمع «حرابي».

(٢) رجل عزهاء : عازف عن اللهو والنساء. مادة (ع ز ه) اللسان (٤ / ٢٩٣٣).

(٣) يقال : درحاية : كثير اللحم ، قصير ، سمين ، ضخم البطن ، لئيم الخلقة. اللسان (٢ / ١٣٥٤) قال الراجز :

إمّا تريني رجلا دعكايه

عكوّكا إذا مشى درحايه

تحسبني لا أحسن الحدايه

أيايه أيايه إيايه

وقيل الدعكاية : القصير : القصير الكثير اللحم ، طال أو قصر. وقال ابن بري : الدعكاية : القصير مادة (د ع ك) اللسان (٢ / ١٣٨٣). وقول الراجز أيايه ، هو لفظ تزجر به الإبل.

(٤) رخمته : من الترخيم ، وهو حذف آخر المنادى تسهيلا للنطق به ، وقد يرخم غير منادى ، كما في قوله : «ليس حي على المنون بخال» أي بخالد. مادة (رخم). اللسان (٣ / ١٦١٧).

١١١

لالتقاء الساكنين ، كما فعلت ذلك في كساء ، فتقول على هذا : يا صحراء ويا خنفساء أقبل ، وقياس هذا إذا سميت به بعد الترخيم أن تصرفه في النكرة ، بلا خلاف ، وفي المعرفة على الخلاف ، فتقول جاءني صحراء ومررت بخنفساء ، لأن هذه الهمزة التي فيهما الآن ليست للتأنيث ، وإنما هي بدل من ألف بدل من واو بدل من همزة التأنيث المنقلبة عن الألف المقدرة بعد الألف الأولى ، على ما بيناه في حمراء وصفراء.

فهذا إبدال الهمزة عن الياء والواو أصلين وزائدتين.

وأما إبدال الهمزة عن الهاء فقولهم : ماء ، وأصله : موه ، لقولهم أمواه ، لقلبت الواو ألفا ، وقلبت الهاء همزة ، فصار ماء ، كما ترى ، وقد قالوا أيضا في الجمع : أمواء ، فهذه الهمزة أيضا بدل من ها أمواه.

أنشدني أبو عليّ :

وبلدة قالصة أمواؤها

ما صحة رأد الضّحا أفياؤها (١)

__________________

(١) استشهد بهذا البيت على أن الهمزة قد تجيء في جمع ماء كما جاءت في المفرد. وعلى هذا يجوز أن يكون قد جمع المفرد وأبقى همزته على حالها ، فتكون همزة الجمع همزة المفرد ، ويجوز أن تكون بدلا من الهاء التي في أمواه ، فكأنه لفظ بالهاء في الجمع ، ثم أبدل منها الهمزة ، كما فعل في المفرد. القالصة : من قلص الماء في البئر : إذا ارتفع. مادة (قلص). اللسان (٥ / ٣٧١٢١). الماصحة : مادة (مصح) من مصح الظل ، أي ذهب. اللسان (٦ / ٤٢١٤). رأد الضحى : ارتفاعه ، أي وسطه. وقيل انبساط الشمس وارتفاع النهار. اللسان (٣ / ١٥٣٢)أفياؤها : ظلالها ، والمفرد «الفيء». مادة «فيأ». اللسان (٥ / ٣٤٩٥). شرح البيت : هذه البلدة كثيرة الفيء لكثرة ظلال أشجارها إلى أن يذهب ارتفاع الضحى. إعراب البيت : الواو : واو ربّ. بلدة : اسم مجرور وعلامة جره الكسرة. قالصة : نعت مجرور بالتبعية ، وعلامة جره الجسرة. أمواؤها : فاعل ل (قالصة) مرفوع وعلامة رفعه الضمة. والهاء : ضمير متصل مبني في محل جر مضاف إليه. ما صحة : نعت ثان مجرور بالتبعية وعلامة جره الكسرة. رأد : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة. ـ الضحا : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة المقدرة للتعذر. أفياؤها : فاعل مرفوع بالفاعلية وعلامة رفعه الضمة ، والهاء ضمير مبني في محل جر مضاف إليه وقد أورد صاحب اللسان الأبيات هكذا.

وبلدة قالصة أمواهها

تستن في رأد الضحى أفياؤها

كأنما قد رفعت سماؤها

تستن : أي تجري في السنن وهو وجه الطريق والأرض. مادة (س ن ن) اللسان (٣ / ٢١٢٥)

١١٢

ومن ذلك قولهم أا ل ، كقولنا : أا ل الله ، وأ ا ل رسوله ، إنما أصلها أهل ، ثم أبدلت الهاء همزة ، فصارت في التقدير أأ ل. فلما توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفا ، كما قالوا : آدم وآخر ، وفي الفعل آمن وآزر (١).

فإن قيل : ولم زعمت أنهم قلبوا الهاء همزة ، ثم قلبوها ألفا فيما بعد ، وما أنكرت من أن يكونوا قلبوا الهاء ألفا في أول الحال؟

فالجواب : أن الهاء لم تقلب ألفا في غير هذا الموضع ، فيقاس هذا هنا عليه ، وإنما تقلب الهاء همزة في ماء وشاء ، على الخلاف فيما سنذكره في موضعه ، فعلى هذا أبدلت الهاء همزة ، ثم أبدلت الهمزة ألفا. وأيضا فإن الألف لو كانت منقلبة عن الهاء في أول أحوالها ، كما زعم الملزم. دون أن تكون منقلبة عن الهمزة المنقلبة عن الهاء ، على ما قدمناه ، لجاز أن يستعمل آل في كل موضع يستعمل فيه أهل ، ألا تراهم يقولون صرفت وجوه القوم ، وأجوه القوم ، فيبدلون الهمزة من الواو ، ويوقعونها بعد البدل في جميع مواقعها قبل البدل.

وقالوا أيضا : وسادة (٢) وإسادة ، ووفادة وإفادة.

ومن أبيات الكتاب (٣) :

إلا الإفادة فاستولت ركائبنا

عند الجبابير بالبأساء والنّعم (٤)

__________________

(١) آزر : ساند وساعد أو ساوى أو حازى الشيء بالشيء. مادة (أزر). اللسان (١ / ٧٢).

(٢) الوسادة : المخدة والمتكأ وكل ما يوضع تحت الرأس من تراب أو حجارة أو غيره. (ج) وسائد مادة (وسد). اللسان (٦ / ٤٨٣٠).

(٣) الكتاب : هو مؤلف سيبويه في النحو.

(٤) البيت لتميم بن أبي مقبل ، وهو من شواهد سيبويه (٢ / ٣٥٥).

١١٣

وقالوا أيضا : وشاح (١) وإشاح ، ووعاء وإعاء ، قرأ سعيد بن جبير : (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) [يوسف : ٧٦] ، وكل واحدة من هذه ومن غيرها مما يجري في البدل مجراها ، تستعمل مكان صاحبتها. ولو كانت ألف آل بدلا من هاء أهل لقيل انصرف إلى آلك كما يقال : انصرف إلى أهلك ، ولقيل آلك والليل ، كما يقال أهلك والليل ، وغير ذلك مما يطول ذكره ... فلما كانوا يختصون بالآل الأشرف الأخصّ دون الشائع الأعم ، حتى لا يقال إلا في نحو قولهم : القرّاء آل الله ، واللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، و (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [غافر : ١٨] ، وكذلك ما أنشده أبو العباس للفرزدق (٢) :

نجوت ولم يمنن عليك طلاقة

سوى ربذ التّقريب من آل أعوجا (٣)

لأن أعوج فيهم فرس مشهور عند العرب ، فلذلك قال : آل أعوج ، ولا يقال آل الخياط ، كما يقال أهل الخياط ، ولا آل الإسكاف (٤) ، كما يقال أهل الإسكاف ـ

__________________

الإفادة : الوفادة ، وهي الوفود على السلطان ونحوه. وقد سبق شرحها. الجبابير : جمع جبار ، والمراد الملك. مادة (ج ب ر) اللسان (١ / ٥٣٧). الشرح : إننا نفد على السلطان ، فأحيانا ننال من إنعامه ، وأحيانا نرجع مبتئسين خائبين من عنده. الشاهد : إبدال واو الوفادة همزة ، لاستثقال الابتداء بها مكسورة وهذا الإبدال جائز باطراد في مثل هذه الحالة. إعراب الشاهد : الإفادة : مقطوع على الاستثناء منصوب جوازا.

(١) الوشاح : نسيج عريض يرصع بالجواهر ، وتشده المرأة بين عاتقها وكشحيها. مادة (وشح).

(٢) الفرزدق : هو أبو فراس همام بن غالب التميمي الدارمي ، أفخر ثلاثة الشعراء الأمويين ، وأجزل المقدمين في الفخر والمدح والهجاء.

(٣) الربذ : السريع ، التقريب : نوع من السير يقارب فيه الخطو. اللسان (٣ / ١٥٥٦). الشرح : لقد نجوت ولم يمنحني أحد الحرية والفضل في ذلك يرجع إلى الفرس العتيق الذي ينتمي إلى أعوج وينتسب له ، وهو أنجب فرس عرفته العرب. الشاهد : «آل أعوج» حيث أضاف آل إلى أعوج ، وهو فرس مشهور بالعتق عند العرب. إعراب الشاهد : آل : اسم مجرور بمن وعلامة الجر الكسرة. وأعوج : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة الجر الفتحة.

(٤) الإسكاف : صانع الأحذية ومصلحها. (ج) أساكفة. اللسان (٣ / ٢٠٥٠).

١١٤

دلّ ذلك على أن الألف فيه ليست بدلا من الأصل ، وإنما هي بدل من بدل من الأصل ، فجرى ذلك مجرى التاء في القسم ، لأنها بدل من الواو فيه ، والواو فيه بدل من الباء ، فلما كانت التاء بدلا من بدل ، وكانت فرع الفرع ، اختصت بأشرف الأسماء وأشهرها ، وهو اسم الله ، فلذلك لم يقل تزيد ولا تالبيت ، كما لم يقل آل الإسكاف ولا آل الخياط.

فإن قلت : فقد قال بشر (١) :

لعمرك ما يطلبن من آل نعمة

ولكنما يطلبن قيسا ويشكرا (٢)

فقد أضافه إلى نعمة ، وهي نكرة غير مخصوصة ولا مشرّفة ، فإن هذا بيت شاذّ ، والذي عليه العمل ما قدمناه ، وهو رأي أبي الحسن (٣) ، فاعرفه.

فإن قيل : ألست تزعم أن الواو في والله بدل من الباء في بالله ، وأنت لو أضمرت لم تقل : وه لأفعلنّ كما تقول : به لأفعلنّ. وقد تجد أيضا بعض البدل لا يقع موضع المبدل منه في كل موضع ، فما تنكر أيضا أن تكون الألف في آل بدلا من الهاء ، وإن كان لا يقع جميع مواقع أهل؟

فالجواب أن الفرق بينهما أن الواو لم تمتنع من وقوعها في جميع مواقع الباء ، من حيث امتنع وقوع «آل» في جميع مواقع «أهل» ، وذلك أن الإضمار يردّ الأشياء إلى أصولها في كثير من المواضع ، ألا ترى أن من قال : أعطيتكم درهما ، فحذف الواو التي كانت بعد الميم ، وأسكن الميم ، إذا أضمر الدرهم قال : أعطيتكموه ، فردّ الواو لأجل اتصال الكلمة بالمضمر.

__________________

(١) البيت لبشر بن أبي حازم ، وهو شاعر جاهلي ، ولم نجد البيت فيما عرفناه من شعره.

(٢) لعمرك : أسلوب قسم. آل : أهل. الشرح : يقسم الشاعر بعمر من يحدثه بأن القوم لا يطلبون شيئا من آل نعمة وإنما بغيتهم عند قيس ويشكر والشاهد فيه قوله : «آل نعمة» فقد أضاف «آل» التي هي للتشريف إلى نعمة مع أنها نكرة غير مخصوصة ولا مشرفة ، وقد حكم المؤلف على ذلك بالشذوذ. إعراب الشاهد : آل : اسم مجرور. نعمة : مضاف إليه.

(٣) أبو الحسن الأخفش نحوي بصري.

١١٥

فأما ما حكاه يونس من أن بعضهم قال : أعطيتكمه ، فشاذّ لا يقاس عليه عند عامة أصحابنا (١) ، فلذلك جاز أن تقول : به لأقعدنّ ، وبك لأنطلقنّ ، ولم يجز أن تقول : «وك» ولا «وه» ، بل كان هذا في الواو أحرى ، لأنها حرف واحد منفرد ، فضعفت عن القوّة وتصرف الباء التي هي الأصل.

أنشدنا أبو علي قال : أنشدنا أبو زيد (٢) :

رأى برقا فأوضع فوق بكر

فلا بك ما أسال ولا أغاما (٣)

__________________

(١) أصحابنا : يريد البصريين.

(٢) أبو زيد : صاحب النوادر ، وقد أورده في كتابه (ص ١٤٦) ، ونسبه إلى عمرو بن يربوع بن حنظلة ، وقد قاله وبيت آخر قبله يخاطب امرأته لما رحلت إلى أهلها في غيبته ، وقد زعم الرواة أنّ عمرا هذا تزوج السعلاة فقال له أهلها : إنك تجدها خير امرأة ما لم تر برقا ، فستر بيتك ما خفت ذلك ، فمكثت عنده حتى ولدت له بنين ، فأبصرت برقا ذات يوم فقالت له :

الزم بنيك عمرو إني آبق

برق على أرض السعالي آلق

فقال عمرو :

ألا لله ضيفك يا أماما

 ..........

رأى برقا فأوضع فوق بكر

فلا بك ما أسأل ولا أغاما

والشطر الثاني من البيت الأول سقط من أيدي الرواة ، قال أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل قال : لم أسمع بقافيته ، فسمى الناس بني عمرو ، بني السعلاة ، حتى قال الشاعر :

يا قاتل الله بني السعلات

عمرو بن يربوع شرار النات

غير أعفاء ولا أكيات

بإبدال السين في الناس وأكياس : تاء.

(٣) أوضع : أسرع في السير. اللسان (٦ / ٤٨٥٩) مادة (وضع). والبكر : الفتى من الإبل. اللسان (١ / ٣٣٤) ، وجملة «ما أسال ولا أغاما» جواب القسم. والضيف بكسر الضاد : الناحية والمحلة ، وبفتحها النازل عند آخر ، والظاهر أنه يريد نفسه. الشرح : يدعو لمحلة أهلها بأن تسلم من أذى البرق والسيل ويقسم بحياتها إنه لن يكون مع هذا البرق غيم ولا سيل يتأذى به أهلها. والشاهد في البيت : أنه أدخل باء القسم على الضمير ، فقال «بك» بخلاف باقي حروف القسم لأن الباء هي الأصل كما ذكر المؤلف. إعراب الشاهد : الباء : حرف جر يفيد القسم ، والكاف : ضمير مبني في محل جر.

١١٦

وأنشدنا أيضا عنه (١) :

ألا نادت أمامة باحتمال

لتحزنني فلا بك ما أبالي (٢)

وأنت ممتنع من استعمال آل في غير الأشهر الأخصّ ، وسواء في ذلك أضفته إلى مظهر أم أضفته إلى مضمر.

فإن قيل ألست تزعم أن التاء في تولج بدل من واو ، وأن أصله وولج ، لأنه فوعل من الولوج (٣) ، ثم إنك مع ذلك قد تجدهم أبدلوا الدال من هذه التاء ، فقالوا دولج ، وأنت مع ذلك تقول : دولج في جميع المواضع التي تقول فيها تولج ، وإن كانت الدال مع ذلك بدلا من التاء ، التي هي بدل من الواو؟

فالجواب عن ذلك : أن هذا مغالطة من السائل ، وذلك أنه إنما كان يطّرد هذا له لو كانوا يقولون وولج ودولج ، فيستعملون «دولج» في جميع أماكن وولج ، فهذا لعمري لو كان كذا لكان له به تعلّق ، وكانت تحتسب زيادة ، فأما وهم لم يقولوا ، وولج البتة كراهة اجتماع الواوين في أول الكلمة ، وإنما قالوا تولج ، ثم أبدلوا الدال من التاء المبدلة من الواو ، فقالوا دولج ، فإنما استعملوا الدال مكان التاء ، التي هي في المرتبة قبلها تليها ، ولم يستعملوا الدال موضع الواو التي هي الأصل ، فصار إبدال الدال من التاء في هذا الموضع ، كإبدال الهمزة من الواو في نحو أقّتت وأجوه ، فكما تستعمل أجوه في موضع وجوه ، لقربها منها ، وأنه لا منزلة بينهما واسطة ، كذلك جاز استعمال دولج مكان تولج. لأنه لا منزلة واسطة بينهما.

وكذلك لو عارض معارض بهنيهة ، تصغير هنة (٤) ، فقال : ألست تزعم أنّ أصلها هنيوة ، ثم صارت هنيّة ، ثم صارت هنيهة ، وأنت قد تقول هنيهة في كل موضع تقول فيه هنيّة ، كان الجواب واحدا كالذي قبله ، ألا ترى أن هنيوة الذي هو الأصل ، لا ينطق به ، ولا يستعمل البتة ، فجرى ذا مجرى وولج ، في رفضه وترك استعماله.

__________________

(١) البيت لنفس الشاعر عمرو بن يربوع الذي سبق التعريف به.

(٢) أمامة : اسم امرأة. والاحتمال : يقصد الرحيل. الشرح : «بك» فقد دخلت الباء التي هي للقسم على الضمير كما في بيته السابق.

(٣) الولوج : الدخول. مادة (ولج). اللسان (٦ / ٤٩١٣).

(٤) هنة : وتصغيرها «هنيهة وهنية» قليلا من الزمان. مادة (هنة). اللسان (٦ / ٤٧١٣).

١١٧

فهذا كله يؤكد عندك أن امتناعهم من استعمال آل في جميع مواقع أهل ، إنما هو لأن الألف فيه كانت بدلا من بدل ، كما كانت التاء في القسم بدلا من بدل ، فاعرفه ، فإن أصحابنا لم يشبعوا القول فيه ، على ما أوردته الآن ، وإن كنا بحمد الله بهم نقتدي ، وعلى أمثلتهم نحتذي.

والذي يدلّ على أن أصل آل أهل ، قولهم في التحقير أهيل ، ولو كان من الواو لقيل أويل ، كما يقال في الآن الذي هو الشخص أويل ، ولو كان أيضا من الياء لقيل أييل.

فأما قولهم رجل تدرأ (١) وتدره للدافع عن قومه ، فليس أحد الحرفين فيهما بدلا من صاحبه ، بل هما أصلان ، يقال درأ ودره ، قال كثيّر :

درهت على فرّاطها فدهمتهم

بأخطار موت يلتهمن سجالها (٢)

فهذا كقولك أقدمت واندفعت ، وقال بعضهم في قول الشاعر (٣) :

فقال فريق أا إذا إذ نحوتهم

وقال فريق لا يمن الله ما ندري (٤)

قالوا : أراد أهذا ، فقلب الهاء همزة ، ثم فصل بين الهمزتين بالألف.

__________________

(١) تدرأ : يقال رجل تدرأ أي مدافع عن قومه. مادة (درأ). اللسان (٢ / ١٣٤٧).

(٢) دره على القوم ودرأ : إذا هجم عليهم على حين غفلة. اللسان (٢ / ١٣٦٩). والفراط : جمع فارط ، وهو السابق إلى الماء بإبله ليوردها. اللسان (٥ / ٣٣٩٠). وأخطار الموت : كناية عن الإبل القوية العطاش ، تهجم على الحوض ، فتحطم ما يصادفها من حيوان وغيره. والسجال : جمع سجل ، وهو الدلو الضخمة المملوءة ماء. اللسان (٣ / ١٩٤٥). والشاهد في قوله : «درهت» فقد جاء الفعل بالهاء وهي فيه أصل كالهمزة تماما في «درأ».

(٣) قائل البيت هو نصيب أحد الشعراء الإسلاميين ، اشتهر بحب امرأة تدعى زينب وبها نسب ، وأكثر من الغزل فيها.

(٤) الشاهد في قوله : «أا أذا» أراد «أهذا» فقلب الهاء همزة ثم فصل بين الهمزتين بالألف كما ذكر المؤلف. إعراب الشاهد : الهمزة : حرف استفهام. هذا : اسم إشارة مبني في محل رفع مبتدأ.

١١٨

وروينا عن قطرب (١) ، عن أبي عبيدة أنهم يقولون : أل فعلت؟ ومعناه : هل فعلت؟ فأما ما أنشده الأصمعيّ من قول الراجز (٢) :

أباب بحر ضاحك هزوق (٣)

فليست الهمزة فيه بدلا من عين عباب (٤) ، وإن كان بمعناه ، وإنما هو فعال من أب : إذا تهيّأ ، قال الأعشى (٥) :

أخ قد طوى كشحا وأبّ ليذهبا (٦)

وذلك أن البحر يتهيّأ لما يزخر (٧) به. فلهذا كانت الهمزة أصلا غير بدل من العين ، وإن قلت إنها بدل منها فهو وجه ، وليس بالقوي.

* * *

__________________

(١) قطرب : أحد تلاميذ الخليل ، امتاز بالنشاط فلقبه بقطرب.

(٢) لم نعثر على قائل البيت فيما بأيدينا من كتب اللغة.

(٣) هزوق : هزق في الضحك هزقا ، وأهزق فلان في الضحك أكثر منه. اللسان (٦ / ٤٦٦٣). والشاهد فيه كلمة «أباب» فالهمزة فيها أصل كما ذكر المؤلف.

(٤) العباب : كثيرة الماء والسيل ، وارتفاع الموج واصطخابه. مادة (عبّ). اللسان (٤ / ٢٧٧٤).

(٥) الأعشى : سبق التعريف به.

(٦) طوى كشحا : يقال طوى كشحه إذا أضمر الشر لإنسان. مادة (كشح). اللسان (٥ / ٣٨٨١) أبّ : عزم على المسير ، وتهيأ له ، يقال : أببت أؤب أبا ، من باب نصر. والشاهد في قوله : «أبّ» فالهمزة فيه أصلية كما يرى المؤلف. هذا رأي ابن جني في أن الهمزة أصل ، مع أن إبدال الهمزة من العين كثير ، مثل : السأف من السعف ، ومثل ما رواه الفراء لبعض بني نبهان من طيئ : دأني في دعني ، وثؤاله في ثعاله ، ومثل ما روى من قول أهل مكة : يا أبد الله في يا عبد الله ، ويقول البغدادي في شرح شواهد شرح الشافية (ص ٤٣٥) : ولو استحضر ابن جني عدة الكلمات لم يقل ما قال ، ولا ذهب ابن الحاجب إلى ما ذهب ، ولعل الذي حدا بابن جني إلى ما قاله ، هو أنه وجد أصلا آخر للأبواب يمكن التخريج عليه ، كما ذكر هو.

(٧) يزخر : يمتلأ. مادة (زخر). اللسان (٣ / ١٨٢٠).

١١٩
١٢٠