الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

النسور تهوي تمشي في رفوفها ، وسمعت لغطا شديدا ، حتّى خفت على نبي الله ، وغشيته أسورة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتّى ما أسمع صوته ، ثمّ طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب داهنين ، ففزع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الفجر ، ثمّ انطلق إليّ ، وقال : «أنمت؟» فقلت : لا والله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتّى سمعتك تقرعهم بعصاك. تقول : «اجلسوا».

قال : «لو خرجت لم آمن أن يتخطّفك بعضهم».

ثمّ قال : «هل رأيت شيئا؟». قلت : نعم رأيت رجالا سودا مسفري ثياب بيض. فقال : «أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع» ـ والمتاع الزاد ـ «فمتعتهم بكلّ عظم حائل وبعرة وروثة».

فقالوا : يا رسول الله يقذرها الناس علينا. فنهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستنجى بالعظم والروث.

قال : فقلت : يا رسول الله وما يعني ذلك عنهم؟ قال : «إنّهم لا يجدون عظما إلّا وجدوا عليه لحمة يوم أكل ، ولا روثة إلّا وجدوا فيها حبّها يوم أكلت».

فقلت : يا رسول الله ، لغطا شديدا. فقال : «إنّ الجنّ يدارك في قتيل قتل بينهم» ـ وقيل : قتل ـ «فتحاكموا إليّ ، فقضيت بينهم بالحقّ». قال : ثمّ تبرّز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ أتاني فقال : «هل معك ماء؟». قلت : يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر ، فاستدعاه فصببت على يديه فتوضّأ.

وقال : «تمرة طيبة وماء طهور». قال قتادة : فذكر لنا ابن مسعود لمّا قدم الكوفة رأى شيوخا شمطا من الزط ، فأفزعوه حين رآهم. وقال : أظهروا. فقيل له : إنّ هؤلاء قوم من الزط ، فقال : ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يريد الجنّ [١٣] (١).

قال : أخبرنيه ابن منجويه ، حدّثنا ابن حنش المقري ، حدّثنا ابن زنجويه ، حدّثنا سلمة ، حدّثنا عبد الرزاق ، حدّثنا معمر ، عن قتادة بمثل معناه إلّا إنّه لم يذكر قصة نبيذ التمر.

أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي ، حدّثنا محمّد بن الحسن الصوفي ، حدّثنا أبو جعفر محمّد بن صالح بن ذريح ، حدّثنا مسروق بن المرزبان ، حدّثنا ابن أبي زائدة ، حدّثنا داود بن أبي هند ، عن علقمة ، قال : سألت عبد الله بن مسعود ، هل كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد من الجنّ؟.

فقال : لا لم يصحبه منّا أحد. ولكنّا فقدناه ذات ليلة ، فقلنا استطير أو اغتيل ، فتفرّقنا في الشعاب والأودية نلتمسه ، فلمّا أصبحنا رأيناه مقبلا من نحو حراء.

فقلنا : يا رسول الله ، بتنا بشرّ ليلة بات بها قوم ، نقول : استطير أو اغتيل.

فقال : «إنّه أتاني داع من الجنّ ، فذهبت أقرئهم القرآن». قال : وأراني آثارهم وآثار نيرانهم. قال : «فسألوه ليلتئذ الزاد».

__________________

(١) كنز العمال : ٦ / ١٦٩.

٢١

فقال : «فكلّ عظم لم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحما ، والبعر لدوابكم».

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تستنجوا بالعظام ولا بالبعر فإنّه زاد إخوانكم من الجنّ» [١٤] (١).

أخبرنا أبو عبد الله بن منجويه ، حدّثنا أبو بكر بن خرجه ، حدّثنا محمّد بن أيّوب ، أخبرنا سلمان بن داود الشاذكوي ، عن خالد بن عبد الله الواسطي ، عن خالد الحذّاء ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : لم أكن مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ وودت أنّي كنت معه.

أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا موسى بن محمّد بن علي ، حدّثنا يوسف بن يعقوب القاضي ، حدّثنا سليمان بن حرب ، حدّثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : سألت أبا عبيدة بن عبد الله ، أكان عبد الله مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ؟ قال : لا. قال : وسألت إبراهيم. فقال : ليت صاحبنا كان ذاك.

قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) اختلفوا في مبلغ عددهم ، فقال ابن عبّاس : كانوا سبعة نفر من جنّ نصيبين فجعلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسلا إلى قومهم.

أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا طلحة بن محمّد بن جعفر ، وعبيد الله بن أحمد بن يعقوب ، قالا : أخبرنا أبو بكر بن مجاهد ، حدّثني أحمد بن حرب ، حدّثنا سنيد ، حدّثنا حجاج ، قال : قال ابن جريح : أخبرني وهب بن سلمان ، عن شعيب الحماني. إنّ أسماء الجنّ الّذين صرفهم الله تعالى إلى رسوله شاصر ، وماصر ، ومنشي ، وماشي ، والأحقب (٢) وقال آخرون : كانوا تسعة.

أخبرني أبو علي السراج ، أخبرنا أبو بكر القطان ، حدّثنا أحمد بن يوسف السّلمي ، حدّثنا محمّد بن يوسف الفريابي ، قال : ذكر سفيان ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، قال : كان زوبعة من التسعة الّذين استمعوا القرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) قالوا : صه. وبإسناده عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ثابت بن قطبة الثقفي ، قال : جاء أناس إلى عبد الله بن مسعود ، قالوا : كنّا في سفر فرأينا حيّة متشحّطة في دمها مقتولة ، فأخذها رجل منّا ، فواريناها ، فلمّا ولّوا جاءهم ناس ، فقالوا : إنّكم دفنتم عمرا ، فقالوا ومن عمر؟ قالوا : الحيّة التي دفنتم في مكان كذا وكذا. أمّا إنّه كان من النفر

__________________

(١) سنن الترمذي : ١ / ١٦.

(٢) راجع تفسير القرطبي : ١٦ / ٢١٤ ؛ وفتح الباري : ٨ / ٥١٧.

٢٢

الّذين استمعوا القرآن من النبي عليه‌السلام وكان بين حيّتين من الجنّ من المسلمين وغيرهم ، فزال ، فقتل.

أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عمر بن الخطّاب ، حدّثنا عبد الله بن الفضل ، حدّثنا سهل بن حمزة ، حدّثنا عبد الله بن صالح ، حدّثني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير ، عن أبي ثعلبة الخشني إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «الجنّ على (١) ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب ، وصنف يحلّون ويظعنون» [١٥] (٢).

(فَلَمَّا حَضَرُوهُ ، قالُوا) : قال : بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) ، فأنصتوا واستمعوا القرآن ، حتّى كاد يقع بعضهم على بعض من شدّة حرصهم ، نظير ما في سورة الجنّ.

(فَلَمَّا قُضِيَ) فرغ من تلاوة القرآن واستماع الجان. وقرأ لاحق بن حميد (قَضَى) بفتح (القاف) و (الضاد) ، يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) مخوّفين داعين بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) يعني محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قال ابن عبّاس : فاستجاب لهم من فوقهم نحو من سبعين رجلا من الجنّ فرجعوا إلى رسول الله فوافقوه بالبطحاء. فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم. واختلف العلماء في حكم مؤمني الجنّ ، فقال قوم : ليس لمؤمني الجنّ ثواب إلّا نجاتهم من النار ، وتأوّلوا قوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة.

أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه ، حدّثنا عبد الله بن يوسف ، حدّثنا الحسن بن نجيويه ، حدّثنا عمرو بن ثور ، وإبراهيم بن أبي سفيان ، قالا : حدّثنا محمّد بن يوسف الفرباني ، حدّثنا سفيان ، عن ليث ، قال : الجنّ ثوابهم أن يجاروا من النار ، ثمّ يقال لهم : كونوا ترابا مثل البهائم.

وقال آخرون : إن كان عليهم العقاب في الإساءة وجب أن يكون لهم الثواب في الإحسان مثل الإنس. وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى.

أخبرنا أبو عبد الله الثقفي الدينوري ، حدّثنا أبو علي بن حبش المقري ، حدّثنا محمّد بن عمران ، حدّثنا ابن المقري وأبو عبيد الله. قالا : حدّثنا العبدي ، عن سفيان ، عن جويبر ، عن الضحّاك ، قال : الجنّ يدخلون الجنّة ويأكلون ويشربون.

__________________

(١) «على» غير موجودة في المصدر.

(٢) مستدرك الحاكم : ٢ / ٤٥٦.

٢٣

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) لم يضعف عن إبداعهن ، ولم يعجز عن اختراعهن. (بِقادِرٍ) قراءة العامة (بالباء) و (الألف) على الاسم واختلفوا في وجه دخول (الباء) فيه ، فقال أبو عبيدة والأخفش : هي صلة ، كقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (١) وقال الحارث بن حلزة :

قيل ما اليوم بيّضت بعيون

النّاس فيها تغيّظ وإباء (٢)

أراد بيضت عيون النّاس.

وقال الكسائي والفراء : (الباء) فيه جلبت الاستفهام والجحد في أوّل الكلام ، كقوله (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ) (٣). والعرب تدخلها في الجحود ، إذا كانت رافعة لما قبلها ، كقول الشاعر :

فما رجعت بخائبة ركاب

حكيم بن المسيّب منتهاها (٤)

وقرأ الأعرج وعاصم الجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب بن إسحاق يقدر (بالياء) من غير (ألف) على الفعل ، واختار أبو عبيد قراءة العامّة لأنّها في قراءة عبد الله خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ بغير (باء).

(عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) فيقال لهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ) لهم المقرّر بذلك (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).

قال ابن عبّاس : ذوو الحزم. ضحّاك : ذوو الجدّ والصّبر. القرظي : ذوو الرأي

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٠.

(٢) ديوان الحارث بن حلزة : ١٩.

(٣) سورة يس : ٨١.

(٤) المغني : ١ / ١١٠ رقم ١٦٣.

٢٤

والصواب. واختلفوا فيهم ، فقال ابن زيد : كلّ الرسل كانوا أولي عزم ، ولم يتّخذ الله رسولا ، إلّا كان ذا عزم ، وهو اختيار علي بن مهدي الطبري ، قال : وإنّما دخلت (مِنَ) للتجنيس لا للتبعيض ، كما يقال : اشتريت أكسية من الخزّ ، وأردية من البز. حكاها شيخنا أبو القاسم بن حبيب عنه.

وقال بعضهم : كلّ الأنبياء عليهم‌السلام أولوا عزم ، إلّا يونس ، ألا ترى إنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن أن يكون مثله ، لخفّة وعجلة ظهرت منه حين ولّى من قومه مغاضبا ، فابتلاه الله بثلاث : سلّط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله ، وسلّط الذئب على ولده فأكلهم ، وسلّط الحوت عليه حتّى ابتلعه.

سمعت أبا منصور الجمشاذي يحكيها ، عن أبي بكر الرازي ، عن أبي القاسم الحكيم.

وقيل : هم نجباء الرّسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر ، وهو اختيار الحسين بن الفضل ، قال : لقوله في عقبه : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (١).

وقال الكلبي : هم الّذين أمروا بالقتال ، فأظهروا المكاشفة ، وجاهدوا الكفرة بالبراءة ، وجاهدوهم. أخبرنا ابن منجويه الدينوري ، عن أبي علي حبش المقري ، قال : قال بعض أهل العلم : (أُولُوا الْعَزْمِ) اثنا عشر نبيّا أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم ، فأوحى الله تعالى إلى الأنبياء عليهم‌السلام : «إنّي مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل» ، فشقّ ذلك عليهم ، فأوحى الله تعالى إليهم أن اختاروا لأنفسكم ، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل ، وإن شئتم أنجيتكم وأنزلت ببني إسرائيل. فتشاوروا بينهم ، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي بني إسرائيل ، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب ، وذلك إنّه سلّط عليهم ملوك الأرض ، فمنهم من نشر بالمناشير ، ومنهم من سلخ جلد رأسه ووجهه ، ومنهم من رفع على الخشب ، ومنهم من أحرق بالنّار ، وقيل هم ستّة : نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى.

وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراب (٢) والشعراء. وقيل أصحاب الشرائع ، وهم خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال مقاتل : (أُولُوا الْعَزْمِ) ستّة : نوح صبر على أذى قومه فكانوا يضربونه حتّى يغشى عليه ، وإبراهيم صبر على النّار ، وإسحاق صبر على الذبح ، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف صبر في البئر وفي السجن ، وأيّوب صبر على ضرّه.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩٠.

(٢) كذا في المخطوط.

٢٥

وقال الحسن البصري : هم أربعة : إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى. فقال : إبراهيم فعزمه قيل له : (أَسْلِمْ ، قالَ : أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). ثمّ ابتلي في ماله ، وولده ، ووطنه ، ونفسه ، فوجد صادقا وافيا في جميع ما أبتلي به ، وأمّا موسى ، فعزمه قوله حين قال له قومه : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (١) قال : (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٢).

وأمّا داود ، فعزمه أنّه أخطأ خطيئة ، فنبّه عليها ، فبلي أربعين سنة على خطيئته حتّى نبتت من دموعه شجرة ، وقعد تحت ظلّها ، وأمّا عيسى فعزمه أنّه لم يضع في الدّنيا لبنة على لبنة ، وقال : إنّها معبر فاعبروها ، ولا تعمروها. فكان الله تعالى يقول لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي كن صادقا فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم ، واثقا بنصرة مولاك مثل ثقة موسى ، مهتمّا لما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود ، زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى عليه‌السلام.

حدّثنا الإمام أبو منصور محمّد بن عبد الله الجمشاذي لفظا ، أخبرنا أبو عمرو محمد بن محمّد بن أحمد القاضي ، أخبرنا أبو عبد الرحمن ، أخبرنا ابن أبي الربيع ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ، قال : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى عليهم‌السلام.

أخبرنا أبو منصور الجمشاذي ، أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن يوسف الدقّاق ، أخبرنا الحسن ابن محمّد بن جابر ، حدّثنا عبد الله بن هاشم ، حدّثنا وكيع ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع ابن أنس ، عن أبي العالية في قوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ، قال : كانوا ثلاثة : نوح ، وإبراهيم ، وهود ، ومحمّد رابعهم ، أمر أن يصبر كما صبروا.

أخبرني أبو عبد الله بن منجويه ، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن برزة ، حدّثنا الحارث بن أبي أسامة ، حدّثنا داود بن المخبر ، حدّثنا سليمان بن الحكم ، عن الأحوص بن حكيم بن كعب الحبر ، قال : في جنّة عدن مدينة من لؤلؤ بيضاء ، تكلّ عنها الأبصار ، لم يرها نبي مرسل ولا ملك مقرّب ، أعدّها الله سبحانه وتعالى لأولي العزم من الرّسل والشهداء والمجاهدين ، لأنّهم فضّلوا الناس عقلا وحلما وإنابة ولبّا.

(وَلا تَسْتَعْجِلْ) العذاب. (لَهُمْ) فإنّه نازل بهم لا محالة. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الآخرة (لَمْ يَلْبَثُوا) في الدّنيا (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) يعني في جنب يوم القيامة ، وقيل : لأنّه ينسيهم هول ما عاينوا قدر مكثهم في الدّنيا. ثمّ قال : (بَلاغٌ) أي هذا

__________________

(١) سورة الشعراء : ٦١.

(٢) سورة الشعراء : ٦٢.

٢٦

القرآن وما ذكر فيه من البيان بلاغ بلغكم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله تعالى ، دليله ونظيره في سورة إبراهيم.

عليه‌السلام (فَهَلْ يُهْلَكُ) بالعذاب إذا نزل (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن أمر الله تعالى.

أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي ، حدّثنا سعد بن محمّد بن إسحاق الصيرفي ، حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شنبه ، حدّثنا منجاب بن الحارث ، حدّثنا علي بن مهير ، حدّثنا ابن أبي ليلى ، عن الحكيم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : إذا عسر على المرأة ولدها ، فلتكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ، ثمّ تغسّل ، ثمّ تسقى منها : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لا إله إلّا الله الحليم الكريم سبحان الله (رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١).

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ).

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٨٦.

٢٧

سورة محمّد

مدنية ، وهي ثمان وثلاثون آية وتسع وثلاثون كلمة ،

وألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا

أخبرنا أبو الحسن محمّد بن القاسم بن أحمد الفارسي بقراءتي عليه ، أخبرنا أبو عمر ، وإسماعيل بن مجيد بن أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن إبراهيم بن سعيد البوشيخي ، حدّثنا سعيد بن حفص ، قال : قرأت على معقل بن عبد الله ، عن عكرمة بن خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة محمّد كان حقّا على الله تعالى أن يسقيه من أنهار الجنّة» [١٦] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢))

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها فلم يقبلها ، وقال الضحّاك : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل الديرة عليهم.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ١٥٩.

٢٨

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) حالهم ، وجمعه بالات. قال سفيان الثوري : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) لم يخالفوه في شيء. قال ابن عبّاس : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) أهل مكّة. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الأنصار.

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) يعني الشياطين. (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني القرآن. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ) يبيّن الله للنّاس. (أَمْثالَهُمْ) أشكالهم.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل الحرب. (فَضَرْبَ) نصب على الإغراء (الرِّقابِ) الأعناق ، واحدتها رقبة. (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي غلبتموهم ، وقهرتموهم ، وصاروا أسرى في أيديكم. (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) كي لا يفلتوا منكم ، فيهربوا. (فَإِمَّا مَنًّا) عليهم (بَعْدُ) الأسر ، بإطلاقكم إيّاهم من غير عوض ، ولا فدية.

(وَإِمَّا فِداءً) (و) نصبا بإضمار الفعل ، مجازه : فإمّا أن تمنّوا عليهم منّا ، وإمّا أن تفادوهم ، واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هي منسوخة بقوله : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) (١) ... الآية. وقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٢) ، وإلى هذا القول ذهب قتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن جريج ، وهي رواية العوفي ، عن ابن عبّاس.

أخبرنا عقيل بن محمّد أنّ أبا الفرج البغدادي أخبرهم ، عن محمّد بن جرير ، حدّثنا ابن عبد الأعلى ، حدّثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، قال : كتب إلى أبي بكر رضي‌الله‌عنه في أسير أسر ، فذكر أنّهم التمسوه بفداء كذا ، وكذا ، فقال أبو بكر : اقتلوه ، لقتل رجل من المشركين أحبّ إليّ من كذا ، وكذا.

وقال آخرون : هي محكمة والإمام مخيّر بين القتل ، والمنّ ، والفداء. وإليه ذهب ابن عمر ، والحسن ، وعطاء ، وهو الاختيار ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء الراشدين كلّ ذلك فعلوا ، فقتل رسول الله عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، يوم بدر صبرا فادى سائر أسارى بدر.

وقيل : بني قريظة ، وقد نزلوا على حكم سعد ، وصاروا في يده سلما ومنّ على أمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده.

أخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج القاضي البغدادي أخبرهم ، عن محمّد بن جرير ، حدّثنا ابن عبد الأعلى ، حدّثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن رجل من أهل الشام ممّن كان يحرس عمر بن عبد العزيز ، قال : ما رأيت عمر قتل أسيرا إلّا واحدا من الترك ، كان جيء بأسارى من الترك ، فأمر

__________________

(١) سورة الأنفال : ٥٧.

(٢) سورة التوبة : ٥.

٢٩

بهم أن يسترقوا ، فقال رجل ممّن جاء بهم : يا أمير المؤمنين لو كنت رأيت هذا ـ لأحدهم ـ وهو يقتل المسلمين ، لكثر بكاؤك عليهم فقال عمر : قد فدك ، فاقتله ، فقام إليه فقتله.

(حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (١) أثقالها وأحمالها فلا تكون حرب ، وقيل : حتّى تضع الحرب آثامها ، وأجرامها ، فيرتفع ، وينقطع ، لأنّ الحرب لا تخلو من الإثم في أحد الجانبين والفريقين. وقيل : معناه حتّى يضع أهل الحرب آلتها وعدّتها أو آلتهم وأسلحتهم فيمسكوا عن الحرب.

والحرب القوم المحاربون كالشرب والركب ، وقيل حتّى يضع الأعداء المتحاربون أوزارها وآثامها بأن يتوبوا من كفرهم ويؤمنوا بالله ورسوله. ويقال للكراع : أوزار ، قال الأعشى :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا (٢)

ومعنى الآية أثخنوا المشركين بالقتل ، والأسر حتّى يظهر الإسلام على الأديان كلّها ، ويدخل فيه أهل كلّ ملّة طوعا أو كرها (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (٣) فلا نحتاج إلى قتال وجهاد ، وذلك عند نزول عيسى عليه‌السلام.

وقال الحسن : معناه حتّى لا يعبد إلّا الله. الكلبي : حتّى يسلموا أو يسالموا. (ذلِكَ) الذي ذكرت وبيّنت من حكم الكفّار (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) فأهلكهم وكفاكم أمرهم بغير قتال.

(وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) من حكم الكفّار و (نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) ...

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قرأ الحسن بضم (القاف) وكسر (التاء) مشدّدا من غير (ألف) ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وحفص بضمّ (القاف) وكسر (التاء) مخفّفا من غير (ألف) ، واختاره أبو حاتم يعني الشهداء ، وقرأ عاصم الجحدري قَتَلُوا بفتح (القاف) و (التاء) من غير (ألف) ، يعني والذين قتلوا المشركين.

وقرأ الباقون قاتلوا (بالألف) من المقاتلة ، وهم المجاهدون ، واختاره أبو عبيد. (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) قال قتادة : ذكر لنا إنّ هذه الآية أنزلت يوم أحد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون : أعل هبل ، فنادى المسلمون : الله أعلى وأجلّ. فنادى المشركون : يوم بيوم والحرب سجال ، لنا عزّى ولا عزّى لكم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم ، إنّ القتال مختلفة ، إما قتلانا فـ (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ، وإمّا قتلاكم ففي النّار يعذّبون» [١٧] (٤).

__________________

(١) سورة محمد : ٤.

(٢) كتاب العين : ٧ / ٣٨١.

(٣) سورة الأنفال : ٣٩.

(٤) جامع البيان للطبري : ٢٦ / ٥٨.

٣٠

(سَيَهْدِيهِمْ) في الدّنيا إلى الطاعة وفي العقبى إلى الدرجات.

(وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) يرضي خصماءهم ، ويقبل أعمالهم (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي بيّن لهم منازلهم فيها حتّى يهتدوا إلى مساكنهم ، ودرجاتهم التي قسم الله لهم ، لا يخطئون ، ولا يستدلّون عليها أحد ، كأنّهم سكّانها منذ خلقوا ، وإنّ الرجل ليأتي منزله منها إذا دخلها كما كان يأتي منزله في الدّنيا ، لا يشكل ذلك عليه. وإنّه أهدى إلى درجته وزوجته وخدمه ونعمه منه إلى أهله ومنزله في الدّنيا. هذا قول أكثر المفسّرين ، وقال المؤرّخ : يعني طيبها ، والعرف : الريح الطيّبة ، تقول العرب : عرّفت المرقة إذا طيّبتها بالملح والأبازير ، قال الشاعر :

وتدخل أيد في حناجر أقنعت

لعادتها من الحزير المعرّف (١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي رسوله ودينه.

(يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) على الإسلام ، وفي القتال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) قال ابن عبّاس : بعدا لهم ، وقال أبو العالية : سقوطا ، وقال الضحّاك : خيبة ، وقال ابن زيد : شقا ، وقال ابن جرير : حزنا ، وقال الفراء : هو نصب على المصدر على سبيل الدعاء ، وأصل التعس في النّاس والدواب ، وهو أن يقال للعاثر : تعسا ، إذا لم يريدوا قيامه ، ويقال : أتعسه الله ، فتعس وهو متعس ، وضدّه لعاء إذا أرادوا قيامه ، وقد جمعها الأعمش في بيت واحد يصف ناقته :

بذات لوث غفرناه إذا عثرت

فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا (٢)

(وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) لأنّها كانت في طاعة الشيطان خالية عن الإيمان. (ذلِكَ) الإضلال ، والإبعاد. (بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي أهلكهم ودمّر عليهم منازلهم ، ثمّ توعّد مشركي قريش. (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) إن لم يؤمنوا (ذلِكَ) الذي ذكرت ، وفعلت (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) وليّهم ، وناصرهم ، وحافظهم ، وفي حرف ابن مسعود ذلك بأنّ الله ولي الّذين آمنوا.

(وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ * إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا) محلّه رفع على الابتداء (يَتَمَتَّعُونَ) في الدّنيا (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) ليس لهم همّة إلّا بطونهم ، وفروجهم ، وهم لاهون ساهون عمّا في غدهم ، وقيل : المؤمن في الدّنيا يتزوّد ، والمنافق يتزيّن ، والكافر يتمتّع.

(وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ).

__________________

(١) لسان العرب : ٨ / ٢٩٩.

(٢) كتاب العين : ٨ / ٢٣٩.

٣١

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أي أخرجك أهلها يدلّ عليه (أَهْلَكْناهُمْ) ولم يقل : أهلكناها (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) عن ابن عبّاس : لما خرج رسول الله عليه‌السلام من مكّة إلى الغار ، التفت إلى مكّة ، وقال : «أنت أحبّ بلاد الله إلى الله ، وأحبّ بلاد الله إليّ ، ولو أنّ المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك» [١٨]. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) وهم أبو جهل والمشركون.

(مَثَلُ) شبه وصفة (الْجَنَّةِ الَّتِي) وقرأ علي بن أبي طالب أمثال الجنّة التي (وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) آجن متغيّر منتن ، يقال : آسن الماء يأسن ، وآجن يأجن ، وأسن يأسن ويأسن ، وأجن يأجن ، ويأجن ، أسونا ، وأجونا ، إذا تغيّر ، ويقال : أسن الرجل : بكسر السين لا غير ، إذا أصابته ريح منتنة ، فغشى عليه قال زهير :

يغادر القرن مصفرا أنا مله (١)

يميد في الرمح ميل المائح الأسن

وقرأ العامّة (آسِنٍ) بالمد ، وقرأ ابن كثير بالقصر وهما لغتان.

(وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) لم تدنسها الأيدي ، ولم تدنسها الأرجل ، ونظير لذّ ولذيذ ، طب وطبيب. (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) قال كعب الأحبار :

__________________

(١) تاج العروس : ٩ / ١٢٢ ؛ وفي تفسير القرطبي ١٦ / ٢٣٦ : قد أترك القرن ، والبيت لزهير.

٣٢

نهر دجلة نهر ماء الجنّة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر.

(وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) يعني المتّقين الّذين هم أهل الجنّة ، (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) ، فاستغنى بدلالة للكلام عليه ، وقال ابن كيسان : مثل الجنّة التي فيها هذه الأنهار ، والثمار ، كمثل النّار التي فيها الحميم ، ومثل أهل الجنّة في النعيم المقيم ، كمثل أهل النّار في العذاب الأليم.

(وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ) إذا أدني منهم شوى وجوههم ، ووقعت فروة رؤوسهم ، فإذا شربوه قطّع (أَمْعاءَهُمْ وَمِنْهُمْ) يعني ومن هؤلاء الكفّار (مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وهم المنافقون يستمعون قولك ، فلا يعونه ، ولا يفهمونه تهاونا منهم بذلك ، وتغافلا (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من الصحابة (ما ذا قالَ آنِفاً) (الآن) وأصله الابتداء.

قال مقاتل : وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب ويحث المنافقين ، فسمع المنافقون قوله ، فلمّا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود عمّا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء وتهاونا منهم بقوله.

قال ابن عبّاس في قوله : (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : أنا منهم وقد سئلت فيمن سئل. قال قتادة : هؤلاء المنافقون ، دخل رجلان : رجل عقل عن الله تعالى وانتفع بما سمع ، ورجل لم يعقل عن الله ، فلم ينتفع بما سمع ، وكان يقال : النّاس ثلاثة : سامع عاقل ، وسامع عامل ، وسامع غافل تارك.

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فلم يؤمنوا. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) يعني المؤمنين. (زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ) وقرأ ابن مسعود والأعمش وأنطاهم! وأعطاهم (تَقْواهُمْ) ألهمهم ذلك ، ووفّقهم ، وقال سعيد بن جبير : (وَآتاهُمْ) ثواب (تَقْواهُمْ).

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ) ينتظرون. (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أماراتها وعلاماتها ، وبعث [النبي] صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها وقيل : أدلّتها وحجج كونها ، واحدها شرط ، وأصل الأشراط الإعلام ، ومنه الشرط ، لأنّهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها ، ومنه الشرط في البيع وغيره.

ويقال : أشرط نفسه في عمل كذا ، وأعلمها وجعلا له. قال أوس بن حجر يصف رجلا وقد تدلّى بحبل من رأس جبل إلى نبعة ليقطعها ويتخذ منها قوسا :

فأشرط فيها نفسه وهو معصم

وألقى بأسباب له وتوكلا (١)

__________________

(١) غريب الحديث : ١ / ٤١.

٣٣

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) يعني فمن أين لهم التذكّر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم السّاعة ، نظيره قوله تعالى : (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (١).

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) قال بعضهم : الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به غيره وأخواتها كثيرة ، وقيل : فاثبت عليه ، وقال الحسين بن الفضل : فازدد علما على علمك ، وقال عبد العزيز ابن يحيى الكناني : هو أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يضجر ، ويضيق صدره من طعن الكافرين ، والمنافقين فيه ، فأنزل الله هذه الآية ، يعني فاعلم إنّه لا كاشف يكشف ما بك إلّا الله ، فلا تعلق قلبك على أحد سواه.

وقال أبو العالية وابن عيينة : هذا متصل بما قبله ، معناه فاعلم إنّه لا ملجأ ، ولا مفزع عند قيام السّاعة ، إلّا الله. سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن عدش يقول : معناه فاعلم إنّه لا قاضي في ذلك اليوم إلّا الله ، نظيره (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٢).

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) ليتسنّ أمّتك بسنّتك ، وقيل : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) من التقصير الواقع لك في معرفة الله.

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أخبرني عقيل بن محمّد أنّ أبا الفرج القاضي أخبرهم ، عن محمّد بن جرير ، حدّثنا أبو كريب ، حدّثنا عثمان بن سعيد ، حدّثنا إبراهيم بن سليمان ، عن عاصم الأحول ، عن عبد الله بن سرخس ، قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : غفر الله لك يا رسول الله ، فقال رجل من القوم : استغفر لك يا رسول الله؟! قال : «نعم ولك» [١٩]. ثمّ قرأ (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ).

أخبرنا ابن منجويه الدينوري ، حدّثنا أحمد بن علي بن عمر بن حبش الرازي ، حدّثنا أبو بكر محمّد بن عيّاش العتبي ، حدّثنا أبو عثمان سعيد بن عنبسة الحراز ، حدّثنا عبد الرّحمن بن محمّد ، عن بكر بن حنيس ، عن محمّد بن يحيى ، عن يحيى بن وردان ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يكن عنده مال يتصدّق به ، فليستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، فإنّها صدقة» [٢٠] (٣).

(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) قال عكرمة : يعني منقلبكم من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمّهات ، (وَمَثْواكُمْ) : مقامكم في الأرض. ابن كيسان : (مُتَقَلَّبَكُمْ) من ظهر إلى بطن ، (وَمَثْواكُمْ) : مقامكم في القبور. ابن عبّاس والضحّاك : منصرفكم ومنتشركم في أعمالكم في الدّنيا ،

__________________

(١) سورة سبأ : ٥٢.

(٢) سورة الحمد : ٤.

(٣) مجمع الزوائد : ١٠ / ٢١.

٣٤

(وَمَثْواكُمْ) : مصيركم إلى الجنّة وإلى النّار. ابن جرير : (مُتَقَلَّبَكُمْ) : منصرفكم لأشغالكم بالنهار ، (وَمَثْواكُمْ) : مضجعكم للنوم بالليل ، لا يخفى عليه شيء من ذلك.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) اشتياقا منهم إلى الوحي وحرصا على الجهاد. (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) تأمرنا بالجهاد. (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) بالأمر والنهي ، قال قتادة : كلّ سورة ذكر فيها الجهاد ، فهي محكمة ، وهي أشدّ للقرآن على المنافقين. وفي حرف عبد الله (سورة محدثة) (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعني المنافقين (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) شزرا ، بتحديق شديد كراهة منهم للجهاد ، وجبنا منهم على لقاء العدوّ (نَظَرَ) كنظر (الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ) وعيد وتهديد ، قال : (طاعَةٌ) مجازه ، ويقول هؤلاء المنافقون قبل نزول الآية المحكمة (طاعَةٌ) رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة أو منّا طاعة.

(وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) حسن وقيل : هو متصل بالكلام الأوّل ، (واللام) في قوله (لَهُمْ) بمعنى (الباء) مجازه فأولى بهم طاعة لله ورسوله (وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) بالإجابة والطاعة.

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جدّ الأمر وعزم عليه وأمروا بالقتال. (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) في إظهار الإيمان والطاعة (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ) فلعلّكم (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن الإيمان ، وعن القرآن ، وفارقتم أحكامه.

(أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالمعصية ، والبغي ، وسفك الدماء ، وتعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الفرقة ، بعد ما جمعكم الله تعالى بالإسلام ، وأكرمكم بالألفة.

قال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولّوا عن كتاب الله؟ ألم يسفكوا الدم الحرام ، وقطعوا الأرحام ، وعصوا الرّحمن؟ ، وقال بعضهم : هو من الآية. قال المسيب بن شريك والفراء : يقول : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) إن ولّيتم أمر الناس (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالظلم ، نزلت في بني أمية ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسين ، حدّثنا هارون بن محمّد بن هارون ، حدّثنا محمّد بن عبد العزيز ، حدّثنا القاسم بن يونس الهلالي ، عن سعيد بن الحكم الورّاق ، عن ابن داود ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فهل عسيتم إن وليتم أن تفسدوا في الأرض ثم قال : «هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألّا يفسدوا في الأرض ولا يقطّعوا أرحامهم» (١).

وقرأ علي بن أبي طالب إِنْ تُوُلِّيتُمْ بضمّ (التاء) و (الواو) وكسر (اللام) ، يقول (٢) : إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة ، وعاونتموهم (٣). ومثله روى رويس عن يعقوب.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٢٤٦.

(٢) في تفسير الطبري (٦ / ٤٨٣) : أي ولي عليكم.

(٣) في تفسير القرطبي : حاربتموهم.

٣٥

(وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) قرأ يعقوب ، وأبو حاتم ، وسلام (وَتَقْطَعُوا) خفيفة من القطع اعتبارا بقوله : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (١) وقرأ الحسن يقطّعوا مفتوحة الحروف ، اعتبارا بقوله : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) (٢). وقرأ غيرهم (وَتُقَطِّعُوا) بضم (التاء) مشدّدا من التقطيع على التكثير لأجل الأرحام.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) عن الحقّ.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) تفهم مواعظ القرآن ، وأحكامه ، أخبرنا عقيل ابن محمّد ، أخبرنا المعافى بن زكريا ، أخبرنا محمّد بن جرير ، حدّثنا ابن حميد ، حدّثنا يحيى بن واضح ، حدّثنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، قال : ما من النّاس أحد إلّا وله أربع أعين : عينان في وجهه لدنياه ، ومعيشته ، وعينان في قلبه لدينه ، وما وعد الله من الغيب. وما من أحد إلّا وله شيطان متبطّن فقار ظهره ، عاطف عنقه على عاتقه ، فاغر فاه إلى ثمرة قلبه ، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللّتان في قلبه ما وعد الله تعالى من الغيب ، فيعمل به ، وإذا أراد الله بعبد شرّا طمس عليهما ، فذلك قوله : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧.

(٢) سورة المؤمنون : ٥٣.

٣٦

وبه عن ابن جرير ، حدّثنا بشير ، حدّثنا حمّاد بن زيد ، حدّثنا هشام بن عبده عن أبيه ، قال : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) فقال شاب من أهل اليمن : بل عليها أقفالها حتّى يكون الله يفتحها أو يفرجها ، فما زال الشاب في نفس عمر حتّى ولي فاستعان به.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) قال قتادة : هم كفّار أهل الكتاب كفروا بمحمّد وهم يعرفونه ويجدون نعته مكتوبا عندهم ، وقال ابن عبّاس والضحّاك والسدي : هم المنافقون.

(الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) زيّن لهم (وَأَمْلى لَهُمْ) قرأ أبو عمرو بضم (الألف) وفتح (الياء) على وجه ما لم يسمّ فاعله. وقرأ مجاهد ، ويعقوب بضمّ (الألف) وإرسال (الياء) على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنّه يفعل ذلك بهم وهو اختيار أبي حاتم. وقرأ الآخرون (وَأَمْلى) بفتح (الألف) بمعنى وأملى الله لهم وهو اختيار أبي عبيدة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) يعني هؤلاء المنافقين أو اليهود (قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) وهم المشركون. (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) في مخالفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقعود عن الجهاد.

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) قرأ أهل الكوفة إلّا أبو بكر بكسر (الألف) على الفعل ، غيرهم بفتحها على جمع السر.

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ) (بالتاء) قراءة العامّة ، وقرأ عيسى بن عمر (توفّيهم) (بالياء). (الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) عند الموت ، نظيرها في الأنفال والنحل. (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك ، يعني المنافقين (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أحقادهم على المؤمنين ، واحدها ضغن ، فيبديها لهم حتّى يعرفوا نفاقهم. (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) أي لأعلمناكهم ، وعرفناكهم ، ودللناك عليهم ، تقول العرب : سأريك ما أصنع بمعنى سأعلمك ، ومنه قوله تعالى : (بِما أَراكَ اللهُ) (١).

(فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) بعلامتهم ، قال أنس بن مالك : ما أخفي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنّا معه في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشكوهم النّاس ، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كلّ واحد منهم مكتوب هذا منافق.

فذلك قوله : (بِسِيماهُمْ).

وقال ابن زيد : قد أراد الله إظهار نفاقهم ، وأمر بهم أن يخرجوا من المسجد ، فأبوا إلّا أن

__________________

(١) سورة النساء : ١٠٥.

٣٧

يمسكوا بلا إله إلّا الله ، فلمّا أبوا أن يمسكوا إلّا بلا إله إلّا الله ، حقنت دماؤهم ، ونكحوا ، ونكحوا بها.

(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) قال ابن عبّاس : في معنى القول : الحسن في فحواه.

القرظي : في مقصده ومغزاه. واللحن وجهان : صواب ، وخطأ ، فأمّا الصواب فالفعل منه لحن يلحن لحنا ، فهو لحن إذا فطن للشيء ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض» [٢١] (١) ، والفعل من الخطأ لحن يلحن لحنا ، فهو لاحن ، والأصل فيه إزالة الكلام عن جهته ، وفي الخبر أنّه قيل لمعاوية : إنّ عبيد الله بن زياد يتكلّم بالفارسية ، فقال : أليس طريفا من ابن أخي أن يلحن في كلامه أي يعدل به من لغة إلى لغة ، قال الشاعر :

وحديث الذه هو ممّا

ينعت الناعتون يوزن وزنا (٢)

منطق صائب وتلحن أحيانا

وخير الحديث ما كان لحنا

يعني ترتل حديثها.

(وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالجهاد (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) قرأ العامّة كلّها بالنون لقوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) (٣). وروى أبو بكر والمفضل ، عن عاصم كلّها (بالياء). وقرأ يعقوب ، (وَنَبْلُوا) ساكنة (الواو) ردّا على قوله : (نَعْلَمَ).

قال إبراهيم بن الأشعث : كان الفضل إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللهم لا تبلنا ، فإنّك إن بلوتنا هتكت أستارنا ، وفضحتنا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) قال ابن عبّاس : هم المطعمون يوم بدر ، نظيره قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٤) ... الآية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بمعصيتها ، قال مقاتل والثمالي : لا تمنوا على رسول الله فتبطلوا أعمالكم ، نزلت في بني أسد. وسنذكر القصة في سورة الحجرات إن شاء الله. وقيل : بالعجب والرياء.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) قيل : هم أصحاب القليب ، وحكمها عام (فَلا تَهِنُوا) تضعفوا (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) إلى الصلح (وَأَنْتُمُ

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٣٣٢ ؛ صحيح البخاري : ٨ / ٦٢.

(٢) الصحاح : ٦ / ٢١٩٤.

(٣) سورة محمد : ٣٠.

(٤) سورة الأنفال : ٣٦.

٣٨

الْأَعْلَوْنَ) لأنّكم مؤمنون محقّون.

(وَاللهُ مَعَكُمْ) قال قتادة : لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) قال ابن عبّاس وقتادة والضحّاك وابن زيد : لن يظلمكم. مجاهد : لن ينقصكم أعمالكم بل يثيبكم عليها ، ويزيدكم من فضله ، ومنه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فاته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله» [٢٢] (١) أي ذهب بهما.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ) ربّكم. (أَمْوالَكُمْ) لا يسألكم الأجر ، بل يأمركم بالإيمان ، والطاعة ليثيبكم عليها الجنّة ، نظيره قوله : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) (٢) .. الآية ، وقيل : (وَلا يَسْئَلْكُمْ) محمّد صدقة أموالكم ، نظيره قوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ...) (٣) وقيل : معنى الآية (وَلا يَسْئَلْكُمْ) الله ورسوله (أَمْوالَكُمْ) كلّها إنّما يسألانكم غيضا من فيض ، ربع العشر فطيبوا بها نفسا ، وإلى هذا القول ذهب ابن عيينة وهو اختيار أبي بكر بن عبدش ، قال : حكى لنا ابن حبيب عنه ، يدلّ عليه سياق الآية.

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) فيجهدكم ويلحّ ويلحفكم عليها ، وقال ابن زيد : الإحفاء أن تأخذ كلّ شيء بيدك.

(تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) قال قتادة : قد علم الله تعالى أنّ في مسألة المال خروج الأضغان (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُ) عن صدقاتكم وطاعتكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إليها (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) في الطواعية ، بل يكونوا أطوع لله تعالى وأمثل منكم ، قال الكلبي : هم كندة والنخع. الحسن : هم العجم. عكرمة : فارس والروم. أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد ابن الحسين بن عبد الله بن منجويه الدينوري ، حدّثنا عمر بن الخطّاب ، حدّثنا عبد الله بن الفضل ، حدّثنا يحيى بن أيّوب ، حدّثنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني عبد الله بن نجيح ، عن العلاء بن عبد الرّحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن إن تولّينا استبدلوا ، ثمّ لا يكونوا أمثالنا؟ قال : وكان سلمان إلى جانب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخذ سلمان وقال : «هذا وقومه (٤) ، والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان معلّقا (٥) بالثريا لناله لتناوله رجال من فارس» [٢٣] (٦).

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ١٠٢.

(٢) سورة الذاريات : ٥٧.

(٣) سورة ص : ٨٦.

(٤) في المصدر : أصحابه بدلا من «وقومه».

(٥) في المصدر : منوطا بدلا من «معلقا».

(٦) سنن الترمذي : ٥ / ٦٠.

٣٩

سورة الفتح

مدنية ، وهي تسع وعشرون آية ، وخمسمائة وستّون كلمة ،

وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا

أخبرنا عبيد الله بن محمّد الزاهد بقراءتي عليه ، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا أبو الأشعث ، حدّثنا أبو المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدث عن قتادة ، عن أنس ، قال : لمّا رجعنا من غزوة الحديبية ، قد حيل بيننا وبين نسكنا ، فنحن بين الحزن والكآبة ، فأنزل الله تعالى عليه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الآية كلّها.

فقال رسول الله : «لقد نزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدّنيا جميعا» [٢٤] (١).

أخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل القهندري بقراءتي عليه ، أخبرنا مكي بن عبدان ، حدّثنا محمّد بن يحيى ، قال : وفيما قرأت على عبد الله بن نافع وحدّثني مطرف ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه يسير معه ليلا ، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ، ثمّ سأله فلم يجبه ، قال عمر : فحرّكت بعيري حتّى تقدّمت أمام الناس ، وخشيت أن يكون نزل فيّ قرآن ، فجئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس» [٢٥] (٢) ، ثمّ قرأ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ).

أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه الثقفي ، حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي ، حدّثنا حمزة بن الحسين بن عمر البغدادي ، حدّثنا محمّد بن عبد الملك ، قال : سمعت يزيد بن هارون يقول : سمعت المسعودي يذكر ، قال : بلغني أنّ من قرأ في أوّل ليلة من رمضان (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) في التطوّع حفظ ذلك العام.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩))

__________________

(١) صحيح مسلم : ٥ / ١٧٦ ؛ السنن الكبرى : ٥ / ٢١٧.

(٢) صحيح البخاري : ٦ / ٤٤ ؛ كنز العمال : ١ / ٥٨١.

٤٠