الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

حلّاقك فيحلقك. فقام فخرج ، فلم يكلّم أحدا منهم كلمة حتى نحر بدنته ، ودعا حالقه ، فحلقه ، وكان الذي حلقه ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي ، فأما يوم الحديبية فحلق رجال وقصّر آخرون ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله المحلّقين». قالوا : والمقصّرين يا رسول الله؟ قال : «يرحم الله المحلّقين» ، قالوا : والمقصّرين يا رسول الله؟

قالوا : فلم ظاهرت الترحم للمحلّقين دون المقصّرين؟. قال : «لأنّهم لم يشكّوا». قال ابن عمر : وذلك أنّه تربض القوم ، قالوا : لعلّنا نطوف بالبيت. قال ابن عبّاس : وأهدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضّة ، ليغيظ المشركين بذلك ، ثمّ جاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسوة مؤمنات ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) (١) ... الآية ، قال : فطلّق عمر امرأتين كانتا له في الشرك. قال : فنهاهم أن يردونهنّ وأمرهم أن ترد الصدقات ، حينئذ ، قال رجل للزهري : أمن أجل الفروج؟ قال : نعم ، فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية ، ثمّ رجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فجاءه أبو نصير عتبة بن أسيد بن حارثة وهو مسلم ، وكان ممّن جلس بمكّة ، فكتب فيه أزهر بن عبد عوف ، والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثا رجلا من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتابهما ، وقالا : العهد الذي جعلت لنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وإنّ الله تعالى جاعل لك ، ولمن معك من المستضعفين فرجا ، ومخرجا» [٥٠] (٢).

ثمّ دفعه إلى الرجلين ، فخرجا به حتّى إذا بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو نصير لأحد الرجلين : والله إنّي لأرى سيفك هذا جيّدا ، فاستلّه الآخر ، فقال : أجل والله إنّه لجيد. قال : أرني أنظر إليه. فأخذه وعلا به أخا بني عامر حتّى قتله ، وفرّ المولى وخرج سريعا حتّى أتى رسول الله عليه‌السلام ، وهو جالس في المسجد ، فلمّا رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طالعا قال : «إنّ هذا الرجل قد رأى فزعا».

فلمّا انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ويلك ما لك؟» قال : قتل صاحبكم صاحبي. فو الله ما برح حتّى طلع أبو نصير متوشّحا بالسيف ، حتّى وقف على رسول الله ، فقال : يا رسول الله وفت ذمّتك أسلمتني ورددتني ـ وقيل : وذريتني إليهم ـ ثمّ نجّاني الله منهم ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويل أمّه مستعر حرب لو كان معه رجال».

فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم ، فخرج أبو نصير حتّى أتى سيف البحر ، ونزل بالغيّض من ناحية ذي المروة ، على ساحل البحر بطريق قريش ، الذي كانوا يأخذون إلى الشام ،

__________________

(١) سورة الممتحنة : ١٠.

(٢) تاريخ الطبري : ٢ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

٦١

وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكّة قول رسول الله عليه‌السلام لأبي نصير : «ويل أمّه مستعر حرب لو كان معه رجال». فخرج عصابة منهم إليه ، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي نصير حتّى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم ، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلّا اعترضوا لهم فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، حتّى ضيّقوا على قريش ، فأرسلت قريش إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه‌السلام يناشدونه الله ، والرحم ، لمّا أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فآواهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدموا عليه المدينة [٥١] (١).

قال الله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) بأن يقتلوهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) قال ابن زيد : إثم ، وقال ابن إسحاق : غرم الدّية. وقيل : الكفّارة ؛ لأنّ الله تعالى إنّما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ، ولم يعلم قاتله إيمانه الكفّارة دون الدّية ، فقال جلّ ثناؤه : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (٢).

ولم يوجب على قاتل خطأ دية ، وقيل : هو أنّ المشركين يعيبونكم ويقولون : قتلوا أهل دينهم. (والمعرّة) المشقّة ، وأصلها من العرّ وهو الحرب لإذن ذلك في دخولها ، ولكنّه حال بينكم ، وبين ذلك (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) دينه الإسلام (مَنْ يَشاءُ) من أهل مكّة قبل أن تدخلوها ، هكذا نظم الآية وحكمها ، فحذف جواب (لو لا) استغناء بدلالة الكلام عليه ، وقال بعض العلماء : قوله : (لَعَذَّبْنَا) جواب لكلامين : أحدهما (لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) ، والثاني : (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي تميّزوا.

ثمّ قال : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) يعني المؤمنين ، والمؤمنات (فِي رَحْمَتِهِ) لكن جنّته. قال قتادة : في هذه الآية إنّ الله يدفع بالمؤمنين عن الكفّار ، كما يدفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكّة.

أخبرنا أبو عبد الله بن منجويه الدينوري ، حدّثنا أبو علي بن حبش المقري ، حدّثنا أبو الطيّب أحمد بن عبد الله بن بجلي الدارمي بأنطاكية ، حدّثني أحمد بن يعقوب الدينوري ، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن محمّد الأنصاري ، حدّثني محمّد بن الحسن الجعفري ، قال : سمعت جعفر ابن محمّد يحدّث ، عن أبيه ، عن جدّه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنّه سأل [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم] عن قول الله تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) قال : «هم المشركون من أجداد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممّن كان بعده في عصره ، كان في أصلابهم المؤمنون ، فلو تزيّل المؤمنون عن أصلاب الكفّار يعذب الله عذابا أليما» [٥٢].

إذ من صلة قوله تعالى :

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ٢٨٥

(٢) سورة النساء : ٩٢.

٦٢

(لَعَذَّبْنَا إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) حين صدّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عن البيت ، ولم يقرّوا بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، ولا برسالة رسول الله ، (والحميّة) فعيلة من قول القائل : حمي فلان أنفه ، يحمي حميّة ، وتحمية. قال المتلمس :

ألا إنّني منهم وعرضي عرضهم

كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشّما (١)

أي يمنع. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) يعني الإخلاص ، نظيرها قوله تعالى : (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) (٢) وقوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٣).

أخبرنا أبو بكر محمّد بن أحمد بن شاذان الرازي بقراءتي عليه ، حدّثنا أبو عبد الله الحسين ابن علي بن أبي الربيع القطان ، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمّد بن حنبل ، وهيثم ـ أو وهضيم ـ ابن همام الآملي ، وعلي بن الحسين بن الجنيد ، قالوا : حدّثنا الحسن بن قزعة ، حدّثنا سفيان بن حبيب ، حدّثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي ناجية ، عن الطفيل بن أبي ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : في قول الله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : «لا إِلهَ إِلَّا اللهُ» [٥٣] (٤).

وهو قول ابن عبّاس ، وعمرو بن ميمون ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحّاك ، وسلمة بن كهيل ، وعبيد بن عمير ، وعكرمة ، وطلحة بن مصرف ، والربيع ، والسّدي ، وابن زيد ، وقال عطاء الخراساني : هي (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) محمّد رسول الله.

أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق ، أخبرنا أبو بكر بن حبيب ، حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن عيسى المزني ، حدّثنا أبو نعيم ، وأبو حذيفة ، قالا : حدّثنا سفيان ، عن سلمة ابن كهيل ، عن عباية بن ربعي ، عن عليّ رضي‌الله‌عنه (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) والله أكبر.

وهو قول ابن عمر ، وقال عطاء بن رباح : هي (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وحده (لا شَرِيكَ لَهُ) ، (... لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

أخبرنا أبو سعيد محمّد بن عبد الله بن حمدون ، أخبرنا أبو بكر محمّد بن حمدون بن خالد ، حدّثنا أحمد بن منصور المروزي بنيشابور ، حدّثنا سلمة بن سليم السلمي ، حدّثنا عبد الله ابن المبارك عن معمر عن ابن شهاب الزهري (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢٦ / ١٣٥ وفيه : يكشما.

(٢) سورة الحج : ٣٧.

(٣) سورة المائدة : ٢٧.

(٤) مسند أحمد : ٥ / ١٣٨ ؛ وسنن الترمذي : ٥ / ٦٣.

٦٣

(وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ) محمّدا عليه‌السلام. (الرُّؤْيا) التي أراها إيّاه في مخرجه إلى الحديبية ، أنّه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام. (بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) كلّها (وَمُقَصِّرِينَ) بعض رؤوسكم (لا تَخافُونَ) وقوله : (لَتَدْخُلُنَ) يعني وقال : (لَتَدْخُلُنَ) لأنّ عبارة (الرُّؤْيا) قول ، وقال ابن كيسان : قوله : (لَتَدْخُلُنَ) من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه ، فأخبر الله تعالى ، عن رسوله أنّه قال ذلك ، ولهذا استثنى تأدّبا بأدب الله تعالى حيث قال له : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١) ، وقال أبو عبيدة : (إن) بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله كقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (٢).

وقال الحسين بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول لأنّ بين (الرؤيا) وتصديقها سنة ، ومات منهم في السنة أناس ، فمجاز الآية (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) كلّكم (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ).

ويجوز أن يكون الاستثناء واقعا على الخوف ، والأمن لا على الدخول ، لأنّ الدخول لم يكن فيه شك ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند دخول المقبرة : «وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» [٥٤] (٣) فالاستثناء واقع على اللحوق دون الموت.

(فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) أنّ الصلاح كان في الصلح ، وهو قوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) .. الآية. (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي من دون دخولهما المسجد الحرام ، وتحقيق رؤيا رسول الله (فَتْحاً قَرِيباً) وهو صلح الحديبية عن أكثر المفسّرين ، قال الزهري : ما فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية ، لأنّه إنّما كان القتال حيث التقى النّاس ، فلمّا كانت الهدنة وضعت الحرب ، وأمن النّاس بعضهم بعضا ، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث ، والمناظرة ، فلم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلّا دخل فيه في تينك السنتين في الإسلام ، مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر ، وقال ابن زيد : هو فتح خيبر فتحها الله تعالى عليهم حين رجعوا من الحديبية ، فقسّمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل الحديبية كلّهم إلّا رجلا واحدا من الأنصار ، وهو أبو دجانة سماك بن خرشة كان قد شهد الحديبية ، وغاب عن خيبر.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ

__________________

(١) سورة الكهف : ٢٣.

(٢) سورة النور : ٣٣.

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٤٩٣ ح ١٥٤٧

٦٤

فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أنّك نبي صادق فيما تخبر ، ونصب (شَهِيداً) على التفسير وقيل : على الحال ، والقطع ، ثمّ قال : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) تمّ الكلام هاهنا ، ثمّ قال مبتدئا : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) (الواو) فيه (واو) الاستئناف (وَالَّذِينَ) في محل الرفع على الابتداء (أَشِدَّاءُ) غلاظ (عَلَى الْكُفَّارِ) لا تأخذهم فيهم رأفة. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) متعاطفون متوادّون بعضهم على بعض كقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (١).

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) أن يدخلهم جنّته (وَرِضْواناً) أن يرضى عنهم. (سِيماهُمْ) علامتهم (فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) واختلف العلماء في هذه السيماء ، فقال قوم : هو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة ، يعرفون بتلك العلامة ، أنّهم سجدوا في الدّنيا ، وهي رواية العوفي ، عن ابن عبّاس ، وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارت وجوههم من كثرة ما صلّوا.

وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم ، كالقمر ليلة البدر. قال آخرون : السمت الحسن ، والخشوع ، والتواضع ، وهو رواية الوالبي عن ابن عبّاس ، قال : أما إنّه ليس بالذي ترون ، ولكنّه سيماء الإسلام وسجيّته ، وسمته وخشوعه ، وقال منصور : سألت مجاهدا عن قوله سبحانه وتعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) ، أهو الأثر يكون بين عينيّ الرجل؟ قال : لا ربّما يكون بين عينيّ الرجل ، مثل ركبة العنز ، وهو أقسى قلبا من الحجارة ، ولكنّه نور في وجوههم من الخشوع ، وقال ابن جريج : هو الوقار ، والبهاء ، وقال سمرة بن عطية : هو البهج ، والصفرة في الوجوه ، وأثر السهرة. قال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى ، وما هم بمرضى ، وقال الضحّاك : أمّا إنّه ليس بالندب في الوجوه ، ولكنّه الصفرة.

وقال عكرمة ، وسعيد بن جبير : هو أثر التراب على جباههم. قال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب ، وقال سفيان الثوري : يصلّون بالليل ، فإذا أصبحوا رؤي ذلك في وجوههم ، بيانه قوله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» [٥٥] (٢).

قال الزهري : يكون ذلك يوم القيامة ، وقال بعضهم : هو ندب السجود ، وعلته في الجبهة من كثرة السجود.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥٤.

(٢) الجامع الصغير : ٢ / ٦٤٠ ؛ كنز العمال : ٧ / ٧٨٣.

٦٥

وبلغنا في بعض الأخبار إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : يا نار أنضجي ، يا نار أحرقي ، وموضع السجود فلا تقربي ، وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كلّ من حافظ على الصلوات الخمسة.

(ذلِكَ) الذي ذكرت (مَثَلُهُمْ) صفتهم (فِي التَّوْراةِ) وهاهنا تمّ الكلام ، ثمّ قال : (وَمَثَلُهُمْ) صفتهم (فِي الْإِنْجِيلِ) فهما مثلان (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) قرأه العامّة بجزم (الطاء) ، وقرأ بعض أهل مكّة ، والشام بفتحه ، وقرأ أنس ، والحسن ، ويحيى بن وثاب (شطاه) مثل عصاه. وقرأ الجحدري (شطه) بلا همزة ، وكلّها لغات. قال أنس : (شَطْأَهُ) نباته ، وقال ابن عبّاس : سنبلة حين يلسع نباته عن جنانه. ابن زيد : أولاده. مجاهد ، والضحّاك : ما يخرج بجنب الحقلة فينمو ويتمّ عطاء جوانبه. مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده ، فهو (شطأه).

السدّي : هو أن يخرج معه ألطافه الأخرى. الكسائي : طرفه. الفراء : شطأ الزرع أن ينبت سبعا ، أو ثمانيا ، أو عشرا. قال الأخفش : فراخة يقال : أشطأ الزرع ، فهو مشطي إذا أفرخ ، وقال الشاعر :

أخرج الشطأ على وجه الثرى

ومن الأشجار أفنان الثمر (١)

وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمّد عليه‌السلام يعني أنّهم يكونون قليلا ، ثمّ يزدادون ، ويكثرون ، ويقوون ، وقال قتادة : مثل أصحاب محمّد عليه‌السلام في الإنجيل مكتوب أنّه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر. (فَآزَرَهُ) قوّاه وأعانه وشد أزره (فَاسْتَغْلَظَ) فغلظ ، وقوى (فَاسْتَوى) نما وتلاحق نباته ، وقام (عَلى سُوقِهِ) أصوله (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) يعني أنّ الله تعالى فعل ذلك بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).

أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق ، أخبرنا أبو بكر محمّد بن يوسف بن حاتم بن نصر ، حدّثنا الحسن بن عثمان ، حدّثنا أحمد بن منصور الحنظلي ، المعروف بزاج المروزي ، حدّثنا سلمة بن سليمان ، حدّثنا عبد الله بن المبارك ، حدّثنا مبارك بن فضلة ، عن الحسن في قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) قال : هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أبو بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) عثمان بن عفّان رضي‌الله‌عنه (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) طلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد ، وسعيد ، وأبو عبيدة الجرّاح (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال : المبشّرون عشرة أوّلهم أبو بكر ، وآخرهم أبو عبيدة الجراح (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) قال : نعتهم في التوراة والإنجيل كمثل زرع قال : الزرع

__________________

(١) فتح القدير : ٥ / ٥٦.

٦٦

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أبو بكر الصدّيق ، (فَآزَرَهُ) عمر بن الخطّاب (فَاسْتَغْلَظَ) عثمان بن عفّان ، يعني استغلظ بعثمان الإسلام (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) علي بن أبي طالب يعني استقام الإسلام بسيفه (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) قال : المؤمنون (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) قال : قول عمر لأهل مكّة : لا نعبد الله سرّا بعد هذا اليوم.

أخبرنا ابن منجويه الدينوري ، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن شنبه ، حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدّثنا محمّد بن مسلم بن واره ، حدّثنا الحسين بن الربيع ، قال : قال ابن إدريس ما آمن بأن يكونوا قد ضارعوا الكفّار ، يعني الرافضة! ، لأنّ الله تعالى يقول : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).

أخبرنا الحسين بن محمّد العدل ، حدّثنا محمّد بن عمر بن عبد الله بن مهران ، حدّثنا أبو مسلم الكجي ، حدّثنا عبد الله بن رجاء ، أخبرنا عمران ، عن الحجّاج ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يكون في آخر الزمان قوم ينبزون أو يلمزون الرافضة يرفضون الإسلام ويلفظونه ، فاقتلوهم فإنّهم مشركون!» [٥٦] (١).

أخبرنا الحسين بن محمّد ، حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي ، حدّثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي ، حدّثنا أبي ، حدّثنا أبو العوام أحمد بن يزيد الديباجي ، حدّثنا المدني ، عن زيد ، عن ابن عمر ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ : «يا علي أنت في الجنّة وشيعتك في الجنّة ، وسيجيء بعدي قوم يدّعون ولايتك ، لهم لقب يقال له : الرافضة (٢) ، فإن أدركتهم فاقتلوهم فإنّهم مشركون».

قال : يا رسول الله ما علامتهم؟ قال : «يا علي إنّهم ليست لهم جمعة ، ولا جماعة يسبّون أبا بكر ، وعمر» [٥٧] (٣).

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات ، وقد مرّ تأويله ، وقال أبو العالية في هذه الآية : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يعني الذين أحبّوا أصحاب رسول الله المذكورين فيها فبلغ ذلك الحسن ، فارتضاه ، فاستصوبه منهم ، قال ابن جرير : يعني من الشطأ الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة رد (الهاء) و (الميم) على معنى الشطأ لا على لفظه ، لذلك قال : (مِنْهُمْ) ولم يقل : منه. (مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

(في فضل المفضل) ، حدّثنا الشيخ أبو محمّد المخلدي ، إملاء يوم الجمعة في شعبان سنة

__________________

(١) مجمع الزوائد : ١٠ / ٢٢.

(٢) روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن سبب تسميتهم بذلك أنهم رفضوا دين النبي» تذكرة الموضوعات للفتني : ٩٣ ، وهم غير الشيعة وغير الإمامية ، التي لا تنطبق عليهم هذه الصفات.

(٣) للعلامة الأميني كلام حول هذا الحديث وتأويله في الغدير ٣ / ١٥٤.

٦٧

أربع وثمانين وثلاثمائة ، قال : أخبرنا أبو بكر محمّد بن حمدون بن خالد ، وعبد الله بن محمّد بن مسلم ، قالا : حدّثنا هلال بن العلاء ، قال : حدّثنا حجّاج بن محمّد ، عن أيّوب بن عتبة ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن شداد بن عبد الله ، عن أبي أسماء الرجبي ، عن ثوبان ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل ، وأعطاني مكان الزبور المثاني ، وفضّلني بالمفضل» [٥٨] (١).

وأخبرنا أبو الحسن الحباري ، قال : حدّثنا أبو الشيخ الإصبهاني ، قال : أخبرنا ابن أبي عاصم ، قال : حدّثنا هشام بن عمّار ، قال : حدّثنا محمّد بن شعيب بن شابور ، قال : حدّثنا سعد ابن قيس ، عن قتادة ، عن أبي الملح الهذلي ، عن واثلة بن الأسقع ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطيت المثاني مكان الإنجيل ، وأعطيت المئين مكان الزبور ، وفضلت بالمفضل» [٥٩] (٢).

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ١٠٧ ؛ مجمع الزوائد : ٧ / ١٥٨ بتفاوت.

(٢) كنز العمال : ٢ / ٥٧٢ ؛ مجمع الزوائد : ٧ / ١٥٨ بتفاوت.

٦٨

سورة الحجرات

مدنية. وهي ألف وأربعمائة وخمسة وسبعون حرفا ،

وثلاثمائة وثلاثة وأربعون كلمة ، وثماني عشرة آية

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم العبدوي قرأه عليه سنة أربع وثمانين وثلاثمائة ، قال : أخبرنا أبو عمر ومحمّد بن جعفر بن محمّد العدل ، قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل ، قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني ، قال : حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ الحجرات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله ومن عصاه» [٦٠] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) قرأ العامة (تُقَدِّمُوا) بضم (التاء) وكسر (الدال) من التقديم ، وقرأ الضحّاك ، ويعقوب بفتحهما من التقدّم. واختلف المفسّرون في معنى الآية ، فروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبّاس ، قال : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة.

عطية عنه : لا تتكلّموا بين يدي كلامه.

وأخبرنا عبد الله بن حامد ، قال : أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسن بن مالك الشيباني ، قال : حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد بن عثمان الخزاز. قال : حدّثنا حسين بن محارق أبو جنادة ، عن عبد الله بن سلامة ، عن السبعي ، عن جابر بن عبد الله (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ)

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٢١٤.

٦٩

قال : في الذبح يوم الأضحى ، وإليه ذهب الحسن ، قال : لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن ناسا من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح.

وأخبرنا عبد الخالق ، قال : أخبرنا ابن حيي قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي العوام الرياحي ، قال : حدّثنا أبي. قال : حدّثنا النعمان بن عبد السّلم التيمي ، عن زفر بن الهذيل ، عن يحيى بن عبد الله التيمي عن حبّال بن رفيدة ، عن مسروق ، عن عائشة رضي‌الله‌عنها في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) قالت : لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم.

وروي عن مسروق أيضا ، قال : دخلت على عائشة في اليوم الذي جئت فيه ، فقالت للجارية : اسقيه عسلا ، فقلت : إنّي صائم. فقالت : قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم ، وفيه نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) وأخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال : حدّثنا عبد الله بن الفضل. قال : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم. قال : حدّثني هشام بن يوسف ، عن ابن جريح ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة أنّ عبد الله بن الزبير أخبرهم ، قال : قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد زرارة ، وقال عمر : بل أمّر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلّا خلافي ، وقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما ، فأنزل الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) ... الآية [٦١] (١).

وقال قتادة : نزلت في ناس كانوا يقولون : لو أنزل في كذا ، لوضع كذا. فكره الله ذلك وقدّم فيه. مجاهد : لا تفتاتوا (٢) على رسول الله بشيء حتّى يقضيه الله على لسانه (٣).

الضحّاك : يعني في القتال وشرائع الدين يقول : لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله. حيان ، عن الكلبي لا تستبقوا رسول الله بقول ، ولا فعل حتّى يكون هو الذي يأمركم. وبه قال السدّي ، وقال عطاء الخراساني : نزلت في قصة بئر معونة ، وقيل في الثلاثة الذين نجّوا الرجلين السّلميين ، اللذين اعتزما إلى بني عامر وأخذهم مالهما وكانا من أهل العهد ، فلمّا أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سبق الخبر إليه ، فقال : «بئس ما صنعتم ، هما من أهل ميثاقي وهذا الذي معكم من نسوتي (٤)» ، قالا : يا رسول الله إنّهما زعما أنّهما من بني عامر ، فقلنا : رجلان ممّن قتل إخواننا.

فقلنا : هما لذلك. وأتاه السّلميون ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا قود لهما لأنّهما اعتزما إلى

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٦ ؛ وصحيح البخاري : ٥ / ١١٦ ط. دار الفكر.

(٢) لا تفتاتوا : لا تبتدعوا الكلام وتفتوا برأيكم.

(٣) تفسير الطبري : ٢٦ / ١٥٠.

(٤) كذا في المخطوط.

٧٠

عدوّنا» [٦٢] (١). ولكنّه أيدهما (٢) ، فوادّهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل الله سبحانه في ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) حين قتلوا الرجلين ، وهذه رواية ماذان عن ابن عبّاس.

وقال ابن زيد : لا تقطعوا أمرا دون رسول الله ، وقيل : لا تمشوا بين يدي رسول الله ، وكذلك بين أيدي العلماء فإنّهم ورثة الأنبياء.

ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن الخبازي ، قال : حدّثنا أبو القاسم موسى بن محمّد الدينوري بها ، قال : حدّثنا أحمد بن يحيى ، قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال : حدّثنا رجل بمكّة ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن أبي الدرداء ، قال : رآني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمشي أمام أبي بكر ، فقال : «تمشي أمام من هو خير منك في الدّنيا والآخرة ، ما طلعت الشمس ، ولا غربت على أحد بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمرسلين خيرا وأفضل من أبي بكر!!» [٦٣] (٣).

وقيل : إنّها نزلت في قوم كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا سئل الرسول عن شيء ، خاضوا فيه ، وتقدّموا بالقول ، والفتوى ، فنهوا عن ذلك ، وزجروا عن أن يقول أحد في شيء من دين الله سبحانه ، قبل أن يقول فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : لا تطلبوا منزلة وراء منزلته. قال الأخفش : تقول العرب : فلان تقدّم بين يدي أبيه ، وأمّه ، ويتقدّم إذا استبدّ بالأمر دونهما. (وَاتَّقُوا اللهَ) في تضييع حقّه ، ومخالفة أمره. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأفعالكم ، وأحوالكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) الآية نزلت في ثابت بن قيس ابن شماس ، كان في أذنه وقر ، وكان جهوري الصّوت ، فإذا كلّم إنسانا جهر بصوته ، فربّما كان يكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينادي بصوته ، فأنزل الله سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي لا تغلظوا له في الخطاب ، ولا تنادوه باسمه يا محمّد ، يا أحمد ، كما ينادي بعضكم بعضا ، ولكن فخّموه ، واحترموه ، وقولوا له قولا ليّنا ، وخطابا حسنا ، بتعظيم ، وتوقير : يا نبي الله ، يا رسول الله ، نظيره قوله سبحانه : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) (٤).

(أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) كي لا تبطل حسناتكم. تقول العرب : أسند الحائط أن يميل (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)

فلمّا نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق ، فمرّ به عاصم بن عدي ، فقال : ما

__________________

(١) بتفاوت في تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٠١.

(٢) كذا في المخطوط.

(٣) تاريخ بغداد : ١٤ / ٣٧٩.

(٤) سورة النور : ٦٣.

٧١

يبكيك يا ثابت؟ قال : هذه الآية أتخوّف أن تكون نزلت فيّ ، وأنا رفيع الصوت ، أخاف أن يحبط عملي ، وأن أكون من أهل النار ، فمضى عاصم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغلب ثابتا البكاء ، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال لها : إذا دخلت بيت فرسي ، فشدّي على الضبة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرجت عطفه ، وقال : لا أخرج حتّى يتوفّاني الله ، أو يرضى عنّي رسول الله ، فأتى عاصم رسول الله ، فأخبره بخبره. فقال : «اذهب ، فادعه لي». فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده ، فجاء إلى أهله ، فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إنّ رسول الله يدعوك ، فقال : أكسر الصبّة ، فأتيا رسول الله ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك يا ثابت؟» فقال : أنا صيّت وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما ترضى أن تعيش سعيدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنّة» [٦٤] (١) ، فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله ، فأنزل الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) الآية (٢).

قال أنس : فكنّا ننظر إلى رجل من أهل الجنّة ، يمشي بين أيدينا ، فلمّا كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة ، رأى ثابت في المسلمين بعض الانكسار ، وانهزمت طائفة منهم ، فقال : أف لهؤلاء ، وما يصنعون. ثمّ قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله مثل هذا ، ثمّ ثبتا ، ولم يزالا يقاتلان حتّى قتلا. وثابت بن قيس عليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام أنّه قال له : اعلم أنّ فلانا ـ رجل من المسلمين ـ نزع درعي ، فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عنده فرس تستر في طوله ، وقد وضع على درعي لرمه (٣) ، فأت خالد بن الوليد ، فأخبره حتّى يسترد درعي وأت أبا بكر خليفة رسول الله وقل له : إنّ عليّ دينا حتّى يقضي ، وفلان من رقيقي عتيق.

فأخبر الرجل خالدا فوجد درعه والفرس على ما وصفه ، فاسترد الدرع ، وأخبر خالد أبا بكر تلك الرؤيا ، فأجاز أبو بكر وصيّته. قال مالك بن أنس : لا أعلم أجيزت بعد موت صاحبها إلّا هذه.

حدّثنا أبو محمّد المخلدي ، قال : أخبرنا أبو العبّاس السرّاج ، قال : حدّثنا زياد بن أيّوب ، قال : حدّثنا عباد بن العوّام ، ويزيد بن هارون وسعيد بن عادر ، عن محمّد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، قال : حدّثنا سعيد ، عن أبي هريرة. قال : لمّا نزلت (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) ... الآية ، قال أبو بكر : والله لا أرفع صوتي إلّا كأخي السرار (٤).

__________________

(١) فتح الباري : ٦ / ٤٥٧.

(٢) تفسير الطبري : ٢٦ / ١٥٣.

(٣) كذا في المخطوط ، ولعلها : دمه.

(٤) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٠٨ ، والسرار بالكسر : المسارة أي كصاحب السرار أو كمثل المسارة بخفض صوته (لسان العرب ٤ / ٣٦٢)

٧٢

وروى ابن أبي مليكة عن أبي الزبير ، قال : لمّا نزلت هذه الآية ، ما حدّث عمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك ، فيسمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلامه حتّى يستفهمه ممّا يخفض صوته ، فأنزل الله سبحانه فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) إجلالا له (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي اختبرها ، فأخلصها ، واصطفاها كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخرج خالصه ، وقال ابن عبّاس : أكرمها.

وأخبرنا أبو سعيد محمّد بن موسى بن الفضل النيسابوري ، قال : أخبرنا أبو عبد الله محمّد ابن عبد الله بن أحمد الإصبهاني ، قال : حدّثنا أبو بكر عبد الله بن محمّد بن عبد القريشي ، قال : حدّثنا محمّد بن يحيى بن أبي خاتم ، قال : حدّثني جعفر بن أبي جعفر ، عن أحمد بن أبي الخولدي ، قال : سمعت أبا سلمان يقول : قال عمر بن الخطّاب في قوله : (الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) قال : أذهب الشهوات منها (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ويقال : إنّ هذه الآيات الأربع من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) إلى قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) نزلت في وفد تميم.

وهو ما أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمّد ، قال : حدّثني أبو جعفر محمّد بن صالح بن هاني الورّاق سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ، قال : حدّثنا الفضل بن محمّد بن المسيب بن موسى الشعراني ، قال : حدّثنا القاسم بن أبي شيبة ، قال : حدّثنا معلّى بن عبد الرّحمن ، قال : حدّثنا عبد الحميد بن جعفر بن عمر بن الحكم ، عن جابر بن عبد الله ، قال : جاءت بنو تميم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنادوا على الباب : يا محمّد اخرج علينا ، فإنّ مدحنا زين وذمّنا شين. قال : فسمعها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج عليهم ، وهو يقول : «إنّما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمّه شين» (١).

قالوا : نحن ناس من بني تميم ، جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا» [٦٥] (٢).

فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم : قم فاذكر فضلك ، وفضل قومك. فقام ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء ، فنحن من خير أهل الأرض ، من أكثرهم عدّة ، ومالا ، وسلاحا ، فمن أنكر علينا قولنا ، فليأت بقول هو أحسن من قولنا ، وفعال هي خير من فعالنا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيب رسول الله : «قم فأجبه».

__________________

(١) أسباب نزول الآيات : ٢٥٩.

(٢) أسباب نزول الآيات للواحدي : ٢٥٩.

٧٣

فقام ، فقال : الحمد لله أحمده ، وأستعينه ، وأومن به ، وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، ثمّ دعا المهاجرين من بني عمّه أحسن الناس وجوها وأعظمهم أحلاما. فأجابوه ، فقالوا : الحمد لله الذي جعلنا أنصاره ، ووزراء رسوله ، وعزّا لدينه ، فنحن نقاتل الناس ، حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله ، فمن قالها منع منّا ماله ، ونفسه ، ومن أبى قتلناه ، وكان زعمه في الله علينا هينا ، أقول قولي وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.

فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم : قم يا فلان ، فقل أبياتا تذكر فيها فضلك ، وفضل قومك. فقام الشاب ، فقال :

نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا (١)

فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع

ونطعم الناس عند القحط كلّهم

من السديف إذا لم يؤنس القزع

إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد

إنا كذلك عند الفخر نرتفع

قال : فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حسّان بن ثابت ، فانطلق إليه الرّسول ، فقال : وما تريد منّي وكنت عنده؟ قال : جاءت بنو تميم بشاعرهم ، وخطيبهم ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابت بن قيس ، فأجابه ، وتكلّم شاعرهم ، فأرسل إليك لتجيبه.

وذكر له قول شاعرهم. قال : فجاء حسّان ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيبه فقال : يا رسول الله مره ، فليسمعني ما قال ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسمعه ما قلت» ، فأنشده ما قال ، فقال حسّان :

إنّ الذوائب من فهر وإخوتهم

قد شرّعوا سنّة للنّاس تتبّع

يرضى بها كلّ من كانت سريرته

تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع

ثمّ قال حسّان :

نصرنا رسول الله والدين عنوة

على رغم عات من معد وحاضر

بضرب كإيزاغ المخاض مشاشه

وطعن كأفواه اللقاح الصوادر

وسل أحدا يوم استقلت شعابه

بضرب لنا مثل الليوث الجواذر

ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى

إذا طاب ورد الموت بين العساكر

ونضرب هام الدارعين وننتمي

إلى حسب من جذم غسان قاهر

فلو لا حياء الله قلنا تكرّما

على النّاس بالخيفين هل من منافر

فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى

وأمواتنا من خير أهل المقابر

__________________

(١) في أسباب النزول : يفاخرنا بدلا من «يعادلنا».

٧٤

قال : فقام الأقرع بن حابس ، فقال : إنّي والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء ، وإنّي قد قلت شعرا ، فاسمعه منّي ، فقال : هات ، فقال :

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا

إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وإنّا رؤس الناس من كلّ معشر

وأنّ ليس في أرض الحجاز كدارم

وإنّ لنا المرباع في كلّ غارة

تكون بنجد أو بأرض التهائم

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قم يا حسّان فأجبه». فقام حسّان ، فقال :

بني دارم لا تفخروا إنّ فخركم

يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم

لنا خول من بين ظئر وخادم

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد كنت غنيا يا أخا دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أنّ الناس قد نسوه».

قال : فكان قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشدّ عليهم من قول حسّان. ثمّ رجع حسّان إلى شعره.

فقال :

كأفضل ما نلتم من المجد والعلى

ردافتنا من بعد ذكر الأكارم

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم

وأموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا

ولا تفخروا عند النبيّ بدارم

وإلّا وربّ البيت مالت أكفّنا

على هامكم بالمرهفات الصوارم

قال : فقام الأقرع بن حابس ، فقال : إنّ محمّدا المولى ، إنه والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلّم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قولا ، وتكلّم شاعرنا ، فكان شاعرهم أشعر ، وأحسن قولا.

ثمّ دنا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسوله.

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يضرّك ما كان قبل هذا». ثمّ أعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكساهم ، وقد كان يخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم ، وكان قيس بن عاصم يبغضه لحداثة سنه ، فأعطاه رسول الله مثل ما أعطى القوم ، فأزرى به قيس ، وقال فيه أبيات شعر وارتفعت الأصوات ، وكثر اللغط عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) إلى قوله (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) يعني جزاء وافرا ، وهو الجنّة (١).

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ

__________________

(١) بطوله في أسباب النزول : ٢٥٩ ؛ وتاريخ دمشق : ٩ / ١٨٨ ـ ١٩١ ط. دار الفكر ، وزاد المسير لابن الجوزي : ٧ / ١٧٨.

٧٥

لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) يعني أعراب تميم ، حيث نادوا : يا محمّد اخرج علينا ، فإنّ مدحنا زين وذمّنا شين ، قاله قتادة.

قال ابن عبّاس : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية إلى حي من بني العنبر وأمّر عليهم عيينة بن حصين الفزاري ، فلمّا علموا أنّه توجّه نحوهم ، هربوا ، وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة ، وقدم بهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري ، فقدموا وقت الظهيرة ، وواقفوا رسول الله في أهله قائلا ، فلمّا رأتهم الذراري جهشوا إلى آبائهم يبكون ، وكان لكلّ امرأة من نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت ، وحجرة ، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعلوا ينادون : يا محمّد اخرج إلينا حتّى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم ، فقالوا : يا محمّد فادنا عيالنا.

فنزل جبريل ، فقال : يا محمّد إنّ الله يأمرك أن تجعل بينك ، وبينهم رجلا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أترضون أن يكون بيني وبينكم سمرة بن عمرو ، وهو على دينكم؟».

فقالوا : نعم. قال سمرة : أنا لا أحكم بينهم وعمّي شاهد ، وهو الأعور بن شامة فرضوا به.

فقال الأعور : أرى أن يفادي نصفهم ، ويعتق نصفهم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قد رضيت».

ففادى نصفهم وأعتق نصفهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان عليه محرر من ولد إسماعيل ، فليعتق منهم» [٦٦] (١). فأنزل الله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ) ... الآية ، وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من الغرف إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبيّا فنحن أسعد الناس به ، وأن يكن ملكا نعش في جناحه. فجاءوا إلى حجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعلوا ينادونه : يا محمّد ، يا محمّد ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) وهي جمع الحجر ، والحجر جمع حجرة ، فهو جمع الجمع ، وفيه لغتان : فتح (الجيم) وهي قراءة أبي جعفر ، كقول الشاعر :

__________________

(١) المعجم الكبير ١٠ / ١٨٥ ـ في المصدر الحديث هكذا : «من كان عليه محرر من ولد إسماعيل فلا يعتق من حمير أحدا» ؛ مجمع الزوائد : ١٠ / ٤٦.

٧٦

أما كان عباد كفيا لدارم

يلي ولأبيات بها الحجرات

يعني يلي ولبني هاشم.

(أَكْثَرُهُمْ) جهلاء (لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لأنّك كنت تعتقهم جميعا ، وتطلقهم بلا فداء. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف ، قال : حدّثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي ، قال : حدّثني هاشم بن القاسم الحراني ، قال : حدّثني يعلى بن الأشدق ، قال : حدّثني سعد بن عبد الله ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن قول الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) قال : «هم الجفاة من بني تميم ، لو لا أنّهم من أشدّ الناس قتالا للأعور الدجّال ، لدعوت الله عزوجل أن يهلكهم» [٦٧] (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدّقا ، وكان بينه ، وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلمّا سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحدّثه الشيطان أنّهم يريدون قتله ، فهابهم ، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ بني المصطلق ، قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب رسول الله ، وهمّ أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك ، فخرجنا نتلقّاه ، ونكرمه ، ونؤدّي إليه ما قبلنا من حقّ الله ، فبدا له في الرجوع ، فخشينا أن يكون إنّما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنّا نعوذ بالله من غضبه ، وغضب رسوله ، فأبهمهم (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر ، وأمره أن يخفي عليهم قدومه (٣).

وقال له : «انظر ، فإن رأيت منهم ما يدلّ على إيمانهم ، فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك ، فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفّار».

ففعل ذلك خالد ووافاهم ، فسمع منهم آذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ منهم صدقاتهم ، ولم ير منهم إلّا الطاعة ، والخير ، فانصرف خالد إلى رسول الله ، وأخبره الخبر ، فأنزل الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) يعني الوليد بن عقبة بن أبي معيط سمّاه الله فاسقا ، نظيره (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٤) ، قال سهل بن عبد الله وابن زيد : الفاسق الكذّاب. أبو الحسين الورّاق : هو المعلن بالذنب ، وقال ابن طاهر وابن زيد : الفاسق الذي لا يستحي من الله سبحانه.

__________________

(١) الدر المنثور : ٦ / ٨٧.

(٢) في تفسير ابن كثير (٤ / ٢٢٤) : وإن النبي استغشهم وهمّ بهم فأنزل الله عذرهم.

(٣) تفسير الطبري : ٢٦ / ١٦١.

(٤) سورة السجدة : ١٨.

٧٧

بنبإ : بخبر (فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا) كي لا تصيبوا بالقتل ، والقتال. (قَوْماً) براء (بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) فاتقوا أن تقولوا الباطل ، وتفتروا الكذب ، فإنّ الله سبحانه يخبره أنباءكم ، ويعرّفه أحوالكم ، فتفتضحوا. (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) فيحكم برأيكم ، ويقبل قولكم. (لَعَنِتُّمْ) لأثمتم وهلكتم. (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) فأنتم تطيعون رسول الله وتأتمّون به ، فيقيكم الله بذلك العنت. (وَزَيَّنَهُ) وحسّنه (فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ).

ثمّ انتقل من الخطاب إلى الخبر ، فقال عزّ من قائل : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) نظيرها قوله سبحانه : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (١) ، قال النابغة :

يا دارميّة بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأبد (٢)

(فَضْلاً) أي كان هذا فضلا (مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) قال أكثر المفسّرين : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم على مجلس من مجالس الأنصار وهو على حماره ، فبال حماره ، فأمسك عبد الله بن أبي بأنفه وقال : إليك عنّا بحمارك ، فقد آذانا نتنه. فقال عبد الله بن رواحة : والله لحمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب ريحا منك.

فغضب لعبد الله بن أبي رجل من قومه ، وغضب لعبد الله بن رواحة رجل من قومه ، فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه حتّى استسبّوا ، وتجالدوا بالأيدي ، والجريد ، والنعال ، ولم يقدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إمساكهم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، فلمّا نزلت قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاصطلحوا ، وكفّ بعضهم عن بعض ، وأقبل بشير بن النعمان الأنصاري مشتملا على سيفه ، فوجدهم قد اصطلحوا ، فقال عبد الله بن أبي : أعليّ تشتمل بالسيف يا بشير؟ قال : نعم ، والّذي أحلف به لو جئت قبل أن تصطلحوا لضربتك حتّى أقتلك ، فأنشأ عبد الله بن أبي يقول :

متى ما يكن مولاك خصمك جاهدا

تظلم (٣) ويصرعك الذين تصارع (٤)

قال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار ، كانت بينهما مداراة في حقّ بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذنّ حقّي منك عنوة ، لكثرة عشيرته ، وإنّ الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما ، حتّى تدافعوا ، وقد تناول بعضهم بعضا بالأيدي ، والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف. وروى محمّد بن الفضيل ، عن الكلبي أنّها نزلت في حرب

__________________

(١) سورة الروم : ٣٩.

(٢) البداية والنهاية : ٢ / ٢٧٩.

(٣) في السيرة : تذل بدل من «تظلم».

(٤) تفسير الطبري : ٢٦ / ١٦٧ ؛ وسيرة ابن هشام : ٢ / ٤٢٥ ط. مصر (صبيح وأولاده)

٧٨

سمير وحاطب ، وكان سمير قتل حاطبا ، فجعل الأوس والخزرج يقتتلون إلى أن أتاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وأمر نبيّه ، والمؤمنين أن يصلحوا بينهم.

وروى سفيان عن السدّي ، قال : كانت امرأة من الأنصار يقال لها : أمّ زيد تحت رجل ، وكان بينها ، وبين زوجها شيء ، فرمى بها إلى علية ، وحبسها فيها ، فبلغ ذلك قومها فجاءوا ، وجاء قومه ، فاقتتلوا بالأيدي ، والنعال ، فأنزل الله سبحانه تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الآية.

(فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بالدعاء إلى حكم كتاب الله سبحانه ، والرضا بما فيه لهما ، وعليهما.

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) ترجع (إِلى أَمْرِ اللهِ) وأبت الإجابة إلى حكم الله تعالى له ، وعليه في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه. (فَإِنْ فاءَتْ) رجعت إلى الحقّ (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) بحملهما على الإنصاف والرضى بحكم الله ، وهو العدل ، (وَأَقْسِطُوا) واعدلوا. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) في الدين ، والولاية (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إذا اختلفا ، واقتتلا ، وقرأ ابن سيرين ، ويعقوب. بين إخوتكم (بالتاء) على الجمع ، وقرأ الحسن (إخوانكم) (بالألف) و (النون). (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

قال أبو عثمان البصري : أخوة الدّين أثبت من أخوّة النسب ، فإنّ اخوّة النسب تنقطع لمخالفة الدين ، وأخوّة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وسئل الجنيد عن الأخ ، فقال : هو أنت في الحقيقة إلّا إنّه غيرك في الشخص.

أخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال : حدّثنا محمّد بن إسحاق المسوحي. قال : حدّثنا عمرو بن علي ، قال : حدّثنا أبو عاصم. قال : حدّثنا إسماعيل بن رافع ، عن ابن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يعيبه ، ولا يخذله ، ولا يتطاول عليه في البنيان ، فيستر عليه الريح إلّا بإذنه ، ولا يؤذيه بقتار قدره إلّا أن يعرف له ، ولا يشتري لبنيه الفاكهة ، فيخرجون بها إلى صبيان جاره ، ولا يطعمونهم منها».

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احفظوا ، ولا يحفظه منكم إلّا قليل» [٦٨] (١).

وفي هاتين الآيتين دليل على انّ البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأنّ الله سبحانه وتعالى سمّاهم أخوة مؤمنين مع كونهم باغين ، عاصين. يدلّ عليه ما روى الأعور أنّ علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه سئل وهو القدوة في قتال أهل البغي ، عن أهل الجمل ، وصفّين ، أمشركون هم؟فقال : لا ، من الشرك فرّوا. فقيل : أهم منافقون؟ فقال : إنّ المنافقين (لا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً). قيل : فما حالهم؟ قال : إخواننا بغوا علينا.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٢٣.

٧٩

وقد أخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن شنبه ، قال : حدّثنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبّار الصوفي قال : حدّثنا أبو نصر التمّار ، قال : حدّثنا كوثر ، عن نافع ، عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا عبد الله هل تدري كيف حكم الله سبحانه فيمن بغى من هذه الأمّة؟».

قال : الله ورسوله أعلم. قال : «لا يجهز على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ، ولا يقسم فيئها» [٦٩] (١).

وسئل محمّد بن كعب القرظي عن هاتين الآيتين ، فقال : جعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجر المصلح بين الناس ، كأجر المجاهد عند الناس ، وقال بكر بن عبد الله : امش ميلا ، وعد مريضا ، امش ميلين ، وأصلح بين اثنين ، امش ثلاثة أميال ، وزر أخاك في الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) الآية ، قال ابن عبّاس : نزلت في ثابت بن قيس ، وذلك أنّه كان في أذنه وقر ، فكان إذا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد سبقوه بالمجلس ، أوسعوا له حتّى يجلس إلى جنبه ، فيسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم ، وقد فاته من صلاة الفجر ركعة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا انصرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم [منه ، فربض] كلّ رجل بمجلسه ، فلا يكاد يوسع أحد لأحد ، فكان الرجل إذا جاء ، فلم يجد مجلسا ، قام قائما ، كما هو ، فلمّا فرغ ثابت من الصلاة ، وقام منها ، أقبل نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل يتخطّى رقاب الناس ، ويقول : تفسحوا تفسحوا ، فجعلوا يتفسحون له حتّى انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينه وبينه رجل.

فقال له : تفسح. فقال له الرجل : قد أصبت مجلسا ، فاجلس ، فجلس ثابت من خلفه مغضبا ، فلمّا أبينت الظلمة ، غمز ثابت الرجل ، وقال : من هذا؟ قال : أنا فلان. فقال له ثابت : ابن فلانة. ذكر أمّا له كان يعيّر بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسه واستحيا ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية.

وقال الضحّاك : نزلت في وفد تميم الذين ذكرناهم في صدر السورة ، استهزءوا بفقراء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل عمّار ، وخباب ، وبلال ، وصهيب ، وسلمان ، وسالم مولى أبي حذيفة ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فأنزل الله سبحانه في الذين آمنوا منهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٢٠.

٨٠