الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

ابن بنت شراحيل قال : حدّثنا إسماعيل بن عبّاس قال : حدّثنا عمارة بن عديّة الأنصاري ، عن عمّه عمر بن جارية ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «برئ من الشحّ من أدّى الزكاة ، وقرى الضيف وأعطى في النائبة» [٢٥٨] (١).

أخبرني أبو عبد الله الحافظ قال : أخبرنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن عليّ بن عبد الله ابن محمّد الطائي قال : حدّثنا عبد الله بن زيد قال : حدّثنا إبراهيم بن العلاء قال : حدّثنا إسماعيل بن عباس عن هشام بن الغاد عن أبان عن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو : «اللهم إنّي أعوذ بك من شحّ نفسي وإسرافها ووسواسها» [٢٥٩] (٢).

وأخبرنا أبو عبد الله قال : حدّثنا هارون بن محمّد بن هارون قال : أخبرنا عبد الله بن محمّد بن سنان قال : حدّثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال : حدّثنا داود بن قيس الفرّاء ، عن عبد الله بن مقسم ، عن جابر بن عبد الله ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتقوا الشحّ ؛ فانّ الشحّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم» [٢٦٠] (٣).

وروى سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شحّ نفسي. لا يزيد على ذلك. فقلت له فيه ، فقال : إنّي إذا وقيت شحّ نفسي لم أسرق ، ولم أزن ، ولم أفعل. وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف.

ويحكى أنّ كسرى قال لأصحابه : أي شيء أضرّ بابن آدم؟ قالوا : الفقر. فقال كسرى : الشحّ أضرّ من الفقر ؛ لأنّ الفقير إذا وجد اتّسع ، والشحيح لا يتسع أبدا.

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الفقراء المهاجرون ، (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) ، (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، فاجهد ألّا تكون خارجا من هذه المنازل.

أخبرني الحسن قال : حدّثنا علي بن إبراهيم الموصلي قال : حدّثنا محمّد بن مخلد الدوري قال : حدّثنا محمّد بن إسماعيل الحساني قال : حدّثني أبو يحيى الحماني ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عيينة ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يعلم أنهم سيفتنون.

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله قال : حدّثنا محمّد بن عبد الله

__________________

(١) المعجم الكبير : ٤ / ١٨٨.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٣٠.

(٣) مسند أحمد : ٣ / ٣٢٣.

٢٨١

ابن سليمان قال : حدّثنا ابن نمير قال : حدّثنا أبي ، عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن عبد الملك بن عمير ، عن مسروق ، عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسببتموهم ، سمعت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تذهب هذه الأمّة حتى يلعن آخرها أوّلها» [٢٦١] (١).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا الحسن بن علي الطوسي قال : حدّثنا محمّد بن المؤمّل بن الصباح البصري قال : حدّثنا النصر بن حماد العتكي قال : حدّثنا سيف ابن عمر الأسدي قال : حدّثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا رأيتم الذين يسبّون أصحابي فقولوا : لعن الله شركم» [٢٦٢] (٢).

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا ابن النعمان قال : حدّثنا هارون بن سليمان قال : حدّثنا عبد الله ـ يعني ابن داود ـ قال : حدّثنا كثير بن مروان الشامي ، عن عبد الله بن يزيد الدمشقي قال : أتيت الحسن فذكر كلاما إلّا إنّه قال : أدركت ثلاثمائة من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم سبعون بدريا كلّهم يحدّثونني أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» [٢٦٣] (٣).

فالجماعة ألّا تسبّوا الصحابة ، ولا تماروا في دين الله ، ولا تكفّروا أحدا من أهل التوحيد بذنب.

قال عبد الله بن زيد : فلقيت أبا أمامة وأبا الدرداء وواثلة وأنس بن مالك ، وكلّهم يحدّثونني بحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل حديث الجماعة.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو الفضل صالح بن الأصبغ التنوخي قال : حدّثنا أبو الفضل الربيع بن محمّد بن عيسى الكندي قال : حدّثنا سعيد بن منصور قال : حدّثنا شهاب بن حراش ، عن عمّه العوّام بن حوشب ، قال : أدركت من أدركت من صدر هذه الأمّة وهم يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ حتى تأتلف عليهم القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرشوا الناس عليهم.

وسمعت عبد الله بن حامد يقول : سمعت محمّد بن محمّد بن الحسن قال : سمعت أبا عبد الله محمّد بن القاسم الجمحي المكّي قال : سمعت محمّد بن سعدان المروزي قال : سمعت أحمد بن إسماعيل المروزي ، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، عن أبيه قال : قال عامر بن شراحيل الشعبي : يا مالك ، تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من

__________________

(١) المعجم الأوسط : ٥ / ٢٥٥ وفيه : تفنى ، بدل : لا تذهب ـ وتفسير القرطبي : ١٨ / ٣٣.

(٢) المعجم الأوسط : ٨ / ١٩١.

(٣) سنن الترمذي : ٤ / ٢٢٦.

٢٨٢

خير أهل ملّتكم؟ فقالوا : أصحاب موسى. وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ فقالوا : حواريّو عيسى. وسئلت الرافضة : من شرّ أهل ملّتكم فقالوا : أصحاب محمّد ، أمروا بالاستغفار إليهم فسبّوهم ؛ فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة ، لا تقوم لهم راية ولا تثبت لهم قدم ، ولا تجمع لهم كلمة ، (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) بسفك دمائهم وتفريق شملهم ، وإدحاض حجّتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلّة.

وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمّد المعدل قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يونس المقري قال : حدّثنا أحمد بن محمّد بن سالم قال : حدّثنا سوار بن عبد الله القاضي قال : حدّثنا أبي قال : قال مالك بن أنس : من ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان في قلبه عليهم غلّ ، فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم تلا (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) حتى أتى على هذه الآية ، ثم قرأ (لِلْفُقَراءِ) حتى أتى على هذه الآية ، ثم قال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) حتى أتى على هذه الآية ثم قال : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) إلى قوله : (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فمن ينتقصهم أو كان في قلبه عليهم غلّ فليس له من الفيء حقّ.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) ، أي أظهروا خلاف ما أضمروا ، وهو مأخوذ من (نافقاء اليربوع) وهي أخذ جحرته ، إذا أخذ عليه جحر أخذ من جحر آخر ، فيقال عند ذلك : نفق ونافق ،

٢٨٣

فشبه فعل المنافق بفعل اليربوع ؛ لأنه يدخل من باب ويخرج من باب ، فكذلك المنافق يدخل في الإسلام باللفظ ويخرج منه بالعقد. والنفاق لفظ إسلامي لم يكن يعرفه العرب قبل الإسلام.

(يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم بنو قريضة والنضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً) سألنا خذلانكم وخلافكم (أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * لَأَنْتُمْ) يا معشر المؤمنين (أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) يقول : يرهبونكم أشدّ من رهبتهم من الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا يُقاتِلُونَكُمْ) يعني اليهود (جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) ، ولا يبرزون لكم بالقتال (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ).

قرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابو عمرو : (جدار) ـ بالألف ـ على الواحد.

وروي عن بعض أهل مكّة : (جَدْرٍ) ـ بفتح الجيم وجزم الدال ـ وهي لغة في الجدار.

وقرأ يحيى بن وثاب (جُدْرٍ) ، بضم الجيم وسكون الدال.

وقرأ الباقون بضمّهما.

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) يعني : بعضهم فظّ على بعض وبعضهم عدوّ لبعض ، وعداوتهم بعضهم بعضا شديدة.

وقيل : بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديدة ، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله سبحانه.

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرقة مختلفة. قال قتادة : أهل الباطل مختلفة أهواؤهم ، مختلفة شهاداتهم مختلفة أعمالهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق ، وقال مجاهد : أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني مثل هؤلاء كمثل الذين من قبلهم وهم مشركوا مكة. (قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) يوم بدر قاله مجاهد ، وقال ابن عباس : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني بني قينقاع. وقيل : مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان ، فربما (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) الجلاء والنفي. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود في تخاذلهم فقال عزّ من قائل : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) الآية.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا الباقرحي قال : حدّثنا الحسن بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : حدّثنا مقاتل عن عطاء عن ابن عباس وعبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن عباس في قوله سبحانه : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ

٢٨٤

فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) الآية قال : كان راهب في الفترة يقال له برصيصا (١) وكان قد تعبّد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل ، فلم يستطيع له شيء فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال : ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا ، فقال الأبيض ، وهو صاحب الأنبياء وهو الذي يتصدى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على وجه الوحي فجاءه جبرائيل حتى دخل بينهما فدفعه بيده دفعة هينة فوقع من دفعة جبرائيل إلى أقصى أرض الهند ، فذلك قوله سبحانه : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ) (٢).

فقال الأبيض لإبليس : أنا أكفيك فانطلق فتزيّن بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه ثم مضى حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه برصيصا وكان لا ينفتل عن صلاته إلّا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلّا في عشرة أيام مرّة ، فكان يواصل الأيام العشرة والعشرين والأكثر ، فلما رأى الأبيض أنّه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته فلما أنفتر برصيصا اطّلع من صومعته ورأى الأبيض قائما منتصبا يصلّي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لها عنه فلم يجبه ، فقال له : إنّك ناديتني وكنت مشتغلا عنك فحاجتك؟

قال : حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأناديك وأقتبس من علمك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال : برصيصا : إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنا فإن الله سبحانه سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين والمؤمنات نصيبا إن استجاب لي ، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض ، وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما بعدها ، فلمّا انفتل رآه قائما يصلي ، فلمّا رأى برصيصا شدّة اجتهاده وكثرة تضرّعه وابتهاله الى الله سبحانه كلّمه وقال له : حاجتك؟

قال : حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك ، فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام الأبيض معه حولا يتعبد لا يفطر إلّا في كل أربعين يوما ولا ينفتل عن صلاته إلّا في كل أربعين يوما مرّة وربّما مدّ الى الثمانين ، فلما رأى برصيصا اجتهاده تفاطرت إليه نفسه فأعجبه شأن الأبيض ، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا : إني منطلق فإنّ لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشدّ اجتهادا ممّا أرى ، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت ، قال : فدخل على برصيصا من ذلك أمر شديد وكره مفارفته للّذي رأى من شدّة اجتهاده ، فلما ودّعه قال له الأبيض : إنّ عندي دعوات أعلّمكها أياك تدعو بهن فهي خير مما أنت فيه ، يشفي الله بها السقيم ، ويعافي بها المبتلى والمجنون ، قال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة ، لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم بهذا الناس شغلوني عن العبادة ، فلم يزل به الأبيض حتى علّمه ، ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال له : قد والله أهلكت

__________________

(١) راجع لقصّة برصيصا البداية والنهاية : ٢ / ١٦٢ ، وزاد المسير لابن الجوزي : ٧ / ٣٤٣.

(٢) سورة التكوير : ٢٠.

٢٨٥

الرجل ، قال : فانطلق الأبيض فتعرّض لرجل فخنقه ثم جاءه في صورة رجل متطبّب فقال لأهله : إنّ بصاحبكم جنونا فأعالجه؟

قالوا : نعم ، فقال لهم : إني لا أقوى على جنّيته ولكن سأرشدكم الى من يدعو الله عزوجل فيعافى ، فقالوا له : دلّنا ، فانطلقوا الى برصيصا فإنّ عنده أسم الله الذي إذا دعى به أجاب ، قال : فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان ، وكان يفعل الأبيض بالناس مثل ، من مكانك قال : وما هي؟ قال : تسجد لي ، قال : أفعل ، فسجد له ، فقال : يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك الى أن كفرت بربّك فلما كفر قال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) يقول الله سبحانه : (فَكانَ عاقِبَتَهُما) يعني الشيطان وذلك الإنسان (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ).

قال ابن عباس : فضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة ، وذلك أن الله سبحانه أمر نبيّه عليه‌السلام أن يخلي بني النضير عن المدينة ، فدسّ المنافقون إليهم ، فقالوا : لا تجيبوا محمدا الى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم كنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم. قال : فأطاعوهم فدربوا على حصونهم وتحصّنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين حتى جاءهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين فخذلوهم وتبرّؤوا منهم كما تبرّأ الشيطان من برصيصا وخذله.

قال ابن عباس : فكانت الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلّا بالتقية والكتمان وطمع اهل الفجور والفسق في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح ، حتى كان أمر جريج الراهب ، فلمّا برّأ الله جريجا الراهب مما رموه به فانبسطت بعدها الرهبان وظهروا للناس (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) بأداء فرائضه واجتناب معاصيه (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) يعني يوم القيامة (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي نسوا حق الله وتركوا أمره (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) يعني حظ أنفسهم أن يقدّموا لها خيرا (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) وركّبنا فيه العقل (لَرَأَيْتَهُ) في صلابته ورزانته (خاشِعاً) ذليلا خاضعا (مُتَصَدِّعاً) يعني متشققا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ) وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه (وَالشَّهادَةِ) وهي ما علموه وشاهدوه ، وقال الحسن : يعني السرّ والعلانية.

(هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) وهو ذو الملك وقيل : القادر على

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي : ١٨ / ٤٢.

٢٨٦

اختراع الأعيان (الْقُدُّوسُ) الظاهر من كل عيب المنزه عما لا يليق به. قال قتادة : المبارك ، وقال ابن كيسان : الممجّد وهو بالسريانية قديشا.

(السَّلامُ الْمُؤْمِنُ) قال بعضهم : المصدّق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ، ومصدّق للمؤمنين ما وعدهم من الثواب وقابل إيمانهم ، ومصدق للكافرين ما أوعدهم من العقاب.

قال ابن عباس ومقاتل : هو الذي آمن الناس من ظلمه وآمن من آمن به من عذابه من الإيمان الذي هو هذا التخويف كما قال : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (١).

وقال النابغة :

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسند (٢)

وقال ابن زيد : هو الذي يصدّق المؤمنين إذا وحّدوه ، وقال الحسين بن الفضل : هو الداعي الى الإيمان والآمر به والموجب لأهله اسمه. القرظي : هو المجير كما قال : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) (٣). (الْمُهَيْمِنُ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : الشهيد. ضحاك : الأمين. ابن زيد : المصدّق. ابن كيسان : هو اسم من أسماء الله في الكتب ، الله أعلم بتأويله. عطا : المأمون على خلقه. الخليل : هو الرقيب. يمان : هو المطّلع. سعيد بن المسيب : القاضي.

المبرد : [(الْمُهَيْمِنُ) في معنى مؤيمن إلّا أن الهاء بدل من الهمزة] (٤).

قال أبو عبيدة : هي خمسة أحرف في كلام العرب على هذا الوزن : المهيمن والمسيطر والمبيطر والمنيقر ـ وهو الذاهب في الأرض ـ ، والمخيمر اسم جبل.

(الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) قال ابن عباس : هو العظيم ، وجبروت الله عظمته ، وهو على هذا القول صفة ذات ، وقيل : هو من الجبر وهو الإصلاح ، يقال : جبرت العظم إذا أصلحته بعد كسر ، وجبرت الأمر ، والجبر وجبرته فجبر تكون لازما ومتعديا قال العجاج :

قد جبر الدين الإله فجبر (٥)

ونظيره في كلام العرب : دلع لسانه فدلع ، وفغر فاه ففغر ، وعمّر الدار فعمرت ، وقال السدي : هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراد.

__________________

(١) سورة قريش : ٤.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٤٦ ـ العائذات : ما عاذ بالبيت من الطير ، والغيل : الشجر الكثير الملتف ، والسند : ما قابلك من الجبل وعلا.

(٣) سورة المؤمنون : ٨٨.

(٤) عن زاد المسير : ٢ / ٢٨٤.

(٥) لسان العرب : ٤ / ١١٥.

٢٨٧

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف ، قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدّثنا محمد بن بكار بن الريان. قال حدّثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال : إنما يسمّى الجبار ، لأنّه جبر الخلق على ما أراد والخلق أرق شأنا من أن يعصوا [له أمرا] (١) بل طرفة عين إلّا بما أراد ، وسئل بعض الحكماء عن معنى الجبّار فقال : هو القهّار الذي إذا أراد أمرا فعله وحكم فيه بما يريد لا يحجزه عنه حاجز ولا يفكّر فيمن دونه. إن آدم اجتبي من غير طاعة وإن إبليس لعن على كثرة الطاعة ، وقيل : هو الذي لا تناله الأيدي ، من قول العرب : نخلة جبّارة ، إذا طالت وفاتت الأيدي قال الشاعر :

سوامق جبار أثيث فروعه

وعالين قنوانا من البسر أحمرا (٢)

(الْمُتَكَبِّرُ) عن كل سوء ، المتعظّم عمّا لا يليق به ، وأصل الكبر والكبرياء : الامتناع وقلة الانقياد ، قال حميد بن ثور :عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت بها كبرياء الصعب وهي ذلول (٣) (الْخالِقُ) المقدّر المقلّب للشيء بالتدبير الى غيره كما قال : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) (٤) وقال : (خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (٥) (الْبارِئُ) المنشئ للأعيان من العدم الى الوجود (الْمُصَوِّرُ) الممثل للمخلوقات والعلامات المميّزة والهيئات المتفرّقة حتى يتميّز بها بعضها من بعض يقال : هذه صورة الأمر أي مثاله ، فأولا يكون خلقا ثم [نطفة ثمّ علقة] (٦) ثم تصويرا إذا انتهى وكمل ، والله أعلم.

(لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

أخبرنا أحمد بن محمد بن يعقوب الفقيه بالقصر قال : أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد قال : حدّثنا الحسن بن عرفة قال : حدّثنا محمد بن صالح الواسطي عن سليمان ابن محمد عن عمر بن نافع عن أبيه قال : قال عبد الله بن عمر : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما على هذا المنبر ـ يعني منبر رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يحكي عن ربّه سبحانه فقال : «إنّ الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السموات والأرضين السبع في قبضته تبارك وتعالى ثم قال هكذا وشدّ قبضته ثم بسطها ثم يقول : أنا (اللهُ) أنا (الرَّحْمنُ) أنا (الرَّحِيمُ) أنا (الْمَلِكُ) أنا (الْقُدُّوسُ) أنا (السَّلامُ) أنا (الْمُؤْمِنُ) أنا

__________________

(١) سقط في المخطوط والظاهر ما أثبتناه.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٤٧.

(٣) تفسير القرطبي : ١٨ / ٤٧ ، لسان العرب : ١٢ / ٤٣١ وفيه : الطليح ، بدل : الفصيل ، وركوب ، بدل : ذلول.

(٤) سورة الزمر : ٦.

(٥) سورة نوح : ١٤.

(٦) في المخطوط كلمة غير مقروؤة والظاهر ما أثبتناه.

٢٨٨

(الْمُهَيْمِنُ) أنا (الْعَزِيزُ) أنا (الْجَبَّارُ) أنا (الْمُتَكَبِّرُ) أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا ، أنا الذي أعدتها أين الملوك أين الجبابرة» [٢٦٤] (١).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن وهب قال : حدّثنا محمد بن يونس الكريمي قال : حدّثنا عمرو بن عاصم قال حدثنا أبو الأشهب عن يزيد بن آبان عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ آخر سورة الحشر غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» [٢٦٥] (٢).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا ابن وهب قال : حدثنا أحمد بن أبي سريح وأحمد بن منصور الرمادي قالا : حدّثنا أبو أحمد الزبيدي قال : حدّثنا خالد بن سليمان قال : حدّثني نافع عن أبي نافع عن معقل بن يسار أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي ، فأن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة» [٢٦٦] (٣).

وأخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثنا عبد الله بن محمد قال : حدّثنا السماح قال : حدّثنا أحمد بن الفرح قال : حدّثنا أبو عثمان ـ يعني المؤذن ـ قال : حدّثنا محمد بن زياد قال : سمعت أبا أمامة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ خواتيم الحشر من ليل أو نهار فقبض في ذلك اليوم أو الليلة فقد أوجب الجنة» [٢٦٧] (٤).

وأخبرني ابن القاسم قال حدّثنا ابن بختيار قال : حدثنا مكي بن عيدان قال : حدّثنا إبراهيم ابن عبد الله قال : حدّثنا عمرو بن عاصم قال : حدّثنا أبو الأشهب قال : حدّثنا يزيد الرقاسي عن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ آخر سورة الحشر : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) الى آخرها فمات من ليلته مات شهيدا» [٢٦٨] (٥).

وأخبرني أبو عثمان بن أبي بكر الحبري قال : حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد الحجاجي قال : أخبرنا عبد الله بن أبان بن شداد أن إسماعيل بن محمد الحبريني حدّثهم قال : حدثنا علي بن زريق قال : حدثنا هشام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اسم الله الأعظم فقال : «عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قرأتها ، فأعدت عليه فعاد عليّ ، فأعدت عليه فعاد عليّ» [٢٦٩] (٦).

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٥ / ٣٣٥.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٤٩ ، تفسير مجمع البيان : ٩ / ٤٣٩.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٢٦ ، كنز العمّال : ٢ / ١٣٨ ح ٣٤٩١.

(٤) كنز العمّال : ١ / ٥٨٣ ، ح ٢٦٤٣.

(٥) كنز العمّال : ١ / ٥٩٣ ، ح ٢٧٠٣.

(٦) تفسير القرطبي : ١٨ / ٤٩.

٢٨٩

سورة الممتحنة

مدنية ، وهي ألف وخمسمائة وعشرة أحرف ،

وثلاثمائة وثماني وأربعون كلمة ، وثلاثة عشر آية

أخبرنا الجباري قال : حدّثنا ابن حيان قال : أخبرنا الفرقدي قال : حدّثنا إسماعيل بن عمرو قال : حدّثنا يوسف بن عطية قال : حدّثنا هارون بن كثير قال : حدثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ ابن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الممتحنة كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة» [٢٧٠] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٤٤٣.

٢٩٠

إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة الى المدينة بعد بدر بسنتين ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمسلمة جئت؟» قالت : لا ، قال : «أمهاجرة جئت؟» قالت : لا ، قال : «فما جاء بك؟» قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني ، فقال لها : «فأين أنت من شباب مكة؟» [٢٧١] (١) ـ وكانت مغنية نائحة ـ.

قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحثّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها بني عبد المطلب وبني المطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها الى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير ، هذه رواية باذان عن أبن عباس ، وقال مقاتل بن حيان : أعطاها عشرة دراهم ، قالوا : وكساها بردا علم أن يوصل الكتاب الى أهل مكة ، وكتب في الكتاب : (من حاطب بن أبي بلتعة الى أهل مكة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم فخذوا حذركم) فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فعل ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا وعمّار وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مريد وكانوا كلهم فرسانا ، وقال لهم : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فأن بها ظعينة معها كتاب من حاطب الى المشركين فخذوه منها وخلّوا سبيلها ، وأن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها».

قال : فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا لها : أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب ، فحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا فهمّوا بالرجوع فقال علي رضي‌الله‌عنه والله ما كذبنا ولا كذّبنا وسلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب وإلّا والله جرّدنّك ولأضربنّ عنقك. فلما رأت الجد أخرجت من ذؤابتها قد خبأتها في شعرها ، فخلّوا سبيلها ولم يعترضوا لها ولا لمن معها ورجعوا بالكتاب الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى حاطب فأتاه ، فقال له : «هل تعرف الكتاب؟» قال : نعم ، قال : «فما حملك على ما صنعت»؟

فقال : يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته ، وكنت عزيزا فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، وقد علمت أنّ الله

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ٥١ ، زاد المسير : ٨ / ٢.

٢٩١

ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدّقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعذره ، فقام عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» [٢٧٢] (١).

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا محمد بن غالب قال : حدثنا عبد الصمد قال : حدثنا ليث عن أبي الدنير عن جابر أن عبدا لحاطب جاء يشتكي حاطبا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ليدخلن حاطب النار ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذبت ، لا يدخلها أبدا لأنه شهد بدرا والحديبية» [٢٧٣] (٢).

وأنزل الله سبحانه في شأن حاطب ومكاتبته المشركين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي المودة ، والباء صلة ، كقول القائل : أريد أن أذهب ، وأريد بأن أذهب ، قال الله سبحانه (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) (٣) أي إلحادا (بِظُلْمٍ) ومنه قول الشاعر :

فلما رجت بالشرب هزّ لها العصا

شحيح له عند الازاء نهيم (٤)

أي رجت الشرب.

(وَقَدْ) واو الحال (كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة (أَنْ تُؤْمِنُوا) أي لأن آمنتم (بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) في الكلام تقديم وتأخير ، نظم الآية : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ) (... إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يروكم ويظهروا عليكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) بالقتل (وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) بالشتم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) فلا تناصحوهم فإنّهم لا يناصحوكم ولا يوادونكم.

لن ينفعكم يقول لا تدعونّكم قرابتكم وأولادكم التي بمكة الى خيانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم ومظاهرتهم فلن ينفعكم (أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) التي عصيتم الله سبحانه لأجلهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيدخل أهل طاعته والإيمان به الجنة ، ويدخل أهل معصيته والكفر به النار.

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢٨ / ٧٥ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٦٩.

(٢) كنز العمّال : ١٠ / ٤٠١ ، ح ٢٩٩٦٠.

(٣) سورة الحج : ٢٥.

(٤) جامع البيان للطبري : ٢٨ / ٧٣.

٢٩٢

واختلف القرّاء في قوله : (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فقرأ عاصم ويعقوب وأبو حاتم بفتح الياء وكسر الصاد مخففا ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضمّ الياء وكسر الصاد مشددا ، وقرأ ابن عامر والأعرج بضم الياء وفتح الصاد وتشديده ، وقرأ طلحة والنخعي بالنون وكسر الصاد والتشديد ، وقرأ أبو حيوة يُفْصِلُ من أفصل يفصل ، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الصاد مخففا من الفصل.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكّي قال : أخبرنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدّثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّما الدين النصيحة» ثلاثا ، قالوا : لمن يا رسول الله؟ قال : «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [٢٧٤] (١).

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ) قدوة (حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) خليل الرحمن (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من أهل الإيمان (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) المشركين (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) جمع بريء ، وقراءة العامة على وزن فعلا غير مجز ، وقرأ عيسى بن عمر بِراءٌ بكسر الباء ، على وزن فعال مثل قصير وقصار وطويل وطوال (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) أي جحدنا بكم وأنكرنا دينكم (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ) يعني قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في قوله : (لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أن عصيته نهوا أن يتأسوا في هذه خاصة بإبراهيم فيستغفروا للمشركين ، ثم بيّن عذره في سورة التوبة.

وفي هذه الآية دلالة بيّنة على تفضيل نبيّنا وذلك أنه حين أمر بالاقتداء به أمر على الإطلاق ولم يستثن فقال : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وحين أمر بالاقتداء بإبراهيم استثنى.

(رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) [هذا قول] (٢) إبراهيم ومن معه من المؤمنين.

(وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) يعني في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين في الله وأظهروا لهم العداوة والبراءة فعلم سبحانه شدّة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله سبحانه : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ) أيها المؤمنون (وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) من مشركي مكّة (مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يفعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانا وخالطوهم وناكحوهم وتزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم حبيبة

__________________

(١) كنز العمّال : ٣ / ٤١٢ ، ح ٧١٩٧ ، سنن الدارمي : ٢ / ٣١١.

(٢) العبارة في المخطوط مطمسة والظاهر ما أثبتناه وفي تفسير القرطبي : (١٨ / ٥٧) هذا من دعاء إبراهيم عليه‌السلام وأصحابه.

٢٩٣

بنت أبي سفيان بن حرب فلان لهم أبو سفيان وكانت أم حبيبة تحت عبد الله بن جحش بن ذياب ، وكانت هي وزوجها من مهاجري الحبشة ، فنظر بوجهها وحاولها أن تتابعه فأبت وصبرت على دينها ، ومات زوجها على النصرانية ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى النجاشي فيها ليخطبها عليه ، فقال النجاشي لأصحابه : من أولى بها؟

قالوا : خالد بن سعيد بن العاص ، قال : فزوّجها من نبيّكم ، ففعل ومهرها النجاشي أربعمائة دينار ، وساق أليها مهرها ، ويقال بل خطبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى عثمان بن عفان فلما زوّجه أياها بعث الى النجاشي فيها ، فساق عنه وبعث بها إليه فبلغ ذلك أبا سفيان وهو يومئذ مشرك فقال : ذاك الفحل لا يقرع أنفه.

رخّص الله سبحانه في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من جميع الكافرين ، فقال عزّ من قائل : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) تعدلوا فيهم بالإحسان والبر.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) واختلف العلماء فيمن نزلت فيهم هذه الآية ، فقال ابن عباس : نزلت في خزاعة منهم هلال بن عديم وخزيمة ومزلقة بن مالك بن جعشم وبنو مدلج وكانوا صالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا ، وقال عبد الله بن الزبير : نزلت في أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها فتيلة بنت الغري بن عبد أسعد من بني مالك بن حنبل قدمت عليها المدينة بهدايا ضيابا وقرطا وسمنا وهي مشركة ، فقالت أسماء : لا أقبل منك هدية ولا تدخلين عليّ في بيتي حتى أستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت لها عائشة : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية ، فأمر بها رسول الله أن تدخلها منزلها وتقبل هديّتها وتكرمها وتحسن إليها.

وقال مرّة الهمداني وعطية العوفي : نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس.

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ) في دينكم (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) وهم مشركو مكة (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواضعون الولاية في غير موضعها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) الآية قال ابن عباس : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتمرا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكّة على من أتاه من أهل مكّة رده عليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو لهم ولم يردوه عليه ، وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم ـ وقال مقاتلان هو صفي بن الراهب ـ في طلبها ، وكان كافرا فقال : يا محمد أردّد علي امرأتي فأنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منّا وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) من دار الكفر الى دار الإسلام.

٢٩٤

(فَامْتَحِنُوهُنَ) قال ابن عباس : امتحانهن أن يستحلفهن ما خرجت من بغض زوج وما خرجت رغبة عن أرض الى أرض وما خرجت التماس دنيا وما خرجت إلّا حبّا لله ورسوله ، فاستحلفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خرجت بغضا لزوجها ولا عشقا لرجل منا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام ، فحلفت بالله الذي لا اله الا هو على ذلك ، فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهرها وما أنفق عليها ولم يردها عليه ، فتزوّجها عمر ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يردّ من جاء من الرجال ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحن ويعطي أزواجهن مهورهن، فذلك قوله سبحانه : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ) يعني أزواجهن الكفار (ما أَنْفَقُوا) عليهن من المهر (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) مهورهن وأن كنّ لهنّ أزواج كفار في دار الكفر ؛ لأنّه فرّق بينهما الإسلام إذا استبرئت أرحامهن.

(وَلا تُمْسِكُوا) قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك ، وتكون الباء صلة مجازه : ولا تمسكوا عصم الكوافر وقرأ الحسن أبو عمرو ويعقوب وأبو حاتم بالتشديد من التمسّك وقال : مسكت بالشيء وتمسّكت به ، والعصم جمع العصمة وهي ما اعتصم به من العقد والمسك ، والكوافر : جمع كافرة. نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات ، وأمرهم بفراقهن قال ابن عباس : يقول لا تأخذوا بعقد الكوافر ممن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها فقد انقطعت عصمتها منه وليست له بامرأة ، وإن جاءتكم امرأة مسلمة من أهل مكّة ولها بها زوج كافر فلا تعتدن به فقد انقطعت عصمته منها.

قال الزهري : فلما نزلت هذه الآية طلّق عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه امرأتين كانتا له بمكّة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوّجها بعده معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمر بن حروا الخزاعية أم عبد الله بن عمر ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم ـ رجل من قومه ـ وهما على شركهما ، وكانت عند طلحة بن عبيد الله بن عثمان ابن عمرو التيمي أروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب ففرّق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ، وكان طلحة قد هاجر وهي بمكة على دين قومها ثم تزوّجها في الإسلام بعد طلحة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ، فكانت ممن فرّ الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نساء الكفار فحبسهما وزوّجها خالدا ، وأميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة ففرّت منه ـ وهو يومئذ كافر ـ الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهل بن حنيف ، فولدت عبد الله بن سهل (١).

قال الشعبي : وكانت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع فأسلمت

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢٨ / ٩٢.

٢٩٥

ولحقت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة وأقام العاص مشركا في مكة ثم أتى المدينة فأمنته زينب ثم أسلم فردّها عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَسْئَلُوا) أيّها المؤمنون الذين ذهبت أزواجكم فلحقن بالمشركين (ما أَنْفَقْتُمْ) عليهن من الصدقات من تزويجهن منهم (وَلْيَسْئَلُوا) بعد المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن فيكم من يتزوجها منكم.

(ما أَنْفَقُوا) من المهر (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال الأزهري : ولو لا العهد والهدنة الذي كان بينه عليه‌السلام وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يردد إليهم صداقا ، وكذلك يصنع بمن جاء من المسلمات قبل العهد ، فلما نزلت هذه الآية أقرّ المؤمنون بحكم الله سبحانه وأدّوا ما أمروا من نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقرّوا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين فأنزل الله سبحانه (وَإِنْ فاتَكُمْ) أيها المؤمنون (شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) فلحقن بهم مرتدات (فَعاقَبْتُمْ) قراءة العامة بالألف وأختاره أبو عبيدة وأبو حاتم ، وقرأ إبراهيم وحميد والأعرج فعقّبتم مشددا ، وقرأ مجاهد فأعقبتم على وزن أفعلتم وقال : صنعتم بهم كما صنعوا بكم ، وقرأ الزهري «فعقبتم» خفيفة بغير ألف ، وقرأ فعقِبتم كسر القاف خفيفة وقال : غنمتم.

وكلها لغات بمعنى واحد يقال : عاقب وعقّب وعقب وعقب وأعقب ويعقب واعتقب وتعاقب إذا غنم.

ومعنى الآية : فغزوتم وأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة وظفرتم وكانت العاقبة لكم ، وقال المؤرخ : معناه فحلقتم من بعدهم وصار الأمر إليكم ، وقال الفرّاء : عقّب وعاقب مثل تصعر وتصاعر ، وقيل : غزوة بعد غزوة.

(فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) الى الكفار منكم (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) عليهم من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار وقيل : فعاقبتم المرتدة أي قتلتموها ، وكان جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي آمنة بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدّت ، ويروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى بن فضلة وزوجها عمر بن عبدون ، وهند بنت أبي جهل بن هشام وكانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وكلثوم بنت جدول كانت تحت عمر ابن الخطاب ، وأعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهور نسائهم من الغنيمة (١).

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي : ١٨ / ٧٠ ، وكتاب المجر : ٤٣٣.

٢٩٦

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ(١٣))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) الآية وذلك يوم فتح مكة لما فرغ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيعة الرجال وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة مستنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرفها فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا» فرفعت هند رأسها وقالت والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال ، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وَلا يَسْرِقْنَ» فقالت هند : إن أبي سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله هنات ولا أدري أتحل لي أم لا؟

فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعرفها فقال لها : «وإنك لهند بنت عتبة» قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال : «لا يَزْنِينَ» [٢٧٥] فقالت هند أوتزني الحرة؟ فقال : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) فقالت هند : ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى وتبسّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) وهو أن تقذف ولدا على زوجها وليس منه ، فقالت هند : والله إنّ البهتان يقبح وما تأمرنا إلّا مكارم الأخلاق ، (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) فقالت : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء ، فأقرّ النسوة بما أخد عليهن (١).

وأختلف العلماء في كيفية بيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه النساء ، فأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرنا مكي قال : حدثنا عبد الرحمن بن بشر قال : حدثنا سفيان وأخبرنا عبد الله ابن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدثنا بشر بن مطر قال : حدثنا سفيان بن عتبة عن محمد بن المفكر وسمع أميمة بنت رفيقة تقول : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نسوة فقال : فيما استطعتن وأطقتن فقلت : رسول الله أرحم بنا من أنفسنا ، قلت : يا رسول الله صافحنا قال : «إني لا أصافح النساء إنما قولي [لامرأة واحدة] كقولي لمائة امرأة» [٢٧٦] (٢).

وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال : حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن قال : حدّثنا

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٤٥٦.

(٢) مسند أحمد : ٦ / ٣٥٧.

٢٩٧

محمد بن يحيى قال : حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) قالت : وما مسّ يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة قط إلا يد امرأة تملكها ، وقال السعري كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع النساء وعلى يده ثوب مطري.

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم غمس أيديهن فيه ، وقال الكلبي : كان رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرط على النساء وعمر رضي‌الله‌عنه يصافحهن.

وأختلف المفسرون في معنى المعروف فقال القرظي : المعروف الذي لا يعصينه فيه ، ربيع : كل ما وافق طاعة الله فهو معروف ، فلم يرض الله لنبيّه أن يطاع في معصية الله. بكر بن عبد الله المدني : لا يعصينك في كل أمر فيه رشدهن ، مجاهد : لا تخلو المرأة بالرجال ، سعيد ابن المسيب ومحمد بن السائب وعبد الرحمن بن زيد : لا تحلقن ولا تسلقن ولا تحرقن ثوبا ولا ينتفن شعرا ولا يخمشن وجها ولا ينشرن شعرا ولا يحدثن الرجال إلا ذا محرم ولا تخلوا امرأة برجل غير ذي محرم ولا تسافر امرأة ثلاثة أيام مع غير ذي محرم ، ابن عباس : لا ينحن.

ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن علي الهمداني قال : حدثنا محمد بن علي بن مخلد الفرقدي قال : حدثنا سليمان الشادكوى قال حدّثنا النعمان بن عبد السلام قال حدّثني عمرو بن فروخ قال : حدثنا مصعب بن نوح قال : أدركت عجوزا ممن بايعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحدّثتني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قال : النوح وأخبرنا الحسن قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال : أخبرنا أبو بكر بن سلام قال : حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال : حدّثنا سعدون قال : حدثنا سليمان بن داود قال حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفّين صفا عن اليمين وصفا وعن الشمال (١) وينبحن كما تنبح الكلاب» [٢٧٧] (٢).

وأخبرنا الحسين قال : حدثنا السني قال : أخبرني إسحاق بن مروان الخطراني قال : حدثنا الحسن بن عروة قال : حدّثنا علي بن ثابت الجزري قال : حدّثنا حسان بن حميد عن سلمة بن جعفر عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء عليها جلباب من لعنة ودرع من حرب واضعة يدها على رأسها تقول : وا ويلاه ، وملك يقول : آمين ، ثم يكون من ذلك حظها النار» [٢٧٨] (٣).

__________________

(١) في المصدر : اليسار.

(٢) كنز العمّال : ١٥ / ٦٠٨ ، ح ٤٢٣١٦ ، وفيه زيادة (فينبحن على أهل النار) ، تفسير القرطبي : ١٨ / ٧٤.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٣٤٤.

٢٩٨

وأخبرنا الحسن قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال : أخبرنا أبو يعلي الموصلي قال : حدثنا هدية بن خالد قال حدثنا أبان بن يزيد قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير أن زيدا حدّثه أنّ أبا سلمة حدّثه أن أبا مالك الأشعري حدّثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن : الفخر في الإحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة» [٢٧٩].

وقال : «النائحة إذا لم تتب قبل موتها يقام يوم القيامة عليها سربال من قطران ودرع من حرب» [٢٨٠].

وأخبرنا الحسن قال : أخبرنا ابن حمدان قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن سنان قال : حدّثنا عبد الله بن رجاء الغداني قال : حدّثنا عمران بن دوار القطان قال : حدّثنا قتادة عن أبي مرانة العجلي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنة (١)[٢٨١] (٢).

وأخبرنا الحسن قال : حدّثنا أحمد بن إسحاق قال : حدّثني عمر بن حفص المكاري قال : حدّثنا أبو عتبة قال : حدّثنا فقيه قال : حدّثنا أبو عامر قال : حدّثني عطاء بن أبي رياح أنّه كان عند ابن عمر وهو يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لعن النائحة والمسمعة والحالقة والسالقة والواشمة والمتوشمة وقال : «ليس للنساء في إتباع الجنائز أجر» [٢٨٢] (٣).

وأخبرنا الحسن قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا يوسف بن عبد الله قال حدّثنا موسى ابن إسماعيل قال : حدّثنا حماد عن أبان بن أبي عياش عن الحسين أنّ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه سمع نائحة فأتاها فضربها حتى وقع خمارها عن رأسها ، فقيل : يا أمير المؤمنين المرأة المرأة قد وقع خمارها ، قال : إنها لا حرمة لها (٤).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود وذلك ان ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين ويتواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم ، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك (قَدْ يَئِسُوا) يعني هؤلاء اليهود (مِنَ الْآخِرَةِ) أن يكون لهم فيها ثواب (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أن يرجعوا إليهم أو يبعثوا.

أخبرنا الشيخ أبو علي بن أبي عمرو الخيري الحرشي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا محمد ابن خلف بن شعبة قال : حدّثنا محمد بن سائق قال : حدّثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن

__________________

(١) هو الصوت الشديد والصرخة عند الغناء والبكاء.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٣٦٢.

(٣) السنن الكبرى : ٤ / ٦٣ ، كنز العمّال : ١٦ / ٣٩١ ، ح ٤٥٠٥٨.

(٤) تفسير القرطبي : ١٨ / ٧٥ عن الثعلبي.

٢٩٩

ابن عباس في قوله سبحانه (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) قال : هم الكفار أصحاب القبور قد يئسوا من الآخرة.

وأخبرنا أبو علي بن أبي عمرو قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا علي بن سعيد بن جبير النسائي قال : حدّثنا أبو النظر قال : حدّثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) قال : الكفار حين دخلوا قبورهم يئسوا من رحمة الله.

وأخبرنا أبو علي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا شبل عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عزوجل (يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) بكفرهم (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) من الموتى في الآخرة حتى يبين لهم أعمالهم.

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن جعفر قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا وكيع قال : حدّثنا عبد الله بن حبيب عن أبي ثابت قال : سمعت القاسم بن أبي بزة يقول في قول الله سبحانه (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) قال : من كان منهم من الكفار يئس من الخير.

٣٠٠